الكيان الصهيوني في مواجهة تحدياته الوجودية

السنة الخامسة عشر ـ العدد 168 ـ ( صفر ـ ربيع الأول 1437 هـ) كانون أول ـ 2015 م)

بقلم: عدنان عدوان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

يوماً بعد يوم يزداد الاعتقاد بأن نهاية إسرائيل حاضرة في عقول قادتها ونخب يهودية وغير يهودية وفلسطينية وعربية وإسلامية وعالمية، لأنها أقيمت على أساس استعمار استيطاني عنصري وإرهابي وبدعم من الدول الاستعمارية واستغلال معزوفتي الهولوكوست النازي واللا سامية، والمبالغة فيهما لتهويد فلسطين العربية، في قلب الوطن العربي والبلدان الإسلامية.

ردد وزير الحرب الصهيوني موشي ديان هذا الاعتقاد عام 1953 وقال: "علينا أن نكون مستعدين ومسلحين، أن نكون أقوياء وقساة حتى لا يسقط السيف من قبضتنا وتنتهي الحياة (أي تزول إسرائيل من الوجود)".

ونقلت جيروزاليم بتاريخ 14/5/2011 عن نتنياهو قوله: "إذا تخلى أعداؤنا عن أسلحتهم فيسود السلام، ولكن إذا تخلت إسرائيل عن أسلحتها فلن يكون لدولة إسرائيل وجود" وتالياً ستبقى إسرائيل ثكنة عسكرية مدججة بجميع أسلحة الدمار الشامل وكيان استعمار استيطاني عنصري وإرهابي على غرار ألمانيا النازية التي لاقت مصيرها المحتوم وهو الزوال.

نهاية الحلم الإسرائيلي

لم تعد إسرائيل هي نفسها التي كانت في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بالنسبة إلى مواطنيها اليهود، فلقد انتهى الحلم الإسرائيلي بالنسبة إلى هؤلاء، وظهرت إسرائيل الواقعية بإشكالياتها وتناقضاتها.

مثلاً، عندما قامت إسرائيل روّجت لنفسها باعتبارها الملاذ الآمن لليهود في العالم، فإذا بها أقل أمناً لهم من أي مكان آخر، فوق أنها أضحت عبئاً عليهم. وبينما نشأت هذه الدولة لإيجاد حلّ قومي لـ"الشعب" اليهودي، إذا بها تطرح مشكلة أخرى تتمثّل بوجود "شعب" إسرائيلي. وفي حين اُعتُبِرت إسرائيل "واحة" للحداثة، والديمقراطية الوحيدة، في المنطقة، إذا بها تبدو بمثابة دولة دينية شرق أوسطية أخرى، وتُعرّف كدولة عنصرية، تميّز على أساس الدين.

وفي غضون كل ذلك فإن إسرائيل لم تعد الدولة النموذج، المعنية بتأمين أعلى مستوى رفاهية لليهود فيها، لجذب المهاجرين إليها، بخاصّة بعد أن أخذتها رياح النيو- ليبرالية المتوحّشة، فخصصت قطاعاتها العامة، وهمّشت مؤسساتها الكبرى (الهستدروت والكيبوتسات والموشاف)، وقلّصت التقديمات الاجتماعية. لقد ساهمت عوامل عديدة في إحداث هذه المتغيرات من ضمنها:

1- التغيّر الديموغرافي، ويتمثّل في هجرة حوالي مليون يهودي من روسيا جاؤوا إليها، في عقد التسعينيات، لأغراض استعمارية، نفعية، بحتة. هذا يفسّر أن هؤلاء، وجلّهم من النخبة، باتوا من عتاة المتطرّفين في إسرائيل ومن المحسوبين على الاتجاه القومي ـ اليميني، والمتمسكين بسياسة التوسّع والاستيطان، ولهم حزب (إسرائيل بيتنا) يتزعمه أفيغدور ليبرمان.

