فلسفة البكاء على الحسين(ع) وأهدافه

السنة الرابعة عشر ـ العدد 166 ـ ( ذو الحجة ـ محرم 1436 هـ) تشرين أول ـ 2015 م)

بقلم: الشيخ الدكتور محمد شقير

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تعد ظاهرة البكاء على الإمام الحسين (ع) وما حصل في كربلاء أمراً حاضراً في مجالس عاشوراء, حيث يجري التأكيد على ثنائي الدمعة والفكرة, أو العِبرة والعَبرة, لِيكون البكاء احد أمرين أساسيين يختزلان فلسفة عاشوراء, وهو ما يستثير العديد من الأسئلة لدى القريب أو البعيد, أنه لماذا هذا البكاء على الإمام الحسين(ع)؟ ولماذا التأكيد عليه؟ وما هي الأهداف التي ننشدها منه؟ أو النتائج التي يمكن أن تترتب عليه؟

بداية لا بد من الإشارة إلى أن ما يحصل في أيام عاشوراء من مظاهر الحزن, إلى إحياء هذه المناسبة بشتى أشكال الإحياء, وصولاً إلى ظاهرة البكاء, هو أمر قد أكدت عليه الروايات الدينية الواردة عن أهل البيت(ع), وليس أمراً نابعاً من العادات والتقاليد الاجتماعية, نعم ربما تؤثر الأعراف والتقاليد الاجتماعية في أشكال التعبير عن تلك المفاهيم لا في أصل وجودها, لأن أصل وجودها هو ذو اعتبار ديني بحت.

إن البكاء هو ظاهرة إنسانية بل هو أوسع من ذلك, والبكاء كحالة في مقام الحكم القيمي لا يصح القول إنها حالة ايجابية دائماً أو سلبية دائماً, بل إن الأمر يرتبط بسبب هذه الحالة وأهدافها ونتائجها, فإذا كان البكاء مرتبطا بالأهداف الدينية ويحاكي القيم الدينية بمفهومها الشامل فهو أمر محمود, كأن يكون البكاء لله تعالى أو من خشية الله تعالى.. وهنا سوف يكون للبكاء نتائجه الإيجابية ذات البعد المعنوي والأخلاقي وسوى ذلك. أما إذا كان البكاء مرتبطاً بأهداف لا تنسجم مع الأهداف والقيم الدينية والأخلاقية, فعندها سوف يكون أمراً مذموماً, ولن تكون نتائجه ايجابية بل سوف تكون على العكس من ذلك.

يحدثنا الله تعالى عن أخوة يوسف(ع) الذين: ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾(يوسف:16)، حيث كان بكاؤهم بكاء خداع لأبيهم, وهذا البكاء ما زادهم إلا ابتعادا عن الله تعالى. في حين أن الذين أوتوا العلم, فإنهم عندما يبكون فإن بكاءهم يزيدهم خشوعاً ـ ﴿وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾(الإسراء: 109 ـ وقرباً من الله تعالى, لأن هذا البكاء مرتبط بالله تعالى والاستماع إلى كتابه وتلاوة آياته.

وعليه عندما نأتي إلى قضية الحسين(ع), فإننا نبكي على تلك الجرأة على الله بقتل وليه الحسين(ع), وغضباً له وعلى انتهاك حرمة رسول الله(ص) بقتل حفيده الحسين(ع), نبكي على مخالفة الدين التي حصلت بقتل الحسين وأهل بيته وأصحابه, نبكي على تجاوز حدود الله, وعلى الاعتداء على محارم الله, وارتكاب الذنوب العظام والمعاصي الجسام, ومخالفة أوامر الله تعالى وركوب نواهيه.

لقد مثلت كربلاء ذروة الجرأة على الله تعالى والانقلاب على رسول الله, ولم يمضِ إلا خمسون عاماً على وفاة الرسول(ص), حتى ينقلب الكثير من أبناء أمته على أهل بيته وحفيده ومحارمه, فيعملون فيهم تقتيلاً وسبياً وتجريحاً وظلماً وتنكيلاً,  لا لأمر, إلا لأنهم رفضوا السكوت على الانحراف والرضوخ للذل.

