تركيا.. انفجار مشكلات الداخل سيرٌ نحو المجهول

السنة الخامسة عشر ـ العدد 172  ـ (جمادي الثانية  1437 هـ ) ـ (نيسان2016 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تبدو تركيا وكأنها دخلت في مرحلة مفتوحة على كل الخيارات، عناوينها تصاعد الحرب بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، وازدياد حدة التفجيرات داخل المدن الكبرى ولاسيما اسطنبول وديار بكر والعاصمة أنقرة، وشن السلطات حملات إقصائية ضد المعارضة على اختلاف مشاربها الكردية والإسلامية واليسارية..

فيما صورة تركيا في الخارج تبدو دولة بوليسية تتجه نحو المزيد من الاستبداد والدكتاتورية، خاصة في ظل تفرد أردوغان بالسلطة وممارسته سياسة تبدو أقرب إلى أسلوب السلاطين ولغتهم وفرماناتهم. 

ازدياد وتيرة التفجيرات

تثير التفجيرات الدموية التي تضرب قلب المدن التركية الكبرى، من ديار بكر إلى اسطنبول مرورا بالقلب الأمني للعاصمة أنقرة، أسئلة كثيرة، في كل الاتجاهات، خصوصاً وأن التحقيقات التي تجريها السلطات التركية غالبا ما تنتهي نهايات غامضة لجهة الطرف الذي لا يعلن مسؤوليته عنها، وعليه فان الرسائل السياسية من وراء هذه التفجيرات تبقى حاضرة وقوية.

الأسئلة حول هذه التفجيرات كثيرة، خصوصاً وأنها تقع في مناطق أمنية حساسة لا يمكن الوصول إليها بسهولة، وعليه ثمة أسئلة عن مسوؤلية الأجهزة الأمنية، وهو ما يترجم عمليا من قبل المعارضة بتوجيه الاتهام للحكومة التركية بالتقصير أو القول إنها تتحمل مسؤولية جلب القوى والمنظمات الإرهابية إلى الداخل التركي عبر التورط في الأزمة السورية، في حين ترى الحكومة التركية أن ثمة مخططات تستهدف البلاد من خلال القوى الإقليمية والدولية المناوئة لسياسة الرئيس رجب طيب أردوغان وأن الهدف هو زرع الفتنة في الداخل التركي لصالح مخططات ضرب الاستقرار وصولا إلى التقسيم.

في كل تفجير تسارع السلطات التركية إلى توجيه الاتهام لحزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش، وأضافت مؤخراً حزب الاتحاد الديمقراطي السوري ووحدات حماية الشعب الكردية إلى القائمة، كما حصل خلال تفجير أنقرة شهر شباط/فبراير الماضي والذي راح ضحيته 28 شخصاً بينهم ضباط كبار، عندما أعلنت السلطات أن منفذه هو كردي سوري من عاموده واسمه صالح نجار ودخل إلى الأراضي التركية بصفة لاجئ، قبل أن تكتشف التحقيقات وفحص (د ن ا) أن منفذ التفجير هو كردي تركي من مدينة فان اسمه عبد الباقي سومير، وتعلن منظمة صقور حماية كردستان مسؤوليتها عن التفجير، وهي المنظمة السرية التي قامت بالعديد من التفجيرات منذ تأسيسها عام 2004 بعد أن انشق أفرادها عن حزب العمال الكردستاني بحجة أن نهج الأخير لا يتناسب مع السياسة التركية تجاه القضية الكردية، وهو ما دفع السلطات التركية إلى تصحيح روايتها لاحقاً، على شكل فضيحة سياسية وأمنية.

فرضية اتهام تركيا لحزب العمال الكردستاني تقوم على معادلة مركبة،

الأولى: أن للحزب جناحاً عسكرياً سرياً، فيما الحزب ينفي ذلك ويقول إن هذه العمليات ليست من أساليبه في الدفاع عن حقوق الكرد، خصوصاً وأنه يطالب بالعودة إلى مفاوضات السلام وحل القضية الكردية سلميا في تركيا، لاسيما وان زعيم الحزب عبد الله أوجلان أعلن مراراً أن لا خيار سوى الخيار السلمي لحل القضية الكردية، وهو الذي قال إن عهد الرصاص ولى لصالح السلام.

