|
|||||||
|
يعرف الجميع أنّ الحركة الصهيونية والكيان الصهيوني ارتكب جرائم لا تحصى بحق العرب والمسلمين واليهود، بلغت درجة الجرائم ضد الإنسانية، والمعضلة التي ينتفض الأحرار ضدها هي الجهود التي تبذلها الصهيونية وتطلب من العرب والمسلمين القبول بتلك الجرائم وأن يتم التعامل معها وكأنّها لم ترتكب أيّ جريمة، وهو ما يسمى التطبيع. فالتطبيع مع الكيان الصهيوني، هو بناء علاقات رسمية وغير رسمية، سياسية واقتصادية وثقافية وعلمية واستخباراتية مع الكيان الصهيوني، والتطبيع هو تسليم للكيان الصهيوني بحقه في الأرض العربية بفلسطين، وبحقه في بناء المستوطنات وحقه في تهجير الفلسطينيين وحقه في تدمير القرى والمدن العربية، وهكذا يكون التطبيع هو الاستسلام والرضا بأبشع مراتب المذلة والهوان والتنازل عن الكرامة وعن الحقوق. والتطبيع يعني جعل ما هو غير طبيعي طبيعياً، ولا يعني بالضرورة إعادة الأمور إلى طبيعتها كما يذهب البعض. وفي علم الإحصاء وقواعد البيانات ثمة مصطلح علمي هو "تطبيع البيانات"، بمعنى جعل البيانات الإحصائية أكثر قابلية للاستخدام في البرمجة والتحليل (Normalization of Data) مما هي في حالتها الخام قبل تطبيعها. بالتالي، لا ضرورة للإصرار على استخدام مقاومة الصهينة بدلاً من مقاومة التطبيع، باعتبار التطبيع يمثل "عودة مزعومة لوضعٍ معين كان يوماً ما طبيعياً"، كما يذهب بعض الأصدقاء والزملاء الكرام بكل حسن نية. فالتطبيع هو جعل العلاقات طبيعية بين طرفين ليست العلاقات بينهما طبيعية حالياً، سواءٌ كانت طبيعية سابقاً أم لا… ولا حرج بالتالي من إطلاق تعبير "مقاومة التطبيع" على من يقاومون جعل العلاقات طبيعية بيننا وبين الكيان الصهيوني. التطبيع نهج مرفوض وفي اللغة تأتي لفظة تطبيع على وزن "تفعيل"، فهي عملية وصيرورة دائبة وصولاً لتحقيق غاية، لا خطوة واحدة عابرة سريعة أو غير سريعة. فالتطبيع نهج وأداء وعقلية جوهره كسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكال مختلفة، سواء كانت ثقافية أو إعلامية أو سياسية أو اقتصادية أو سياحية أو دينية أو أمنية أو إستراتيجية أو غيرها. لكن بغضِّ النظر عن الشكل، فإن فحوى التطبيع مع العدو الصهيوني يبقى واحداً وهو جعل الوجود اليهودي في فلسطين أمراً طبيعياً، وبالتالي فإن أي عمل أو قول أو صمت أو تقاعس يؤدي إلى التعامل مع الوجود اليهودي في فلسطين كأمر طبيعي يحمل في طياته معنىً تطبيعياً. ويُراد بالتطبيع إقامة علاقات طبيعية في الجوانب المختلفة: فهناك تطبيع سياسيّ، وتطبيع اقتصادي، وتطبيع دبلوماسي، وغير ذلك. وكل هذه الجوانب مرفوضة ولا تحتاج إلى اجتهاد كبير، فهي واضحة جلية، فالتطبيع مع الظالم ظلم، لأنه إقرار له على ظلمه، وهذا منصوص عليه في مواضع كثيرة: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾(الممتحنة: من الآية 1). وقال أيضاً: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ﴾(القصص:17). وقال النبي(ص): ((من مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام))(رواه الطبراني). وقال: ((من أعان على خصومة بظلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع))(رواه ابن ماجه). وقال: ((إذا رأيتَ أمتي تهابُ الظالم أن تقول له أنت ظالم، فقد تُوُدِّع منهم)). وهكذا فإن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية متوافرة متضافرة، تدل بمجموعها على عدم جواز إقرار الظالم على ظلمه، وهذا في الحقيقة موقف العقل والنقل، يعرفه التشريع الدولي ويقره، وهذا ما نص عليه الإسلام. ومن خلال هذا المعيار فإنه لا يشك عاقل في تحريم التطبيع مع إسرائيل، طالما بقيت تصرُّ على الظلم، وتصرُّ على تشريد الشعب الفلسطيني، واغتصاب الأرض العربية. إن إسرائيل اليوم لا تعترف بأي حق إنساني لأكثر من ستة ملايين فلسطيني مشردين في الأرض، بحجة أنهم خرجوا قبل جيل أو جيلين، في حين يرون حق الهجرة في كل لحظة ومتى شاؤوا لليهود الذين يحتمل أن أجدادهم قبل سبعين جيلاً مرّوا من فلسطين، أو أن أجدادهم لم يعرفوا أصلاً شيئاً اسمه فلسطين، لأنهم لا يمتون بأي صلة إلى سكان هذه المنطقة. ولنسأل التاريخ وعلم الأجناس هل كان سكان فلسطين أفارقة من العرق الأسود حتى يُعطى الحق ليهود الفلاشا الإثيوبيين بالهجرة إلى أرض فلسطين ؟! أم كان سكان فلسطين من الخزر أو الجرمان أو الأجناس الأخرى التي تُعطى حق الهجرة إلى فلسطين ؟! بينما يُحرم الفلسطينيون الذين تمتد آثارهم في فلسطين إلى آلاف السنين من العودة إلى أراضيهم وبيوتهم ومزارعهم بعد أن أخرجوا منها. وهكذا فإنه استناداً إلى النصوص الشرعية السالفة، وإلى الواقع الذي يتحرك فيه العدو الإسرائيلي؛ فإننا نفتي بحرمة التطبيع مع إسرائيل طالما بقيت على سياستها الحالية من الظلم والبغي والعدوان واحتلال الأرض. أما بالنسبة لمن يقارن بين علاقاته مع "إسرائيل" وبين صلح الحديبية. فإن من أبسط ما يقال: إن هذه المقارنة خاطئة من عدة وجوه، منها: إن صلح الحديبية هو هدنة بين عدوين، ولا يقارن بإقامة السلام والتطبيع مع عدو ما زال يغتصب الأرض العربية ويشرد أهلها، والسلام والتطبيع في هذه الحالة لا يجوز شرعاً، بينما الهدنة جائزة. ومنها: إن صلح الحديبية عقده قائد الأمة آنذاك، فكان اتفاقاً واحداً صان للأمة وحدتها، ولم يمكّن أعداءها منها. والاتفاقيات المنفردة فرطت عقد الأمة، وأضعفت شوكتها، وقوت أعداءها، ومكنت سرطان الصهيونية الفتاك من التجرؤ على عقيدتها وفكرها.. قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(الأنبياء:92). وقال أيضاً: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ(*) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾(المؤمنون52-53). وقال: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾(آل عمران: من الآية 103) التطبيع السياسي من خلال استعراض مراحل الصراع العربي الصهيوني نجد أن الكيان الصهيوني هو الذي أصر على تطبيع العلاقات مع العرب, وأن سياسته نحو الحرب أو نحو السلام تركزت أساساً على التطبيع باعتبار أنه الضمان الرئيسي والأساسي لبقاء إسرائيل في المنطقة. لقد أرادت إسرائيل إقامة علاقات اعتيادية مع العرب بحيث يقبلها العربي على أنها جزء من المنطقة ولا يضع