الذكرى الـ"37" لانتصار الثورة الإسلامية
الجمهورية الإيرانية بين الانتصارات والتطورات

السنة الخامسة عشر ـ العدد 171 ـ  (جمادى الثانية 1437 هـ ) ـ (آذار 2016 م)

بقلم: معين عبد الحكيم*

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

"إنّ الثورة الإسلامية ليست ثورة سياسية فقط، بل هي أخلاقية أيضاً، والأخلاق تتقدم على السياسة". هكذا اختتم الشيخ الدكتور حسن روحاي مسيرات إحياء الذكرى السنوية الـ37 "لفجر انتصار الثورة الإسلامية" بالخطاب الذي ألقاه، أمام حشود تجمعت في ساحة الحرية بالعاصمة طهران، فيما أكد البيان الختامي الصادر عن "المسيرات المليونية" بأن "المنجزات والقدرات التي حققتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية... خط أحمر".

واعتبر الرئيس الإيراني أنّ "جميع الذين كانوا يمارسون الضغط على الشعب الإيراني، بسبب الحقد، أو سوء الفهم، أو النوايا السيئة، فإنهم قد يئسوا اليوم من إجراءاتهم السابقة"، مشيراً كذلك إلى أنّه "من خلال انتصار الشعب الإيراني في الاتفاق النووي، أدرك العالم أجمع أنّ هذا الشعب العظيم والكبير ليس فقط يقاتل ويدافع في الميدان، بل بإمكانه الوقوف أمام القوى العالمية، ويرغمها على الهزيمة والخجل".

وأضاف أن "الشعب الإيراني استطاع من خلال استقلاله السياسي والتضامن والوحدة الوطنية في ظل إرشادات سماحة قائد الثورة الإسلامية بأن يقوم بإلغاء القرارات الظالمة كافة لمجلس الأمن، وقرارات مجلس حكام الوكالة، وأن يثبت أكذوبة مزاعم تهديد إيران للعالم". وأشار روحاني في سياق خطابه إلى أنّ "قوى العالم كافة قد اعترفت اليوم بأخطائها التي ارتكبتها خلال الـ37 سنة الماضية، كما أنّ دول العالم وكافة الدول الكبرى ترغب بالتعاون وإقامة علاقات جيدة مع الشعب الإيراني العظيم".  

عشرة الفجر استفتاء حقيقي

تحيي إيران في الأول من شباط ذكرى تاريخ عودة آية الله السيد المجاهد روح الله الخميني "قدس سره" من منفاه في فرنسا وبدء الاحتفالات بمناسبة حلول "عشرة الفجر"، الذكرى الـ 37 لانتصار الثورة الإسلامية في إيران.

ففي مطلع شهر شباط من كل عام، يحتفل أبناء الشعب الإيراني المسلم ومعه المستضعفون وكافة أحرار العالم، بذكرى فجر انتصار الثورة الإسلامية المباركة بقيادة الإمام الخميني "قدس سره" الذي سجل أعظم حركة ثورية عرفها التاريخ المعاصر، حيث تشهد إيران الإسلامية عشرة أيام من الاحتفالات والفعاليات الرسمية والشعبية، التي تشكّل فرصة لإعادة التأكيد على الإنجاز التاريخي الذي قام به الإمام الراحل.

وتشكّل "عشرة الفجر" من كل عام استفتاءً حقيقياً، لإرادة الشعب الذي ملأ الساحات عام 1979، وحطّم عرش الشاه المقبور بصرخات الله اكبر ليزلزل بذلك أركان أسياده المستكبرين أمريكا والكيان الإسرائيلي وكل الطغاة والجبابرة ليختار الإسلام منهجاً للحكم وليكون أسوة لكل الأباة وعشّاق الحرية، ويفتح الطريق إلى القدس الشريف؛ حيث حمل منذ اليوم الأول بقوة، ودون استحياء، شعار: "إسرائيل غدة سرطانية لابد أن تزول".

وها هو المشهد يتكرّر في كل عام … استفتاء يلبيه الملايين، رافعين شعار الإمام الخميني: "نحن نستطيع" ، وهو شعار تحوّل إلى برنامج عمل، وضع إيران الإسلامية – بحق – في واجهة الأحداث العالمية، وحوّل التهديدات إلى فرص، ليجعل جمهورية إيران الإسلامية مثالاً وأنموذجاً لالتفاف الشعب حول قيادته، لصيانة الحرية والاستقلال، في زمن الهيمنة والوصاية والذل والارتهان.

