الدلالات الإستراتيجية للانتفاضة الفلسطينية

السنة الخامسة عشر ـ العدد 168 ـ ( صفر ـ ربيع الأول 1437 هـ) كانون أول ـ 2015 م)

بقلم: عدنان أبو ناصر

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تحتل القدس مكانة دينية لدى أتباع الديانات السماوية الثلاث، وبذلك تكمن أهميتها السياسية، وعليه بدأ الكيان الصهيوني منذ احتلالها في عام 1967م بعملية تهويد منظمة تستهدف المدينة المقدسة، فبدأ بأعمال الحفريات تحت المسجد الأقصى وقبة الصخرة، حتى بات البناء مهدداً بالسقوط في أي لحظة..

وبدأت عمليات تدنيس واقتحام المستوطنين وجنود الاحتلال للمسجد الأقصى وقبة الصخرة، حتى وصل الأمر إلى دخول جنود الاحتلال بـ"بساطيرهم" باحات المسجد القبلي وحرقه، والوصول إلى منبر صلاح الدين، هذا إضافة إلى منع المقدسيين من الصلاة داخل المسجد الأقصى، وفرض إجراءات صارمة على الدخول والخروج.

وبدأ المواطن المقدسي يشعر بحجم المؤامرة التي يحيكها المجتمع الدولي على القدس، وحجم التقاعس الإقليمي عن تعزيز صمود المقدسيين، كما يواجه المقدسيون حالة ترغيب كبيرة قد لا يصمد في وجهها سوى الأتقياء والأبرار والأبطال، فالجمعيات الاستيطانية تعرض ملايين الدولارات على المقدسيين لبيع عقاراتهم ومنازلهم، إضافة إلى تسهيل الحصول على جنسيات دول أوروبية وأمريكية، ويرفض المقدسيون ذلك، ومازالوا متمسكين بأرضهم وعقيدتهم، ولكن الاحتلال لم يتركهم، فمنذ زمن يفرض عليهم مزيدًا من الضرائب، أهمها ضريبة "أرنونا"، ويسحب الهويات، ويهدم المنازل، وربما سياسة العقاب الجماعي لعوائل منفذي العمليات البطولية من أبناء القدس تجسد الواقع المؤلم الذي يعانيه أبناء المدينة المقدسة.

إجماع شعبي على الانتفاضة

أظهرت نتائج أحدث استطلاع للرأي العام الفلسطيني، نشر بتاريخ 5/11/2015 في رام الله، ارتفاعاً حاداً جداً في تأييد توسيع الهبة الشعبية الحالية إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة وشاملة. فقد قفزت نسبة التأييد هذه من 26% في الاستطلاع الذي أجري قبل أربعة أشهر، في يوليو (تموز) 2015 إلى 63% في الاستطلاع الحالي، بينما أكد 33% بأنهم يعارضون انتفاضة جديدة.

وقد أجرى هذا الاستطلاع، معهد العالم العربي للبحوث والتنمية "أوراد" في رام الله، في الفترة ما بين 21 و23 أكتوبر (تشرين الأول) 2015. وقد شمل الاستطلاع من 1200 من البالغين الفلسطينيين من كلا الجنسين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وضمن نسبة خطأ 3%.

ارتفعت نسبة الذين يعتقدون بأن المجتمع الفلسطيني يسير في الاتجاه الصحيح، فمقابل 35% أكدوا ذلك في استطلاع الماضي قال اليوم 49% إنه الطريق الصحيح. وفي التقسيم الجغرافي يتضح أن نسبة من يرون أن المجتمع الفلسطيني يسير في الاتجاه الصحيح أكبر في الضفة الغربية (59%)، منها في قطاع غزة (31%). أما نسبة الذين يعتقدون بأن المجتمع الفلسطيني يسير بالاتجاه الخاطئ فكانت أكبر في قطاع غزة حيث بلغت 66%، بينما بلغت في الضفة 37%.

وعندما سئلوا إن كانوا يرون أملا في الهبة الحالية والتوقعات الإيجابية منها في فلسطين، صرح 56% بأنهم متفائلون (60% في الضفة، و49% في غزة)، مقابل 43% متشائمون (50% في غزة، و39% في الضفة).

