انتفاضةٌ فلسطينية جديدة لجيلٍ جديد

السنة الرابعة عشر ـ العدد 167 ـ (محرم ـ صفر 1437 هـ) تشرين ثاني ـ 2015 م)

بقلم: ازدهار معتوق(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

"خطابٌ جميل سيادة الرئيس، لكننا لا نعترف بالقدس الشرقية والقدس الغربية. نحن نعرف أن القدس واحدة، غير مقسّمة، وأن كل جزء فيها مقدّس. اعذرني سيادة الرئيس، لكن ما يحدث لنساء الأقصى وللأقصى نفسه لن يتوقف بالوسائل السلمية. نحن لم نكبر لكي نُهان".

هذا ما جاء في رسالة مهنّد الحلبي قبل أن يقوم بطعن يهوديين في الحي القديم من مدينة القدس ليُستشهد بعدها، التي وجهها إلى محمود عباس الذي اتهم إسرائيل في خطابه بالأمم المتحدة بفتح أبواب مجمّع الأقصى أمام المتطرفين.

كانت رسالة الشاب ذي الأعوام التسعة عشر واضحة: "لقد انتهى وقت الكلام.. الانتفاضة الثالثة قد بدأت بالفعل"، هكذا قال الشاب.

الحلبي يتحدث بالنيابة عن جيله. ولد بعد سنة من توقيع اتفاقية أوسلو الثانية في طابا، وهي الاتفاقية التي أسست سلطةَ الحكم الذاتي المؤقتة في الضفة الغربية وغزة. حين كان عمره أربع سنوات، كان من المفروض أن يرى اتفاق سلام شامل يتضمن تنازل إسرائيل عن هذه المناطق مقابل السلام. حين كان حلبي في السابعة، بدأت إسرائيل ببناء جدار الفصل العنصري، وحين كان في الثامنة، استشهد ياسر عرفات لتتخلص إسرائيل من قائدٍ وصفته بـ"ذي الوجهين"، وليحل محله محمود عباس المتمسك بمعارضة العنف.

كان من المفروض أن يشهد جيلُ حلبي السلامَ. كان من المفروض أن يستفيد من الخطط التي كانت تتحدث عن إعادة بناء اقتصاد الضفة الغربية. لكن ما شهده هذا الجيل كان 600 ألف مستوطن، الاختفاءَ التدريجي للقدس الشرقية، الشرطةَ الفلسطينية التي انحصر دورها في إيقاف الاحتجاجات والانتهاكات اليومية لليهود الإسرائيليين الذين ادّعوا في البداية أنهم سيّاح في الأقصى. بدلاً من استقرار نهائي، شهد جيل الحلبي الضياع الأخير لكلّ أمل.

كل هذه الأسباب تجعل ما يحدث انتفاضةً، وهي أسبابٌ أكثر أهميةً من أعداد القتلى أو المصابين أو من ظاهرة الطعن بالسكاكين التي تظهر في جميع أنحاء فلسطين. الجيل الجديد يحاول أن ينفضَ عنه من قام باحتلاله. الجيل الجديد أعاد اكتشاف نضالَ أجداده. ما سيحدث في الأسابيع، الأشهر أو حتى السنوات القادمة سيصبح نضال هذا الجيل.

الأقصى رمزٌ الهوية الوطنية

الشرارة التي أطلقت هذه الانتفاضة هي الأقصى، الرمزُ الذي تتعرض حجارته، واحداً تلو الآخر، لهجمات السياسة العنصرية الإسرائيلية. على الرغم من قرار الحاخام الأكبر بحظر دخول اليهود إلى الأقصى الذي يُعرف لديهم باسم "جبل المعبد"، يتغير الوضع الراهن للأقصى. الوقف- وهو المؤسسة الإسلامية التي يديرها الأردن والقائمة على إدارة الأماكن المقدسة- لم يعد يأخذ أجور الدخول ولم يعد قادراً على منع غير المسلمين من العبور عبر البوابة التي يتحكم بها الإسرائيليون.