وعودة لأحداث الأول من فبراير عام 1979م انتشر في الآفاق قرار عودة الإمام إلى أرض الوطن، وعلى الرغم من الانتظار الطويل الذي دام 14 عاماً، ظل هاجس الحفاظ على سلامته يشغل أذهان الشعب ورفاقه، وذلك لأن الحكومة التي فرضها الشاه كانت ما تزال تسيطر على المراكز الحساسة والمطارات في البلاد، وكانت الأحكام العرفية لا تزال سارية. لكن الإمام كان قد اتخذ قراره، موضحاً لشعبه في بياناته عن رغبته في التواجد بين صفوف الشعب الإيراني في هذه الظروف العصيبة والمصيرية.

وأخيراً، وطأ الإمام أرض الوطن في صبيحة اليوم الأول من فبراير عام 1979م  بعد غياب دام 14 عاماً في منفاه. وكان الاستقبال الذي حظي به الإمام من قبل الشعب الإيراني عظيماً ورائعاً لدرجة اضطرت معه وكالات الأنباء الغربية إلى الاعتراف بأن عدد الذين خرجوا لاستقبال الإمام تراوح بين 4-6 ملايين شخص.

وتدفقت الجموع من المطار إلى جنة الزهراء(ع) حيث مقبرة شهداء الثورة الإسلامية للاستماع إلى الخطاب التاريخي للإمام. في هذا الخطاب دوت مقولة الإمام الشهيرة: "سأشكّل الحكومة! سأشكّل الحكومة بمؤازرة الشعب"!، في البداية لم يعبأ رئيس الحكومة آنذاك شاهبور بختيار بهذه المقولة، لكن لم تمض إلا أيام قلائل حتى أعلن الإمام عن تعيين رئيس لحكومة الثورة المؤقتة وذلك في الخامس من فبراير 1979م.

في الثامن من فبراير عام 1979م قامت عناصر من القوة الجوية بزيارة الإمام الخميني في مقر إقامته في مدرسة علوي في طهران، وأعلنت عن ولائها التام له. في هذه الأثناء كان الجيش الشاهنشاهي يوشك على الانهيار التامّ، حيث شهد حالات فرار وتمرد العديد من الجنود والمراتب المؤمنين وذلك امتثالاً منهم لفتوى الإمام الخميني في ترك ثكناتهم والانضمام إلى صفوف الشعب.

في التاسع من فبراير انتفض الطيارون في أهمّ قاعدة جوية في طهران، فأرسلت قوة من الحرس الإمبراطوري لمواجهتهم وقمعهم، فانضم الناس إلى صفوف الثوار لدعمهم ومساندتهم. في العاشر من فبراير سقطت مراكز الشرطة والدوائر الحكومية الواحدة تلو الأخرى بيد الشعب. وهكذا تم دحر نظام الشاه، وأشرقت ـ في صباح يوم 11 فبراير ـ شمس الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، وأسدل الستار على آخر فصل من فصول الحكم الشاهنشاهي السحيق المستبد.

في عام 1979م صوّت الشعب لصالح استقرار النظام الجمهوري الإسلامي وذلك في أنزه استفتاء شهدته إيران حتى ذلك التاريخ، ثم تبعتها انتخابات تدوين الدستور والمصادقة عليه ثم انتخاب نواب مجلس الشورى الإسلامي.

كان الإمام يلقي الخطب والبيانات يومياً في مقرّ إقامته وفي المدرسة الفيضية على الآلاف من محبيه وذلك لتهيئة الأجواء لتدعيم أركان النظام الإسلامي وبيان أهداف الحكومة الإسلامية وأولوياتها، وتشجيعهم على تسجيل حضور فاعل في جميع الميادين.

حادثة القرن الكبرى

كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران حادثة مهمة ومحيرة للعالم في القرن العشرين، وكان لها دور مؤثر في القضايا السياسية العالمية والمنطقة، ومصدراً لتغييرات لا يمكن التنبؤ بها.