وجودها أو حقها فيه موضع تساؤل. فالعلاقات الاعتيادية لها درجات صعود وهبوط لكنها تبقى تدور ضمن منطق الحياة السياسية وليس ضمن منطق عدائي يستهدف فيه طرف وجود الطرف الآخر. التسليم بوجود إسرائيل يكفيها هاجس الزوال ويصب ضمن منطق دفاع الغير عن وجودها واستمرارها ويضمن لها الاطمئنان بان العرب لن يحشدوا التاريخ القديم لصياغة سلوكهم الحالي, حيث يتحول الماضي إلى مجرد ذكريات لا سبيل لها للتدخل في الحاضر أو المستقبل. إسرائيل كانت دائماً الأقوى وحاولت من خلال قوتها تطويع العرب فألحقت بهم الهزائم المتكررة حتى باتوا غير قادرين على متابعة ما كانوا يدعون إليه. ومع بعض المحفزات الترغيبية تحول العرب تدريجيا مت الرفض المطلق إلى التردد ومن ثم إلى القبول التدريجي حتى وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من مستويات تطبيعية متنوعة. صحيح ان الاندفاع التطبيعي يتأرجح لكن ليس ضمن منطق الرفض ولكن ضمن منطق القبول. تطبيع العلاقات مع إسرائيل لا ينطوي على مجرد إقامة علاقات اعتيادية معها كما هي العلاقات الاعتيادية بين دول عالم غير المتنازعة, وإنما يدخل في عمق الذات العربية والإسلامية وله انعكاسات ذاتية وجماعية ذات صبغة حضارية وتاريخية. أنه ليس تطبيعا بمنى إقامة علاقات لم تكن موجودة أصلا كإقامة علاقة بين مصر ونيبال أو بين دول الجزيرة العربية وبيرو, وإنما بمعنى مراجعة تاريخ طويل وإعادة النظر في إبعاد تاريخية وحضارية ودينية. وهو لا ينطوي على مجرد مصالح متبادلة أو مشتركة تعود بمنافع مادية على طرفين, وإنما يشمل الوعي بالذات والقراءة العربية للتاريخ والهوية والأصول. التطبيع مع الكيان الصهيوني غير ذي بعد حاضري أي يخلو من الامتدادت النفسية ومقومات الشخصية والهوية, ولا هو مجرد شعار مرحلي بهدف تخطي مرحلة العجز العربي حتى تتفرج الأمور وتتغير الأحوال, وإنما يتغلغل في وعي الإنسان بعجزه لتجذيره كحقيقة لا يمكن تجاوزها أو التغلب عليها. وكأنه يخاطب العقل العربي والنفسية العربية قائلا:" إن العجز قد أحاط بالعرب وهو واقع بل قدر لا مفر منه وأنه لا مجال أمامهم سوى الاستسلام له وتوريثه لأبنائهم ليصبح مكونا تربويا لا تتمرد عليه الأجيال. إنه الترجمة العملية لترسيخ الهزيمة في النفس العربية بما يتضمنه ذلك من شروط القبول غير المتردد بالهزيمة". بعبارة أخرى, إنه استدخال للهزيمة بحيث لا تشعر النفس بارتياح في أجواء غير أجواء الهزائم والاندحارات. التطبيع بالنسبة لإسرائيل لا يعني مجرد إقامة علاقات تجارية أو مفوضيات أو سفارات, وإنما من المفروض أن يشمل مراجعة لمفاهيم الصراع ولفهم التاريخ والأسس الدينية, الخ. أي يجب أن يكون عملية قلب جذرية للنظرة العربية والإسلامية تجاه إسرائيل واليهود بحيث ينشأ عربي مسلم جديد بمفاهيم جديدة تنسف كل ما سبق بخلفياته وحيثياته. وان لم يكن التطبيع كذلك فان جذور بروز الصراع من جديد تبقى كامنة حتى يحين وقت انبثاقها. فإذا كان للصراع أن يدفن نهائيا فانه لا بد من نسف الأصول والمنابت وأسس تشكيل الشخصية العربية الإسلامية. وعليه فان التطبيع يجب ان يكون منهاجا