2- تصاعد نفوذ التيارات الدينية وازدياد قدرتها على ابتزاز الأحزاب الكبيرة والتحكم بتشكيل الحكومة. هذا الوضع جعل رجال الدين يتحكمون بالتشريعات القانونية وبمناهج التعليم والسلوكيات في المجتمع؛ وضمن ذلك الحط من مكانة المرأة وتقييد حريات الصحافة وأنشطة منظمات المجتمع المدني. ومعلوم أن هذا الوضع بات يضغط على الاتجاهات العلمانية التي تبدي تبرّمها وتحذّر من تحوّل إسرائيل دولة دينية في المنطقة، حتى أن ثمة من بات يتحدث عن وجود شعبين وثقافتين، أي العلمانيين من جهة والمتدينين من الجهة الأخرى. ومعلوم أن ذلك ينبع من التناقض الذي نشأ مع قيام إسرائيل التي برّرت نفسها بالأسطورة اليهودية ("أرض الميعاد" و"شعب الله المختار") رغم ادعائها أنها دولة علمانية، وكذا في اعتبار اليهودية بمثابة قومية.

3- ثمة عامل ينبغي الانتباه له (وهو ما كشف عنه أبراهام بورغ) وهو ناتج عن العلاقة الخاصّة التي تربط إسرائيل بالولايات المتحدة الأمريكية. وعند بورغ فإن هذه العلاقة أثّرت سلباً على محمولات إسرائيل العلمانية، باعتبار أن الولايات المتحدة هي دولة دينية بمعنى ما، ولاسيما أن المسيحية الأنجليكانية (المنتشرة في أمريكا) تعلن دعمها المطلق للرواية الإسرائيلية، في حين أن "أوروبا أكثر علمانية وأكثر واقعية"؛ بحسب بورغ. والقصد هنا أن إسرائيل التي باتت أقل أوروبية وأكثر أمريكية، باتت أيضاً أقل علمانية وأكثر دينية من ذي قبل. هذا كله يفسّر ملاحظة سبق أن ذكرتها بشأن أن إسرائيل باتت تتكشف عن كونها ظاهرة رجعية تسير عكس عجلة التاريخ، أي استعمارية وعنصرية ودينية، في حين أن المنطقة العربية، وعلى وقع رياح الثورات العربية، تحاول حثّ الخطى في اتجاه العودة إلى التاريخ، بقيام دولة المواطنين الديمقراطية ـ المدنية.

ومن الجدير لفت الانتباه هنا إلى أن هذه القراءة لإسرائيل باتت تجد سنداً لها عند الإسرائيليين أنفسهم، الذين يرون أن دولتهم لم تعد ذاتها، وأنها تتحوّل في اتجاهات سلبية، قد تمهّد لتفكّكها وأفولها. هذا ما يؤكّده شخص بحجم أبراهام بورغ، وهو أحد زعماء حزب العمل السابقين، ورئيس كنيست سابق، في مقابلة معه، أجراها أنطوان شلحت وبلال ضاهر لمصلحة مجلة "قضايا إسرائيلية" (الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، عدد شتاء 2012) لمناسبة ترجمة كتابه "لننتصر على هتلر".

ففي هذه المقابلة المهمة جداً يرى بورغ أن إسرائيل "أصبحت أقل استقلالية مما كانت عليه إبّان قيامها"، وأنها "تحوّلت متحدثة باسم الموتى.. باسم كل أولئك غير الموجودين، أكثر مما تتحدّث باسم كل أولئك الموجودين". وعنده فإن "الدولة التي تحيا على سيفها، والتي تسجد للموتى، مآلها أن تحيا في حالة طوارئ دائمة". وبالنسبة إلى تعريف إسرائيل لذاتها "دولة يهودية"، فبرأيه "يستحيل أن يتعايش تحت سقف واحد مع تعريفها بأنها ديمقراطية" والبديل عنده يكمن في "تحويلها دولة جميع يهودها وجميع مواطنيها".

وينعي بورغ "الحلم" الإسرائيلي بقوله: "في صبانا كانت إسرائيل مختلفة. كانت علمانية واشتراكية. تحولت إسرائيل من حيث بنيتها فأصبحت دولة رأسمالية ودينية... الدولة في 2011 ليست الدولة نفسها التي كانت في 1948".

كما ينعي تيار اليسار الذي يحمله مسؤولية تأسيس إسرائيل على أساطير من نوع: "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب" الخاطئة "لأنها تتجاهل العرب". كما يحمله مسؤولية قيام المشروع الاستيطاني، ومسؤولية تقويض اتفاق أوسلو في كامب ديفيد (2000) بدعوى أنه لم يعد ثمة شريك للتسوية.

