اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الخامسة عشر ـ العدد170 ـ ( ربيع الثاني ـ جمادي اول 1437 هـ) شباط ـ 2016 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

العقيدة الفكرية ـ الأيديولوجيا ـ  والإنسان

كل عقيدة فكرية تسوِّغ لحاملها قتل الإنسان المختلف بدون سبب إلا سبب الاختلاف، هي عقيدة مضرة للإنسان راهناً ومستقبلاً, وكل عقيدة فكرية تمنع الإنسان من تلبية غرائزه وحوائجه البيولوجية والإنسانية بشكل سليم ومتوازن، هي أيضاً عقيدة فكرية كابحة للإنسان ومانعة لطمأنينته واستقراره النفسي والاجتماعي.

من حق أي إنسان، على المستويين المعرفي والإنساني، أن يتبنى رأياً أو منظومة فكرية؛ لأن هذه من الحقوق الأساسية للإنسان، ولا يمكن لهذا الإنسان حتى لو تنازل عن هذا الحق، أن يعيش الحياة بدون هذا الحق. فمن لوازم الوجود الإنساني أن يمتلك رأياً وفكرة تجاه كل الظواهر الإنسانية سواء أكانت فردية أم جماعية.

ولعل بعض المشكلات التي تحدث في المجتمعات الإنسانية، حينما تتشكل رؤية دينية أو دنيوية أن من حق القائمين على هذه الرؤية امتلاك هذا الحق، وبالتالي يتم التعدي الأيديولوجي على أحد حقوق الإنسان الأساسية تحت تبريرات معينة قد يقتنع بها الإنسان ضمن ظرف محدد أو قناعة أيديولوجية ثابتة. إلا أن أي تحول يصيبه سيلتفت من خلاله إلى هذا الحق المنزوع وسيعمل على إعادته.

فالعقائد الفكرية ليست مهمتها انتزاع حقوق الإنسان الأساسية، أو التعدي على البعد الذي لا غنى للإنسان عنه. وكل أفكار سواء أكانت دينية أم غير دينية تسيطر على هذا الحق فإن الإنسان حينما يتحرر من قيود هذه الأفكار، سيلتفت إلى حقه، وسيعمل لإعادته إليه. وبالتالي فإن الأفكار التي تمتلك شهوة التدخل في تفاصيل وخصوصيات الإنسان، لا سبيل مستديماً إلى نجاحها وتميزها في أي بيئة اجتماعية.

وعليه فإن الإنسان ليس في موقع خدمة العقيدة الفكرية، ومن يعتقد أن مهام الإنسان الأساسية خدمة هذه العقيدة الفكرية أو تلك، فإنه يمارس تزييف الوعي لهذه العقيدة ولدور الإنسان في الوجود والحياة. فالإنسان ليس خادماً لـ(الأيديولوجيا)، وإنما هي في خدمة الإنسان سواء على المستوى المعنوي أو الاجتماعي.

والإنسان حينما يضحي بحياته من أجل مبادئه، فهو في حقيقة الأمر يدافع عن وجوده النوعي بفعل عوامل احتقان أو غضب ليس للعقيدة الفكرية أي دخل بها. وهو حينما تغضبه السياسة أو الأوضاع الاقتصادية أو أي شيء آخر يضحي بنفسه بوصف أن هذه التضحية هي التي ستحرر المجتمع الذي ينتمي إليه من كل القيود والأغلال التي تفرضها الأوضاع والظروف السياسية أو الاقتصادية.

وعليه فإن العقائد الفكرية بما تمتلك من مخزون معرفي ومعنوي جاءت لخدمة الإنسان ونقله من طور لآخر. وبالتالي فإن هذه العقائد سواء أكانت سماوية أم غير سماوية، جاءت من أجل أن يعيش الإنسان حياة جديدة، مختلفة وتفرض أن هذه الحياة أكثر سعادة واستقراراً.

نسوق هذا الكلام من أجل أن نحرر علاقة الإنسان بالعقيدة الفكرية من نزعة الهيمنة والخدمة التي لا تنتهي. ونعتقد بشكل جازم أن العقيدة الفكرية التي لا تخدم الإنسان ولا تسعى إلى تطوير وجوده على المستويين المادي والمعنوي، فإنها لن تصمد في حياته وسرعان ما ينسحب هذا الإنسان لصالح رؤية أو أفكار عقائدية جديدة أو مغايرة. ولعل النقطة المركزية في تحرير العلاقة بين الإنسان وعقيدته الفكرية هي في تحرُّرِ مَنْ يخدم مَنْ؟، هل العقيدة الفكرية خادمة للإنسان أم العكس؟!.

نحن نعتقد أنها بمثابة خريطة طريق يسير وفقها الإنسان سواء في حياته الخاصة أم العامة، وإن الالتزام بهذه الخريطة سيجنب الإنسان الكثير من الصعوبات والمآزق. وعليه فإن العقيدة الفكرية هي في موقع خدمة الإنسان على المستويين المعنوي والمادي، الفردي والجماعي. وإن أي تغيير في هذه المعادلة سيضر جوهرياً بالإنسان والعقيدة الفكرية في آن واحد..

وعليه فإن العقيدة الفكرية التي تكون معبِّرة بشكل صحيح عن جوهر الإنسان وفطرته الأساسية ستنجح في تقديم خدمات جليلة له، وستتمكن من تقديم الخدمات الضرورية له.

أما إذا كانت هذه العقيدة الفكرية مغايرة للإنسان أو غير منسجمة وطبيعته وفطرته الأساسية فإنها ستتحول إلى قيد حقيقي يمنعه من ممارسة حياته بشكل سليم؛ بحيث تكون هذه الحياة متناغمة بشكل دقيق مع ما يصبو إليه انطلاقاً من خصائصه الإنسانية والميولات الجوهرية التي تفرضها الفطرة التكوينية للإنسان.

ونحن نعتقد أن بناء هذه الرؤية في علاقة العقيدة الفكرية والإنسان والعكس، سيحرر الإنسان من الكثير من القيود والكوابح التي تحول دون أن يعيش حياة مستقرة وعميقة. وإن مربط الفرس أن يعيش حياةً طبيعيةً ومستقرة، تبدأ من طبيعة العلاقة التي تربطه بالعقيدة الفكرية التي يحملها.

وعليه فإن كل عقيدة الفكرية تحوِّل الإنسان إلى قنبلة موقوتة ضد من يختلف معها، فإنها ستحول دنياه إلى جحيم يحرق كل من يختلف معه أو يتباين معه.

وما أحوجنا اليوم إلى الأيديولوجيا التي تحترم الإنسان وتتعامل مع كل لوازمه بوصفها دائرة يحرم فيها التعدي عليها من قبل أي إنسان آخر. وكل عقيدة الفكرية يضيق صدرها بالمختَلِف وتعملُ على اجتثاثه واستئصاله، هي أيديولوجيا تساهم في عسكرة الحياة وإدخال الإنسان المؤمن بها في خطر وجودي.

نحن نحتاج إلى رؤية وعقيدة الفكرية ـ أيديولوجيا ـ تعتزان بالإنسان وجوداً وحقوقاً سواء أكان مؤمناً بهما أم لا. ونحتاج إلى رؤية تعمل على حماية وصيانة كل أشكال التنوع والتعدد في الحياة الاجتماعية والإنسانية.

إن تحرير علاقة الإنسان بالعقيدة الفكرية من أعباء القتل وسفك الدم وتصحر الحياة، هي الخطوة الأولى في بناء مجتمع أكثر استقراراً وحيوية وفعالية على المستويات كافة.  

اعلى الصفحة