اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الخامسة عشر ـ العدد 171 ـ  (جمادى الثانية 1437 هـ ) ـ (آذار 2016 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


لمدير المسؤول:

مصطفى حسن خازم


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

من دروس الحياة

"اعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظى به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح".

الإمام علي (ع)

تواطأ الناس بأسرهم، على ذم الدنيا وشكايتها، لمعاناة آلامها، ففرحها مكدر بالحزن، وراحتها منغصة بالعناء، لا تصفو لأحد، ولا يهنأ بها إنسان، وعلى الرغم من تواطئهم على ذلك تباينوا في سلوكهم وموقفهم من الحياة؛ فمنهم من تعشَّقَها، وهامَ بحبها، وتكالب على حطامها، ما صيّرهم في حالة مزرية، من التنافس والتناحر.

ومنهم من زهد فيها، وانزوى هارباً من مباهجها ومتعها إلى الأديرة والصوامع، ما جعلهم فلولاً مبعثرة على هامش الحياة.

وجاء الإسلام، والناس بين هذين الاتجاهين المتعاكسين، فاستطاع بحكمته البالغة، وإصلاحه الشامل، أن يشرع نظاماً خالداً، بين الدين والدنيا، ويجمع بين مأرب الحياة وأشواق الروح، بأسلوب يلائم فطرة الإنسان، ويضمن له السعادة والرخاء. فتراه تارة يحذر عشاق الحياة من خدعها وغرورها، ليحررهم من أسرها واسترقاقها، كما صورته الآثار السالفة. وأخرى يستدرج المتزمتين الهاربين من زخارف الحياة إلى لذائها البريئة وأشواقها المرفرفة، لئلا ينقطعوا عن ركب الحياة، ويصبحوا عرضة للفاقة والهوان.

قال الإمام الصادق(ع): "ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه".

وبهذا النظام الفذ ازدهرت حضارة الإسلام، وتوغل المسلمون في مدارج الكمال، ومعارج الرقي المادي والروحي. وعلى ضوء هذا القانون الخالد نستجلي الحقائق التالية:

1- التمتع بملاذ الحياة، وطيباتها المحللة، مستحسن لا ضير فيه، ما لم يكن مشتملاً على حرام أو تبذير، كما قال سبحانه: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

2- إن التوفر على مقتنيات الحياة ونفائسها ورغائبها، هو كالأول مستحسن محمود، إلا ما كان مختلساً من حرام، أو صارفاً عن ذكر الله تعالى وطاعته، أما اكتسابها استعفافاً عن الناس، أو تذرعاً بها إلى مرضاة الله عز وجل كصلة الأرحام، وإعانة البؤساء، وإنشاء المشاريع الخيرية، فإنه من أفضل الطاعات وأعظم القربات. قال الإمام الصادق(ع): "لا خير فيمن لا يجمع المال من حلال، يكف به وجهه، ويقضي به دينه، ويصل به رحمه".

3- إن حب البقاء في الدنيا ليس مذموماً مطلقاً، وإنما يختلف بالغايات والأهداف، فمن أحبه لغاية سامية، فهو مستحسن، ومن أحبه لغاية دنيئة،فذلك ذميم مقيت، كما قال زين العابدين(ع): "عمِّرني ما كان عمري بذلةً في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك".

قال الدكتور "ديل كارنيجي" حدثني صديق لي، قال: تلقيت أعظم درس في حياتي من حادث صادفته خلال الحرب. فقد كنت أعمل في غواصة حربية بالقرب من جزائر الهند الصينية، مع فرقة مؤلفة من ثمانية وثمانين جندياً، وفوجئنا يوماً بقوة بحرية كبيرة تهجم علينا وبدا أنها اكبر عدداً منا، وكانت طائرة يابانية قد كشفت موقعنا، ونحن على عمق 67 قدماً من سطح البحر، فأبلغت أمرنا إلى رؤسائها، وسرعان ما خفت إلينا هذه القوة الكبيرة للقضاء علينا. فاضطررنا أن نغوص إلى عمق 150 قدماً وأطفأنا الأنوار، وعطلنا المراوح وأجهزة التبريد مبالغة في الاستخفاء والوقاية، ولم تمض دقائق حتى كانت الألغام تنفجر حولنا من كل الجهات.

لم يكن في وسعنا أن نصنع شيئاً لصد هذا الانقضاض الخاطف المهول، فأخذنا نترقب الموت بين لحظة وأخرى.. مع أن الحرارة داخل الغواصة كانت قد ارتفعت حتى قاربت المائة درجة نتيجة لتعطيل المراوح وأجهزة التبريد، وكانت أسناننا تصطك وأطرافنا ترتعد وكأننا في درجة من الحرارة الصفر، واستمر الهجوم خمس عشرة ساعة، مضت علينا خمسة عشر مليون عام.

