الهبة الشعبية الفلسطينية: انجازات وركائز

السنة الخامسة عشر ـ العدد 168 ـ ( صفر ـ ربيع الأول 1437 هـ) كانون أول ـ 2015 م)

بقلم: ازدهار معتوق(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

كشفت مجلة "إسرائيل ديفينس" العسكرية العبرية عن مفاجأة مفادها أن أجهزة الأمن الإسرائيلية تواجه ورطة كبيرة, بالنظر إلى أن الهجمات التي ينفذها الفلسطينيون في الوقت الراهن تختلف كثيراً عن سابقاتها في السنوات الماضية, حيث تتميز بروح تضحية عالية غير مسبوقة.

 وأضافت المجلة في تقرير لها في 12 نوفمبر الماضي أن جهاز الأمن الإسرائيلي العام "الشاباك" أصدر تقريرا حول العمليات الفلسطينية الحالية أظهر أن منفذي هذه العمليات "نوعية جديدة من الشباب الفلسطينيين غير المنتمين لحركات فلسطينية مسلحة, ويتمتعون بروح تضحية عالية". 

وتابعت المجلة أن منفذي العمليات الحالية من الفتيان والشبان الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و25 عاماً، ومعظمهم غير متزوجين, وأن سبعة من بين منفذي العمليات الفلسطينية الأخيرة من النساء. وأشارت "إسرائيل ديفينس" إلى أن ما يرعب أجهزة الأمن الإسرائيلية أن الإجراءات المشددة الذي اتخذتها وأدت إلى قتل معظم منفذي الهجمات, لم تبث الخوف في نفوس الفتيان الفلسطينيين, الذين تسابقوا لتنفيذ عمليات جديدة.

 وكانت الكاتبة الإسرائيلية عميره هاس قالت إن المواجهات المتصاعدة في الضفة الغربية والقدس الشرقية تعكس فقدان الأمل لدى الأجيال الفلسطينية الجديدة, بسبب ممارسات إسرائيل وفشل السلطة الفلسطينية.

 وأضافت الكاتبة في مقال نشرته بصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في 12 نوفمبر أن المواجهات المستمرة في الأراضي الفلسطينية, يقف خلفها جيل جديد من الفتيان والشبان الفلسطينيين, الذين فقدوا كل أمل في اتفاق أوسلو.

وتابعت "هذا الجيل الجديد من الفتيان والشبان الفلسطينيين يواجهون يومياً حواجز الجيش الإسرائيلي المنتشر داخل القدس وخارجها، بدل أن تتوفر لديهم أماكن عمل. واستطردت "الفلسطينيون يواجهون يومياً أيضاً الجدار العازل في الضفة الغربية، بدل أن تتاح أمامهم حرية الحركة والتنقل، والحصول على الأمل في مستقبل أفضل". 

 وأشارت إلى أن ما زاد من الإحباط لدى الأجيال الفلسطينية الجديدة فشل وعود السلطة الفلسطينية بقيام دولة، وتعثر مفاوضات عملية السلام, دون أن تلوح أي بادرة إيجابية في الأفق. وكانت وزيرة الخارجية السويدية مارغوت وولستروم قالت أيضا إن السياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين تسيء لتل أبيب في الساحات الدولية, ولم تجلب الأمن للإسرائيليين, وذلك في تعليقها على الانتفاضة الشعبية الفلسطينية.

ونشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية مقالاً لوزيرة الخارجية السويدية أشارت فيه إلى عدم جدوى الإجراءات الأمنية التي تتخذها إسرائيل، والمتمثلة في استمرارها بحصار غزة، وأضافت أن هذه الخطوة الإسرائيلية لم تجلب الأمن للإسرائيليين. وتابعت الوزيرة السويدية أن مصير الإجراءات الأمنية التي تستخدمها إسرائيل أيضا في الضفة الغربية وبقية المناطق الفلسطينية المحتلة هو الفشل، وأن هذه السياسات تسيء لإسرائيل في الساحات الدولية. وتابعت أن الحل السياسي من شأنه أن يجلب الأمن للإسرائيليين، خاصة في ظل ما تشهده المنطقة برمتها من فوضى قد تعود على إسرائيل بالخطر.

