المخيمات الفلسطينية
بين كوارث التدمير والخراب.. ومآسي الترحيل والتهجير! 

السنة الرابعة عشر ـ العدد 166 ـ ( ذو الحجة ـ محرم 1436 هـ) تشرين أول ـ 2015 م)

بقلم: مأمون الحسيني(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لم تحجب الحركة الاحتجاجية الواسعة ضد الحكومة والطبقة السياسية التي ما زالت تشهدها العاصمة اللبنانية بيروت، ومناطق لبنانية أخرى عديدة، تلك التطورات الخطيرة التي جرت في مخيم "عين الحلوة" القريب من مدينة صيدا، والذي يعتبر الأكبر بين مخيمات لبنان، بعد انفجار الأوضاع الأمنية هناك، وتهجير أعداد كبيرة من أبنائه اللاجئين الفلسطينيين نحو المجهول.

ومرد الخطورة هنا، وفق المرئي والملموس، لا يتعلق فقط بمؤشرات وتداعيات هذه الأحداث الأمنية التي خطط، منذ البداية، أن تكون المخيمات الفلسطينية إحدى أهم منصَاتها الرئيسية، على المشهد اللبناني الهش القابل للانفجار في المدى المنظور، وإنما أيضا اندراج هذا التفجير المبرمج في مسلسل تدمير مخيمات اللجوء والشتات، وتهجير وترحيل اللاجئين الفلسطينيين إلى أصقاع بعيدة عن فلسطين، على غرار ما حدث، مؤخرا، لعدد من أبناء مخيمات سوريا، وبالأخص أبناء مخيم اليرموك.

ومع أن ثمة هدوءاً نسبياً أعقب جولات القتال الأربع الأخيرة التي اندلعت في "عين الحلوة" خلال شهر أب/أغسطس الماضي ما بين حركة "فتح" وبعض التنظيمات المتطرفة، وبالأخص ما يسمى "تجمع الشباب المسلم"، والذي هو عبارة عن ائتلاف مجموعات إسلامية متشددة من بقايا "جند الشام" و"فتح الإسلام"، تتّفق على عناوين عريضة، من دون أن يكون ذلك ملزماً لأي منها، لا بل يمكن لأي مجموعة أو فرد اتّخاذ أي قرار وتنفيذه من دون إبلاغ "شركائه" المفترضين، إلا أن مختلف المعطيات والتحليلات تؤكد أن المخيم الذي تتوزع في جنباته رزمة من القوى والتنظيمات المتطرفة، من نمط "القاعدة"، و"عصبة النور"، و"جند الشام"، و"فتح الإسلام"، و"جبهة النصرة"، وتنظيم "داعش" الذي تشير بعض التقارير الأمنية إلى أن خلاياه باتت تنشط على نحو أمني عنقودي، بعد حصوله على بيعة كثيرين ممن كانوا ينتمون إلى نتف تنظيمية تكفيرية. هذا المخيم مرشح للاشتعال والالتهاب من جديد في أية لحظة، ليس فقط بسبب إصرار البعض على عدم تنفيذ بنود "المبادرة الفلسطينية" التي توصّلت إليها جميع القوى الفلسطينية وأعلنتها في 28 آذار/ مارس 2014، ووضع العصي في دواليب "القوة الأمنية الفلسطينية المشتركة" المشكّلة من كافة الفصائل والقوى الفلسطينية الوطنية والإسلامية في منظّمة التحرير الفلسطينية و"تحالف القوى الفلسطينية"، و"القوى الإسلامية" و"أنصار الله" ، وتقييد مهمتها، ومصادرة دورها، وعدم منحها، عملياً، التغطية الكاملة بدعم عسكري ترجمة للدعم السياسي لتنفيذ المهام الموكلة إليها، وعدم السماح بوصول التحقيقات في الجرائم والأحداث التي شهدها المخيّم، بعد تشكيل هذه اللجنة، إلى خواتيمها، وإنما أيضاً لظهور مؤشرات قوية على إصرار بعض المجموعات المتطرفة إبقاء فتيل التفجير في عين الحلوة مشتعلاً، في محاكاة لما جرى في مدينة طرابلس، قبل أن تتدخّل السياسة وتنهي واقع أمراء المحاور، ودفع  الأهالي في المنطقة إلى مغادرتها، توطئة للإعلان الرسمي عن ولادة تنظيم "داعش" في المخيم الأكبر في لبنان.