ذكر تقريرٌ نشرته "مجموعة الأزمات الدولية" مؤخراً، "على الرغم من أن الوقف مستمرٌ في التعاون مع الشرطة لتطبيق قرار منع الصلاة اليهودية، إلا أنه لم يعد قادراً على تحديد حجم الجماعات اليهودية أو على تحديد معدل دخولها إلى الأقصى، كما لم يعد قادراً على منع دخول ناشطين يهوديين معينين يعتبرهم الوقف محرضين على العنف. سمحت إسرائيل بدخول اليهود إلى الأقصى في مجموعات تتراوح بين 30 و50 شخصاً، بما فيهم اليهود الذين يرتدون ملابس الجيش الإسرائيلي، وهو ما كان ممنوعاً في السابق". بحلول عام 2012، تم تصوير أعضاء الكنيست، نواب الوزراء والوزراء وهم يُعلنون السيادة الإسرائيلية على الأقصى كله.

بالنسبة للحلبي وجيله، ليست هذه قضية دينية فقط، فالأقصى رمزٌ للهوية الوطنية، وهو الرمز الأخير الذي يمثل هوية غيّبتها الدولة الإسرائيلية بشكل شامل. الأقصى يوحِّد الفلسطينيين المتدينين والعلمانيين. كان أوائل الفلسطينيين الذين هاجموا المتدينين اليهود بسبب الأقصى ينتمون لجماعة ثورية علمانية، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. إن الدفاع عن الأقصى ضد انتهاكات اليهود القوميين-المتدينين هو مسألة وجودية، إنها تقول للفلسطينيين: "إن لم نحارب لأجل هذا، فعلينا الاستسلام إذاً".

لم يكن الحلبي بحاجة إلى تحريض، ولم ينتظر أوامرَ من أحد. لقد اتخذ قراره الشخصي مثلما يفعل آلافٌ آخرون بصرف النظر عما إذا كانوا يعيشون في الضفة الغربية، غزة أو إسرائيل.

كلتا الانتفاضتين، الأولى والثانية، أخذتا القيادة الفلسطينية على حين غرة. الأولى بدأت حين اصطدمت شاحنة عسكرية إسرائيلية بباص صغير يُقل عمالاً فلسطينيين، ما أدى إلى مقتل أربعة منهم. الثانية أشعلها آرييل شارون الذي كان ضمن صفوف المعارضة حينها، حين ظهر في الأقصى مع ألف ضابط شرطة إسرائيلي وكرر العبارة التي أذيعت حين قام الجيش الإسرائيلي بالسيطرة على القدس خلال حرب يونيو/حزيران من عام 1967: "جبل المعبد في أيدينا". لكن في كلتا الانتفاضتين، قامت القيادة الفلسطينية بتسلم زمام الأمور بعد أيامٍ من انطلاقتهما.

جمال زقوط الذي كتب "البيان الرسمي الثاني" نيابة عن "القيادة الوطنية الموحدة" لانتفاضة عام 1987 يذكِّرنا بهدفها: "إن القيادة الوطنية الموحدة تعتبر الانتفاضة وقيادتها والناشطين في قاعدتها جزءاً لا يتجزأ من منظمة التحرير الفلسطينية وليست بديلاً لها". اليوم لا تعرف منظمة التحرير الفلسطينية- تحت قيادة محمود عباس- ما يحدث ولذلك بالضبط تصارع للسيطرة على الموقف.

يظهر استطلاعٌ للرأي أجرته منظمة بالتعاون مع الباحث في العلوم السياسية، خليل شقاقي، أن 42% من الفلسطينيين يعتقدون أن الكفاح المسلح وحده سيقود إلى دولة فلسطينية مستقلة، وأن 57% منهم لم يعودوا يؤمنون بأن حل الدولتين ممكن. بينما قال ثلثا عدد الفلسطينيين الذين شاركوا في استطلاع الرأي أنهم يريدون استبدال عباس برئيس جديد.

الجيل الجديد يتخذ قراراته الخاصة، متحدياً فتح وحماس. إن كانت ثمة صورة تلخص هذا، فستكون صورة الفتاة التي ترتدي الجينز والكوفية بينما تُناول حجارةً لشابٍ مقنّعٍ يرتدي عُصابة الرأس الخضراء التي يرتديها أنصار حماس. الشباب العلماني والمتدين يحتجون جنباً إلى جنب، وكل شابٍ يحمل سكيناً أو يرمي حجراً هو بطلهم الخاص.