حادثة القرن الكبرى هذه اضطربت بسببها المعادلات السياسية للاستكبار في مواصلة سياسة التسلط وتقسيم العالم إلى مغانم، واقتلعت من جهة أخرى جذور أعتى نظام عميل كان يحظى بمؤازرة القوى الكبرى. وأحدث في بلد كإيران ـ بما لها من أهمية إستراتيجية واقتصادية للقوى العظمى في العالم ـ انقلاباً سياسياً جماهيرياً هائلاً.

والأهم من كل هذا هو أن مسار الثورة الإسلامية وما أفرزته من وعي عميق لدى شعوب العالم وخاصة في الدول الإسلامية، قد مهد الأرضية لوقوع تغييرات سياسية جذرية، ولانبثاق رؤى وتوجهات وحركات وتنظيمات سياسية ذات وزن كبير.

أدى هذا الحدث السياسي إلى بروز الإسلام مرّة أخرى كعقيدة ذات قدرة عظيمة في العالم، وجعل أنظار المسلمين ترنو إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، والسير على طريق استعادة الذات، والانعتاق من قيود التسلط، والوقوف بوجه الاستعمار بشكليه القديم والحديث، وبلورة معطيات قطب سياسي جديد في العالم، وانهيار الأنظمة العميلة والمفروضة بالقوة على ربوع الأراضي الإسلامية الحافلة بالخيرات؛ وأثار هذه الآمال في العيون المشتاقة، والغارقة في اليأس والهم لمليار مسلم، وتمخضت عنه موجة من الرعب والاضطراب في القلوب الطامعة لمصاصي دماء الشعوب.

كانت المعطيات المذهلة التي أفرزتها الثورة الإسلامية في العالم، أكثر إثارة للدهشة ـ باعتراف المحللين السياسيين ـ من أي حدث شهده العالم طوال ستين سنة الماضية، إذ إنها أبطلت آراء وتوقعات وتحليلات المراقبين السياسيين.

قوضت الثورة الإسلامية التحالفات والقطبية الثنائية التي هيمنت بظلالها على الوضع الحالي في العالم، وعلى الرغم من التناقض العميق الذي يحكم علاقات القوتين العظميين ويجعلهما أبعد شيء عن التلاقي والتقارب، إلا أن قيام هذه الثورة أرغمها على انتهاج أسلوب تساومي واتخاذ موقف موحد إزاء هذه الظاهرة السياسية الجديدة، وانتهى إلى إيجاد تغييرات أساسية في مختلف القضايا العالمية.

يحتفظ الغرب في ذاكرته عبر تجارب مريرة له في صراعه وقوع الحروب الصليبية ومواجهاته مع الإمبراطوريات الإسلامية بصورة مرعبة ومثيرة، ولكنه شعر أن الخطر هذه المرة أوسع وأشد وأكثر رهبة مما سبق له أن رآه.

لقد بدت ظاهرة المقاومة الناشئة في لبنان والمستلهمة من الثورة الإسلامية، والجهاد الإسلامي المتنامي في فلسطين وفي غيرها من البلدان الإسلامية أكثر رهبة للغرب مما كان يتصوره، وأصبحت نذير شرر متطاير بوجه الاستكبار.

تحمل الثورة الإسلامية بالمقارنة مع الثورات الأخرى التي وقعت في العالم، مجموعة من الخصائص والميزات التي تحتل في نظرية الثورات، مرتبة عليا في الظواهر السياسية والثورات الكبرى في العالم.

ما اتسمت به الثورة من ماهية عقائدية، وكفاءة قيادية، وعمق في التغييرات الناتجة عنها دفع بالكثير من خبراء العلوم السياسية إلى إعادة دراسة نظريات الثورة في البلدان الإسلامية، وإخضاع نمط جديد منها للبحث والدراسة.

وعلى صعيد آخر كان المفكرون ومؤسسو الحركات والانتفاضات الإسلامية يبحثون عن نموذج للثورة بين طيات التاريخ، ويسعى كل منهم إلى الاستنارة بالأحداث البارزة في تاريخ الإسلامية لتلمس مسارهم وإظهار المنهج الذي يسيرون عليه وكأنه امتداد لتلك الأحداث التي وقعت في تاريخ الإسلام، بيد أن انبلاج فجر الثورة الإسلامية ـ التي تعتبر أهم وأبهى حادثة وقعت في تاريخ الإسلام بعد عصره الأول وأكثرها أصالة ـ جعلها تشتمل بين ثناياها على أبرز تلك الأحداث المجيدة التي شعت في تاريخ الإسلام، وحلت محل جميع تلك النماذج فيه.