ولذلك فإن البكاء على الإمام الحسين(ع) هو بكاء رفض للجرأة على الله تعالى, وعلى الانجرار إلى الدنيا وحبها والتعلق بها.. وبكاء اعتراض على فعل الذنوب وارتكاب المعاصي, هو بكاء نهي عن المنكر والفساد, وهو بكاء أمر بالمعروف والإصلاح, وهو أيضاً بكاء غضب من كل المظالم التي حصلت والتي تحصل, أي هو بكاء رفض للظلم  والذل, ودعوة إلى العدل وفعل الثورة, هو بكاء يدعو إلى الثورة على الفساد والانحراف والظلم, ويرفض الخضوع والخنوع والرضوخ للظالم.

إذن إن ما ينبغي أن يفعله هذا البكاء هو أن يزيدنا ارتباطا بالله تعالى, وعملاً بطاعته, وابتعاداً عن معصيته لأنه كيف يتجرأ على الله تعالى من يبكي على تلك الجرأة على الله تعالى, رفضاً لها, وإعظاماً لحصولها؟ وكيف يبادر إلى معصية الله تعالى, من يبكي على تلك المعاصي التي حصلت في كربلاء؟ وكيف يستخف بطاعة الله من يبكي على كل ذلك الاستخفاف بطاعته ومحارمه التي حصلت في عاشوراء؟.

إن ما يقود إليه هذا البكاء هو أنه يدفعنا إلى رفض الظلم والخضوع ,لأن من يبكي على تلك المظالم التي حصلت في كربلاء, حري به إلا يقدم على ارتكاب الظلم, بل حري به الا يقبل بأية مظلمة, مهما صغرت, وجدير به أن يرفض الظلم والخضوع للظالم, وان يحصن نفسه من أن يساير أو يداهن أو يركن للذين ظلموا, لان كل ذلك يخالف رسالة الدمعة, وهدف البكاء  على الإمام  الحسين(ع).

إن ما يعمل عليه هذا البكاء هو رفض الفساد والإفساد, والدعوة إلى الصلاح والإصلاح, لأن الذي قتل الحسين(ع) وأهل بيته في كربلاء هو الفساد والإفساد. فهل يراود الفساد من يراه قاتلاً لسبط المصطفى(ص), ويبكي بغيَه على الحسين في كربلاء؟ وهل يجافي الإصلاح من يبكي على انتهاك قيمه ومبادئه في عصر الحسين(ع)؟

إن ما يدعو إليه البكاء على الإمام الحسين(ع) هو التمسك بجميع القيم الأخلاقية والمعاني النبيلة والفضائل الكريمة التي تمثلت في عاشوراء, لأن الذي أسهم فيما حصل في كربلاء من التعدي على الحسين(ع) وأهل بيته, هو ذلك الانحدار الأخلاقي, والضعف القيمي الذي بلغ مداه آنذاك, ولذا فإن البكاء في مضمونه هو بكاء على كل ذلك التراجع الأخلاقي والقيمي الذي شهدناه في عصر الإمام الحسين(ع), ومن يبكي رفضا لكل ذلك الانحدار الأخلاقي, حري به أن يتمسك بجميع القيم والفضائل التي دعا إليها الحسين(ع) واستشهد من أجلها.

وعليه ليس البكاء في عاشوراء حالة سلبية, وليس ظاهرة فارغة من معانيها ودلالاتها وأهدافها, بل إن البكاء في عاشوراء هو بكاء هادف بكل ما للكلمة من معنى, هو بكاء هادف إلى تصفية القلوب, وتربية النفوس, وتخليصها من أمراضها التي علقت بها, من التكبر والقسوة وغيرها, هو بكاء هادف إلى إيجاد ذلك الارتباط الوجداني العميق والقوي, بكل تلك القيم الأخلاقية النبيلة والمعاني الإنسانية السامية والفضائل الكريمة, التي جسدها الإمام الحسين(ع) وأهل بيته وأصحابه في كربلاء. والى إيجاد الحصانة من كل تلك الرذائل والانحدار الأخلاقي والقيمي, الذي مثله الطرف المقابل للحسين(ع).

إن معاني الوفاء والتضحية والإيثار والزهد بالدنيا, وتقديم الغالي والنفيس في سبيل الله تعالى والأهداف السامية, كل هذه المعاني وغيرها نجدها في كربلاء. وهنا يسهم البكاء في التفاعل الوجداني مع كل تلك المعاني الأخلاقية السامية والارتباط بها والعمل بمضمونها, في حين أن كل تلك الأخلاقيات السلبية التي كانت موجودة في عصر الحسين(ع), من الخذلان إلى الركون للظالم إلى الخلود للدنيا إلى الغدر والجبن إلى غيرها من المعاني, فإن البكاء على الحسين(ع) ينبغي أن يسهم في إيجاد أكثر من جدار وجداني صلب بينها وبينه, وأن يؤدي إلى الابتعاد عن جميع تلك المعاني الوضيعة والحصانة منها.