هذا يشكل خطراً خاصاً على إسرائيل، فهي تستطيع التعامل مع الجماعات عبر اعتقال قادتها أو اغتيالهم ثم التفاوض لأجل وقف إطلاق النار، لكنها لا تستطيع منع الأفراد من اتخاذ قراراتهم الخاصة. تستطيع فقط أن تستفزهم أكثر باللجوء إلى تدمير المنازل أو إلى أي عقاب جماعي آخر.

ثمة عوامل أخرى خاصة في هذه الانتفاضة. كانت الانتفاضتان الأولى والثانية نشيطتين في الضفة الغربية وغزة، فالمواطنون الفلسطينيون الإسرائيليون الذين كانوا موجودين منذ عام 1948 شاركوا في الاحتجاجات التي حدثت في بداية الانتفاضة الثانية لكنهم سرعان ما توقفوا. منذ يوم الأرض لعام 1976، لم يشارك فلسطينيو 1948 بشكل فعال في الاحتجاجات الشعبية. في ذلك اليوم، الثلاثين من مارس/ آذار من عام 1976، خرج آلاف الفلسطينيين من منطقة المثلث الشمالي في مسيرة احتجاجاً على مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي كجزء من سياسة علنية لتهويد المنطقة.

لكن اليوم، لا يوجد جدارٌ أو حدودٌ توقف الانتفاضة، فهجمات الأسبوع الماضي وقعت في مناطق لا تسيطر عليها منظمة التحرير الفلسطينية: القدس الشرقية، افولا وتل أبيب. ثمة عوامل أخرى أيضاً، فهذه هي الانتفاضة الأولى التي لا ينتظر فيها الفلسطينيون تدخلاً من الدول العربية المجاورة، ربما بسبب الفوضى التي عصفت بهذه الدول أو لأن الزمن تغير.

حتى الآن تنحصر ردة فعل إسرائيل على الانتفاضة في فقدان الثقة في رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، والرغبة في اللجوء إلى قادة يمينيين أكثر تزمتاً.

يظهر استطلاع الرأي الذي نشرته صحيفة يديعوت احرونوت أن 73% من الإسرائيليين غير راضين عن تعامل نتنياهو مع الهجمات الأخيرة. وحين سُئل الإسرائيليون عن السياسي الأفضل للتعامل مع هذه الهجمات، أتى زعيمان من القوميين الأكثر تطرفاً في المركزين الأول والثاني: وزير الخارجية السابق أفيغدور ليبرمان، ووزير التربية (المؤيد لسياسة التوطين) نافتالي بينيت. حين كان ليبرمان وزيراً للخارجية، كلف المحامين بدراسة خطة لنقل فلسطينيي شمال إسرائيل إلى الدولة الفلسطينية.

لكن الكيان الصهيوني يحرض الإسرائيليين على تنفيذ القانون بأيديهم. يبدو أن المجتمع الإسرائيلي المدجج سلفاً بالسلاح - في عام 2013 مُنح 160 ألف ترخيص حمل السلاح لمواطنين إسرائيليين، كما منح الترخيص ذاته لحوالي 130 ألف منظمة - سيزداد تسليحاً. تجري عملية التسليح في القدس بتشجيع واضح من عمدتها، نير باركات الذي قام مع حراسه الشخصيين بالتسبب في إعاقة فلسطيني كان قد طعن رجلاً إسرائيلياً في الشارع. شوهد باركات بعدها في حي بيت حنينا الفلسطيني حاملاً بندقية. عصابات الانتقام الإسرائيلية ظهرت بالفعل، وهي تقوم بإطلاق النار على العمال الفلسطينيين في شوارع القدس، كما تخطط للمضي إلى المناطق التي سيعمل فيها عمال النظافة الفلسطينيون.