الثانية: إن السلطات التركية اعتادت على توجيه الاتهامات للقوى الإقليمية بأنها تقف وراء دفع الحزب إلى القيام بهذه التفجيرات في إطار الصراعات الإقليمية، وكعقاب لتركيا على تورطها في الأزمة السورية، في حين أكد الحزب مراراً أنه ليس بيدقاً بيد أحد، وأن أساس سياسته وقراره يقوم على مصلحة القضية الكردية وليست الأطراف الإقليمية التي لها خلافات وصراعات مع تركيا.

بعيداً عن حزب العمال الكردستاني، توجه الاتهامات إلى تنظيم داعش أيضاً، مع أن التنظيم لا يتوانى عن القيام بمثل هذه التفجيرات الإرهابية إلا أن اللافت حتى الآن أن التنظيم لم يعلن مرة واحدة مسؤوليته عن تفجيرات تركيا، علماً أنه اعتاد على إعلان مثل هذه المسؤولية، سواء أكانت التفجيرات في سورية أو العراق  أو أوروبا أو دول الخليج أو المغرب، وهو ما يثير أسئلة كثيرة عن أسلوب التنظيم إذا كان هو يقف وراء تفجيرات تركيا ولا يعلن عنها، خصوصاً وان ثمة اتهامات لتركيا بأنها تدعم تنظيم داعش، وبالتالي من غير المنطقي أن يستهدف التنظيم تركيا.

الجهة الثالثة التي توجه لها السلطات التركية الاتهامات، هي التنظيمات اليسارية المتشددة في تركيا، كحزب العمال الثوري واليسار الثوري التركي ومنظمة اسالا الأرمنية، وهي تنظيمات اعتادت على القيام باستهداف عناصر الجيش ومقار حكومية وحزبية، لكن اللافت في أسلوب عمل هذه التنظيمات هو أن عملياتها طوال العقود الماضية كانت عبارة عن هجمات بإطلاق النار ولم تستخدم مرة واحدة أسلوب السيارات المفخخة التي غلبت على التفجيرات الأخيرة، وهو ما يثير أسئلة كثيرة، إذا ما انتقلت هذه التنظيمات إلى أسلوب جديد دون معرفة السلطات التركية بالأمر.

النظرية الأخيرة التي يأخذ البعض بها، هو أن تكون هذه التفجيرات من صنع بعض القوى داخل الجيش والأجهزة الأمنية التابعة لها، في إطار الصراع التقليدي بين هذه القوى وحكومة حزب العدالة والتنمية، وهؤلاء يرون أن الصراع لم ينتهِ بين الجانبين على الرغم من نجاح الرئيس أردوغان في إخراج الجيش من المعادلة السياسية وتدخله في الحياة العامة من خلال سلسلة الإصلاحات التي قام بها، وهؤلاء يبنون فرضيتهم على أن هذه القوى تريد نشر الفوضى للانقضاض على حكومة حزب العدالة والتنمية عندما يحين وقت التحرك.

بغض النظر عن الجدل الجاري بشأن الجهة التي تقف وراء هذه التفجيرات، والأهداف والرسائل منها، إلا انه من الواضح أن تركيا دخلت في مرحلة صعبة، سمتها عدم الاستقرار الأمني الذي قد يتبعه تداعيات اقتصادية كارثية.  

