السنة الخامسة عشر ـ العدد 171 ـ  (جمادى الثانية 1437 هـ ) ـ (آذار 2016 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

نافذةٌ على الحياة

خمسةٌ وخمسونَ عاماً والعمرُ الذاوي‏ بَيْنَ قَوْسَيْنِ مِنْ مَرْمَرٍ ودُمُوعٍ‏.. أُسَرِّبُ ظِلّي إلى الآسِ‏.. والطُرُقات العَتيقةِ‏.. أُطْلِقُ شَمْساً شِتائيَّةَ الثَّوْبِ‏.. ملفوفَةً بالمنازِلِ والمتعبينَ‏.. أُسَمِّي الطَريقَ إليها هَوايَ‏ وأَمنحُ للسنواتِ رُجوعي،‏ سَأعبُرُ جِسْرَ الحياةِ مِنْها- إليْها‏.. ألُفُّ الأزقّةَ في الفَجْرِ‏ غُصْناً فَغُصْناً‏.. وَجُرْحاً فَجُرْحاً‏.. أَدورُ على العَتَباتِ النَّظيفةِ‏ رُكْناً فَرُكْناً‏.. وَقَلْباً فَقَلْباً..

عَلى جانِبٍ مِنْ سَماءٍ‏ شَباطيّةِ الريحِ‏.. قُرْبَ المخاوِفِ والأمنياتِ‏.. تَفَيّأ ذاكَ الفَتى منِّي نَجْمةً في السطوحِ‏.. احْتوى قَمَراً حَطّ في كَفّهِ ذاتَ حُزْنٍ‏ وَهَيَّأَ مِنْ حُلْمِهِ قارِباً‏ يَعْبُرُ الليْلَ‏ والجوعَ‏ يَكشِفُ أعجوبةَ الألقِ البرزخيِّ.. يُقبِلُ تحتَ مصابيحَ واهنةٍ‏ كَنْزَهُ المُستنيرَ‏.. يُسافِرُ في شَفَقٍ قُرمِزيٍّ‏ وَيَدْخُلُ بَسْمَلَةَ الاخضِرارْ.‏. كانَ الجَسَدُ الطِفْلُ النابضُ‏ فيَّ بَيْنَ يدي العمرِ لَهيباً‏.

فَصْلانِ رَبيعيّانِ‏.. وَبضعةُ أقْمارٍ‏ وشموسٌ أرْبَعُ‏ تَنسابُ عَلى الخدَّيْن.‏. خَدّانِ مِنَ القُطْنِ الأبيضِ‏.. كَفّانِ مِنَ العَسَل الجبليّ‏ وخُضرةُ الحقولِ لونٌ ساطِعُ‏ طَيَّ ذُهولِيَ.. أوّلُ أسْرارِ الصلاةِ تفْتَحُ باباً‏ خَلْفَ جِدارِ القلبِ‏.. جِوارَ النبضِ.. وَمَساءٌ أطيبُ مِنْ النوافذِ.. وظَلامٌ أدْفأُ مِنْ مِعْطَفِ صوفْ.‏.

في حِوارِ الأزقَّةِ والنَّهْرِ‏ أمْضي سادِراً‏ فَوْقَ طينٍ وخَوْفْ.‏. أتَملّى غُيومَ المدينةِ،‏ أعوامَ أزْهارِها‏ زَهْرةً زَهْرةً‏.. وأَوانَ الربيعِ‏.. رَبيعاً ربيعاً‏.. مَآتِمَ شُطآنِها‏ وشواهِدَ أبنائها‏ شاهِداً‏.. شاهِداً‏.. يَعبُرونْ.

أَجْلِسُ اليومَ مُبْتَسِماً‏ بينَ قوسينِ‏ من حَجَرٍ وبُكاءٍ‏.. عَلى مِسْطَباتِ الحَدائِقِ‏ مُنْفَرِداً‏ مع النوافذِ المشرعةِ أربعينَ ربيعاً‏ على الكتابةِ  والولهِ والوجعِ والعشقِ العصي‏ أُراجِعُ أشعارَيَ.. وَأسوّي جَدائِلَ القرى على الحدود وخارجها.. ‏إثْرَ الحَرائقِ العدوّةِ‏.. أُصَفّي حِسابي مع العُرب المتآمرين.. والغُربِ الطامعين.. والشركاءِ في وطنٍ أكلته نفاياتٌ من سياسة.. وحساباتٌ للآخرينْ..‏

خارطةٌ مِنْ مصابيحَ‏.. طَيْرٌ‏.. سَتائِر‏.. تَدخُلُ شيئاً فشيئاً‏ إلى ظُلمةٍ ورَمادٍ‏.. مَناديلُ أتلَفَها الدمعُ‏.. نافذةٌ أطفأَ الثلجُ شمعَتَها‏.. شارعٌ تاهَ..‏ بيتٌ يصيرُ إلى حَجَرٍ وتُرابٍ‏.. ظِلالٌ أضاعَتْ طريقَ الرُّجوعِ إلى الدارِ‏.. غزلانُ تبكي‏.. من القمحِ كانَتْ تَجيءُ‏ مُعبأةً بشذَى الخُبْزِ واللبنِ القُرَويِّ‏.. انْتهتْ في أغاني المحبّينَ‏ مَرْثيَّةً من بنفسجِ ما يحمِلُ الحقلُ والغيمُ..