 وأعربت الوزيرة السويدية عن مشاعر القلق لتضاؤل الآمال بشأن السلام وبشأن حل الدولتين، وأضافت أن ما يحدث ضد الفلسطينيين لا يجلب الأمن في المنطقة. وكانت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية كشفت عن أحدث خطة لجأت إليها إسرائيل لإجهاض الهبة الشعبية الفلسطينية المتواصلة منذ مطلع أكتوبر في القدس الشرقية والضفة الغربية.

وقالت الصحيفة الإسرائيلية في تقرير لها في 8 نوفمبر إن الجيش الإسرائيلي أصبح يستخدم المزيد من وحدات المستعربين من أجل اعتقال الفلسطينيين والتنكيل بهم. وتابعت أن المستعربين يندسون بين الفلسطينيين خلال المواجهات في الضفة الغربية, ويحملون معهم مسدسات ويشهرونها أثناء القيام باعتقال فلسطينيين, وينسحبون بعد ذلك بتغطية من القوات الإسرائيلية. والمستعربون, هم عبارة عن مجندين إسرائيليين يندسون بلباس مدني فلسطيني خلال المواجهات المتواصلة مع الاحتلال .

 وأضافت أن تعليمات جديدة صدرت لقوات الجيش الإسرائيلي وحرس الحدود والشرطة بضرورة عدم بقاء عناصرها مكشوفين أمام منفذي عمليات الدهس التي يقوم بها فلسطينيون في مناطق مختلفة من الضفة الغربية. ومنذ الأول من أكتوبر الماضي, استشهد أكثر من سبعين فلسطينياً خلال مواجهات هبة الأقصى التي اندلعت منذ مطلع أكتوبر, احتجاجا على تدنيس المتطرفين الحرم القدسي الشريف تحت حماية شرطة الاحتلال. وفي المقابل, قتل 11 إسرائيلياً وجرح العشرات منهم في عمليات طعن ودهس نفذها شباب فلسطينيون في الضفة الغربية والقدس المحتلتين وقطاع غزة.

توحيد الشعب الفلسطيني

استطاعت "الانتفاضة" الفلسطينية من تحقيق عدة إنجازات هامة، بصرف النظر عن التطورات الميدانية، ومن أهمها نجاح هذه الانتفاضة في توحيد الشعب الفلسطيني في كافة الأراضي الفلسطينية، هكذا تحدث الكاتب الون افيتار الخبير في الشأن الفلسطيني في مقال له نشرته صحيفة "يديعوت أحرنوت، يوم الاثنين 19\10\2015.  

وقال الكاتب، إن "حمية الكفاح المشترك" الذي انقطع مع نهاية الانتفاضة الثانية عادت لتوحد الشارع الفلسطيني، في المناطق الأربعة المعزولة جغرافيا وسلطويا، وهي الضفة وقطاع غزة والقدس وأراضي 48، مضيفا، أن كل منطقة تساهم بنصيبها في التصعيد فيما الجميع "يزحف في ذات الأحراش"، حسب تعبيره.

وبدا هذا الجانب واضحاً بالفعل من حيث مشاركة كافة الأراضي الفلسطينية فعلاً في الاحتجاجات، وارتقاء شهداء من جميع المناطق، كان منهم الشهيد مهند العقبي من النقب المحتل بعد عملية فدائية في بئر السبع.

ومن المثير للاهتمام عند الحديث عن هذه النقطة، أن قوات الاحتلال كانت هي من بدأت في محاولة إضفاء نزعة دينية على الصراع المستمر منذ عقود، من خلال استهداف الأقصى ومحاولة سحب السيادة الأردنية عنه، وتصعيد اقتحامات المستوطنين له بحماية الشرطة، وإغلاقه في وجه المصلين، هذا عدا عن أعمال الحرق والتخريب التي نفذها المستوطنون دائما بحق دور العبادة في الضفة والقدس وأراضي 48.