وفي ما يخصّ الفلسطينيين فإن بورغ يؤكد على "أنَّ اليهود الذين كثيرًا ما كان يتم في السابق تشريدهم، يشكِّلون هم بالذات سبب تشريد الفلسطينيين". وأنه إذا كان "يتعين على الإسرائيليين ألاَّ ينسوا المحرقة... ينبغي لهم أن يتعلموا... ضرورة عدم تكرار ما حدث" عليهم وعلى غيرهم.

أما بالنسبة إلى عملية التسوية فإن بورغ يعتقد بأن "معادلة دولتين لشعبين لفظت أنفاسها". والبديل عنده يكمن في "طرح نموذج لا يبدأ من حل القضايا القومية وإنما من الالتزام بالقضايا الاجتماعية، حيث لا فرق بين اليهود والعرب، أي بمساواة كاملة. وهذا يستلزم ألا تكون إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية وإنما دولة ديمقراطية، توجد فيها غالبية يهودية تقوم بتقاليدها في إطار نوع من الحكم الذاتي الثقافي، والأقلية غير اليهودية تقوم بتقاليدها باحترام في إطار اجتماعي في دولة جميع مجتمعاتها. وجميع المواطنين متساوون أمام الديمقراطية". هكذا "يكون لكل إنسان يعيش... بين نهر الأردن والبحر المتوسط الحق نفسه والمساواة نفسها... إذا كنت يهوديا أو عربيا، رجلا أو امرأة، حريدياً أو علمانياً. لكل إنسان الحق نفسه، أن يَنتخب ويُنتخب، الحق في الحياة... في التنظيم... في التعبير عن الرأي وما إلى ذلك... في دولة جميع مواطنيها... الخلاص هو في الاندماج في الشرق الأوسط... إلى حد العلاقات التامة بين الأفراد والأبناء..."، بحيث "يصبح الشعب اليهودي ودولته جزءاً عضوياً من الأسرة البشرية في العالم أجمع، لا مخلوقا وجوديا، مستقلاً، مميزاً ومنفصلاً لا ينتمي إلى التاريخ".

يقول بورغ: "أنا شخصياً أريد الاندماج... أريد أن تكون هناك دولة واحدة مدنية ومساواة في الحقوق لكل إنسان بين النهر والبحر. أريد أن يكون الحكم في البلاد اشتراكياً أكثر وعلى غرار الدول الاسكندينافية، وأن تهتم الدولة بأمور أكثر من اليوم. أريد توزيعاً مختلفاً للثراء في المجتمع. أريد توزيعاً مختلفاً لتحمل الأعباء والمسؤولية الاجتماعية المدنية والقومية".

إن كلام بورغ هذا قد لا يكون له شعبية كبيرة في إسرائيل، لكنه مترسّخ في خطابات النخبة الثقافية فيها، وهو مؤشّر مهم يكشف التناقضات التي تعتور إسرائيل، فضلا عن أنه يدلّ على تفوّق النخب في إسرائيل علينا حتى في إنتاج نقدها لأوضاعها.

والمشكلة أن الطبقة السياسية السائدة عندنا ما زالت تتعامل مع إسرائيل باعتبارها كتلة صماء، ووفق مفاهيم أكل الدهر عليها وشرب!

أسئلة وجودية

فجّرت الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، جدلاً داخل المجتمع الإسرائيلي يُعيده إلى الأسئلة الأولى للصراع في فلسطين التاريخية. فلن يعود السؤال الآن ما هي التسوية وحدودها وجوهرها، ولم يعد النقاش حول ترتيبات أمنية ممكنة أو غير ذلك من أسئلة ارتبطت بعملية التفاوض واتفاقيات أوسلو وإن وجدنا منها بعض ذيول لدى ما سميناه "يساراً". بل صار النقاش الآن: ما هي السيناريوهات الوجودية أمام المجتمع اليهودي في فلسطين التاريخية. وهو سؤال كبير أضاف عليه انتصار التوجهات اليمينية الإسرائيلية وهيمنتها على الثقافة السياسية والخطاب في إسرائيل.

فقد سرّع هذا الانتصار طرح الأسئلة لأن الثقافة السياسية الإسرائيلية وخطاب الحلول والتسويات الممكنة كانا تأسسا على مفاعيل قرار التقسيم في العام 1947 وما يعنيه من هيمنة فكرة تقاسم الأرض كمفتاح لتسوية الصراع.