معضلة حزب الشعوب الديمقراطي

تأسس حزب الشعوب الديمقراطي عام 2012، منذ البداية طرح الحزب نفسه حزباً جامعاً للكرد والأتراك والعرب والأرمن، وانفتح على كل الطوائف والمذاهب والطبقات الفقيرة والمهمشة في المجتمع التركي، بنى خطابه على الديمقراطية والسلام، وبسبب هذا الخطاب المنفتح نجح في استقطاب الأوساط الثقافية التركية والكردية والعربية والأرمنية فضلا عن الطائفة العلوية، وقد وجد فيه الكثير من الكرد والأتراك أنه يشكل جسراً سياسياً لإيجاد حل سياسي للقضية الكردية في تركيا بعد أن أفضت التجربة الدموية للحرب بين حزب العمال الكردستاني والحكومات التركية المتتالية إلى جروح عميقة لدى المجتمعين الكردي والتركي.

بفضل هذا النهج المنفتح، حقق حزب الشعوب نجاحا كبيرا عندما تجاوز العتبة الانتخابية (10% من مجموع الأصوات الانتخابية في تركيا) مرتين العام الماضي (الأولى في حزيران/ يونيو حصل على 13,8 والثانية في تموز/ أب حصل على 10,6) وعلى هذا الأساس دخل الكرد للمرة الأولى إلى البرلمان التركي كحزب بعد أن كانوا يرشحون أنفسهم كمستقلين حيث بات للحزب 59 نائباً في البرلمان. لكن اليوم ومع وصول مسار الحل السياسي بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني إلى طريق مسدود، يجد الحزب نفسه أمام تحديات في كيفية الحفاظ على خطابه السابق، إذ يكاد ينجرف نحو التعبئة القومية في ظل الحرب التي يشنها الجيش التركي في المناطق الكردية وتأكيد أردوغان مراراً أن الحرب ضد الكردستاني ستتواصل حتى القضاء على المقاتلين الكرد وإنكاره وجود قضية كردية.

بفعل هذه الحرب يجد حزب الشعوب الديمقراطي صعوبة في كيفية التوفيق بين خطابه السلمي وبين المطالبة بالحقوق القومية الكردية، خصوصاً بعد أن طرح مؤتمر المجتمع الديمقراطي الكردي (مجموعات منظمات سياسية وشبابية ونسائية) خلال مؤتمره الذي عقد في الخامس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر في مدينة ديار بكر قضية إقامة حكم ذاتي في جنوب تركيا وشرقها، حيث جاء تأييد صلاح الدين ديميرداش لهذا الطرح بمثابة صب الزيت على النار، فتصريحاته المؤيدة للحكم الذاتي أثارت ردود فعل غاضبة لدى أردوغان وحكومة حزب العدالة والتنمية والأوساط القومية التركية المتطرفة، إذ وجد الأتراك فيها نية دفينة للتوجه نحو الانفصال، وعليه طالب أردوغان بمحاسبة ديمرداش على تصريحاته كما وصفه أحمد داود أوغلو له بالخائن، وقد عرفت الحكومة التركية كيف تستغل هذه التصريحات وكأنه يتآمر على الدولة التركية ويسعى إلى فصل المناطق الكردية عنها تطلعاً إلى إقامة دولة كردية مستقلة، وبالتوازي شن الإعلام التركي ولاسيما الموالي لأردوغان حملة ضد ديميرداش، إذ لم تعد صورته في الإعلام التركي صورة الزعيم اليساري الذي يجمع الكرد والأتراك والعرب والأرمن معاً، أو صورة الرجل الذي يحمل خطاب السلام ويقوم بدور الوساطة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني بحثاً عن حل سلمي مقبول للقضية الكردية في تركيا، بل باتت صورته في نظر الحكومة التركية صورة الرجل أو الحزب الذي يشكل رأس الحربة لحزب العمال الكردستاني ويحاول تنفيذ مشروعه السياسي على الأرض من داخل البيت التركي. وانطلاقاً من ما سبق قدمت جهات برلمانية وسياسية تركية دعوات للمدعي العام التركي لمحاكمة ديميرداش وتجريده من الحصانة البرلمانية، ولعل التهم الموجه له كافية بوضعه في السجن، إذ أنها تتعلق بالانفصال وخرق الدستور، لكن هدف أردوغان من وراء ذلك يتجاوز ديميرادش إلى حظر حزب الشعوب الديمقراطي وذلك لأسباب سياسية تتعلق بكيفية ترتيب المشهد التركي الداخلي من أجل إقرار دستور جديد والانتقال إلى النظام الرئاسي الذي يأمل أردوغان منه الحصول على سلطات مطلقة تجعله المصدر الأول والأخير للسياستين الداخلية والخارجية.