لا ريب في أن دراسة ماهية الثورة الإسلامية ـ حتى ولو بشكل سطحي وعابر ـ وما تركته من انعكاسات على الصعيد العالمي وما تمخض عنها من مكاسب ومعطيات لجميع الشعوب الإسلامية، وخصوصاً الشعب الإيراني المسلم، تقودنا إلى نتيجة مفادها إن الثورة الإسلامية هي حادثة القرن الكبرى في العالم وفي تاريخ إيران بل وهي من أهم المنعطفات في تاريخ الإسلام، وظاهرة مثيرة للدهشة، ومعجزة إلهية تجلت فيها قدرة الباري تعالى، رغم ما لقيته من معارضة على يد القوى المادية، والظروف التي كانت تبدو على الظاهر وكأنها غير قابلة لوقوع أي تغيير سياسي.

انتصارات وتحديات

الثورات الحقيقية تتجدد في كل عام، وتكسب من الخبرات والقدرات ما يصلب عودها، ويثبت بنيانها، وليست يوماً للذكرى وكأنها حدث من الماضي، بل هي حاضر مستمر ومتجدد.. تتجدد بالتحديات والانتصار المتراكم.

والثورة الإيرانية هي من هذا النوع بالذات. فهي كانت عظيمة وتاريخية عندما قهرت الدكتاتورية والرجعية والتبعية للأجنبي التي كان يمثلها الشاه الأخير محمد رضا بهلوي. ولكن المعركة لم تنته، بل كانت الثورة دائماً أمام تحديات لا تقل خطورة وأهمية، وأنجزت في كل منها انتصاراً جديداً.

وهي اليوم أمام تحديات جسام، لا تقل عن سابقاتها. وإننا على ثقة أن الثورة التي حققت الانجازات المعجزة في أيام الحصار، سوف تتمكن من إكمال معجزات الانتصار المتجدد على التحديات ما بعد رفع الحصار.

ولا نقول ذلك من باب المبالغة والوصف الأدبي والإنشائي. فمنذ اليوم الأول لانتصار الثورة، كانت غريبة مدهشة ومثيرة للسؤال. هي غريبة لأنها لم تكن ولم ترد أن تكون جزءاً من النظام الطاغوتي القائم. فهي ثورة إسلامية حقيقية.

والفكر الإسلامي الذي كان يعرفه المجتمع الدولي حينها، بل الذي يريده، هو أن يكون أداة الضبط الداخلي للمجتمعات المسلمة، ولكنه لا يمنع تسرب الفكر الغربي والثقافة الغربية، إلى حيث يريد ما يسمى بالمجتمع الدولي، وحسب حاجاته.

والفكر الإسلامي الذي يعرفه الغرب، والذي ساهم في نشره وتعزيزه عبر دعم الحكومات المأجورة، هو السلوك الظاهري للأفراد وممارسة الطقوس والعبادات والسلوك الرمزي، ولكنه ليس هوية حقيقية مميزة وموحدة للمنتسبين إليه.

فالمسلمون في نظر العالم الغربي هم العربي والإيراني والباكستاني والتركي والاندونيسي والإفريقي والصيني، والذين لا يجمع بينهم جامع حتى لو مارسوا الممارسات العبادية نفسها.. بل هم تنويعات أكثر تشعبا وأكثر تمزقاً ضمن كل فصيل إسلامي.. ومثل ذلك أنظمتهم التي تقول إنها إسلامية وتتبنى الشريعة منهجا ولكنها في الحقيقية تتوزع بين القبائل والعشائر والهويات الوطنية والقومية ويهيمن عليها الفرد ملكاً كان أو رئيساً أو أميراً.

ومنذ اليوم الأول كان على الثورة الإيرانية أن تخوض معركة الهوية الإسلامية، وهو المفهوم الذي يتجاوز الأعراق والأقوام والحدود القطرية وبالطبع المذاهب والحزبيات الطائفية، لأن الإسلام في جوهره هو هكذا عابر للقوميات وفوق المذهبية والقبلية والانتماءات الجاهلية.

