اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الخامسة عشر ـ العدد 168 ـ ( صفر ـ ربيع الأول 1437 هـ) كانون أول ـ 2015 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

أدب الفايسبوك.. و نَقْرَةُ الـ(لايك)

يقدّم الدور الثوري الذي قدّمته المطبعة، في تاريخ الثقافة والفكر الإنسانيين، دليلاً أكيداً على الأدوار ـ وإن لم تكن بذات السوية ـ التي لعبتها كلّ أشكال التطوّر التي أصابت أدوات الكتابة ووسائل إنتاج المطبوعات. إذ لم تكن المطبعة سوى نتيجة للعلاقة الجدلية بين السلعة وأداة الإنتاج، وبالتالي بين المستهلِك والمنتِج. وهذا ما ينسحب على الفايسبوك كحيّز من الشبكة العنكبوتية، بإضافة تُحتسب له، إذ يقوم بدورَيْ أداة الإنتاج وعلاقة الإنتاج معاً ـ وهذه حالة جديدة ـ!!... ففي تاريخ الكتابة على مُختلف أنواعها وخصوصاً الشعر لا تبدو حصّة الأشكال الأخرى من الكتابة وافرة، ذلك أنّ حجم المادة المكتوبة من أهم العناصر التي تحكم علاقة التواصل والتلقّي.

ومن الجديد في استخدام الفايسبوك أنه يلعب دوراً مُركّبا في الإنتاج الأدبي إذ تتم من خلاله وفي زمن قياسي عمليات الكتابة (كفعل ذهني) والطباعة والنشر والتوزيع والتلقي. نضيف إليها نتائج التلقّي عبر ردود الأفعال التي تتراوح بين التجاهل والتفاعل النقدي على مُختلف مستوياته؛ فمما بات واضحاً أيضاً هو الخدمة المجّانية التي يقدمها الفايسبوك في عمليتي الطباعة والتوزيع، وفي إلغاء دور الرقيب بأنواعه كافة، ما أعطى الثقة بالنفس للهامشيين الذين كانوا يتردّدون في عرض منتجهم الأدبي كسلعة صالحة للتداول.

الفايسبوك ألغى أشكال السلطات الثقافية المعيارية كافة التي تتدرج من الرسمي إلى الديني مروراً بالمستقل المتمثل بالقائمين على المنابر الإعلامية والثقافية (صحف ـ مجلات ـ دور نشر) ومن اللافت بخصوص الفايسبوك أيضاً أن تجارب أدبيّة عديدة، وخصوصاً في مجال الشعر، قد أثبتت حضورها الإبداعي البيّن، مع أنها لم تختبر النشر الورقي من قبل، وربّما كان صوتها سيبقى مكتوماً لولا هذه الأداة التي توفّرت لهم.

غير أن البعض يعيب على الفايسبوك كوسيلة أنه يمنح فرصاً متكافئة للمستويات المُتباعدة إبداعياً، وأنه يفتقر إلى المعيارية التي اختص بها سابقاً القيّمون على النشر؛ الذين يحتكرون لأنفسهم كل المعايير والموازين. لكنّ هذه التجربة الجديدة في الإنتاج الأدبي، التي لا تزال في أطوارها الأولى لا بدّ أنها ستنتج نظمها ومعاييرها الإبداعية، وكذلك النقدية، من ذاتها، على أساس العلاقة الجدلية التي تربط تفاعليّاً بين أدوات الإنتاج وعلاقاته من جهة، وبين السلعة وأدوات الإنتاج من جهة أخرى".

فبعد أن كنّا ننتظر سماع ما سيقرأه الشعراء من جديدهم على المنابر، صار علينا ترقُّب ما يكتبونه على صفحاتهم، ومتابعة ما تقدمه الحياة الافتراضية من أصوات جديدة.

بشكل عام الفايسبوك هو سيف ذو حدين، من جهة بات منبراً لمن لا منبر لهم، وفي الوقت نفسه صار على المتلقي تحمُّل وبال ما يرميه الكثيرون من نصوص لا ترقى لتكون أشباه نصوص شعرية حتى، إلا إنه كثيراً ما يكون لسلطة (اللايك) دور في توجيه انتباه الآخرين إلى هراء لا يستحقّ التوقّف عنده، في حين أنّ كثيراً من حالات شعرية تكتفي بـ(لايكات) لا تتجاوز أصابع اليد، وتطويها (بوستات) كثيرة من دون أن تنال حقّها!!.

في الواقع بات لأدب (الفايسبوك) مفرداته المستمدة من عالمه الافتراضي.. وبات الموقع الأزرق هاجس (اللايك) والتقييم بعدد ضغطات رمز (LIKE) أموراً في صلب واقع الحياة الافتراضية. وكما في الواقع كذلك في الحياة الافتراضية، هنا نفتقد منبراً ورقياً حقيقياً خاصاً بالشعر وهناك بالكاد نقع على الشعر، لكن لا يمكن إلغاء أهمية الفايسبوك في تقديم أصوات كان من الصعب عليها الوصول إليك أينما كان مكانك في هذا العالم (الكبير)".

لا تخلو صفحات التواصل من نصوص شعرية وقصصية وحتى روائية ونقدية ذات أهمية بالغة، فقد أدرك المبدعون أن صفحات التواصل هي بساط الريح الذي يصل بنتاجهم إلى أقاصي الأرض بلمح البصر، لكن غياب المعايير النقدية والمتابعة الجادة لما ينشر ومناخ المجاملات السائد عبر (اللايك) يفسح المجال أمام الجميع لعرض نتاجهم مهما كان هزيلاً؛ ما يدفع بهم لوضع الورد والشوك أو الألماس والتنك في سلة واحدة"!.