هذا الواقع الجديد، يفرض على حزب الشعوب الديمقراطي أسئلة كثيرة بشأن إستراتيجيته في المرحلة المقبلة، منها ما يتعلق بكيفية الحفاظ على صورته في الشارع التركي؟ وكيف سيجمع أو يوفق بين أجندته الكردية والتركية؟ وهل يمكن أن يذهب إلى الخيار المسلح في ظل الحرب التركية المتواصلة في المناطق الكردية؟ وماذا لو أقدم القضاء التركي على وضع قادته في السجن بل وحتى حظر الحزب ؟ دون شك، هذه الأسئلة وغيرها باتت مطروحة بقوة بعد أن وصلت العلاقة بينه وبين حكومة حزب العدالة والتنمية إلى الصدام.

من الواضح، أن إستراتيجية حزب الشعوب تقوم على مجموعة من الأسس والخطوات، لعل أهمها:

1- الحفاظ على خطابه السلمي وطرح نفسه كوسيط للسلام بين حكومة حزب العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني.

2- مد جسور العلاقة مع القوى التركية المعارضة لأردوغان ولاسيما حزب الشعب الجمهوري بقيادة كمال كليجدار أوغلو الذي يعيش في علاقة متوترة مع أردوغان.

3- الانفتاح على الخارج ولاسيما أمريكا والاتحاد الأوروبي وروسيا بغية جلب ضغط دولي على أردوغان لوقف الحرب والعودة إلى مفاوضات السلام.

4- حشد القوى والمنظمات الكردية في داخل تركيا وخارجها (حزب الاتحاد الديمقراطي في سورية وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير في إقليم كردستان العراق) لخلق موقف كردي ضد سياسة أردوغان في الساحة الكردية.

5- العمل داخل المناطق الكردية في تركيا لإفشال استراتيجية أردوغان في انشاء أحزاب كردية من شخصيات وزعماء عشائر يعول عليهم أردوغان في جعلهم ممثلين سياسيين للكرد والتفاوض معهم على أساس نزع الشرعية عن حزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب في كردستان تركيا.   

الحرب المستمرة ضد غولن

ربما لم يكن الداعية فتح الله غولن الذي ولد عام 1941 في مدينة أرضروم (أرض الروم) وبدأ حياته واعظا في مدينة أدرنة عام 1959، بعد أن نشأ في بيئة عائلية مليئة بالروحانية، ودرس كتابات أستاذه الشيخ سعيد النورسي (بديع الزمان) وأفكار ملهمه جلال الدين الرومي... ربما لم يكن يتوقع أن ينتهي به المطاف في ولاية بنسلفانيا الأمريكية وهو مريض يناهز السادسة والسبعين من العمر ويصدر بحقه مذكرة توقيف من القضاء التركي في عهد حليفه السابق أردوغان، فالرجل الذي مزج بين الصوفية والإسلام الاجتماعي وتقديم الخدمات، كان يعتقد أن مشروعه يصلح لأن يكون بلسماً لجروح تركيا وتصحيح بنيانها السياسي والاجتماعي، من خلال إحياء المجتمع المدني وتعزيز قيم الإيمان وإطلاق دور الفرد وإعادة التوازن إلى الحياة العامة عبر الديمقراطية وصناديق الاقتراع دون الصدام مع السائد السياسي كما قامت عليه فلسفته، قبل أن يجد أن تعريف كل ما سبق هو (الكيان الموازي) بنظر حليفه أردوغان.