نقول هذا لأن تقاسم الأرض في الفكر الإسرائيلي - والصهيوني من قبل - ينبغي أن يضمن للمجتمع اليهودي غالبية ديموغرافية في حدود الدولة العبرية. أما اضمحلال فكرة التقاسم هذه حيال التوجهات اليمينية واختفاؤها تماماً من خطاب أرض إسرائيل الكاملة ومن مشروع الاستيطان الذي صار نقطة القياس في الثقافة السياسة الإسرائيلية، فإنهما يضعان المجتمع الإسرائيلي برمّته أمام ثلاثة سيناريوهات رئيسة.

نقول رئيسة لأنه يُمكن أن نشتقّ سيناريوهات مطوّرة أو توليفية أيضاً من تلك التي سنعرضها هنا. ولأن هناك سيناريوهات أخرى قد تفرضها التحولات الجذرية في المنطقة كأن يغيب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مثلاً في ثنايا صراع يهودي - إسلامي واسع النطاق!

السيناريو الأول الذي تتم مناقشته الآن بقوة في أوساط صحافية وأكاديمية وبحثية وسياسية هو سيناريو الدولة الثنائية القومية. وطارحوه هم عادة من خصوم اليمين الإسرائيلي الذين يُريدون أن يُحرجوه بالتلويح بأن توجهاته المُطلقة إنما ستُفضي إلى دولة ثنائية القومية بين البحر والنهر يتساوى فيها اليهود والفلسطينيون. وهذا ما هو حاصل فعلياً على الأرض بقوة فكرة إدارة الصراع أو فكرة السلام الاقتصادي اللتين يقول بهما اليمين الحالي لاسيما رئيس الحكومة نتنياهو. بمعنى أن بين طارحي هذا السيناريو مَن يطرحه للتلويح بأن فكرة تقاسم الأرض هي الحلّ الأمثل لليهود إذا ما أرادوا الحفاظ على تفوّق ديموغرافي وغالبية عُظمى في الدولة اليهودية. لكن على يسار اليسار الصهيوني، هناك يسار فكري غير منظّم لاسيما في الأكاديميا يقول إن هناك ضرورة لتهيئة الأجواء لحلّ الدولة الثنائية القومية في ظل تعذّر العودة إلى تقاسم الأرض بسبب تغيير ديموغرافي تخطيطي جذري في الحيز المكاني يستحيل معه أي تقسيم معقول للأرض. بل يدعو هذا اليسار إلى واقعية سياسية تجنّب الشعبين دفع أثمان باهظة أخرى من الاقتلاع والتشريد وإلى الاعتراف بالواقع الذي تطوّر على الأرض على جانبي الخط الأخضر وتطويره نحو دولة يتقاسم فيها الشعبان السيادة، بدل الأرض، عبر إنشاء نظام حكم متطوّر يفي بهذه الحاجة التاريخية. ويُشير مناصرو هذا الحلّ إلى ضرورة التفكير بالحياة المشتركة بين الشعبين وعلى مختلف المستويات، بما فيها مستوى مؤسسات الحكم والحاكمية، أيضاً.

 أما السيناريو الثاني الذي يُناقَش بكثافة في أوساط المفكرين والمنظّرين للصراع/للحلول وللفلسفة السياسية، فهو تطوّر نظام أبارتهايد إسرائيلي يكرّس امتيازات لليهود في كل المستويات على حساب الفلسطينيين بين البحر والنهر. وهو نظام يتطوّر عن الوضع القائم في حال رفض اليمين فكرة الدولة الثنائية القومية القائمة على تقاسم السيادة في الحيز، كما يؤكّد اليمين المتطرّف وغير المتطرّف وكذلك قوى الوسط واليسار الصهيوني ورفض من جهة أخرى التعاطي مع المسألة الفلسطينية وحلّها بما يُقنع الفلسطينيين ويوفّر لهم حقوقهم، بما فيها حقّ تقرير المصير. ويُشير البعض إلى أن التصعيد الأخير أعطى نموذجاً لما يُمكن أن يكون عليه هذا النظام من عزل مكاني للفلسطينيين في مناطقهم، بدعوى الحفاظ على الأمن العام لليهود أو اتقاء "العمليات الإرهابية" الفردية أو المنظّمة من الجانب الفلسطيني.