أما الإنجاز الآخر بحسب الكاتب افيتار، فكان استخدام الوسائل القتالية الجديدة، واكتشاف المقاتل الفلسطيني للسكين كوسيلة ناجعة وقاتلة وسهلة المنال والاستخدام، وتتجاوز الأسوار والحواجز.

ولا يعتبر هذا الأسلوب جديداً في العمل المقاوم، لكن المقاومين اعتمدوه بالفعل كسلاح لهم بعد أن نفذت كل وسائل التسليح الممكنة، في وجه إجراءات الاحتلال التنكيلية وجرائم المستوطنين التي لم تتوقف طوال سنوات التي أعقبت تراجع الانتفاضة الثانية، وقد استخدم الاحتلال خلال ذلك أسلحة الحرق كما حدث مع عائلة دوابشة في نابلس ومحمد أبو خضير في القدس، بالإضافة لأسلحة محرمة دوليا في غزة، وفي المواجهات اليومية أيضاً مثل رصاص الدمدم المتفجر.

ورأى الكاتب، أن رابع الانجازات تمثلت في أن الجيل الشاب هو من يخوض الانتفاضة الحالية، ويبدي استعداده لحمل شعلة الكفاح المسلح، مضيفاً، أن هؤلاء أثبتوا بأن المقاومة المسلحة لم تضعف، وأنهم قادرون على أن يحلوا محل الجيل السابق وترك أثر.

وبدا هذا الحضور الشبابي لافتاً بالفعل في العمليات الفدائية ومواقع المواجهات، حيث أبدع الشبان في استخدام أساليب جديدة في مقاومتهم، لا تتمثل فقط في استخدام السكاكين، بل في التأكيد على الاستهتار بجيش الاحتلال وأسلحته، مثل النوم على الأرض مقابل الجنود، أو الدبكة خلال إلقاء الحجارة، أو الاحتفال بأعياد الميلاد، أو لعب كرة القدم.

أما خامس الإنجازات بنظر الكاتب، فهي القدرة على تنفيذ العمليات الأخيرة دون وجود قيادة تدير ذلك كما حدث في السابق، منوها إلى أن ما وصفها بـ"كرة الإرهاب" انطلقت في كل صوب من تلقاء ذاتها، وتابع، "بينما خلف الستار (الشبكات الاجتماعية) تختبئ القيادة المنجرة في الخلف".       

ويمثل غياب قيادة وطنية موحدة لهذه الانتفاضة عامل ضعف بنظر مراقبين فلسطينيين، حيث يعتقدون بضرورة وجود قيادة موحدة تحسن استثمار الأحداث الحالية وتحقيق إنجازات ومكاسب حقيقية على الأرض، وقد دعت لذلك أحزاب يسارية فلسطينية مؤخراً.

ويختم الكاتب بالقول، "الإنجازات غير متعلقة بالضرورة بنتائج المعركة أو بموازين القوى، وغير مصنفة دوما تحت معادلة صفرية، يحتمل أن تكون الانجازات الفلسطينية التي سجلت في المواجهة الحالية، ستظهر مرة أخرى في التالية بعدها، وفي ذلك يجدر إعطاء الرأي"، وفق قوله.

انجازات هامة

على الرغم من حالة الندب والعويل من قبل أولئك الذين لا يدركون أن لتحرير الأوطان ثمناً، أضحت الهبّة الترويعية أقوى وأكثر تأثيراً مع فشل "إسرائيل" في إطفائها والقضاء عليها على الرغم من عقوباتها الفاشية الجماعية. وأهم الإنجازات:

أولاً: القلق، بل الخوف والهستيريا، تتزايد لدى الحكومة والمجتمع الإسرائيليين كون من تواجهه الدولة الصهيونية "عدو مجهول" لا يمكن تقدير الموقف عسكرياً لمواجهته هذه المرة. وعليه، فهذا إنجاز أول يحسب لها كونها شلت جزءاً مهماً من حياة المجتمع.