على الرغم من أن مدينة أزمير البحرية تشكل قلعة العلمانية في تركيا ومعقل حزب الشعب الجمهوري المعارض الذي يمثل الإرث التاريخي لمؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، فإنها شهدت ميلاد حركة الخدمة (خدمت) في نهاية الستينيات من القرن الماضي، عندما بادر غولن إلى إقامة مراكز للدروس الخصوصية فيها وخلق فرص تعليمية وتأمين منح دراسية وسكن للطلاب، وقد نجح في استقطاب أعداد كبيرة من أبناء المدينة ولاسيما من القادرين ماليا، قبل أن تتطور حركته لتصبح حركة تعليمية ثقافية دينية مع أعضاء يبلغ أعدادهم الملايين حيث تتألف الحركة من مئات المؤسسات والشركات والجمعيات المهنية والصحية والإعلامية والمالية والمدارس التعليمية المنتشرة في نحو 160 دولة وتشكل المورد المالي الأساسي للحركة قبل أن يأمر أردوغان بإغلاقها بعد أن احتدم الصراع بين الجانبين في السنوات الأخيرة.                                                                             

 شكلت مرحلة ما بعد الانقلاب العسكري عام 1980 بمثابة الانطلاقة الحقيقية لحركة الخدمة على المستوى الوطني، إذ باتت مدارسها منتشرة في أنحاء تركيا، وباتت خطب غولن حول الإيمان والتعليم والأخلاق والعمل ضد الفقر والفساد توزع على أشرطة مسجلة في مختلف المناطق، وقد انتهج غولن في خطاباته نهجاً يقوم على مخاطبة الفرد والمجتمع والأمة والإنسانية بعيداً عن القومية والعرق والطائفة والمذهب، كما أنه اتبع نهج عدم الصدام مع المؤسسة العسكرية والحكومات والأحزاب والمنظمات، وبفضل كل ذلك، نجح في كسب أعداد كبيرة من مؤيدي هذه الأوساط والموظفين إلى صفوف حركته التي حرص على وصفها بـ (حركة البشر المتحدين حول القيم الإنسانية العالية). ومع ان غولن حرص على القول إن حركته ليست حركة سياسية أو حزبية إلا أنه على أرض الواقع مارس خطابا سياسيا ناعما من خلال دعوته المستمرة إلى اعتماد الانتخابات لاختيار الحكم وممارسة الديمقراطية وحل مشكلات تركيا بالحوار والابتعاد عن العنف والدعوة إلى التسامح بين الأديان حيث التقى مع ممثلي الطوائف المسيحية واليهودية والأرمنية في تركيا، ونظرا لدوره الكبير في هذا المجال استقبله البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان عام 1998.

طوال حياته حرص غولن على الظهور بمظهرين.

الأول: أسلوب حياته في الزهد والورع وترسيخ مفهوم التطوع الفردي لتقديم الخدمات.

والثاني: الحرص على الاختلاط بالناس والبقاء على علاقة جيدة بالسلطات العسكرية والمدنية، ولعل هذا ما يفسر عدم تعرضه للسجن (باستثناء التوقيف لمرة واحدة عقب الانقلاب العسكري عام 1980) تلك المرحلة التي شهدت تنوع نشاطات الحركة، وتوجهها نحو الإعلام وبناء الكوادر العلمية والصحية، والانخراط في مؤسسات القضاء وأجهزة الأمن وقوات الشرطة. حتى باتت الحركة تمتلك نفوذا اجتماعيا كبيرا وتشكل كتلة انتخابية قوامها الملايين من الأتباع ولاسيما في الريف، حيث تقدر مراكز الدراسات التركية نسبة الكتلة الانتخابية التي تشكلها الحركة في المدن الكبرى من أثنين إلى ثلاثة بالمائة وفي الريف بين خمسة وسبعة بالمائة. وهكذا أصبحت الحركة قوة اجتماعية وانتخابية وثقافية لا يمكن لأي حزب طامح للسلطة إلا أن يطلب ودها، خاصة وان الحركة كانت تقول مراراً إنه ليست لديها طموحات في السلطة والحكم، فيما تقول العديد من التقارير أن غولن كان يشجع في السر أتباعه على الانخراط في أجهزة الدولة والتغلغل في المناصب والسيطرة على المؤسسات بشكل تدريجي، وبالفعل تعاظم نفوذ الحركة بشكل كبير بعد تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم، حتى أن البعض وصفها بالإمبراطورية نظرا لتأثيرها الكبير في مختلف مجالات الحياة.                                                                                        