بين هذا السيناريو وذاك يأتي الحلّ الوسط وهو تقاسم الأرض مع الفلسطينيين، من خلال تبادل سكان وأراض في شكل يطوّر قدرات الكيان الفلسطيني العتيد على التطوّر واستيعاب هجرة محتملة (عودة اللاجئين) وامتلاك جغرافيا معقولة تقوم عليها الدولة ومتطلباتها. مناصرو هذا السيناريو هم الحريصون على ضمان غالبية سكانية يهودية في الدولة اليهودية وما تبقى من يسار صهيوني غربي الأصول يعتمد توجهات صهيونية براغماتية. لكن قد نجد بينهم أيضاً مناصرين حقيقيين لفكرة السلام والتعايش لا يزالون مؤمنين بقابلية هذا الحلّ للحياة.

كل هذه السيناريوهات تُناقش دفعة واحدة في الأوساط الأكاديمية وفي تلك المؤتمرات التي تتناول الصراع وحلوله. ولكل واحد منها أثمانه أو أرباحه تبعاً للناظر وزاوية النظر. ونلاحظ أن مناصري تقاسم الأرض، ولا يقصدون بالضرورة حل الدولتين، يطرحون مشروع الدولة الثنائية القومية كفزّاعة لاعتراض مشروع اليمين القائم على إدارة الصراع. ويطرح اليمين فكرة إدارة الصراع لاعتراض إمكانية تقاسم الأرض أو حل الدولة الواحدة الثنائية القومية. أما المحافل الدولية فلا تزال تكرر الأسطوانة ذاتها في شأن حلّ الدولتين وكنا نتوقّع منها أن تكون أكثر جرأة في التقدم بمشاريع تقرأ الواقع ولا تتجاهله.

رموز اليمين في إسرائيل واضحون في ما يُعلنونه ويفعلونه. فهم على استعداد لقبول حقوق مواطنة كاملة للفلسطينيين في إسرائيل داخل الخط الأخضر، أما الفلسطينيون في المناطق الأخرى، فلا!.. وهذا ما يفتح الباب لمناورات إسرائيلية بين المجموعات الفلسطينية المختلفة. وفي هذا ما يؤكّد أن السيناريو الذي يذهب فيه اليمين هو فرض السيادة الإسرائيلية على كل الحيز بين بحر ونهر، مع منع المواطنة عن الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وإبقائها منقوصة أو مشروطة للفلسطينيين في داخل إسرائيل. وهذا ما يفتح الباب لـ(أبارتهايد) على الطريقة الإسرائيلية مرفق بعزل مكاني وتقييد حرية التنقّل لدواعٍ أمنية أو اقتصادية أو ديموغرافية سياسية. وإذ نحن نتابع تحولات السياسة والمجتمع في إسرائيل نرجح أننا بصدد التحول الإسرائيلي السريع إلى هذا السيناريو الذي لم يعد بالإمكان التستّر عليه.

الكيان الصهيوني إلى الزوال

يعتمد استمرار وجود إسرائيل الغريبة عن المنطقة والدخيلة عليها، والتي جاءت من ألمانيا وروسيا وغيرها، والمغتصبة للأرض والمياه والحقوق والممتلكات الفلسطينية العربية وبدعم وتأييد كاملين من الدول الاستعمارية التي أقامتها بريطانيا شريطة فتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية على مصراعيها واستغلال معزوفة الهولوكوست النازي لإقامة إسرائيل والاعتراف بها والتعايش والهرولة في تطبيع العلاقات معها، لقاء حماية كراسي حكام الإمارات والممالك العربية.

إن وضع الصهيونية القوة فوق الحق، وتكريس المزاعم والأطماع والأكاذيب الاستعمارية باستخدام القوة والحروب العدوانية والمجازر والعقوبات الجماعية والترحيل القسري والتطهير العرقي تجاه الشعب الفلسطيني، ومصادرة الأراضي والمقدسات الفلسطينية وإقامة المستعمرات اليهودية عليها وتدمير القرى والبلدات الفلسطينية، يرمي إلى تكريس الأمر الواقع الناتج عن استخدام إسرائيل للقوة وتحقيق الاستعمار الاستيطاني وممارسة العنصرية والتمييز العنصري والإرهاب كسياسة رسمية. فهل يمكن لإنسان في العالم أن يقبل بهذا المنطق الاستعماري والعنصري الحقير الذي لا مثيل له في تاريخ الإنسانية؟

تقوم الإستراتيجية الصهيونية على إشعال الحروب العدوانية بمشاركة من الدول الغربية وبدعم من أتباعها من الأمراء والملوك العرب لتفتيت البلدان العربية، وإعادة تركيبها وإشعال الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية لإقامة إسرائيل العظمى الاقتصادية من خلال مشروع الشرق الأوسط الجديد.