حياتيا جديدا ومبرمجا بطريقة مؤثرة تخلق قيما تربوية وأخلاقية جديدة متناسبة مع المرحلة وتشكل أساس المستقبل. آليات التطبيع السياسي ضمن هذا الإطار العام رأت إسرائيل أن الضمان الأهم لاستمرار وجودها هو أن تكون مقبولة من قبل العرب والمسلمين كجزء لا يتجزأ من المنطقة وأن يتم التعامل معها كدولة لها الحق في الوجود والعيش بسلام وفي علاقات اعتيادية مع الآخرين كأي دولة أخرى في المنطقة. ولهذا عملت إسرائيل منذ قيامها نحو البحث عن وسائل انفراج مع العرب وإقامة علاقات غير عدائية بل واعتيادية معهم. وقد تركز جهدها على الشارع العربي, على الإنسان العربي العادي لأنه هو الباقي وليس الحاكم. رأت إسرائيل أن قبولها كدولة في المنطقة من قبل القادة والحكام والزعماء العرب لا يكفي كضمان لاستمرارها بسبب عدم استقرار الحكم في الوطن العربي وعدم قدرة القيادات على تحقيق استمرارية بدون قوة المخابرات والبنادق والسجون. فالقبول من قبل هؤلاء يتهاوى مع تهاوي زعاماتهم وحكوماتهم, ومن السهل أن يقلب القبول إلى رفض إن لم يكن الشعب قد سار في ركب القبول. وحتى تكون إسرائيل مقبولة كجزء لا يتجزأ من المنطقة ومعترفا بها هكذا فانه لا بد من توفر القبول الشعبي بها. لم يكن الأمر سهلا ولا بد من تحقيق اختراقات تجعل الاحتكاك بينها وبين مختلف فئات الشعب العربي ممكنا. وفي ظل العداء الواسع لإسرائيل في الوطن العربي لم تكن وسائل الإقناع العادية متوفرة ولم يكن أمامها سوى وسائل العنف والتدمير. وهي بذلك كانت بحاجة إلى أمرين: قادة عرب لا يتمتعون بغيرة على أمتهم وشعوبهم ومن الممكن تسييرهم, وهزائم عسكرية تلحق بالعرب تؤدي إلى إحباطات متراكمة وترسخ فكرة الاستسلام. هذا بالتحديد ما دفع رئيس وزراء إسرائيل الأسبق بن غوريون في التفكير في دفع رشوة مالية كبيرة لأي زعيم عربي مجاور حتى يشن حربا على إسرائيل فيهزم فتستوعب الجماهير الدرس وتقرر أن لا فائدة من البحث عن أسباب القوة لمحاربة إسرائيل. لم تكن أمام إسرائيل مشكلة كبيرة في إيجاد الزعماء المناسبين من خلال عدة وسائل تتمثل أولها في أن الاستعمار البريطاني لم يغادر المنطقة دون أن ينصب بعض الموالين للدول الغربية على حساب المصالح العربية. وأما من لم يربطه الاستعمار مباشرة قبل أن يغادر كان من الممكن العمل عليه بوسيلتَيْ المال والنساء واللتين ثبتت فعاليتهما في تحييد العديد من القادة العرب وفي تجنيدهم أيضاً. أما من استطاع أن يفلت من زمام المصائد بقي فريسة لحالة التخلف المتميزة بضعف المستوى المهني والأخلاقي وبالتكاسل والعشائرية وغياب العقلية العلمية والاستزلام. فمن لم يكن مصيبة على الأمة عمداً واستقطاباً كان كذلك تخلّفاً. لهذا لم يكن العرب على مستوى الاستعداد لحرب متكافئة وكانت الغالبية الساحقة من معاركهم عبر السنين هزائم مريرة, ولم يتوقف مسلسل الهزيمة إلا بحزب الله الذي حقق انتصاراً ساحقاً على إسرائيل عام 2000. من المفروض, حسب المنطق التاريخي العام, إن التحدي يولد التحدي وان يبحث المهزوم عن أخطائه ليتلافها ويراكم أسباب القوة حتى يدحر عدوه. لكن الهزائم على المستوى