من التحالف إلى الصدام

التحالف الذي نشأ بين حركة غولن وحزب العدالة والتنمية في نهاية عام 2001 ومن ثم فوز الأخير في الانتخابات البرلمانية عام 2002 التي شكلت منعطفاً سياسياً في تاريخ الجمهورية التركية... هذا التحالف نشأ وفقاً لمعادلة المصالح المشتركة والتطلعات المتبادلة، فحركة الخدمة وجدت في حكومة حزب العدالة والتنمية غطاءاً سياسياً لها لتوسيع أعمالها ونفوذها وتأثيرها، في المقابل شكلت الحركة خزاناً مالياً وإعلامياً وشعبياً وانتخابياً لحزب العدالة والتنمية طوال السنوات الأولى من حكمه، بل أنها رفدت الحكومة بالعديد من الكوادر العلمية نظراً لافتقار حزب العدالة والتنمية إلى هذه الكوادر في بداية عهده. والسؤال هنا، ما الذي جرى حتى تحول التحالف بين أردوغان وغولن إلى حرب مفتوحة لا هوادة فيها؟   

في الواقع، الذي جرى أن هذا التحالف المصلحي تحول مع الزمن إلى صراع بين الجانبين داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها على شكل من يسيطر عليها، خصوصاَ بعد أن نجح الجانبين في الحد من نفوذ المؤسسة العسكرية وتدخلها في الحياة السياسية، وعلى هذه الأرضية جرت معارك كثيرة بينهما قبل أن يتفجر الصراع وينهار التحالف الإيديولوجي، إذ ثبتت الوقائع أن المنبت الإيديولوجي الديني (الإسلامي) للطرفين لا يكفي للبقاء أو الحفاظ على التحالف المصلحي، ولعل أولى هذه المعارك بدأت عام 2004 عندما سربت صحيفة (طرف) الليبرالية وثيقة تؤكد أن حكومة أردوغان تعاونت مع المؤسسة العسكرية لتصفية حركة غولن تحت شعار الحرب على الجماعات الدينية المتشددة والحفاظ على العلمانية، ومن ثم توالت المعارك بينهما على خلفية طريقة تعاطي أردوغان مع الحركة والأحداث التركية الداخلية ولاسيما تظاهرات ميدان تقسيم في اسطنبول، فيما تعززت قناعة أردوغان يوماً بعد أخر بأنه لن يستطيع إكمال مشروعه السياسي لطالما بقيت الحركة بهذه القوة والنفوذ والتأثير، وعليه بدأ يخطط للتخلص منها.      