كل مكوّنات الصراع الدموي الطويل متوفرة، صراعٍ سيشهد مقتل آلاف الأبرياء من الطرفين. يبدو أن إسرائيل اكتشفت السر الذي حيّر أجيالاً من علماء الفيزياء: سر الحركة الدائمة. كلما هنأت قوات الأمن الإسرائيلية نفسها على إخمادها لانتفاضة، تنطلق انتفاضةٌ أخرى. وفي كل مرة، يشعل جيلٌ آخر من الفلسطينيين الشعلةَ بتجربتهم الخاصة من اليأس، فقدان الأمل والذل.

ثمة مخرج واحد لدائرة القمع والمقاومة هذه. على اليهود الإسرائيليين النظر إلى أنفسهم في المرآة ويتصالحوا- على قدم المساواة- مع الشعب الذي يشاركهم نفس الأرض، وذلك لسبب واحد فقط: الفلسطينيون باقون هنا، جيلاً بعد آخر.

إعادة القضية إلى مكانتها

في المكالمة الهاتفية التي أجراها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طلب وزير الخارجية الأمريكي جون كيري عدم التصعيد فرد عليه بأن على السلطة أن توقف التحريض.. وفي مكالمته مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس طالبه بوقف التصعيد فقال له أبو مازن نحن لا نصعد بل هم الذين يواصلون استفزاز شعبنا ويتعاملون معه بعنف، فقال كيري إنه "يفهم ذلك ولكن يجب بذل الجهود". حماس من جانبها أبلغت "إسرائيل" أنها ما زالت ملتزمة بالتهدئة، نتنياهو غير معني بالتصعيد ولا السلطة ولا حماس؟ فمن الذي يصعِّد ويرد على الإرهاب اليهودي؟

إنهم جيل الشباب أو بالأحرى جيل أوسلو الذي ولد بعد اتفاق أوسلو مثلما أشعل الانتفاضة الأولى الجيل الذي ولد تحت الاحتلال ذلك الجيل الذي اتهم ظلماً في حينها أنه بدأ يتحدث العبرية وهجر وطنيته لصالح العمل داخل الكيان "الإسرائيلي"، لكن المفاجأة أنه كان الجيل الذي تحدى الاحتلال بصدور عارية مثله مثل الجيل الذي ولد مع أوسلو فهو الذي يخوض منذ سنوات معركة ضد سياسة القبضة الحديدية والاستيطان واقتحام المقدسات كالمسجد الأقصى. وهو الجيل الذي يمارس الطعن ويقاتل بيديه في المدينة أمام جنود مدججين بالسلاح ومستوطنين مدججين بالحقد والكراهية والعنصرية إضافة إلى السلاح.

حتى الآن لا أحد يعرف المدى الذي ستصل إليه الأمور في الأراضي الفلسطينية، فمن جهة حاولت حماس في البداية توجيه خطابها الإعلامي الناري إلى الضفة على أمل حدوث انتفاضة تقلب الأوضاع لكن شعب غزة سرعان ما تضامن مع الضفة على الرغم من الجغرافيا الميتة التي تمنعه من الوصول إلى مواقع الاحتلال خلف السياج الحدودي، وهذا الزحف الاستشهادي نحو السياج لجم كل الفصائل بما فيها حماس التي ألقت اللوم على الحصار الذي يمنعها من الرد وليس التمسك بالتهدئة.

أما حركة فتح التي يقود شبانها المواجهات منذ البدء فهي لا تسيطر على جماهيرها كما أن قادة ووزراء في السلطة أيدوا حتى الرد بالعمل المسلح ضد الاحتلال ولم يكن بوسع قيادة السلطة أن تطلب من الشبان الانسحاب من المواجهات لأنها هي من يطالب بالمقاومة الشعبية للاحتلال لكنها سعت إلى منع عمليات عسكرية.