صرح 54% بأن الوضع الاقتصادي بالنسبة لهم أسوأ مقارنة مع قبل سنة، بينما صرح 38% بأن الوضع الاقتصادي بقي كما هو، وصرح 8% بأن وضعهم الاقتصادي أفضل مقارنة مع قبل سنة. ومن حيث المنطقة الجغرافية، تظهر النتائج فجوة كبيرة بين الضفة الغربية وقطاع غزة بلغت (12 نقطة) فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي، حيث صرح 61% من سكان غزة بأن الوضع الاقتصادي ازداد سوءا مقارنة مع قبل سنة (49%).

وفي المجال الأمني، صرح 57% بأن الوضع الأمني تراجع مقارنة مع قبل سنة، وصرح 32% بأن الوضع الأمني لم يتغير، و10% صرحوا بأنه تحسن. وتظهر النتائج فجوة كبيرة بين الضفة الغربية وقطاع غزة بلغت (20 نقطة) فيما يتعلق بالوضع الأمني، حيث صرح 44% من سكان غزة بأن الوضع الأمني ازداد سوءاً مقارنة مع قبل سنة، وينتشر هذا الشعور بين 64% من سكان الضفة.

وتظهر النتائج ارتفاعا في التأييد لاندلاع انتفاضة ثالثة من 26% في الاستطلاع السابق إلى 63% في الاستطلاع الحالي، بينما يعارض اندلاعها 33%. وفي نفس الوقت، صرح 62% بأن المجتمع الفلسطيني جاهز للدخول في انتفاضة ثالثة، بينما صرح 35% بأن المجتمع غير جاهز لذلك. وحول المشاركة في مظاهرات ضد الاحتلال إذا دعت لها حركة حماس، فقد صرح 30% بأنهم سيشاركون فيها، مقابل 68% بأنهم لن يشاركوا. وأما إن دعت لها فتح قال 32% بأنهم سيشاركون فيها مقابل 64% لن يشاركوا.

وأظهر الاستطلاع أن 36% من المستطلعين لا يفضلون نهج أي من فتح أو حماس وفي الوقت الذي يصرح فيه 36% بأنهم يفضلون نهج حركة فتح قال 28% إنهم يفضلون نهج حركة حماس. ولكن، في نفس الوقت، صرح 54% بأنهم يؤيدون استخدام الوسائل السلمية للتحرر من الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة (14% يؤيدون العمل على الساحة الدولية، كالتوجه إلى الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات وغيرها، و14% يؤيدون الاحتجاجات غير العنيفة كمقاطعة البضائع والاعتصامات، و14 يؤيدون العودة إلى الأمم المتحدة، و12% يؤيدون حل السلطة)، وفي المقابل، صرح 45% بأنهم يؤيدون العودة إلى الكفاح المسلح.

وهكذا فإننا أمام انفجار شعبي لم تشهد له القدس مثيلاً منذ زمن، هذا الانفجار يعيد لنا ذاكرة الانتفاضة الأولى عام 1987م، فأوجه الشبه بينهما هو الهبة الشعبية التي تسبق قياداتها الوطنية، وابتكار الوسائل والأدوات النضالية السلمية التي تؤلم الاحتلال لأنها أعمال فردية لا يمكن إيقافها، وأقصد هنا عمليات الطعن والدهس وإلقاء الحجارة والزجاجات الحارقة على جنود الاحتلال ومليشيات مستوطنيه، التي أسقطت هيبة الجندي الإسرائيلي، وأكدت هشاشة وضعف ما يسمى دولة (إسرائيل)، وزادت من جرعة الأمل لدى الفلسطينيين بأن تحرير فلسطين بات أقرب.

الدلالات إستراتيجية

بدأت انتفاضة القدس التي تشهدها الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة منذ عام 1948 بتحقيق بعض النتائج السياسية فقط بعد أسابيع من انطلاقها، على الرغم من حالة اليأس التي دفعت الكثيرين لاستبعاد تحقيق نتائج لهذه الانتفاضة، في ضوء قراءة تاريخ تجارب الانتفاضات الفلسطينية السابقة.

وفي الوقت الذي يمكن فيه وصف النتائج التي حققتها الانتفاضة بأنها صغيرة أو "تكتيكية"، فإن لها بالمقابل دلالات إستراتيجية، يجدر قراءتها بعمق لأنها تعيد التأكيد على بعض الحقائق التي ظلت محل نقاش في الساحة السياسية العربية منذ سنوات.