العربي كانت ذات مفعول آخر وهو رفع وتيرة الإحباط أو زيادة حدة مشاعر اليأس تمهيدا للتسليم بالأمر الواقع وقبوله على علاته. السبب في ذلك أن الزعماء العرب الذين لم تسقطهم الهزائم ولم تتحرك ضدهم الشعوب اتبعوا سياسات داخلية حرمت الشعوب من العمل نحو تنفيذ رغباتها وإعادة ترتيب صفوفها بهدف الدفاع عن الذات ودحر المعتدين. سخر قادة العرب أجهزتهم الأمنية وقوى الأمن لقمع الإنسان العربي, واستعملوا الأموال لشراء الضمائر واستعباد الناس وأقاموا إدارات ينخرها الفساد الذي فتت الكثير من الروابط المجتمعية والسياسية. لقد عاثوا في الأرض العربية فساداً ودماراً وأحالوا العربي إلى حطام يصعب تجميعه. وبذلك دحروه إلى زاوية لا يقوى فيها على قول "لا" وأصبحت معها الموافقة على كل المحرمات أمراً وارداً. وإذا تبقى هناك من يمكن أن يعارض فالسجن بانتظاره أو القتل دون أن يأسف على وضعه أناس كثيرون. أوصلنا القادة والحكام والزعماء إلى تلك النقطة التي وصلوا إليها منذ زمن بعيد ولم يكونوا قادرين على البوح بها وتبنيها علنا وهي نقطة الصلح مع إسرائيل او قبولها. قال هؤلاء القادة نعم للتفاوض وللاعتراف المتبادل وخرج الناس خاصة في فلسطين المحتلة/67 إلى الشوارع يهتفون ويرقصون احتفالا بالانتصار الذي حققوه في مدريد وبعد ذلك في أوسلو. لقد عمل اليأس معوله في نفوس وعقول الناس إلى درجة أنهم رقصوا لما وصفوه عبر سنين على انه خيانة ومحرمات لا يمكن الإقدام عليها. وهكذا فإن إسرائيل اعتمدت على آليتين في بث اليأس والإحباط وهما صنع عيادات عربية قابلة للهزيمة إذ اعتمدوا آلية عسكرية خاصة به تهيمن بها على المنطقة. وبدورهم القادة العرب - اعتمدوا على آليتين وهما التماشي اللفظي مع تطلعات الجماهير وتأهيلها للتفتت والهزائم من خلال سياساتهم الداخلية والخارجية. وقد تكامل الدور الإسرائيلي مع الدور القيادي العربي وانتهت الأوضاع إلى حيث أرادت إسرائيل- وهو الجلوس على طاولة المفاوضات لصنع سلام معها يقوم على الاعتراف المتبادل وفتح الأبواب أمام العلاقات الاعتيادية. الهرولة الرسمية للتّطبيع منذ دخول الاتفاق النووي الإيراني حيز التنفيذ بدأت دول المنطقة تتحرك باتجاهات مختلفة في محاولة منها لتطويق دور إيران الإقليمي المعترف به عالمياً. والملاحظ في هذا السياق أن الأنظمة العربية مستمرة بالسير خلف النهج السعودي القائم على عنوانين رئيسيين: تضخيم ما يسمى "الخطر الإيراني" والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وباستبعادها لخيار الانفتاح والتحاور مع إيران الجديدة الذي اتخذته واشنطن وشركاؤها الغربيون لتصحيح أخطاء "المقاطعة الدبلوماسية" وتعزيز التواصل معها من أجل "حل قضايا أخرى" تكون قد فوّتت على شعوبها فرصة تاريخية للتعاون الشامل وتبادل المصالح الأمنية والاقتصادية مع دولة لها تأثيرها ووزنها الإقليمي! فالسعودية وقطر والبحرين… شعرت بعد إنجاز الاتفاق التاريخي النووي مع الغرب، أن النتائج التي تمخض عنها هذا الاتفاق لم تكن مرضية لهم، ما دفعهم إلى الارتماء في حضن "إسرائيل"، حتى توفر لهم الحماية المزعومة مما