في عام 2012 استفاق الشارع التركي على تسجيل صوتي لرئيس الاستخبارات التركية حقي فيدان الذي يعد اليد اليمنى لأردوغان، يتحدث فيه الرجل في اجتماع مع أعضاء من حزب العمال الكردستاني خلال اجتماع في أوسلو بشأن تسوية القضية الكردية، وعلى الفور حركت الحركة دعوى قضائية ضد فيدان لمحاكمته أمام القضاء بتهمة التحاور مع منظمة إرهابية بغية قطع الطريق أمامه لاستلام رئاسة الاستخبارات في ظل رفض الحركة تسلمه هذا المنصب وإصرارها على تعين رجل من أتباعها فيه، فيما كان أردوغان يتمسك بفيدان حيث  تحرك سريعاً لمنع محاكمته من خلال إجراء قضائي يحصن الأخير، وكانت تلك الحادثة بمثابة الشرارة الحقيقة للصدام بين أردوغان وغولن وخروج الخلافات بينهما إلى العلن، ومن بعد ذلك توالت فصول المواجهة السرية والعلنية بينهما وصولاً إلى كشف قضية الفساد الضخمة قبل نحو عامين والتي عرفت في تركيا بالفضيحة الكبرى، وعقبها بدأ أردوغان بحملة شاملة ضد أنصار غولن في أجهزة الدولة طالت الآلاف من عناصر الشرطة والأمن والقضاة والمدعين العامين والإعلاميين على شكل إقالات وإحالة للتقاعد ومحاكمات، ومن ثم انتقل أردوغان إلى تصفية المؤسسات التابعة لغولن ولاسيما مدارس التعليم الواسعة الانتشار مروراً بحملات اعتقال العديد من كبار الصحفيين المحسوبين على غولن، وكانت أخر هذه الحملات الضخمة تلك طالت بنك آسيا الذي يعد من الأهم البنوك في تركيا حيث تم وضع اليد عليها، وكذلك اتخاذ إجراءات ضد صحيفتي زمان وبوغون، وسجن أكرم دومانلي رئيس تحرير صحيفة زمان الأوسع انتشارا في تركيا وهداية قره جا مدير قناة سمان يولو، فضلاً عن عشرات آخرين من الصحفيين المحسوبين على غولن، وشكلت هذه الحملة مقدمة للمحاكمة القضائية التي جرت لغولن والحكم الغيابي عليه ومطالبة واشنطن بتسليمه لمحاكمته، حيث لا يتوقف أردوغان عن القول إن غولن يدير مؤامرة من الخارج لإسقاط نظامه ويصف جماعته بالكيان الموازي ويشرع الحرب ضدها تحت عناوين مكافحة الإرهاب والجريمة.                                           

وفي العمق، أحد أهم أسباب حرب أردوغان على غولن هو معرفة أردوغان بأن أنصار حركة غولن يملكون العديد من الأدلة والوثائق والمستندات السرية التي تدين أردوغان وعائلته في قضايا مالية، وتدخله في العديد من القضايا، وأوامره بشأن حل هذه القضايا وفق مصلحة أردوغان، لطالما استطاع هؤلاء الأنصار في مؤسسات الدولة التجسس على هاتف أردوغان وزرع أجهزة تنصت داخل منزله، فضلاً عن قادة كبار في حزبه وحكومته عندما كان رئيسا للوزراء، وعليه فان أردوغان يواصل حربه ضد حركة غولن باسم مكافحة (التنظيم الموازي)،وقد نجح في توجيه ضربات قوية للحركة من خلال ضرب مؤسسات الحركة المالية والإعلامية والاجتماعية، فضلاً عن طرد ونقل آلاف العناصر المحسوبين على الحركة من مؤسسات القضاء والشرطة والأمن والتعليم والصحة.

خطة أردوغان للمرحلة المقبلة

 يعتقد أردوغان أن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة وفرت فرصة له للانتقال إلى النظام الرئاسي الذي يتطلع إليه منذ زمن بعيد، وان هذا النظام سيوفر فرصة كبيرة للوصول إلى تركيا قوية مؤثرة تحت رئاسته، نظرا لأنه سيعطيه صلاحيات قوية ومباشرة في كل ما تخص السياستين التركية الداخلية والخارجية، وعليه منذ لحظة الإعلان عن نتائج الانتخابات بدأت وسائل الإعلام التابعة لحزب العدالة والتنمية بالترويج للنظام الرئاسي كأولوية إلى جانب أولوية وضع دستور جديد للبلاد يضع نهاية للدستور الذي وضعه العسكر عقب الانقلاب العسكري عام 1980                                                                                