إن أولى النتائج السياسية التي حققتها الانتفاضة في شهرها الأول هي إعادة الاهتمام والاعتبار للقضية الفلسطينية، بعد سنوات من التهميش والتراجع لأسباب داخلية وخارجية. فبعد أن غاب الصراع العربي الإسرائيلي عن الملفات المهمة في المنطقة بسبب ضياع البوصلة الوطنية الفلسطينية أولا وتصاعد الصراعات في سوريا ومصر والعراق وليبيا واليمن وغيرها، أصبح هذا الملف مركزاً للاهتمام الدولي من جديد، وعادت الإدارة الأمريكية والأمم المتحدة والدول الكبرى لتحريك دبلوماسييها لعقد اللقاءات الهادفة للتهدئة، ولإطلاق التصريحات المعهودة والمستهلكة عن عملية السلام والتهدئة و"القلق" من تدهور الأوضاع.

وعلى الرغم من عدم توقعنا لتحقيق نتائج إيجابية من هذا الحراك الدولي للتهدئة، فإن الاهتمام بالقضية الفلسطينية في الساحة الدولية بحد ذاته يمثل إنجازاً تكتيكياً للانتفاضة، لأنه يعني تذكير العالم بأن هناك صراعاً مركزياً لا يزال ينتظر ويستوجب الحل، كما أنه ينهي حالة الهدوء "الموهومة" التي قد يفهم منها انتهاء الصراع وقبول الفلسطينيين بالأمر الواقع، ويدفع المجتمع الدولي للضغط على الاحتلال لتقديم أثمان سياسية للفلسطينيين للحصول على الهدوء.

أما النتيجة "التكتيكية" الثانية للانتفاضة فهي إعادة الحراك والفعاليات الشعبية المؤيدة للشعب الفلسطيني ونضاله المشروع في العالم، وخصوصا في العواصم الغربية، حيث عمت المظاهرات الداعمة للانتفاضة والمنددة بالانتهاكات والجرائم التي يرتكبها الاحتلال عواصم الأمريكيتين وأوروبا، في مشهد يذكرنا بالمظاهرات التي حملت فلسطين ونضالها لكل مدن العالم أثناء الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة. وتمثل هذه الفعاليات إنجازاً مهما في ثلاثة اتجاهات:

الأول: مراكمة تغيير الرأي العام العالمي تجاه الصراع العربي الإسرائيلي، ونقل الرواية العربية لهذا الصراع بعد أن ظلت الرواية الصهيونية وحيدة ومتسيدة في الرأي العام العالمي، وهو ما يعني أن الرأي العام قد يمتلك وعياً مؤثراً حول الصراع سيدفعه للضغط على ممثليه في البرلمانات والحكومات لاتخاذ سياسات أكثر عدلاً، مع العلم أن الفعاليات الشعبية التي رافقت العدوان على غزة شكلت ضغطاً شعبياً على البرلمانيين الأوروبيين وكانت أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تصويت كثير من البرلمانات الأوروبية على الاعتراف بدولة فلسطين.

الثاني: تعرية كيان الاحتلال من خلال تسليط الضوء على انتهاكاتها وجرائمها، والدفع باتجاه نزع الشرعية عنها وإنهاء الأسطورة التي عملت على بنائها خلال عقود باعتبارها دولة "أخلاقية" وسط دول "بربرية"، وبأن شعبها "متحضر" بين شعوب "متطرفة ومتخلفة"، إذ أن الفعاليات الشعبية المؤيدة لفلسطين تقدم صورة أخرى للشعوب الغربية هي صورة الفلسطيني الذي يناضل لأجل حريته بمواجهة آلة عسكرية احتلالية تتجاوز كل الأعراف والمواثيق الدولية، وتمارس الإعدامات الميدانية للشبان الفلسطينيين بمجرد الشبهة.

الثالث: إعادة تأطير الصراع لحقيقته الأساسية، بعد أن تمركز الحراك الشعبي المؤيد لفلسطين عربيا وعالميا منذ سنوات حول قضية الحصار والعدوان على غزة، وهو ما أنسى رجل الشارع الغربي وربما العربي أصل الصراع، وهو الاحتلال. فالقضية الفلسطينية ليست حرباً بين "دولتين جارتين"، وليست مجرد محاولة لرفع الحصار عن مليون ونصف مليون فلسطيني في "كيان" يسيطر الاحتلال عليه جواً وبحراً، ويسيطر النظام المصري على معابره براً، في الوقت الذي تروج "إسرائيل" لانسحابها منه عالمياً، بل هي قضية شعب لا يزال يرزح تحت الاحتلال في القرن الواحد والعشرين، ولا يمكن أن يهدأ حتى إنهاء هذا الاحتلال.