في حسابات الربح والخسارة يقول البعض إن هذه الهبة على الرغم من عدم الإسناد العربي والإسلامي لها إلا أنها أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الإعلام والأحداث بعد التراجع المخيف الذي لحقها وسط تلاطم أحداث سوريا والعراق وليبيا واليمن، وسلطت الضوء على قضية المسجد الأقصى والقدس التي ظن الاحتلال أنه استطاع ترويضها وفرض هيمنته عليها بتشريع قوانين قمعية ضد البشر والحجر والشجر تتضمن اقتراحات بسجن من يلقي حجارة لمدة عشرين سنة وسحب المواطنة المقدسية من ذويه، وهدم المنازل. وتضمنت العقوبات التي تمت الموافقة عليها يوم الأحد الماضي سجن الأطفال وفرض غرامات باهظة على ذويهم. لكن هذه القبضة القمعية وجدت ردوداً فردية موازية كعمليات الطعن والاحتجاجات اليومية.

ويحاول نتنياهو وقد دب الرعب في صفوف "الإسرائيليين" حيث أفاد استطلاع للرأي أن أغلبية اليهود لا يشعرون بالأمن، أن يرضي جمهوره من خلال حشد المزيد من قوات الاحتياط لفرض الأمن بالقمع، لكن كما يبدو من استطلاعات الرأي فإن اليهود بدأوا ينظرون إلى نتنياهو وكأنه رئيس وزراء فاشل، فشل في حربه على غزة ويفشل في مواجهة الهبة التضامنية مع المسجد الأقصى، وهو يحاول الآن تشديد قبضته على القدس وخاصة البلدة القديمة والمسجد الأقصى وتفريغ الحرم القدسي من المصلين والمعتكفين ومصاطب الدرس.. بمعنى آخر أنه يحاول فرض هيمنة الاحتلال الكاملة على البلدة القديمة داخل الأسوار وإخلاء المسجد الأقصى من المدافعين عنه.

لكن هناك من يقول إن قعقعة السلاح من الجانب الفلسطيني سرعان ما ستندلع إذا تواصلت الحملة القمعية الاحتلالية والتي طالت الفلسطينيين داخل الكيان وقد هبوا أيضاً لنصرة المسجد الأقصى، وبدأ الاحتلال بمنع قوافل المصلين من مدن الداخل إلى المسجد الأقصى. لكن هناك من ينتقد حمل السلاح إن وجد لأن الضفة منزوعة السلاح عملياً بعكس غزة ويقول إن الميدان العسكري هو الميدان المفضل للاحتلال. وفي هذا السياق ظهرت لهجة سياسية "إسرائيلية" جديدة تدعو لاعتبار الفلسطينيين داخل الكيان كفلسطينيين وليسوا "إسرائيليين" يحملون الجنسية "الإسرائيلية" بمعنى آخر لا يتمتعون بحقوق المواطنة.

في النهاية هناك من يتوقع أعمالاً عسكرية مغامرة قد يقدم عليها نتنياهو في الضفة وغزة لإعادة الاعتبار لنفسه، وهناك من يقول إن أصابع إيران بدأت بالتحرك سواء في غزة أو الضفة، بل يقال إن من نفذ عملية شرق نابلس هو جناح من كتائب الأقصى مرتبط بإيران كما أن حماس وضعت حركة الصابرين الموالية لإيران في غزة والتي شاركت في تظاهرات غزة تحت المراقبة وتعرض أحد قادتها للطعن من قبل عناصر حماس في إحدى التظاهرات.

انتفاضة الجيل الجديد

موجة الإعدامات البطيئة بحق الأطفال في القدس، والرقصة السادية حول الطفل أحمد مناصرة وهو يصارع الموت، وتصوير ذلك وتسهيل نشره، قد أوضح الصورة وجعل مستقبل الانتفاضة والمواقف منها واقعاً، وأعاد تركيب المشهد، كما فرض جملة اعتبارات جديدة.

هذه الإعدامات بحق الأطفال، والفتيان تحديداً، لا تعبّر عن مجرد حقد ومحاولة قمع لانتفاضة سلاحها الحجر وما تيسر في المنزل من أدوات، بل هي سياسة مدروسة ومتعمدة اتخذت بعد أن تابعت الحكومة الإسرائيلية الأحداث في الأيام العشرة الأخيرة وخرجت باستنتاجاتها. هذه الحكومة حتى الأمس القريب ظنت أن انطلاق انتفاضة ثالثة شاملة تربط الضفة المحتلة بقطاع غزة وبالداخل الفلسطيني احتمال صعب وبعيد. بل إن بنيامين نتنياهو بدأ يقدم نفسه إلى جمهوره وهو مطمئن إلى أنه الذي استطاع أخيراً تطبيق فكرة "السلام الاقتصادي"، على اعتبار أن هناك "استقراراً أمنياً" لم يسبق له مثيل، على الرغم من استمرار الاستيطان وتعطيل ما يسمى "عملية السلام".