ثانياً: وفي سياق تعداد إنجازات أخرى، تستند كلها إلى أدبيات سياسية إسرائيلية وغربية رصينة، يتجلى ثاني الإنجازات المتحققة في تحول الخطاب السياسي الفلسطيني المعتدل بل والوادع إلى موقف سياسي، عبّر عنه الرئيس الفلسطيني في خطاب غير مسبوق في لهجته وصراحته أمام جلسة "مجلس حقوق الإنسان" التابع للأمم المتحدة في جنيف، مؤيداً فيه "الهبّة الشعبية" ومحذراً: "إن لم ينعم شعبنا بالحرية فلن ينعم أحد بالسلام". وبذلك نجحت "الهبّة" في جعل القيادة السياسية الفلسطينية تمضي في مسيرة تنفيذ قرار المجلس المركزي الفلسطيني الأخير. وهذا ما اتضح في الاجتماع الأحدث (الأربعاء 4/ 11) للجنة التنفيذية للمنظمة.

ثالثاً: توفرت جرّاء "الهبّة" فرصة ذهبية لعودة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العربي والدولي، بعد تجاهل طويل، في ظل الفوضى والصراعات الحادة الدائرة في الإقليم بكامله. وهذا التطور، استدعى زيارة الأمين العام للأمم المتحدة، وقيام وزير الخارجية الأمريكي بجولة في المنطقة، وتحرك وزراء الخارجية العرب.. إلخ، وعودة الحديث عن مبادرات بعد الغيبوبة السياسية التي عاشتها القضية.

رابعاً: ولأن من أكثر ما تخشاه الدولة الصهيونية هو الديموغرافيا، وبسبب تراجع الإحساس بالأمن إسرائيلياً، وانتفاء ديمومة إسرائيل "واحة للهدوء والديمقراطية وجنة موعودة لليهود"، بات من المرجح تصاعد الهجرة المعاكسة منها ونقص الهجرة الوافدة إليها، الأمر الذي يؤثر على سياسة الاستيطان وإضعاف وتائره.

خامساً: ونتيجة وعي فصائل منظمة التحرير والفصائل الإسلامية، فشلت مقاربات الاحتلال في إخراج الهبّة الجماهيرية عن إطارها أو عسكرتها بحيث بقيت "أسلحة" السكين، والدهس، وإلقاء زجاجات المولوتوف، والمواجهات بالحجارة سيدة الموقف.

سادساً: لم يستطع الاحتلال بأجهزة استخباراته المتعددة، تحديد عناصر و"قيادات" الهبّة، التي امتازت بالسرية وليس التسابق والتبارز أمام أضواء الإعلام كما اعتدنا سابقاً.

سابعاً: صلابة الشبان الفلسطينيين أدت إلى تعرية "الشجاعة الأسطورية" المدَّعاة لجنود الاحتلال، فلم تقتصر مواجهتهم على الطعن وإلقاء الحجارة، بل طاردوا جنود الاحتلال الفارين بمختلف الأدوات الحادة المتداولة.

ثامناً: احتدام الخلافات الحادة بين المستويين السياسي والأمني في إسرائيل حول كيفية التعامل مع الوضع القائم، بل إن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" اللواء "هرتسي هاليفي" انتقد أداء الحكومة و"انسداد أفق التسوية مع الفلسطينيين". وتضاعفت الكتابات الناقدة من قبل كبار السياسيين والعسكريين والإعلاميين الإسرائيليين (وغيرهم) لسياسات حكومة نتنياهو الرافضة للتسوية.