واستكمالاً للنتائج "التكتيكية" المرحلية التي حققتها الانتفاضة الفلسطينية، فقد أجبر الحراك الفلسطيني دولة الاحتلال على تقديم بعض "التنازلات" لضمان عودة الهدوء، من خلال تأكيدها أكثر من مرة على أنها لا تريد تغيير "الوضع القائم" في القدس، وإنهائها فكرة "القدس الموحدة" عملياً بعد أن بدأت بوضع حواجز بين أحياء القدس الشرقية والغربية، وبمنع المستوطنين من الوجود قدر الإمكان في الأحياء التي تسكنها أغلبية عربية، إضافة إلى اضطرار حاخامات اليهود لإعادة إصدار فتاوى قديمة تمنع اليهود من الصلاة في المسجد الأقصى للحفاظ على سلامة المستوطنين ووقف الاحتجاجات والمواجهات.

ويأتي في هذا الإطار أيضاً، تلك المبادرات التي حركتها الإدارة الأمريكية حول وضع المسجد الأقصى والمقدسات، ومنها المبادرة الذي تم التوافق عليها بين وزير الخارجية كيري والأردن، وهي مبادرة - وإن كانت غير واضحة حتى الآن ويجب التحذير من كونها تحقق مكاسب إسرائيلية - إلا أنها تدفع الفلسطينيين للمزيد من النضال بهدف الحصول على مبادرات أفضل يقبل بها الشعب الفلسطيني، وتحافظ على وضع المسجد الأقصى وغيره من المقدسات وتضع حدا للتقسيم الزماني والمكاني الذي تسعى دولة الاحتلال لفرضه في الأقصى على غرار المسجد الإبراهيمي في الخليل.

وعلى أهمية هذه النتائج التكتيكية للانتفاضة، إلا أنها تحمل دلالات إستراتيجية أكثر أهمية، يجب البناء عليها فلسطينياً وعربياً لتحقيق إنجازات نوعية في الصراع العربي الإسرائيلي، وأهم هذه الدلالات:

- إعادة التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية، وعلى رمزية القدس والصراع في قلوب وعقول العرب. فعلى الرغم من انشغال العرب بقضاياهم الخاصة فإن اشتعال الانتفاضة في شوارع فلسطين أشعل مواقع التواصل الاجتماعي لدعم القضية، وأسقط من جديد جميع الأوهام لدى بعض النخب بتراجع أهمية الصراع العربي الإسرائيلي، وأنهى أيضا جميع النقاشات التي تتم في أبراج "المثقفين" العاجية حول "محلية" انشغالات المواطن العربي وانتهاء عصر الروح القومية التي تجعل من كل قضايا العرب وعلى رأسها قضية فلسطين شأنا داخليا لكل شعب عربي مهما انشغل بشؤونه و"حرائقه" الداخلية، ولكن هذا الأمر رهين بنضالات الفلسطينيين، وهم وحدهم الكفيلون بإعادة البوصلة الشعبية العربية إلى مكانها الصحيح.

لقد أدى الحراك الفلسطيني إلى زعزعة هذه المعادلة، وأثبت أن الاحتلال لا يقدم هدايا مجانية أو "حسن نوايا"، وأن "المجتمع الدولي" لا يتحرك إلا إذا أصبح الصراع يمثل أزمة له وللاستقرار الذي ينشده وللاحتلال الذي يدعمه.

وبالطبع فإن هذه الدلالات لا يمكن أن تتحول إلى نتائج عملية، إلا إذا واصل الفلسطينيون القبض على جمر نضالهم المشروع، لأجل الدفع بالسلطة إلى مراجعة نهجها السابق، الذي اعترفت هي نفسها بفشلها، وهي مراجعة ستصبح مثمرة ومنتجة إذا التزمت حركة فتح بما أقرته هي سابقا في اجتماعات "مجلسها الثوري" من تبني المقاومة الشعبية نهجا للتعامل مع الاحتلال، إذ لا مشروعية لأي حركة تحرر وطني بدون اشتباك مع الاحتلال.

