اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الخامسة عشر ـ العدد 169 ـ ( صفر ـ ربيع الأول 1437 هـ) كانون الثاني ـ 2016 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

البشاعةُ أن يُصبح الإبداعُ شكلاً من أشكال النجومية

يبدو أن معظم النصوص المحتفى بها والتي حققت رواجاً بالفترة الأخيرة لم تكن غير نصوص سينمائية من الطراز الأول بحيث إنها بدت للكل خارجة عن المألوف، لأنها بالفعل مجرد محاولات لكسر الأطر المعتادة والتي يشار إليها على أنها تجارب فذة تحمل نوعاً من الجرأة وتتلاعب سطورها بفزاعات القارئ، فهي إما مشاهد فجة تصور عوالم الجنس المسكوت عنها، أو نقاشات تستعرض مفهوم الدين من منظور لا ديني، أو استعراض لحقبة زمنية بكل ما فيها من إسقاطات سياسية وغالباً هي الموجة السائدة الآن نتيجة لما سُميَّ كذباً "ثورات الربيع العربي!!" وما أنتجته من تغييرات ليست بالضرورة جوهرية.

تلك النماذج أصبحت مسار جدل ونقاش شبه يومي ومشهد تكاد لا تخلو منه يوميات المبدعين وربما امتد ليشمل ظاهرة انتشرت سريعاً تبنتها دور النشر على اختلاف توجهاتها وكبرى المكتبات فيما يعرف بالكتب الأكثر رواجاً أو قائمة الـ(Best Sellers). تلك القوائم التي يتهافت على متابعتها القراء الجدد لتحديد أولوية ما يمكن شراؤه بغض النظر عمّا تحمله من مضامين، فما معنى أن يحقق كتاب ما رواجاً ليتصدر قائمة الأعلى مبيعاً دون غيره من كتابات - وغالباً ما يكون رواية - وما الشروط اللازمة لذلك؟.

الأمر ببساطة ومن وجهة نظري لا يعدو عن كونه خدعة لترويج بعض الكتب دون غيرها، فبعض المدّعين والمحسوبين على الوسط الثقافي ولفهمهم غير المحدود لآليات سوق الكتاب استطاعوا بمنتهى الحنكة تهميش دور الكاتب وتحويله من صاحب رسالة ودور ريادي لمجرد مستَثْمِر ومستَثْمَر فيه. أصبح دوره مقتصراً على الظهور إعلامياً وتحقيق قدر من الدعاية يسمح بالترويج لنوعية من الكتابات الهشة والفارغة من المضمون، والتي تستخدم لغة بإيحاءات مستفزة وبأسلوب يميل إلى المباشرة والتسطيح، ليلعب الإعلام دوره الأكثر خطورة بحيث تُرَوِجُ لها برامج الفضائيات ونجوم الفن والسينما بغض النظر عن الدور الأساسي والمنوط به الأدب عموماً سواء بالتقاط المعنى أو إبراز القيم الجمالية للآداب والفنون.

لكن وبشكل عام لا يمكن اعتبار انتشار بعض الأعمال ورواجها بين جمهور قراء من فئة عمرية معينة معيار قيمة أو نجاحاً، فبعض الكتب صدرت في أكثر من طبعة وبيعت بأرقام مهولة على الرغم من خُلوِّها من العمق، فالكتابة عن الأوجاع هي الكتابة عن الحياة ذاتها وهو شيء أغفلوه كليّاً بكتابات أزعم أنها موجة تشبه أفلام المقاولات هدفها الوحيد الربح. لنجد الغرب مميزاً عنا في الكتابة الإنسانية، فبعضهم معني بتسجيل سيرته الذاتية وإن كانت ربة بيت مثلاً أو جندياً عائداً من حرب لتجد مثل تلك الكتب تتصدر قائمة أعلى المبيعات.

تلعب المسابقات أيضاً دوراً أكثر من هام للترويج لبعض الكتب دون غيرها لينصبَّ اهتمامُ القارئ على عمل نالَ استحسانَ النقّاد، على الرغم من أننا يمكن أن نتفق أن لبعض المسابقات دوراً سياسيّاً غير معلن للجميع وأن السياسة طالت كل شيء بحيث أن أذرعها الأخطبوطية لم تترك موضعاً إلا ولمسته ومنها لجان القراءة والتحكيم، يمكن أن نلحظ أيضاً أن هناك عرفاً سائداً بمنح دولة ما جائزة الرواية هذا العام بناء على حسابات معينة على أن تذهب العام الذي يليه لدولة أخرى.