فطرحت الجمهورية الإسلامية مبدأ التقريب بين المذاهب، والوحدة الإسلامية، والتكامل الإسلامي. وأكدت باستمرار أنها لا تخوض أي صراع داخلي مع أي دولة إسلامية بل تسعى إلى التكامل والتعاون معها جميعا بصرف النظر عن طبيعتها ضمن منهج الوحدة والتعدد داخل الوحدة.

وتبنت الشعارات الجامعة والقضايا التي تهم الأمة جميعا على الصعيد السياسي، ومنها تحرير فلسطين باعتبارها ميراثاً مقدساً للأمة، واعتبرت الكيان الصهيوني العدو الوحيد للأمة في هذه المرحلة، فلا اعتراف به ولا مساومة معه ولا تنازل أمامه، لأن القضية الفلسطينية هي العامود الفقري لوحدة الأمة وضميرها الحي.

فبدت بذلك غريبة على المشهد وتنويعاته، حيث كانوا يريدونها فرقة جديدة ضمن الفرق الموجودة، وصوتاً ناشزاً ضمن جوقة النشاز القائمة.. وليس صوتاً موحداً جامعاً.

إلا أن الغرب الخائف على مواقعه في الدول الإسلامية والعارف بهشاشة المنظومات السياسية التي يحكم بها تلك البلدان، صاغ شعار تصدير الثورة، ليقنع به الحكام بأن الثورة الإيرانية هي التهديد الحقيقي لهم، وان إيران تستعد لغزو المنطقة عبر تصدير ثورتها.

وزاد من فرادة الثورة الإيرانية أنها لم تشأ الاصطفاف في المنظومة العالمية، فرفعت شعار لا شرقية ولا غربية بل ثورة إسلامية، والعالم يومها كان منقسما بين معسكرين، يعرف كل منهما الآخر، ويتناغم في الصراع معه. إيران لم تكن جزءاً من هذين المعسكرين، على الرغم من أنها تعرف كيف تميز بينهما، إذ أنهما ليسا في خانة واحدة.

الغرب الذي أجهز على المعسكر الشيوعي في تسعينات القرن الماضي، توجه بكل قوته لإعادة ترتيب وصياغة العالم الجديد، إلا أنه واجه معضلته في الشرق الأوسط، وكان عليه أن يدخل إسرائيل في المنظومة السياسية والاقتصادية للمنطقة.

وعلى الرغم من الاختراقات الواسعة في هذا المجال عبر ما عرف باتفاقات السلام، وعلاقات بناء الثقة، وإقامة المكاتب التي لا ترقى إلى التمثيل الدبلوماسي والاعتراف الكامل، بانتظار حل قضية القدس واللاجئين الفلسطينيين، بعد أن تقزمت القضية الفلسطينية إلى قضايا صغيرة وخلافية.. بعد كل ذلك وجد الغرب المنتصر نفسه في مواجهة الثورة الإيرانية، التي لم تقيدها أسوار وسياج العداء، على قاعدة تصدير الثورة التي ثبت أنها غير صحيحة، بل قدمت الدعم لفلسطين وشعبها وثورتها من منطلق إسلامي لا حزبي، وعلى قاعدة الواجب الديني لا المصلحة السياسية.

فأخفق الغرب في ردع الثورة الإسلامية، وعاد ليطور شعار تصدير الثورة، لزيادة جرعة الخوف لدى الحكام العرب، إلى التدخل في الشؤون الداخلية، وراحت منظومة الإعلام العربية والصهيونية والأمريكية تكرر هذه المعزوفة، لجعلها مسلمة فكرية لدى شعوب المنطقة. ثم في مرحلة لاحقة صار التدخل في الشؤون الداخلية نفوذاً إيرانياً، ورفعت الأنظمة الرجعية العربية شعار التصدي للنفوذ الإيراني.

هذه الشعارات جرى ضخها وتعميمها في خضم المعركة التي افتتحها الغرب ضد الثورة الإسلامية، التي لم يستطع حصارها ولا حرفها عن هدفها ولا تشويهها في وجدان الشعوب المسلمة.. وفي إطار إعداد مسرح المواجهة لضرب الثورة وجمهوريتها وتدميرها.