أزمة نخبة

اعتقد البعض أن الشعب الفلسطيني استسلم لواقع الاحتلال وللتعايش مع الاستيطان والمستوطنين ، وأنه لم يعد معنيا بقضيته الوطنية حيث قهره الفقر والبطالة والانقسام والحصار وغياب قيادة وطنية جامعة. إلا أن الواقع يقول إن الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يستسلم للاحتلال أو يصمت لتدنيس مقدساته، وأن صمته كالجمر الخامد تحت الرماد يشتعل مع أول هبة ريح، شعبنا يُعبِر عن أصالته وحسه الوطني وينتفض في لحظات لا يتوقعها أحد.

إن الشعب الفلسطيني كطائر الفينيق ينتفض محلّقاً من وسط الرماد بعد اعتقاد أنه هلك. فعندما اعتقد كثيرون أن الشعب استسلم لواقع اللجوء والتشرد والوقوف أمام مقرات وكالة الغوث، والتبعية لهذا النظام العربي أو ذاك، نهض منتفضاً منتصف الستينيات رافعاً راية الوطنية الفلسطينية وكانت الثورة الفلسطينية المعاصرة مع حركة فتح ومنظمة التحرير بكل فصائلها، ثورة غيّرت وقلبت كل المعادلات والمخططات التي كانت تُحاك ضد القضية الوطنية.

وعندما اعتقد كثيرون أن خروج مصر من ساحة المواجهة مع إسرائيل بتوقيعها اتفاقية كامب ديفيد 1979، ثم خروج الثورة الفلسطينية من لبنان 1982 وتصفية كثير من قياداتها ومحاولة الالتفاف على الصفة التمثيلية لمنظمة التحرير الخ، قد أنهى الثورة الفلسطينية وطوى صفحتها إلى غير رجعة، نهض الشعب في انتفاضة الحجارة 1987 ليُسقِط مراهنات المتخاذلين والمتواطئين والمتآمرين حيث أعادت الانتفاضة وضع القضية الفلسطينية على سلم الاهتمامات العالمية.

وعندما اعتقد البعض أن القضية الفلسطينية ومشروع السلام وصلا لطريق مسدود بعد نهاية المرحلة الانتقالية لسلطة الحكم الذاتي 1999 وتَهَرب إسرائيل مما عليها من التزامات وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد الثانية 2000 انطلقت الانتفاضة الثانية، والتي كان من الممكن أن تكون حصيلتها أفضل مما كان لو لم تتدخل الأجندات الإقليمية وأصحاب المشاريع غير الوطنية وتنزلق الأحزاب نحو حسابات مصلحية ضيقة.

الشعب الفلسطيني هو نفسه من حيث أصالته واستعداده للتضحية، على الرغم من تردي أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية وشدة وطأة الاحتلال والحصار. الشعب الفلسطيني لم يتغير ما بين الأمس واليوم، ما تغير للأسوأ هو العالم العربي الذي تخلى عن مسؤولياته تجاه القضية الفلسطينية، والمجتمع الصهيوني الذي يزداد تطرفا وإرهابا، والنخب الفلسطينية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وارتباطاتها وشبكة مصالحها.

الشعب لم يقصر ولم يتخاذل يوما وكان دوما معطاء ويلبي نداء الواجب الوطني متى دعته القيادة الوطنية سواء لثورة أو انتفاضة أو لدعم جهود دبلوماسية وسياسية، بل ويأخذ المبادرة لحماية قضيته الوطنية وقيادته عندما تتعرض القيادة السياسية للحصار والتآمر، ولكن ليس دوما تتوافق وتتطابق حسابات الشعب مع حسابات النخبة السياسية والقيادة.