إن الشعوب العربية لا يمكن أن تقبل بهذه الإستراتيجية وهذا المنطق الصهيوني، فالحكام العرب الذين أقاموا حكمهم بدعم من الدول الاستعمارية وتبعيتهم لها حفاظاً على كراسيهم، ووقعوا اتفاقات الإذعان في كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة ساهموا ووافقوا على تهويد القدس وبقية فلسطين.

إن نهاية إسرائيل متجذرة في الفكر الصهيوني، وحاضرة في عقول الشعب الإسرائيلي ويهود العالم، والأمة العربية والإسلامية.

ويخشون يومياً من الضحية الذي طردوه من وطنه، وطن آبائه وأجداده، واغتصبوا أرضه وممتلكاته، وأقاموا على أنقاضها المستعمرات اليهودية لقطعان المستعمرين اليهود الذين جاؤوا بمساعدة الأغنياء اليهود وألمانيا النازية وبالتحديد هتلر والحركات اللا سامية وأمريكا وبريطانيا، للتخلص من اليهود في أوروبا وزرعهم في فلسطين لخدمة مصالح الدول الغربية والصهيونية العالمية في الشرق الأوسط.

سخرت اللوبيات اليهودية الرؤساء الأمريكيين ومستشاري ألمانيا والقمم الأمريكية ـ العربية في شرم الشيخ والعقبة لتجنيد العالم ضد المقاومة الفلسطينية المسلحة والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، كي لا يهرب الإسرائيليون إلى البلدان الغربية، وذلك للتخلص من مكائدهم ومؤامراتهم وأعمالهم القبيحة ونفسيتهم المريضة المليئة بالاستعلاء والتفوق والعنصرية والإرهاب وكراهية الأغيار أي غير اليهود.

إن الشعب العربي الفلسطيني يتمسك بحقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف وفي مقدمتها حق عودة اللاجئين إلى ديارهم واستعادة أرضهم وممتلكاتهم المغتصبة، والتمسك بخيار المقاومة وتعزيز ثقافتها وإشعال الانتفاضات حتى زوال الكيان الصهيوني من كل فلسطين التاريخية، ويخيف تمسك الشعب الفلسطيني والأمة بعروبة فلسطين بما فيها القدس إسرائيل ومواطنيها، لذلك كتبت يديعوت احرونوت الصادرة في 27 آب 2002 أي بعد اندلاع انتفاضة الأقصى تحت عنوان: "يشترون (الإسرائيليون) شققاً في الخارج تحسباً لليوم الأسود (أي نهاية إسرائيل).

وكتب أبراهام بورغ الرئيس الأسبق للكنيست في يديعوت احرونوت الصادرة في 29 آب 2003 يقول: "إن نهاية المشروع الصهيوني على أبوابنا... فدولة تفتقد للعدالة لا يمكن أن يكتب لها البقاء".

وكتب يرون لندن في يديعوت احرونوت بتاريخ 29 تشرين الثاني 2003 مقالاً جاء فيه: "في مؤتمر هرتسليا علم أن عدداً كبيراً من الإسرائيليين يشكّون فيما إذا كانت الدولة ستبقى بعد 30 سنة، وهذه المعطيات المقلقة تدل على أن عقارب الساعة تقترب من الساعة 12 (أي لحظة نهاية إسرائيل)".

وتناول الكاتب الأمريكي بنيامين شفارتس في مجلة أتلانتيك الأمريكية مستقبل إسرائيل ومصيرها استبعد فيه أن تحتفل إسرائيل بعيد ميلادها المائة، والسبب في رأيه أن المشروع الصهيوني لم يتمكن أبداً من التغلب على العائق الديموغرافي الذي أقلقه منذ تأسيسه.

ويتفق بعض جنرالات في إسرائيل ومنهم موشيه يعلون وزير حرب العدو الأسبق إلى حد ما مع شفارتس بانهيار إسرائيل وزوالها بسبب العامل الديموغرافي وخيار المقاومة المسلحة وعقلية إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والإرهابية.