إن البكاء العاشورائي هو بكاء هادف بكل ما للكلمة من معنى, فهو يهدف إلى التنمية الروحية والأخلاقية والتربوية والاجتماعية والسياسية وغيرها, إنه يهدف إلى تربية المجتمعات والأفراد على جميع تلك المعاني النبيلة والقيم السامية التي جاء بها الإسلام, وتجلت في سيرة الحسين(ع) ومسيرته, كما يهدف إلى تحصين كل تلك المجتمعات والأفراد من القيم والسلوكيات التي نهي عنها الإسلام, وحذر منها أهل البيت(ع), ودعا إلى تجنبها الإمام الحسين(ع).

إن البعد القيمي والأخلاقي والتربوي بأوسع معانيه, يجب أن يكون حاضراً في الخطاب العاشورائي, ويجب أن يعمل على بيان تلك المعاني بقوة وبشكل شامل, وأن ندرك أهمية استخدام الدمعة ولغة الوجدان في حفر تلك المعاني عميقاً في النفس الإنسانية, وفي القلوب المتعطشة لتلقيها والعمل بها.

ولذلك لا بد من القول إن المعادلة "ويزيدهم خشوعاً" يجب أن تكون حاضرة في منظومة المفاهيم العاشورائية, بما فيها موضوع البكاء على الإمام الحسين(ع), حيث إن البكاء على الإمام(ع) يجب أن يزيدنا من تلك المعاني وأن يكون سبباً للزيادة فيها, فهو يزيدنا إيماناً, ويزيدنا ورعاً, ويزيدنا تقوى وطاعةً لله تعالى, كما يجب أن يزيدنا محبة لأهل البيت(ع), ومعرفة بفضائلهم, وتمسكاً بقيمهم, وإتباعاً لسنتهم, وعملاً بأخلاقهم, والتزاماً بآدابهم, وسيراً على نهجهم.

وهو ما يقتضي منا أن نوظف الموسم العاشورائي والمجالس الحسينية من أجل الزيادة, وألا نخرج منها إلا بزيادة في أخلاقنا, ووعينا, وآدابنا, وأن تكون المراسم العاشورائية أكثر زيادة عاماً بعد عام, وأن نعمل على تقويم جدوائية تلك المواسم على أساس من تلك الزيادة, أي على أساس إنتاجيتها تلك. وهو ما يقتضي ألا تكون مجرد تقليد ديني ذي بعدٍ اجتماعي. ولا أن تكون المجالس الحسينية تكراراً لا يحمل جديداً, أو يأتي بمفيد, وهو ما يتطلب التجديد الدائم في تلك المجالس, والتطوير الدائم في الخطاب العاشورائي. وهو ما يستلزم العمل الدائم والدؤوب على تأهيل وتطوير الخطباء الحسينيين وأدائهم وخطابهم, وذلك بهدف الاستفادة القصوى من هذه المناسبة من أجل تحقيق أهداف الزيادة في أبعد مستوياتها وأرقى معانيها, حتى لا يكون التطوير في الشكل متقدماً على التطوير في المضمون  والمفاهيم التي يحملها الخطاب الحسيني.

إن البكاء على الإمام الحسين(ع), وأهل بيته يجب أن يحوي الدمعة الهادفة, والعبرة الواعية, والعاطفة التي تحمل معاني الزيادة في الأخلاق والورع, والإتباع العملي لمفاهيم أهل البيت(ع), وتعاليمهم, وإلا فإن بكاء لا يكون سبباً للزيادة في الإيمان والورع,لن يكون بكاءً على الإمام  الحسين(ع), وقضيته, وإن دمعة لا تحفر في القلب أخلاق أهل البيت(ع) وآدابهم لن تكون دمعة الحب والولاء لهم.