كانت صور الماضي خلال هذه الساعات تتلاحق على اختلاف أنواعها وألوانها أمام عيني، وهي تسرع تارة وتبطئ أخرى. وقد رأيت بينها صور جميع ما اقترفته من المساوئ والشرور والآثام، وصور الأشياء السخيفة التافهة التي أقلقتني شهوراً من قبل.

كنت محاسباً بأحد البنوك قبول أن التحق بالجيش. وطالما ذقت ذرعاً لطول الساعات التي كنت اقضيها في عملي.. وبضآلة الأجر الذي أتقاضاه، دون أن يكون لي أمل في تحسين حالتي. وشد ما كان يؤلمني حينذاك شعوري بالعجز عن شراء دار أو اقتناء عربة، أو هدية أقدمها لزوجتي في أحد أعياد ميلادها.

وشد ما كنت أكره رئيسي في البنك الذي كان يؤنبني لغير ما سبب ظاهر، ويتهمني بالتقصير بمناسبة وغير مناسبة. فكنت أعود إلى المنزل في أكثر الأمسيات حاقداً غاضباً ناقماً، فأتشاجر مع زوجتي المسكينة لأتفه الأمور..

كل هذه الصور السخيفة التافهة في حياتي الماضية مرت على ذهني وأنا انتظر الموت مع رفاقي بالغواصة، بل لقد تمثلت لعيني صورة مكبرة لما هو أسخف وأتفه، فتذكرت مثلاً إصابتي بمرض جلدي ضايقني بضعة أيام، وتذكرت جرحاً بسيطاً أصبت به في حادث سيارة.

وبقدر ما كانت هذه الحوادث تبدو لي مزعجة منذ سنوات كنت أراها الآن على حقيقتها تافهة سخيفة.. والمتفجرات تهدد غواصتنا بالنسف وتنذرنا بالتأهب للانتقال إلى العالم الآخر.

وعاهدت نفسي إن كتبت لي النجاة ورؤية نور الشمس مرة أخرى، ألا اهتم لشيء من هذه التوافه التي تعرض لكل امرئ في حياته اليومية. فلما نجونا بعد يأس، لم أنسى ذلك العهد، وأخذت به نفسي فأفدت من ذلك إلى حد كبير.

والحق أنني تعلمت من دروس الحياة في تلك الساعات الرهيبة أكثر مما تعلمته في دراساتي الجامعية، ومن كل مطالعتي.

والواقع أننا كثيراً ما نواجه المصائب الكبيرة في الحياة بشجاعة وصمود، ولكننا ندع التوافه والصغائر تحطم أعصابنا وتنغص عيشنا.

للإخفاق أسباب

وليس من شك في أن الإخفاق في كثير من الأعمال والمشروعات التي يتطلب نجاحها التعاون والتضامن إنما يرجع إلى أمور حقيرة تافهة، قد يضحك المرء على موقفه منها بعد حين.

ومع ذلك فأننا نقضي ساعات لا تعوّض في التفكير والأسى والأسف على أشياء تافهة، لا شك في أننا مع غيرنا من الناس، سننساها مع الوقت. أليس من الخير أن نكرس أوقاتنا القصيرة لأداء أعمال جليلة، وإنتاج آثار خالدة، والتفكير بأشياء مفيدة مسلية، وخدمات خالصة؟.

هناك على منحدر جبل في إحدى المدن الإيرانية، توجد بقايا شجرة ضخمة، يقول علماء النبات إنها عاشت نحو ألف وأربعمائة عام، تعرضت فيها للصواعق والزوابع والأعاصير، فلم تتأثر بها، وقاومتها جميعاً. وحدث في السنوات الأخيرة، أن هجم على هذه الشجرة حشد من الجراد، وراح يشق طريقة إلى قلبها، فما لبثت قليلاً حتى انهارت أمام الهجمات المتوالية لذلك الجراد الصغير الحجم، والتي يستطيع طفل صغير أن يسحقها تحت قدميه.

ألسنا جميعاً هذه الشجرة الضخمة؟.. ألسنا في كثير من الأحوال نقاوم الزوابع الشديدة، والأعاصير الثائرة ثم ندع قلوبنا "لجراد" الهموم تأكلها وتحطمها؟ فلكي تحطم الهم قبل أن يحطمك، احرص على ألا تتضايق من التوافه وتعلق عليها أهمية كبيرة. واذكر دائماً أن الحياة أقصر من أن يُعنى المرءُ فيها بالتوافه.  

اعلى الصفحة