إن كتابات المثقفين في الآونة الأخيرة انغلقت على ذاتها واستخدمت لغة أكثر تعقيداً وخاطبت أكواناً سرمدية بعيدة عن تطلع القارئ العادي، وأن احتياج جمهور الشارع أكثر بساطة وسلاسة من كل ذلك، القارئ العادي يفر من كتابٍ ممتلئٍ بالصور والتراكيب اللغوية المبهرة والجمل الرنانة إلى جمل قصيرة واضحة جريئة غير مبتكرة، حاله حال اختياره لفيلم عربي سريع الإيقاع غارق حتى الثمالة بواقعه فيجسد مخاوفه وقلقه وجموحه وجنونه وأحياناً جريمته.

وعلى الرغم من كل ذلك لا زالت الدائرة لم تغلق بعد فوجود تلك الظاهرة لا يعنى بالضرورة انتفاء القدرة على التمييز، فالكتاب الجيد قادر على فرض نفسه بلحظة تنوير وتجلٍ، وقد ترتقي نسبة من قراء هذه الكتب لما هو أعمق فيما بعد. وعلى الرغم من أن بعض القراء ويا للغرابة هؤلاء الذين يفتشون بكل شغف عن تلك التي تناقش مشكلات شهر العسل وتقدِّم وصفات مجانية عن "كيف تسعدين زوجك؟"!!، ووصفات أخرى لثلاثين أكلة مختلفة لثلاثين يوماً!!، إلا أن البعض الآخر يسعى جاهداً لإضافة كتاب مميز لمكتبته وإن كلَّفه الأمر الكثير من الوقت والمال.

قد تحدث المصادفة السعيدة فتقترن الجودة بالانتشار، وربما تجهضها في بدايتها منظومةُ فتكٍ ثلاثيةٌ تعمد إلى خلطِ الكتب الأدبية بالأخرى صاحبة أعلى المبيعات، وتعتمد تلك المنظومة غالباً على ناقد فاسد يروج لبضاعة أكثر فساداً عبر التهليل بمقالات لأدب لا يستحق عناء المتابعة، وعبر جوائز الخليج وما تفرضه من قناعات، وعبر دور النشر والترجمة الأجنبية والتي غالباً تعمد إلى ترجمة بعض الأعمال لتعرية مجتمعاتها وليس لهدف أدبي بحت. وعلينا أن نؤكد من حين لآخر أن أرقام التوزيع لا تعطي دلالة واضحة عن قيمة الكتاب فهي مجرد مظاهر خادعة، فكثير من الكتب التي تحمل معالم من الدهشة وألواناً من الجمال لا توزع بشكل جيد وربما لا يُعرف عن بعض الكتب إلا بعد موت أصحابها.

إذن كيف يكون الوضع مقبولاً حين تغيب عن المشهد بعض الكتابات الشابة بدماء جديدة نظيفة قادرة على المنح لتتناول تجاربهم الإبداعية بشيء من الاستخفاف الجماهيري على الرغم من كونها مصدر احتفاء أكاديمي؟.. وكيف يكون مقبولاً أيضاً أن نختصر الأدب في مجموعة من الكتابات الساخرة أو تلك التي تنتمي لكتابة الرعب بحيث تحقق تلك النوعية أعلى المبيعات؟!.

ما هو الأسوأ من أن يُصبح الإبداعُ شكلاً من أشكال النجومية التي لا تتحقق كاملة إلا بتكوين شبكة واسعة وممتدة من العلاقات أساسها الذكاء الاجتماعي تجعل صاحبها في بؤرة الضوء ليصبح مصدراً للجدل ومحلاً للاهتمام؟.. هؤلاء الذين يصفقون غالباً للأكثر انتشاراً على الرغم من ركاكته ويصفقون الباب في وجه كل مبدع حقيقي.. هؤلاء الذين أغفلوا الشعر كقيمة وحاكموا قصيدة النثر كونها مفعمة بالمجاز. هؤلاء الذين أغلقوا عقولهم بوجه الخيال واختاروا النمط والمباشرة والتقريرية عنوانًا لإبداعهم. هؤلاء الذين تركوا لدور النشر الخاصة مهمة نشر الجيد والغث سواء بسواء.. هؤلاء الذين ظنوا أنهم قدموا وأخروا تبعاً لحساباتهم الخاصة، لكل هؤلاء أقول: الكتاب يا سادة ليس مجموعة جمل سليمة تركيباً ولغة فحسب، وليس مجموعة من الأفكار المرتبة والمنمقة في إطار متكرر لا يعبِّر أكثر من مضمونه، وليس محاولة أولى للكتابة وليس بالضرورة محاولة عاشرة للكتابة أيضاً، وليس غلافاً جذاباً وعنواناً شيِّقاً، إنما الكتاب حالة تتقمصك ولا تفارقك قبل أن تقرِّر أن تعيد التجربة لتحصل على قدر مماثل من المتعة  يسلبك روحك ويطلقها لمسافات شاسعة من الدهشة.

 

اعلى الصفحة