 وينبغي ألا نغفل العلاقة بين البكاء عندما يكون متصلاً بدواعٍ دينية, وبين التنمية الروحية "خشوعاً", حيث إن البكاء له دور أساسي في هذا الجانب, مع الالتفات إلى أهمية النتائج التي تترتب على هذا النوع من التنمية. وبالتالي سوف نحاول إجمال مختلف مجالات التنمية (الزيادة) التي يمكن أن تترتب على البكاء, ويكون سبباً منتجاً لها, وهي:

1- التنمية الروحية: حيث إن البكاء يسهم في تهيئة النفوس لتلقي الحقائق الروحية والحالات المعنوية, كما إن البكاء يعمل على غسل القلوب وتطهيرها من الكِبر والقسوة, ومختلف الأمراض التي تحول دون وصول تلك الحالات المعنوية إليها. وعليه, عندما تزول تلك الموانع من القلوب, ستكون عندها مستعدة لتلقي تلك الكمالات الروحية والمعنوية.

2- التنمية الأخلاقية: بالإضافة إلى ما ذكرناه آنفاً في مطاوي البحث, ينبغي القول: إن عاشوراء حفلت بمجمل المعاني والقيم الأخلاقية, والتي تجلت في سيرة الإمام الحسين(ع), وأهل بيته وأصحابه, فيجب التأكيد على بيان هذه القيم وتوضيحها كما تجلت في سيرهم.

3- التنمية التربوية: بمعنى أن يعمل على توطين تلك القيم الأخلاقية في نفوس المتلقين ونفوسهم وسلوكهم, وذلك من خلال التركيز على كيفية الاستفادة من تلك القيم, وأهمية تطبيقها والعمل بها  لتصبح عاملاً ملهماً لكل من يستمع تلك القيم والمعاني, لأن يتمثلها ويعمل بها. مع التأكيد على جميع العناصر التي تسهم في إلهام المتلقين العمل بتلك القيم, من البعد القداسوي إلى الجانب الجزائي(أجر وثواب) إلى تلك الأساليب التي تختزنها المضامين التربوية في الإسلام.

ومن الواضح أن الأسلوب العاطفي الذي يعبر عنه البكاء ويعمقه, هو من أهم الأساليب التربوية التي تسهم في الوصول إلى الأهداف التربوية والتعبير عنها, حيث يلعب البكاء دوره في الارتباط الوجداني الفاعل والعميق بتلك القيم والمعاني, عندما يجري تظهيرها في سيرة عاشوراء ومشهدية الحسين (ع).

4- التنمية السياسية: بمعنى أن هذا البكاء هو بكاء غضب على الظلم والفساد والانحراف, وبكاء دعوة إلى العدل والإصلاح, وهو بالتالي يعمل على شحن الوجدان وتثوير الإرادة, بهدف الوصول إلى تلك الأهداف في الاجتماع السياسي, باعتبار أن البكاء هو من أهم عوامل تحفيز الإرادة وتثويرها وإيجاد النقمة على الظلم والفساد وتثوير الغضب على الجور والانحراف. و ليس خافياً أهمية دور الإرادة الفردية والاجتماعية في معادلات التنمية وخصوصاً السياسية.

5- التنمية المجتمعية: حيث إن الدين يختزن كل تلك المعاني والمفاهيم التي تؤسس لعلاقات مجتمعية إنسانية صحيحة, من تلك القيم الأخلاقية السامية إلى المفاهيم الاجتماعية المفيدة وغيرها. فإن الموسم العاشورائي سوف يكون مناسبة جيدة للعمل على تلك المفاهيم والقيم ذات البعد المجتمعي, ليكون للبكاء والعاطفة والوجدان دوراً أساسياً في تعميق تلك المفاهيم والقيم, وخصوصاً بما يتركه البكاء من أثر في صناعة إنسانية الإنسان وأحاسيسه الاجتماعية, عندما يكون نابعاً من القيم السامية الإنسانية والأخلاقية ومتواصلاً معها.

إن ما ينبغي التأكيد عليه, هو الاستفادة من المجالس الحسينية لبيان ما أمكن من تلك المضامين الأخلاقية , حتى يكون الخطاب الحسيني مفعماً بمضمونه الأخلاقي, ومشبعاً باستظهار الأبعاد الأخلاقية السامية التي حفل بها الحدث العاشورائي والتي يجب أن تصبغ المجالس العاشورائية ليكون مضمونها مضموناً أخلاقياً أكثر مما هو بطولي أو تمجيدي, حتى نستطيع أن نستفيد من المضامين والقيم لتحسين مجتمعاتنا وإصلاحها وتغييرها نحو الأفضل في أخلاقها وعاداتها ومعاملاتها وسلوكياتها ومختلف جوانب حياتها الاجتماعية.

اعلى الصفحة