تطورات علمية وصناعية

على الرغم من تاريخها العريق وحضارتها المتجذرة في أعماق الدهر والعصور، لم تكن إيران تحظى بمكانة سامية في المجال العلمي والصناعي، قبل الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. حيث كانت إيران تستورد معظم احتياجاتها الأساسية مثل المواد الغذائية فضلا عن الحاجات الصناعية، من الخارج، على الرغم من توفر جميع الإمكانات اللازمة لتطور البلاد والفائض الكبير في الميزانية الذي کانت تتمتع به البلاد آنذاك بسبب مبيعاتها النفطية الهائلة والقفزة التي شهدتها أسعار النفط في ذلك التاريخ. إذن ما هي المكانة التي اكتسبتها إيران خلال السنوات الأخيرة التي مضت على عمر الثورة الإسلامية، ونحن على أعتاب الذكرى الـ 37 لانتصار هذه الثورة، حيث سيكون يوم غد، أول أيام عشرة الفجر والذي عاد خلاله مؤسس الثورة الإسلامية الإمام الخميني (رض) إلى البلاد بعد 14 عاماً قضاها في المنفى؟.

بعد الضجة الإعلامية الواسعة التي أثارتها الدول الغربية خلال العقد الأخير حول البرنامج النووي السلمي الإيراني، والتي كانت تهدف إلى الإخلال في مسير التقدم الإيراني ومنع طهران من الوصول إلى التكنولوجيا النووية للأغراض غير العسكرية، بات العالم يعرف أن طهران خطت خطوات بعيدة في المجال النووي، حيث بات بوسعها تخصيب الیورانيوم إلى مستوى 20%، فضلاً عن إنتاجها أجهزة طرد فائقة الدقة للحصول على الیورانيوم المخصب بدرجة عالیة من النقاء.

لكن التطورات التي توصلت إليها إيران خلال العقود الثلاثة الأخيرة لم تكن محدودة في المجال النووي فحسب، بل إن هذا التطور شمل الكثير من المجالات الأخرى. ففي مجال الصناعات الدفاعية يمكن القول إن إيران وصلت إلى قمة التطور والإبداع، وباتت تنتج معظم ما تحتاجه بدءاً من الطلقات النارية وصولا إلى الصواريخ البالستية والغواصات والقاذفات والطائرات بدون طيار، حيث رأينا كيف نشرت إيران صوراً التقطتها طائرة إيرانية بدون طيار لحاملة الطائرات الأمريكية "هاري ترومان" في مياه الخليج، دون أن تتمكن القوات الأمريكية من اكتشاف الطائرة.

وفي سياق هذه التطورات فقد اكتسبت إيران مكانة رفيعة في مجال الطب ومعالجة الأمراض المستعصية وزرع الأعضاء البشرية الحيوية مثل القلب والكلى والكبد، فضلا عن إنتاج الخلايا الجذعية لمعالجة ما يزيد على 60 نوعاً من الأمراض. حيث باتت تحوز إيران الیوم على المركز الـ8 دوليا في مجال امتلاك تقنية الخلايا الجذعية كما صرح بذلك "محمد إبراهيم فقيه زاده" باعتباره رئيساً لأحد مراكز الجهاد الجامعي في البلاد. هذه النجاحات الطبية، أدت إلى ارتفاع متوسط العمر المتوقع في البلاد من 58 عاما قبل الثورة إلى 72 عاماً بعد الثورة. وفي مجال إنتاج الأدوية فضلاً عن أن إيران باتت تنتج 96% من الأدوية داخل البلاد، فقد باتت تصدر كميات كبيرة من الأدوية إلى مختلف دول العالم. جميع هذه المؤشرات تدل على أن هيكل النظام الصحي في البلاد قد شهد تطورا لافتا بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران.

وفي المجالات الأخرى مثل الاكتفاء الذاتي في مجال المحاصيل الزراعية ومن ضمنها القمح وكذلك إنتاج الكهرباء، وإيصال الغاز إلى القرى والمناطق النائية فقد حققت إيران قفزات نوعية، وبات يجد ما يقارب 15 مليون عائلة، الغاز داخل بيوتها. وفي مجال سكك الحديد فقد ازدادت النسبة من 565 كيلومتر في بداية الثورة، لتصل اليوم إلى أكثر من 10000 كيلومترٍ. وفي مجال الهاتف الأرضي والخليوي فقد وصل عدد المشتركين إلى أكثر من 70 مليون مشترك، بعدما كانت هذه النسبة قبل الثورة الإسلامية أقل من مليون مشترك.