تاسعاً: قدرت جهات رسمية أن يصل حجم الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة إلى 2500 مليون دولار، فيما سيتراجع الدخل القومي الإسرائيلي بفعل تراجع المداخيل من عدة قطاعات (وبخاصة في ضرب موسم السياحة مع اقتراب الأعياد)، في الوقت الذي يواجه فيه الاقتصاد الإسرائيلي تباطؤاً في النمو، وتعاني الاستثمارات من انخفاض حاد، الأمر الذي سيوقف استعداد المستثمرين لعمل مشاريع، ما يلحق ضرراً بالاقتصاد لسنوات طويلة، فيما المصالح الصغيرة باتت على وشك الانهيار واحتمال إغلاقها. هذا، عدا المصاريف الأمنية والعسكرية.

عاشراً: ومع عودة صورة الشعب الفلسطيني المناضل، عززت هذه الهبّة صورة المرأة الفلسطينية الشريكة الكاملة في مقاومة الاحتلال فتقدمت صفوف المواجهات يدها بيد زميلها المناضل، مؤكدين معاً حقيقة كون شباب فلسطين قد كرسوا حياتهم كونهم المرابطين حماة الأمتين العربية والإسلامية.

حادي عشر: وعبر شبان لا يرهبون قوات الاحتلال، استعيدت روح النضال الفلسطيني، مثبتين للدولة الصهيونية (وللعالم) أن الاستسلام للعدوان والاحتلال ليس خياراً، مهما طال الزمن ومهما غلت التضحيات. ويكفي هذا الشباب فخراً نجاحه في إنهاء أسطورة مهترئة مفادها أن الجيش الإسرائيلي لا يقهر، حيث يهرب جندي مدجج بالسلاح من فلسطيني يحمل سكين مطبخ. ويكفي أن الشارع الفلسطيني، يردد طرفة أوردها المحلل العسكري في القناة الإسرائيلية الثانية، "روني دانيال"، حين قال: "جنودنا لا يصلحون إلا لشرطة المرور".

ركائز استمرار الانتفاضة

إن الشباب الفلسطيني المنتفض والذي استلم زمام المبادرة أوصل رسالته للعالم أجمع وإلى العدو الصهيوني وللقيادة الفلسطينية أيضاً، بأنه لم يعد مقبولاً ولا ممكناً استمرار الأمور على ما هي عليه. وأوضح، أن هؤلاء الشباب أكدوا بسكاكينهم وحجارتهم وسياراتهم أن المقاومة بجميع أشكالها ستتواصل، وأنه أصبح لزاماً على الجميع الاستجابة لاستحقاقات هذه الانتفاضة.

الأمر الذي يدعو إلى ضرورة استمرار هذه الانتفاضة والذي يتطلب ثلاث ركائز أساسية تتمثل في، القيادة السياسية، أي تشكيل قيادة موحدة للانتفاضة، ومن ثم قيادات ميدانية تتابع وتقود حركة الجماهير في ميدان المواجهة مع العدو حتى تكون هذه القيادة هي الناظم والموجه وهي الحاضنة التي تراكم انجازات الانتفاضة على طريق الاستقلال والعودة. والتي مع الأسف لم تتشكل حتى الآن، فيما الركيزة الثانية تتمثل في الركيزة الاقتصادية، أي توفير مقومات الاستمرار وصمود الناس في ظل أشكال الحصار المتعددة التي يفرضها هذا العدو "الإسرائيلي"، ثم رعاية أسر الشهداء والجرحى والمصابين بما يخفف من معاناة الناس وآلامهم.

إلى جانب ذلك، لا بد من اشتقاق سياسة اقتصادية ، تحقق توزيع العبء العادل للانتفاضة، بحيث لا يكتوي بنارها قطاعات معينة من جماهير شعبنا سواء كانت فئات اجتماعية أو مواقع جغرافية معينة. ولهذا لا بد من إيجاد مثل هذه الركيزة التي تحقق صمود الناس وفي نفس الوقت تحقق التوزيع العادل لعبء الانتفاضة.