يعتبرونه تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، مخالفين بذلك قواعد العلاقات السياسية التي تدعو للتحالف مع الدول التي تتشارك معها بأكبر عدد من القواسم المشتركة، وبالتالي تكون فرص تحقيق المصالح أكبر بكثير، فالأنظمة الخليجية رأت في الكيان الإسرائيلي الحليف القوي رغم عدم توافر القواسم المشتركة اللازمة معه. إنه التغير الذي عادة تتبعه التزامات أخرى، فلم تعد إسرائيل عدوا، وبالتالي هنالك من يطالب من الإعلاميين العرب بفتح سفارات إسرائيلية في بعض دول العرب… كل اللعبة الجهنمية الدائرة في الوطن العربي من أجل وصل بين البعض العربي وإسرائيل، بل هنالك تسابق لهذه الغاية، التي يسميها هذا البعض أمراً واقعاً لابد من الاعتراف به، ويرى فيها أنه تأخر في مد اليد للإسرائيلي… فالوحدة العربية تمحو وجوده، والكيان العربي الواحد يغير من شكل حكمه إذا بقي، والعروبة كلمة ممجوجة برأيه وقد غادرتنا منذ أن توفي من رفع لوائها، أما إسرائيل فتحمي برأيه أيضاً، تمنع سقوط أصدقائها، تمدهم بالعمر المديد، فيما هي كيان غير مستقر، يستمد قوته من الضعف العربي، من هذا الآخر العربي. والزيارة السرية التي قام بها مؤخراً وزير الاقتصاد الإسرائيلي يوفال شتاينتس لدولة الإمارات وسط حماية مشددة، بحسب ما كشفته وسائل إعلام العدو الصهيوني، تفسر تماماً حقيقة الارتباط العضوي بين إسرائيل ودول الخليج، وتدل على درجة التنسيق والتعاون المشترك بين الجانبين فيما يخص العمل على تدمير الدول العربية واحدة تلو الأخرى، إضافة إلى محاولة العمل معاً لإضعاف أي دولة تقف بجانب القضايا العربية، وتساند الدول التي تواجه المشروع الصهيوني، وفي مقدمتها إيران، لا سيما أن زيارة المسؤول الإسرائيلي تزامنت مع دخول الاتفاق النووي مع الغرب حيز التنفيذ. وتأكيد القناة الثانية الإسرائيلية على أن أبو ظبي وعدداً من الدول العربية التي أسمتها بالمعتدلة تجمعها مصالح مشتركة مع إسرائيل الساعية لإقامة شراكة فعلية مع هذه الدول ، وأن زيارة الوزير الإسرائيلي تصب في هذا الاتجاه، تؤكد أيضاً أن الأجندات الإسرائيلية والخليجية المعدة لتقسيم المنطقة واحدة، والمصالح متبادلة، حيث يرى حكام المشيخات في تحالفهم مع الكيان الصهيوني ضمانة لبقائهم، فيما ترى إسرائيل بالمشيخات الطريق الرئيسي نحو تصفية القضية الفلسطينية، ولكلا الجانبين هدف واحد هو محاولة تدمير سورية لما تمثله من رأس الهرم المقاوم في المنطقة. بيد أننا في تقصي الإخفاقات والنجاحات على جبهتي الصراع السجال بين خندقي الرجعية والتقدم، نتبين أنه لم ينقطع يوماً حتى في ذروة النفاق الرجعي الذي كانت السعودية تسميه "التضامن العربي" والذي كانت سورية تعرف أنه بوابة لاستدراجها إلى الجري في الملعب الأمريكي، وتتطلع في الآن نفسه إلى صيرورته تضامناً عربياً حقيقياً كفاحياً ضد المشروع الصهيوني. والذي حدث أن فاقد الشيء لا يعطيه. إذ إن خيبات واشنطن والرياض المتتابعة طيلة ثلث القرن، في بلوغ مرحلة شيوع التطبيع في وطن العرب، استوجبت كسر ظهر سورية، كونها رافعة الممانعة القومية المانعة للتفريط