لم يشهد التاريخ الحديث للشعب الفلسطيني افتراق وتباعد النخبة عن الشعب كما هو حاصل اليوم ،بحيث باتت خيارات الشعب وحساباته غير خيارات النخبة السياسية وحساباتها، هذا الافتراق نلمسه في كيفية التعامل مع الانتفاضة الراهنة. ففي الوقت الذي تتخبط فيه النخب السياسية في الانقسام وتداعياته، وفي البحث عن منافذ للخروج من مأزق خياراتها التي تفردت بها بعيدا عن التوافق الوطني، وفي الوقت التي تتصارع النخب حول السلطة ومنافعها، في هذا الوقت انتفض الشعب ،ليس لأنه مُحبط بل ليدافع عن أرضه ومقدساته وكرامته، ولأنه لمس عجز الأحزاب والنخب السياسية عن حمايته والتهائها بالانقسام وتداعياته والسلطة ومنافعها، ولمس محدودية تأثير المقاومة المسلحة وصواريخها وأنفاقها ،ومحدودية مردود المراهنة على الشرعية الدولية وقراراتها.

في مقابل عظمة الشعب تقف النخب السياسية والأحزاب موقفا مترددا ومرتبكا من الانتفاضة الراهنة ،حيث ما زالت النخب والأحزاب وفئة من المثقفين مترددة حتى في تسميتها بالانتفاضة، بل تخوض جدلا بيزنطيا عبثيا حول إن كانت هبة أو انتفاضة أو حالة غضب؟! وهل من الأفضل أن تبقى سلمية أو تتحول للعمل المسلح ؟! متجاهلين أن كل الثورات في العالم ككرة الثلج المتدحرجة، تبدأ بحراك شعبي محدود ثم يتحول لهبة ثم لانتفاضة ثم لثورة عارمة، ولا توجد معايير ومقاييس دقيقة للتفريق بين الحراك الشعبي والهبة والانتفاضة.

هذا الموقف المتردد للنخب السياسية والأحزاب مما يجري في الضفة والقدس، وعدم انخراط الأحزاب بقوة وبكل ما تملك في الانتفاضة سواء في الضفة وغزة، واقتصارها على التأييد اللفظي إنما يكشف الواقع البائس لهذه النخبة وانشدادها لمصالحها وخوفها عليها أكثر من انشدادها للمصلحة الوطنية.

ترويع المستوطنين الصهاينة

يسيطر الخوف على كل مستوطن في أي بقعة من أراضي فلسطين التاريخية. فهو إما معرض للطعن بسكين أو أي بآلة حادة أخرى، أو للدهس بسيارة أو بلدوزر، أو للإصابة- في أحيان متفرقة- بإطلاق النار. وبذلك خلقت "الهبة الفلسطينية" حالة من الخوف والرعب في أوساط المستوطنين. وعلى الرغم من قلّة عدد القتلى الإسرائيليين حتى الآن مقارنة بالانتفاضتين الأولى والثانية، إلا أن كثيراً من المستوطنين بات "يموت خوفاً"! هذا علاوة على النتائج المتعددة الناجمة عن "هبة الترويع" الفلسطينية.

في المقام الأول، تفاقمت حالة الخوف بسبب حقيقة كون عمليات الاحتلال قد أدخلت المستوطنين في أحشاء المناطق الفلسطينية، الأمر الذي أنهى أي حل إسرائيلي عبر إقامة جدار فاصل مثلا في الأحياء العربية في القدس الشرقية، ناهيك عن القدس القديمة. ولأن جرثومة الاستعمار (الاستيطان) تستشري بعد أن لم تتوقف للحظة واحدة، بتنا نجد في البلدة القديمة أبنية شبه متلاصقة يسكنها فلسطينيون و"مستوطنون". وبحسب آخر الإحصائيات الصادرة عن "هيئة مقاومة الجدار والاستيطان"، فقد استولى المستوطنون على 93 من البيوت استيلاءً كلياً أو جزئياً في مدينة القدس. كذلك، فإن جدار الفصل العنصري والخراسانات الإسمنتية التي زرعها الجيش الإسرائيلي على مداخل الأحياء العربية في القدس الشرقية ستشطر المدينة وتجعلها غير موحدة، وهذا ما لا ترغب به الدولة الصهيونية.