إن الركيزة الثالثة التي يجب أن تتوفر لضمان استمرار الانتفاضة هي الركيزة الأمنية، أي تجميد وإلغاء ووقف أشكال التنسيق الأمني التي لازالت مستمرة بهذا الشكل أو ذاك مع العدو الإسرائيلي، ثم تحقيق وتوفير أعلى أمن ممكن من للانتفاضة والمنتفضين، وبشكل خاص مواجهة العنف الذي يمارس من قبل قوات الاحتلال وقطعان المستوطنين على وجه الخصوص حتى لا تجد جماهيرنا ظهرها مكشوفاً أمام هذا العدو وإجراءاته القمعية، وهذا موضوع يمكن أن تقرر به القيادة شكلاً ومضمونا من حيث الزمان والمكان وأشكال الرد المناسب على هذه الجرائم.

إن هذه الركائز الثلاث يجب توفيرها حتى تستمر الانتفاضة وتتواصل ومن ثم نضع الآليات بشكل مشترك ووطني وجماعي وعام التي تمكننا من تفعيل كل قطاعات الشعب لتستمر الانتفاضة بأشكالها المختلفة. كما يجب ان نعمل على تقسيم بعض فعاليات الانتفاضة لأيام كي نضمن استمرارها بمعنى تخصيص يوم للمهندسين ويوم للمعلمين ويوم للصحفيين ويوم للمحامين ...)، حتى تتواصل الفعاليات في القطاعات الجماهيرية المختلفة، ولا يتحمل قطاع واحد من قطاعات شعبنا عبء الانتفاضة.

إن هذه الانتفاضة من أسرع الانتفاضات التي جنت ثماراً مبكراً، ويمكن أن تتراكم، وأول هذه الثمار هو استحضار القضية الفلسطينية من جديد على جدول الأعمال الإقليمي والدولي والكوني، فمن المعروف أنه في الجمعية العامة للأمم المتحدة ورغم مشاركة محمود عباس إلا أن الكثيرين بما في ذلك الأطراف الأقوى على الصعيد الدولي لم يتطرقوا للقضية الفلسطينية ولو بكلمة واحدة لأن العالم مشدود للساحات الساخنة في العالم العربي. والانتفاضة جاءت بالقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني لتضعها على طاولة البحث مرة أخرى إقليماً ودولياً وكونياً، وكل قطاعات الرأي العام تتفاعل الآن مع الانتفاضة. إضافة إلى ذلك استحضار قضية القدس التي كان يعمل العدو الصهيوني على الابتلاع المتدرج لها ومرحليا تقسيمها في الزمان والمكان على طريق هذا الابتلاع، وجاءت الانتفاضة لتستحضر قضية القدس وتفرض على العدو الصهيوني ورئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو بكل ما نعرفه عن نتنياهو بتنكره لحقوق الشعب الفلسطيني أن يتراجع في بعض القضايا ولو كانت تفصيلية لكنها تؤشر إلى أنه بالإمكان أن نفعل الكثير. كما أنها حققت انجازاً آخر وهو ان الانتفاضة استحضرت استحقاق إنهاء الانقسام.

وحول كيفية استثمار نتائج الانتفاضة، لا بد من تشكيل قيادة وطنية موحدة، واستعادة الوحدة الفلسطينية، وتحديد أهداف واضحة للانتفاضة، ثم توفير ركائز استمرارها وديمومتها، إن هذه العناصر هي التي تجعلنا قادرين على أن نبقي بوصلة الانتفاضة في وجهتها الصحيحة. ونبقيها في إطار السعي من أجل إنجاز ثوابتنا الوطنية في الاستقلال والعودة الدولة. هذا لا يعني أن تحمل هذه الانتفاضة كل هذه الأهداف، ولكن أي مسعى لتحقيق أهداف مباشرة من هذه الانتفاضة مثل وقف الاستيطان، وإنهاء التقسيم الزماني والمكاني للقدس ينبغي أن تكون حلقات في سلسلة الكفاح الوطني الفلسطيني نحو الدولة المستقلة والعودة.