مشكلة أردوغان انه على الرغم من الفوز الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية، إلا أن حصوله على 317 مقعداً برلمانياً لا يعطيه الصلاحية الدستورية لإقرار النظام الرئاسي أو إقرار دستور جديد للبلاد من داخل البرلمان، إذ أن هذا الأمر يحتاج إلى 376 صوتاً من داخل البرلمان من أصل 550 مقعداً، كما يحتاج إلى 330 صوتاً لدعوة البرلمان الشعب إلى استفتاء على أي مشروع قرار، ولعل ما يزيد من صعوبة تحقيق رغبة أردوغان هذه، هو رفض الأحزاب التركية الممثلة في البرلمان للنظام الرئاسي بشكل مطلق، وعليه فان الرجل يبدو في محنة لجهة كيفية الحصول على الأصوات اللازمة للانتقال إلى النظام الرئاسي. إلا أن هذا الواقع لم يمنعه من التمسك بالنظام الرئاسي والسعي للمضي إليه، فالرجل وضع إستراتيجية من مركبة من خطوتين أو مرحلتين لكيفية تحقيق هذا الهدف،على شكل معركة جديدة مشابهة لمعركة الانتخابات عندما راهن على الحرب ضد الكردستاني للفوز بالانتخابات، والمرحلتان هما، الأولى : إطلاق مشاورات واسعة مع أحزاب المعارضة ولاسيما حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية من أجل التوصل إلى صيغة توافقية بشأن الدستور الجديد والانتقال إلى النظام الرئاسي، واللافت أن أردوغان يضع هذه الخطوة في إطار الإصلاحات السياسية لتطوير النظام السياسي في البلاد وربطه بالنظام الرئاسي، وهو يحمل أحزاب المعارضة مسؤولية الفشل إذا لم تنجح خطواته في تحقيق هدفه، إذ انه يعتقد أن الشعب الذي صوت له بنسبة 52% في الانتخابات الرئاسية، ولحزب العدالة والتنمية بنسبة نحو خمسين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، صوت عملياً لأجندته السياسية، علماً أن مثل هذا المقياس غير دقيق، ولكن أردوغان يريد استغلال هذا الأمر للدفع بأجندته إلى أرض الواقع وفرضها على أحزاب المعارضة التي تعاني من الضعف والتشتت، وحتى الآن فشلت جهود حكومة حزب العدالة والتنمية في إقناع أحزاب المعارضة بالانتقال إلى النظام الرئاسي أو حتى الموافقة على الدستور الجديد، حيث ترى المعارضة أن الكثير من البنود المطروحة في هذا الدستور تكرس أيديولوجية حزب العدالة والتنمية وتساهم في أسلمة المجتمع والدولة على حساب الأسس العلمانية التي تأسست عليها الجمهورية التركية.

الثانية: ثمة من يرى أن فشل المرحلة الأولى من خطة أردوغان ستدفعه إلى التوجه لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، ولكن الطريق إلى الانتخابات المبكرة تبدو ستكون مغمسة بالدماء، فخطة أردوغان للذهاب إلى الانتخابات المبكرة تقوم على كيفية الحصول على أصوات الكرد من أجل الحصول على الأصوات المطلوبة لتمرير مشروع النظام الرئاسي في البرلمان، وهو هنا يراهن على الحرب ضد حزب العمال الكردستاني وحظر حزب الشعوب الديمقراطي ، ووضع الكرد أمام المعادلة  التالية: أما ان تعطوا أصواتكم لحزب العدالة والتنمية أو القتل. ولعل ما يجري اليوم من حرب وحصار للمدن الكردية في جنوب شرق تركيا تؤكد هذا الأمر، مستغلاً شعار مكافحة الإرهاب في شن هذه الحرب.                                           

في الواقع، من الواضح أن الحسابات السلطوية لأردوغان وتطلعاته الجامحة، أوصلتا تركيا إلى مرحلة شديدة من الانقسامات التي باتت تهدد تركيا من الداخل، ومع الحرب ضد الكردستاني وتصاعد وتيرة التفجيرات في المدن الكبرى، وتداعيات التورط التركي في الأزمة السورية،  مع كل هذا فان تركيا  دخلت مرحلة مفتوحة على كل الخيارات.   

كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*)

اعلى الصفحة