وبينما كان يعاني حوالي 70% من كبار السن في إيران قبل الثورة من الأمية، باتت تقترب الأمية في البلاد الیوم من الصفر بين كبار السن، بعد النهضة التعلیمية التي شهدتها البلاد لمحو الأمية بعد عام 1979. حيث تشير التقارير التي صدرت عن الأوساط العلمية الدولية إلى أن إيران أصبحت تتقدم بـ11 ضعفاً متوسط النمو العلمي الدولي، مما مكنها ذلك من احتلال المرتبة الـ12 علمياً بين دول العالم.

هذه المجالات التي تمت الإشارة إليها ما هي إلا عينة قليلة من المجالات العلمية التي تطورت فيها إيران كثيرا، ويمكن رصد هذا التطور العلمي الإيراني في مجالات عديدة أخرى، مثل صناعة الأقمار الصناعية وإطلاقها عبر المركبات الفضائية وفي مجال النانو والليزر وصناعة السيارات وإنتاج الفولاذ والألمنيوم وصناعة السفن والطائرات المدنية وحفر آبار النفط والغاز وإنتاج العديد من المعدات النفطية لتكرير النفط، وبناء السدود، فضلا عن المجالات الأخرى التي أحرزت فيها إيران تقدما مقبولا لا مجال لذكرها في هذا المقال. كل هذه المجالات تشكل جزءاً يسيراً من النهضة العلمية التي انطلقت في البلاد بعد الثورة الإسلامية وجعلت إيران تتقدم بسرعة فائقة لتلتحق بركب الدول المتقدمة صناعيا وعلميا، وذلك بعدما كانت دولة متخلفة في شتى المجالات قبل الثورة الإسلامية.

إلى ذلك أعلنت منظمة الصناعات الفضائية التابعة لوزارة الدفاع وإسناد القوات المسلحة الإيرانية بأنه تم عرض صاروخ "سيمرغ" الحامل للأقمار الصناعية وصاروخ "عماد" الباليستي خلال مسيرات الاحتفال بذكرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران. ويعتبر هذان المنجزان لوزارة الدفاع في المجال الفضائي والصاروخي رمزاً للاعتماد على الذات وكسر الحظر، ويمثلان تبلوراً لإرادة شعب يحتفل في ظل تضحياته ومقاومته وصموده منقطع النظير بالذكرى الـ37 لانتصار ثورته باقتدار وعزة وشموخ.

وتم تصميم وتصنيع الصاروخ الحامل للأقمار الصناعية "سيمرغ" في إطار تحقيق جانب من أهداف البرنامج الفضائي الإيراني من قبل منظمة الصناعات الفضائية التابعة لوزارة الدفاع وإسناد القوات المسلحة. وبإمكان الصاروخ "سيمرغ" بوقوده السائل، نقل أقمار صناعية بوزن اكبر مقارنة مع حامل الأقمار الصناعية “سفير”، بما يصل إلى 100 كغم كحد أقصى ووضعه في مدار على بعد نحو 500 كم من الأرض وبزاوية ميلان مداري قدرها 55 درجة. والصاروخ "سيمرغ" قادر أيضاً على وضع أقمار صناعية بوزن عدة مئات كيلوغرام في مدارات قريبة من الأرض(LEO).

كما أن الصاروخ "عماد" الذي جرت جميع مراحل تصميمه وتصنيعه على أيدي العلماء والخبراء في منظمة الصناعات الفضائية بوزارة الدفاع وإسناد القوات المسلحة الإيرانية، يعتبر أول صاروخ بعيد المدى للجمهورية الإسلامية الإيرانية بقابلية التوجيه والسيطرة حتى لحظة إصابته بالهدف وهو قادر على إصابة الأهداف المطلوبة بدقة عالية وتدميرها بصورة كاملة. 

باحث في القضايا الإقليمية(*)

اعلى الصفحة