هي الطمأنينة التي عبّر عنها تصاعد عمليات المستوطنين بالقتل والحرق والإهانة للفلسطينيين دون خشية من رد فعل مقابل، وعبّرت عنها المحاولة الجدية لتقسيم المسجد الأقصى زمنياً ومكانياً. بمعنى آخر: بدت كل من السلطة و"إسرائيل" في السنوات الأخيرة على يقين بأنهما استطاعتا أخيراً إنتاج ما يسمى "الفلسطيني الجديد" المدجن الذي يعيش من أجل نفسه كفرد، وهو الذي لم يحركه عدوان عام 2014 على قطاع غزة كما يجب، على الرغم مما شاهده من فظائع، لذلك لن يحركه اصطدام محدود هنا أو هناك.

أيضاً، ساد تقدير أمني إسرائيلي في السنتين الماضيتين عبّر عنه التقرير الاستراتيجي لما يسمى "معهد أبحاث الأمن القومي" لعامي 2014ــ2015، يصف منفذي العمليات الفردية بـ"الذئاب المنفردة"، وكلمة منفردة هنا لها دلالة سياسية وأمنية، أي إن هذه العمليات تنفذ بدافع فردي غير منظم. وعلى الرغم من صعوبة التعامل الاستخباري معها، فإنها تبقى غير شاملة، وكذلك تبقى تداعياتها بسيطة. هنا تحديداً تمثلت المفاجأة بالنسبة إلى نتنياهو، فهذا الفعل الفردي استطاع في النهاية تحريك الشارع لينتقل من الفردية إلى العمل الجماعي، وليشمل بقية الضفة ويمتد إلى غزة وحيفا والناصرة. عنصر المفاجأة الأقوى بالنسبة إلى العدو، والذي دفعه إلى ممارسة الإعدام الميداني وتصويره وبثه، تمثَّل في طبيعة الفئة العمرية الفلسطينية التي كانت خلف مراكمة هذا الفعل الذي تحول إلى انفجار شامل، وهي بين 15 - 20 عاماً.

هذه الفئة بالمفهوم السوسيولجي لا تزال خارج إطار الهموم المعيشية والاقتصادية، أي أنها على هامش النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي تم بناؤه في السنوات العشر الأخيرة، والتغيير بالمفهوم السياسي غالباً يأتي ممن يسكنون هذه الهوامش، لأنهم يتبعون فطرتهم وعفويتهم النقية، بعيداً عن حسابات الربح والخسارة ودراسة الظروف ومدى ملاءمتها، أي إن تحركهم يمكن وصفه بـ"الجنون الجميل"، الذي بغيره لا يمكن صنع المعجزات والتفوّق على الذات وواقعها البائس.

هو جيل في سن الورد، وتفوّق على نفسه وعلى واقع شعبه وقياداته البائسة، فركل برجله أسوار تلك المزرعة السعيدة بما فيها من ذل، وقد اعتقد القادة أنهم أدخلوا الشعب بأكمله إليها، لتنحصر حياته بين الخروج صباحاً سعياً وراء رزقه، ثم يعود في المساء يثرثر وينام محتضناً هزيمته ومنسجماً مع ذلّه. هذا الجيل رقع الثقوب التي أحدثوها في وعي الناس وأسقط الثقافة اللاوطنية التي بدأت تتغلغل في إعلامنا ومقالات جزء كبير من مثقفينا، وهو الجيل الذي بعشرة أيام فقط أخرجنا من فقاعة الوهم ووضع حداً لغسل الأدمغة. خرج هؤلاء الفتية والشباب ليقولوا إن قضيتنا الأساسية وطن محتل نريد استرداده، وليس بحثاً عن دولة في الفراغ. وربما هي سخرية القدر أن تترافق الإعدامات بحق أبناء هذا الجيل مع صور محمود عباس وهو يفتتح شركات اقتصادية ويوقّع اتفاقات تجارية. ليس هناك أكثر من هذا المشهد وضوحاً وتلخيصاً للحالة السياسية الفلسطينية الراهنة التي يخشى العدو أن تتغير على أيدي هؤلاء الشباب، فالقيادة استبدلت الوطن بدولة من وهم وعقود تجارية، وثمة جيل صغير يعاند ويحاول العودة بالقضية إلى جذورها.