وعن إمكانية نجاح مساعي وزير الخارجية الأمريكي جون كيري التي تهدف إلى إجهاض الانتفاضة، يمكن القول أن الانتفاضة أعطت رسالة ملخصها أن طريق التفاوض مع العدو بالرعاية الأمريكية طريق عقيم ويجب مغادرته، وعندما اندلعت الانتفاضة جاء الأمريكان للمنطقة. والرسالة الثانية للأمريكان وغيرهم "إذا ما وفرنا قيادة موحدة لهذه الانتفاضة تحافظ على ديمومتها واستمرارها وجعلها جزء من المراكمة على طريق الاستقلال والعودة"، عندها لا تستطيع أمريكا ولا غيرها تجاهل حركة هذا الشعب، هذا هو مضمون هذه الحركة وهذا مضمون هذه النتيجة، وهي من النتائج التي يجب أن تذكر للانتفاضة. فإذا نجح كيري, لا سمح الله, في إجهاض الانتفاضة حينها يكون الخلل فلسطينياً، ومن الطبيعي أن تحرص أمريكا وإسرائيل على وأد الانتفاضة وحرفها عن مسارها إذا استطاعوا، لكن القرار فلسطيني وإذا كنا متنبهين لهذه المحاولات ومستعدين لإفشالها سنفشلها والسير للأمام، لكن إذا وجدت في الصف القيادي اتجاهات وتيارات مستعدة للتكيف مع هذه المحاولات في إطار السياسية التي تقول نفي بالتزاماتنا ونترك العالم يضغط على "إسرائيل" إذا استحضرت هذه السياسية مجدداً ستنجح المحاولات الأمريكية.

خسائر الاقتصاد الإسرائيلي

أكد مختصون فلسطينيون و(إسرائيليون) أن خسائر الاحتلال الاقتصادية خلال انتفاضة القدس التي اندلعت مطلع شهر أكتوبر الماضي فاقت خسائره التي تكبدها على مدار خمسين يوما في الحرب الأخيرة على غزة صيف العام الماضي. وجراء الانتفاضة، طالت الخسارة سوق السياحة والسلع وبورصة تل أبيب، وهو ما سيكون له تداعيات على الاستثمار أيضاً، فيما تؤكد تقارير الخبراء أن خطر الانتفاضة الحالية يفوق سابقاتها بكثير. وألغى عدد كبير من (الإسرائيليين) رحلاتهم إلى القدس والمدن الأخرى فضلا عن عدم خروجهم للأسواق، وهو ما أثر على سلوك الاستهلاك وترك المتاجر فارغة إلا من مشتري الأسلحة ومعدات الأمان الشخصي. ووفق صحيفة "ذا ماركر" الاقتصادية العبرية، فإن تدهور الوضع الأمني للاحتلال أدى إلى انخفاض بنسبة 11% بمجمل المشتريات عن طريق بطاقات الائتمان. ومقارنة بنفس الفترة الزمنية في عام 2014، انخفضت قيمة الشراء عن طريق البطاقات الائتمانية خلال أسبوعين فقط، بما يعادل 55 ألف شيقل، وقد نفّذت 21 مليون عملية شراء، مقابل 24 مليوناً في الفترة ذاتها عام 2014 خسائر كبيرة ومن جهته، حذّر مدير وزارة المالية الإسرائيلية السابق البروفيسور آفي بن باست، من أن دولة الاحتلال تواجه "خطر ضرر اقتصادي كبير". وقال إن آثار الانتفاضة والعمليات التابعة لها أخطر على الاحتلال من الآثار الاقتصادية للانتفاضة الثانية، ويعود ذلك لكون الأحداث الحالية تأتي في الوقت الذي يواجه فيه الاقتصاد (الإسرائيلي) تباطؤاً في النمو، وتعاني الاستثمارات من انخفاض حاد. وأضاف بن باست أن الموجة الحالية من زعزعة الأمن سوف توقف استعداد المستثمرين لعمل مشاريع، مما يلحق ضرراً بالاقتصاد لسنوات طويلة. ولفت إلى أنه جراء الانتفاضة الثانية انخفضت نسبة الاستثمارات في الأراضي المحتلة بنسبة 17%، وهو ما أدى إلى ضرر اقتصادي ضخم.