النشر على الفايسبوك يكون تلقائياً وابن لحظته ويتلقى ردود فعل تلقائية مباشرة وابنة لحظتها أيضاً على مستوى المعمورة كلها!.. وتلك إيجابية لا تحققها أي وسيلة نشر أخرى، والقضية ليست متعلقة بالوسيلة ذاتها بل بما تُحمَّل به أحياناً من غث وسَقْطِ متاع لا يستحق حتى اللعنة!. الشاشة الزرقاء تغري بالكتابة لأن آلاف المتلقين غير المنظورين يمكن لهم أن يقرأوا ما ينشر على صفحاتهم في لحظة النشر ذاتها، وهذا ما يحرر النص من سلطة الخصوصية من ناحية ويجعل منه نصّاً عائماً وعابراً للقارات من ناحية ثانية.

هذه العلاقة المباشرة واللحظية بين المبدع والمتلقي قد ترتقي بتجربتهما الأدبية والثقافية معاً عندما تفتح أبواب الحوار وليس الضغط على أيقونة الـ(لايك) أو تدوين عبارات المجاملة والإطراء؛ فمعظم ما ينشر على شبكات التواصل من نصوص أدبية يفتقد إلى الحرفية والموثوقية وتتوزعه مفاهيم التناص والتلاص والمحاكاة الحرفية لنصوص سابقة، وقلما تجد نصّاً لافتاً ومثيراً للحوار والإعجاب.

نتساءل هنا: من أين كان سيأتي هذا التعبير الجميل (أدب الفايسبوك العربي)، لولا وجود الفضاء الأزرق. ومن أين كان للصحف الورقية أن تستوعب هذا الكم الكبير من الشعراء والكتاب؟..

في البداية، كان الشعراء (المحترفون) والمثقفون (المحترفون) وغيرهم من أبناء مهنة الكتابة والنشر الورقي، يسخرون من (الفايسبوك) ومن رواده وشعرائه.. "كانوا يقولون بسخرية مملوءة بالغيرة: شعراء (الفايسبوك) ويقهقهون بعدها؛ كانوا يُشيعون أن (الفايسبوك) للصبيان والزعران وأولاد الشوارع وللعشاق الجدد، وكانوا ينفون عنه أية صفة جدية، فقط لأنه ليس ورقياً ومتاحاً مجاناً لمن يريد. ومازال بعضهم يمارس هذه المهنة، مهنة القهقهة على الشعراء (الفايسبوكيِّيين)، لكن هذه المرة ليس علناً، بل في العتمة ويتلصص من وراء الباب على ما يكتب وينشر من قصائد ونصوص؛ وسرعان ما فهموا أيضاً أن هذا الفضاء الأزرق، الصافي كالسماء الصافية، ليس صفحة ثقافية في جريدة يملكها أحد سماسرة الورق، تكرّس هذا وتلغي ذاك، بل هو فضاء يتسع لجميع الألوان والأصوات، فضاء بلا حدود للحب والكراهية، للحرية والديمقراطية وللطغيان أيضاً؛ فلا تحتاج الكتابة فيه إلى إمضاء رئيس التحرير أو رئيس القسم إيذاناً بصلاحية المادة للنشر.

يقوم أدب الفايسبوك، بالدرجة الأولى على المادة الشعرية البسيطة، الموجزة الخفيفة، على التغريدات الذكية، وعلى نصوص وتعليقات أقرب إلى الشعر وروحه منها إلى أي شيء آخر.. حتى الشتائم المتبادلة تكاد تكون شعرية. ولا مجال للمطولات، شعرية كانت أو روائية أو نقدية. لقد أشاعوا وأرادوا أن تكون الرواية هي ديوان العرب اليوم، لكن أدب (الفايسبوك) يدحض هذا القول ويعيد للشعر ديوانه المسروق أو المغتصب. أدب الفايسبوك شعر.. ومن الشعر الذي يكتب لأول مرة.. وأغلب هؤلاء الشعراء اكتشفوا أنفسهم على الفايسبوك.. لقد صحح هؤلاء قصائدهم بأنفسهم على الفايسبوك، وتطوروا بسرعة مذهلة من خلال تعليقات أصدقائهم على ما يكتبون، ومن خلال نقرة الــ(لايك). نعم، نقرة الـ(لايك) هذه ساعدت كثيراً من الشباب على تطوير نصوصهم، فصاروا يترددون في تنزيل أي نص قبل أن يكون قد استوفى ما يجلب الإعجاب.

من هنا، يشكل (الفايسبوك) اليوم مكاناً جديداً يطل من خلاله الجميع ليمارسوا نشاطاتهم. غير أنه وللوهلة الأولى، قد يعتقد البعض أن هذا الفضاء هو حكر على الشباب فحسب، ولكن مع مرور الوقت، وإعطاء هذا الفضاء حقه، تبيّن أن العديد من الأدباء والشعراء والكتّاب الكبار وجدوا في هذا المكان أيضاً مساحة جديدة يستطيعون من خلالها أن يكتبوا وأن يعبروا ويشاركوا نتاجاتهم الإبداعية مع أكبر شريحة ممكنة من القراء.

اليوم، في ظل أدلجة الكتابة - إذ لا يستطيع الصحافي أو الكاتب أن ينشر في هذه المجلة أو تلك إلا إذا كانت آراؤه تتماشى مع سياسية المجلة والأشخاص القائمين عليها.. يمكن أن يكون الفايسبوك هذا الفضاء البعيد عن أية أيديولوجية.

اعلى الصفحة