بالأرض والحقوق. والذي حدث منذ عام 2011 على غزارة الدماء التي أريقت، هو محاولة أمريكية رجعية لتقويض مصدات الهرولة إلى "إسرائيل"، وبيد الرجعيات الإسلاموية في ليبيا ومصر وسورية، يتقدمهم الإخوان المسلمون المشهود عليهم بأنهم رجعيون بامتياز، لاسيما منذ هزيمتهم في "بالوتاج" المالكي ـ السباعي 1954، أمام النسيج الوطني التقدمي في سورية، أي الصرح الشامخ في مصدات الهرولة إلى التحلل من المسؤولية القومية حيال المشروع الصهيوني. الحوار السري الخليجي مستمر مع إسرائيل وعلاقاتهم باتت واقعاً عملياً لا يمكن إنكاره، وفضيحة إقامة العلاقات مع العدو الصهيوني لم تعد تثير خجل أنظمة الخليج التي تسعى جاهدة لتخفيف الضغط الدولي عن إسرائيل، لقاءات متكررة بين مسؤولين خليجيين وإسرائيليين في تل أبيب وأوروبا ونيويورك… ففي عام 2005 أعلنت قطر والبحرين رفع الحظر الاقتصادي عن إسرائيل، وفي عام 2006 قام حمد مالك البحرين بتعيين اليهودية البحرينية هودا نونو سفيرة للبحرين في الولايات المتحدة، وهناك عشر شركات إسرائيلية تملك استثمارات في دبي جميعها مسجلة في قبرص، وشركة تسحام التابعة لمستوطنة (أبكيم) فازت بمناقصة باسم فرعها في بريطانيا لإقامة مزرعة جمال ومركزاً لحلب النوق وتصديره في دبي. ومؤخرا اتفق وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير بالقاهرة على تعيين "أحمد أبو الغيط "– وزير خارجية مبارك من 2004 الى 2011 - في منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية خلفاً لنبيل العربي، ويأتي تعيين "أبو الغيط" في هذا المنصب ليُثير العديد من التساؤلات خاصة في ظل حالة اليأس التي تعيشها الشعوب العربية، والتي ظهرت ملامحها في رفض المغرب استضافة القمة العربية والتي كان مقرراً انعقادها خلال هذا الشهر، وكذلك إصرار "نبيل العربي" على رفض الولاية الثانية له. التاريخ الدبلوماسي لـ"أبو الغيط" مملوء بالكوارث العربية أهمها وأخطرها هو: التصديق على إعلان إسرائيل الحرب على قطاع غزة عام 2008، وسعيه الدؤوب إلى إفشال قمة غزة في ذات العام، وعلاقته الوطيدة بالكيان الصهيوني حيث يعتبر "أبو الغيط" من أهم الأدوات التي كان يستعملها "مبارك" - الكنز الاستراتيجي للكيان الصهيوني-، وعداوته الشديدة للفلسطينيين وخصوصاً حركات المقاومة حيث هدد الفلسطينيين بكسر أرجلهم إذا اقتحموا الحدود مرة أخرى، وأخيراً كان. نحن إذن أمام عهد جديد للجامعة العربية لن يكون أحسن من قبل، بل سيكون أسوء مما كانت عليه، بفضل أمينها العام الجديد وما يمتلكه من علاقات جيدة مع الكيان الصهيوني، فضلاً عن أن أعضاؤها يرون فيها ما هي إلا منتزه لبعض مسئوليها، ومن ثم فإننا أمام جامعة تحتضر أمام قضايا الوطن العربي وتقف مشلولة الأيدي في مواجهة مخاطر الأمة العربية الحقيقة، وفى المقابل تُضخ فيها دماء جديدة من أجل التطبيع مع الكيان الصهيوني والعمل على تحويل ذلك العدو الأول للشعوب العربية إلى الصديق الحميم الذي ينبغي أن تكون العلاقات معه في أحسن حال، وهكذا فإننا سنكون أمام جامعة للتطبيع العربي وليس جامعة للدول العربية. |
||||||