وعلى الرغم من أن الانتفاضة الثانية جرت على نطاق أوسع، فإن دولة الاحتلال اليوم "تواجه خطراً اقتصادياً أكبر"، بحسب بن باست، فمنذ عام 2014 هناك انخفاض بنسبة 4.5% بالاستثمارات، وفي الربعين الأول والثاني من عام 2015 سُجل انخفاض بنسبة 8% و3.3% أيضاً، لذا فإن الانتفاضة الحالية "قاتلة للاستثمارات". في حين، قالت الخبيرة الاقتصادية (الإسرائيلية) آيليت نير، إن فقدان (الإسرائيليين) للأمن انعكس على خروجهم من المنزل، وألحق ضرراً بالمتاجر والأسواق. وكسابقها، أكدت أنه رغم أن صيف 2014 شهد حرباً حقيقية وليس انتفاضة شعبية، فإن الضرر الذي لحق بالسوق (الإسرائيلي) من جراء الانتفاضة الشعبية التي بدأت منذ عشرين يوماً، أكبر بكثير مما ألحقته الحرب الأخيرة على قطاع غزة. ضغوط اقتصادية وفي سياق متصل، قال الباحث في الشأن الاقتصادي رائد حلس إن حالة التخبط والإرباك التي تعيشها (إسرائيل) نتيجة الانتفاضة سوف تؤدي لاستخدام الاحتلال أوراق الضغط التي تملكها على السلطة الفلسطينية، من خلال وقف تحويل إيرادات المقاصة وعلى الاقتصاد الفلسطيني من خلال تشديد الحصار الاقتصادي. وأضاف حلس: "إيرادات المقاصة التي تحصلها وزارة المالية الفلسطينية من الجانب الإسرائيلي تشكل مورداً رئيسياً لإيرادات الموازنة العامة، إذ أن متوسط نسبة هذه الإيرادات يتراوح ما بين 60% إلى 70% من إجمالي الإيرادات الشهرية، وتغطي نسبة تتراوح ما بين 45% إلى 55% من إجمالي النفقات العامة، أي أنها تغطي حوالي نصف نفقات الموازنة بما فيها النفقات التطويرية". ولا يستبعد حلس أن تلجأ لاستخدام ورقة (الحصار الاقتصادي) للضغط على الانتفاضة الجارية حاليا، في محاولة منها لتحجيمها وإخمادها. وشدّد على ضرورة الاستمرار في مقاومة الاحتلال لإنهائه ليصبح وقتها الاقتصاد الفلسطيني اقتصاد دولة حقيقي ومستقل ويتسم بالاستدامة والنمو بجميع الوسائل المشروعة. وبدورها، كشفت القناة العبرية الثانية أن "انتفاضة القدس" تضرب قطاعات واسعة في اقتصاد الاحتلال. وقالت القناة، إن انخفاضا ملموساً بدأ يسجل في أعداد السياح القادمين إلى (إسرائيل)، وهو ما أدى إلى انخفاض بحجوزات في الفنادق. وأشارت إلى أن المصالح الصغيرة باتت على وشك الانهيار واحتمال إغلاقها، إلى جانب قلة الزائرين للمراكز التجارية الكبيرة، وخلو المطاعم من الزبائن. وعلى مستوى سوق العمل، توضح القناة أن هناك انخفاضا بنسبة 100% في سوق العمل، نتيجة بقاء المستوطنين في البيوت وعدم رغبتهم في الخروج إلى الأماكن العامة خوفًا على حياتهم. ولفتت القناة إلى أن الانتشار المكثف للشرطة والجيش في المدن بات يشعر (الإسرائيليين) أنهم يعيشون في حالة طوارئ، ما أثر على الحالة النفسية لهم.

باحثة في علم الاجتماع السياسي(*)

اعلى الصفحة