أما العامل الأساسي الثاني في صنع حالة ترويع الإسرائيليين، فجوهره يكمن في تداخل الحياة في المجتمع الاحتلالي برمته، وبالذات مع وجود "عمالة فلسطينية" مهمة (تبلغ نحو 200 ألف عامل) تنشط في مهن مختلفة في أحشاء المجتمع الإسرائيلي. وهذا الواقع جعل الخوف متبادلا، فكما يخاف "المستوطن" من الفلسطيني، يخاف الفلسطيني من الإسرائيلي، مما يعزز الشعور بالشك وخشية المجهول. وقد ترسخ الرعب الذي لم يعتد عليه المجتمع الإسرائيلي (على عكس الحال عند الفلسطينيين)، مما أجبر جيش الاحتلال على فرض حصار على أحياء عربية بأكملها في القدس، فيما شجعت سلطات الاحتلال الإسرائيليين على اقتناء السلاح الفردي، وبدأت المؤسسات الحكومية والخاصة والمجمعات التجارية والمدارس وغيرها باستحداث حراسات خاصة. بل إن القناة الإسرائيلية الأولى أكدت أن الأحياء اليهودية في القدس المحتلة (كما في تل أبيب أيضاً) تبدو كما لو كانت مدن أشباح: "الخوف يستبد بالإسرائيليين على نحو غير مسبوق. الكثير منهم في بعض الأحياء اتفقوا على المشي في جماعات خشية تعرضهم لهجوم ينفذه شاب فلسطيني يحمل سكيناً، فيما هجر العديد منهم أماكن سكناهم ولجؤوا إلى المدن الساحلية". ولقد وصل الخوف حد إقدام صحيفة "مشباحا" التابعة "للحريديم" على نشر نص باللغة العربية حمل عنوان "توقفوا عن قتلنا نحن لا نحج إلى (جبل الهيكل)"، جاء فيه: "لن تشاهدوا أبداً حريديم يصعدون إلى (الجبل)"، وهو ما يعد أسلوباً استثنائياً يدل على المستوى الذي بلغه الخوف الإسرائيلي. بل إنه وفي أحدث استطلاعات الرأي الإسرائيلية أجرته قناة الكنيست، اتضح أن 50% من الإسرائيليين المشاركين في التصويت يؤيدون نقل مسؤولية الأحياء العربية في القدس الشرقية إلى السلطة الفلسطينية.

أما ثالث أبرز العوامل التي جعلت الخوف الإسرائيلي يصل إلى درجة الذعر، فهو كون الشبان الفلسطينيين الذين يقدمون على عمليات الطعن أو الدهس غير معروفين، بل ربما كانوا ممن يعتبرهم الإسرائيليون "من الموثوق بهم"، وهو الأمر الذي يزيد من عنصر المفاجأة. ذلك أن أحداً منهم ليس لديه "سوابق فدائية" أو "سوابق جهادية". فهؤلاء، بالتعابير السياسية والإعلامية الإسرائيلية، "ذئاب متوحدة" لا يضمها إطار تنظيمي، مما يجعل مهمة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية جد معقدة وربما مستحيلة. وبحسب صحيفة "معاريف" فإن "أعداد المتوجهين إلى مراكز الدعم النفسي في إسرائيل ارتفعت بنسبة 100%، ذلك أن غالبيتهم تتحسس من هواجس عمليات الطعن والعداء والكراهية. بل لقد بلغت نسبة تغيب الإسرائيليين عن أعمالهم الحد الأعلى منذ 30 عاماً. كما قدرت شرطة الاحتلال، يومياً، استقبال 30 ألف اتصال من إسرائيليين للتبليغ عن عمليات واشتباهات"، وهو ما يفسر مقتل يهود بنيران "صديقة" (أي على أيدي اليهود أنفسهم) كما حدث في بئر السبع وهروب الجنود بدل أن يدافعوا عمن حولهم.

وفي الختام، يجدر تذكير الذين ينتقدون ويعتبرون أن الشباب الفلسطيني من حملة السكاكين والداهسين يضيعون مستقبلهم لمجرد جرح أو إخافة "مستوطن" أو جندي صهيوني هنا أو هناك، بأن "هبة الترويع" هذه حققت- رغم الثمن الغالي- إنجازات عديدة حتى الآن، وبأن شباباً وصبايا من أبناء الشعب الفلسطيني قرروا المبادرة بعد أن تمت تجربة كل الطرق: الكفاح المسلح الذي تبين أنه مكلف جداً، والمفاوضات (بعد الوعود الدولية قبل الإسرائيلية)، والتي تحولت إلى مجرد مفاوضات لشراء الوقت لمزيد من "الاستيطان" والتهويد. واليوم، يجرب الشبان الفلسطينيون طريقاً ثالثة تقع في نقطة ما بين الانتفاضتين: الأولى والثانية.. فهل نمجده أم نلومه؟!.

اعلى الصفحة