قَوْسانِ‏ من مَطَرٍ وغصُونْ.‏. لِنَهارٍ بحجمِ المحبّةِ‏.. ليلٍ بحجمِ الظُّنونْ.. أإلى غابةِ السنديانِ أريدُ؟!!!..‏ الطريقُ إليها معبدةٌ‏.. سأتمَشَّى إليْها..‏أصِلُ النَّهْرَ بالذاكرةْ‏ والأماني بفُقْدانِها‏ والنَّدى بالخريفْ.‏. أتَعَلّقْ برمْلِ الشَّواطِئِ‏ بالساحِلِ الأبديّ الذي لَنْ يَخونْ.‏.

خمسةٌ وخمسونَ عاماً مَضَتْ.. لَسْتُ أملِكُ شَمْساً‏.. ولكنّها خمسةٌ وخمسونَ مَداراً مِنَ الوَهَجِ الشبابيِّ‏.. وَلَيْسَ لقلبي إسْمٌ وحيدٌ‏.. ولكنّهُ ألفُ وَريدٍ مِنَ الرئتينْ.‏. وقافلةٌ للشهداءِ عَلى خَطْوِ الكرامةِ.‏. وَنقاءِ سرائِرهمْ‏ فَتَحَ القلبُ شُبّاكَهُ‏.

على مَهَلٍ‏ أَقِفُ الآنَ جِوارَ البسمةِ‏.. عندَ السورِ الحَجريِّ قليلاً‏ أشرَبُ مِنْ عَيْنِ هَوىً‏ وَأمُرُّ عَلى الجِسْرِ الأولِ‏ بالعشقِ الغائبِ في قَعْرِ القلبِ..‏ وبالقلبِ النابضِ بالوريدِ الغابرِ‏.. آهٍ‏ لا أملِكُ شيئاً‏.. لكنّي أملِكُ كُلَّ البلادِ‏.. أرصفةً‏ وحدائقْ.‏. غَيْماً‏ وحَرَائقْ.‏.

بَيْنَ قَوْسَيْنِ‏ مِنْ شَجَرٍ وَسَحابٍ‏.. يَعودُ المَساءُ إلى البيتِ..‏ أحلمُ بقنطرةٍ تظلِّلُ الروحَ بالأمانْ.. أُغلِقُ البابَ‏ خَلْفَ أوجاعي العصيةِ‏.. تغْزو الحِكاياتُ وَهْمَ الطفولةِ‏ أمامَ المواقِدِ‏.. أَنْعَسُ‏ آكُلُ جَوْزاً وتيناً‏.. أنامُ‏.. أأنامُ الآنَ..؟‏

بَدا الصُّبْحُ‏.. ارتفعَ التكبيرُ مِنَ المسجدِ‏ والشتاءُ علَى أهبة الرحيل.‏. العرباتُ ستركُضُ قُرْبَ النَّهْرِ‏.. تعودُ الخَيْلُ وحيدةْ.‏. الزورَقُ يمشيْ‏.. والشاطئُ مفتوحٌ‏ والدُّنيا مَطَرٌ‏.. أفتحُ نافذةَ الفَجْرِ‏.. أُخَلّيها تتنفسُ مِثْلَ الأشجارِ‏ سأغرِسُ في الغاباتِ غَداً‏ جَذْراً آخَرَ..‏ أغرسُ عِنْدَ الشَطِّ غداً‏ بَيْتاً آخَرَ‏.. أكتُبُ فوقَ مفرداتي الصباحيةِ‏ أنشودةً أخرى‏ عَنْ قافلةٍ مِنْ عشقٍ مضى.‏. شَرِبَ كَأْساً‏ مِنْ خَمْرِ الرُّمّانْ.‏ وأضاعَ في مَطَرِ البُستانْ.‏. أسْراراً وقَدحْ.‏. جِسْرٌ ثالثُ‏.. جِسْرٌ رابعُ‏.. جِسْرٌ خامِسُ‏..

تَخْطو قَدَمايَ عَلى الجِسْرِ الأوّلِ‏ يبتعِدُ المصباحُ عن المصباحْ.‏. ينكسِرُ الحُلْمُ على الأقداحْ.‏. الفَتى الذي يسكُنني عِنْدَ أثيرِ النوافذِ‏ يَقرأُ شيئاً‏ على العُشْبِ‏ مُتَّخِذاً هيئةَ الخمسين‏.. بِقليلٍ مِنَ الظمأِ في شفتيهِ‏ قليلٍ من الشَّيْبِ في رأسهِ‏ وقليلٍ من الياسَمينْ.‏. يَتَغنى بِصَوْتٍ خَفيضٍ..‏ - لَقَدْ كانَ يمشي على العُشْبِ‏ دونَ حذاءٍ‏ يصيدُ الغاصبينَ‏.. مِشيَتُهُ الآنَ أهدأ‏.. عيناهُ مُتعبتانِ‏ ويَخشى مِنَ البردِ‏.. هذا أنا.. على نافذةِ الخمسة وخمسين عاماً‏ أغنيّ.‏. وفي عامي الخامس والخمسين أُشْرِعُ نافذةً أخرى على الحياةْ.‏ 

اعلى الصفحة