وأكد المفكر العربي عبد الوهاب المسيري عن هاجس الزوال الذي يطارد الإسرائيليين، فالمستعمرون اليهود يدركون بوجود قانون في العالم يضمن زوال جميع أشكال الاستعمار الاستيطاني والأنظمة العنصرية والإرهابية.

كذَّب المؤسسون الصهاينة على يهود العالم عندما زعموا أن فلسطين أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض، وذلك لتبرير الاستعمار الاستيطاني فيها، وتصوروا أن بإمكانهم التخلص من الشعب الفلسطيني تماماً كما تخلصت أمريكا الشمالية من الهنود الحمر عن طريق الإبادة الجماعية والاستيطان، ويدرك المستعمرون اليهود أن مصير الكيان الصهيوني إلى الزوال، لأنهم فشلوا في إبادة الشعب الفلسطيني.

واليوم وبعد مرور حوالي 120 عاماً على تأسيس الحركة الصهيونية ومرور حوالي 70 عاماً على تأسيس الكيان الصهيوني ككيان استعمار استيطاني ونظام عنصري وإرهابي، ظهر بجلاء للعالم أجمع أنه لا مستقبل له، لأنه يعيش في حالة عداء دائم مع الشعب الفلسطيني وبقية الشعوب العربية والإسلامية ويتمرد على احترام القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني.

وقام على اغتصاب الأرض والمياه والممتلكات والمقدسات وتهويدها، وتدمير المنجزات وعرقلة التنمية والتطور والوحدة العربية ومعاداة العروبة والإسلام والمسيحية الشرقية، ويعمل على خدمة مصالح الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية، والتحالف مع الأمراء والملوك والرؤساء العرب الخائنين لشعوبهم وأمتهم وعقيدتهم وللحقوق الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف لشعبنا العربي وفي مقدمتها حق عودة اللاجئين إلى ديارهم واستعادة أرضهم وممتلكاتهم وتحرير القدس، مدينة الإسراء والمعراج من التهويد والاحتلال الصهيوني.

وجاءت رؤية الدولتين التي أخذها مجرم الحرب بوش من مشروع شارون للتسوية ووضعها في خارطة الطريق التي وافقت عليها الرباعية الدولية التي يرأسها مجرم الحرب طوني بلير، وحمل رئيس السلطة الفلسطينية الموافقة عليها كي تؤخر زوال إسرائيل وترمي الإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي والإمارات والممالك العربية التي أقامتها بريطانيا الاستعمارية إلى تخليد وجود إسرائيل في فلسطين، وتمرير الحل الصهيوني لقضية فلسطين وتصفيتها وإنهاء الصراع العربي الصهيوني.

أثبتت تجارب شعوب المنطقة وشعوب العالم في القضاء على كيانات الاستعمار الاستيطاني التي أقامتها الحملات الصليبية، والاستعمار الاستيطاني الفرنسي في الجزائر، والاستعمار الاستيطاني الأوروبي الأبيض في روديسيا والبرتغال وجنوب إفريقيا أن مصير كيانات الاستعمار الاستيطاني والأنظمة العنصرية إلى الزوال.

ويعتبر الكيان الصهيوني الذي جاء من وراء البحار أسوأ الكيانات الاستيطانية والعنصرية والإرهابية في العالم، فالصراع معه صراع وجود وليس نزاعاً على الحدود، وإن خيار المقاومة هو الخيار الوحيد المتبقي لإنقاذ الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة والعالم أجمع من أطماعه وأخطاره وحروبه العدوانية ومساعيه لإشعال نيران حرب عالمية ثالثة تستعمل فيها الأسلحة النووية تحقيقاً لخرافة أرماجادون التي تؤمن بها المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة ومجيء وتولي اليهود حكم العالم ألف سنة من مدينة القدس.

زالت جميع كيانات الاستعمار الاستيطاني والأنظمة العنصرية ونظريات المجال الحيوي في العالم، حيث زالت النازية من ألمانيا والفاشية من إيطاليا وإسبانيا والعنصرية من روديسيا والبرتغال والاستعمار الاستيطاني الفرنسي من الجزائر ونظام الأبارتهايد من جنوب إفريقيا ومستقبل الكيان الصهيوني ككيان استعمار استيطاني ونظام عنصري وإرهابي  ومنها إسرائيل إلى الزوال.  

اعلى الصفحة