ليس في الأمر مبالغة لو قلنا إن هذه الانتفاضة تستحق أن تسمى عن جدارة "انتفاضة الوعي"، الوعي الذي يخيف الاحتلال أكثر من الموت. لذلك فإن نتنياهو هاجم واحتج عند السلطة على إعادة بث أغاني الانتفاضة الأولى، وعلى ما يقال في مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن يوجعه الحجر والسكين، لأنه لا يريد لهذا الوعي أن يعود. ربما الساسة الإسرائيليون اليوم يفكرون في أنه كيف لجيل لم يعاصر حتى الانتفاضة الثانية أن يستلهم بكل هذه البساطة روح الانتفاضة الأولى ويتخذ من وسائلها وسائل له، وهو الاستلهام الذي يمكن أن نلاحظ آثاره في حديث الفلسطينيين اليوم وانفعالاتهم وروح التضامن بينهم.

لهذا كله، يستهدف العدو هذه الفئة وهذا الجيل، ويمارس ضده حرباً استباقية قبل أن ينجح في إدارة البوصلة الوطنية إلى مسارها الصحيح، لذلك يأتي تصوير الفيديوهات لعمليات الإعدام ونشرها كعمل غير عفوي، بل هي سياسة موجهة في الأساس إلى الأمهات والآباء حتى يجبرهم الخوف والرعب على سجن أبنائهم في البيوت، وهذا ما يفسر عمليات الإعدام. إنها حرب استباقية ضد هذا الجيل، وضد عودة الوعي. لكن، وبعد أن أخذت الأحداث مسارها ودخلت هذا التطور، يجب على الشباب أن يأخذوا نفساً عميقاً ليفكروا كيف عليهم أن يديروا دفة هذه الانتفاضة من دون أن يعيدوا أخطاء الماضي. وكلمة السر هنا تكمن في التمنّع عن الانجرار وراء الغضب الأعمى والدخول في سباق الفعل ورد الفعل، أو القتل مقابل القتل، لأن هذا سيحرف الانتفاضة عن مسارها الصحيح، وسينقلها فجأة من نموذج الانتفاضة الأولى إلى ضياع الانتفاضة الثانية. المطلوب هو التمسك بشعبية الأحداث ووسائلها السائدة حتى الآن، وابتداع أساليب نضالية جديدة لا تقتصر على المواجهة المباشرة، بل تتيح المجال لكل الفئات العمرية والاجتماعية، من رجال ونساء ومحامين وأطباء وعمال، للمشاركة كل من موقعه وقدرته. كذلك يجب الحذر من الوقوع في دائرة رد الفعل حتى لا يفرض العدو أسلوب المواجهة وشكلها.

على الصعيد الداخلي، إن استمرار الانتفاضة وتنوّع أساليبها واتساع الفئات المشاركة فيها هو الكفيل بإفراز واقع سياسي جديد، وقيادة محلية جديدة. هنا على الأحزاب وقيادتها التقليدية السير خلف هؤلاء الشباب وتبنّي برنامجهم بعيداً عن منطق الوصاية، فهي الانتفاضة التي عليها أن تسقط أوسلو ثقافياً، بالتخلص من ثقافة الاستهلاك والفردية الضيقة والفهلوة والنفاق الاجتماعي، ثم إعادة الاعتبار للأولويات الوطنية ولثقافة التضامن والانسجام بين الفلسطينيين.

باحثة في علم الاجتماع السياسي(*) 

اعلى الصفحة