جدلية المخيم.. و"حق العودة"

وبصرف النظر عن واقع الحال في "عين الحلوة"، وتفاصيل التطورات المرشحة للسخونة على طول الخط، فإن ما يبدو جلياً هو أن الأحداث الأخيرة في المخيم، وما سيليها، لا تختلف كثيراً عن سياق ما جرى في العديد من مخيمات الشتات الفلسطيني، ولاسيما في التجمع الفلسطيني الأكبر في سوريا (مخيم اليرموك) الذي غذّى الثورة الفلسطينية بمختلف فصائلها، وكان أبناؤه حاضرين على امتداد ساحات النضال والمقاومة، وظل، حتى الأمس القريب، أحد عناوين حق العودة، قبل أن يتم استهدافه، وبشكل متعمد ومبرمج، من قبل الإرهابيين التكفيريين الذين تماهوا مع كيان الاحتلال الإسرائيلي ومخططاته تجاه الفلسطينيين والعرب، ولم يخفوا سعيهم إلى تفكيك الدول والجيوش والمجتمعات العربية لمصلحة كيانات إثنية وطائفية ومذهبية تصب في مصلحة المشروع الصهيوني والدولة التوراتية. وتكفي الإشارة، في هذا السياق، إلى الذرائع والحجج التي تسوقها هذه الحركات لتبرير صمتها على العدوان الإسرائيلي، لا بل ومباركتها له، من نمط الحديث عن "العدو القريب" الأولى بالمغالبة، أي الجيوش والمجتمعات العربية، وتأجيل غزو "العدو البعيد"!

الفلسطينيون، من جانبهم، أدركوا منذ البداية بأن المخيم، وعلى الرغم من المصاعب الحياتية التي لا تحتمل فيه، هو المدخل الأساسي للتمسك بحق العودة، ولذا، فقد أفشلوا، طوال السنوات والعقود الماضية، كافة المساعي والمشاريع التي من شأنها المس بوجود المخيمات، ورفعوا شعار المحافظة عليها، والنضال من أجل تحسين بنيتها التحتية، كون ذلك يشكل صيانة للهوية الوطنية الفلسطينية، فيما يقود استهداف المخيمات، سواء من خلال التدمير أو التهجير، إلى تكريس التوطين ووأد أحد أهم المرتكزات التي يستند إليها حق العودة، إلى جانب وكالة الغوث (الأونروا) والقرار الأممي 194، وذلك في مقابل سعي العدو الإسرائيلي وعملائه، ومنذ خمسينات القرن الماضي، إلى تفتيت وتدمير وإبادة مخيمات اللاجئين في الدول العربية المحيطة بفلسطين المحتلة التي ساهمت في تكثيف الصيرورة الفلسطينية والشخصية والهوية الوطنية، ومنها انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة، بهدف وأد ودفن حجر الرحى في القضية الفلسطينية (حق العودة). ولعلنا لا نغالي إذا اعتبرنا أن استهداف المخيمات الفلسطينية وتدميرها وتشريد أهلها في جهات الأرض الأربع كان أحد الأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية الثابتة، وهي فكرة مرتبطة أساساً بمشروع القضاء على "حق العودة" أحد أبرز حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرّف، وهو الحق الذي يرفضه الكيان الصهيوني، بل يعجز، عن الاعتراف به، كما يستحيل على المفاوض الفلسطيني التنازل عنه، وذلك ليس فقط من خلال أجندة القصف والتدمير وارتكاب المجازر، كما حدث في مخيم جنين، ومخيمات قطاع غزة، ومخيم النبطية الذي أفتتح العدو بتدميره حربه المفتوحة، بالأصالة والنيابة، وعبر أشكال مختلفة ومتنوعة، على جميع مخيمات لبنان، بما فيها تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وغيرها، بل وكذلك عبر تبنَي وطرح مشاريع متعددة، على المستوى الدولي، لإلغاء وكالة الغوث (الأونروا) التي خفَضت تقديماتها للاجئين، مؤخراً، إلى الحدود الدنيا، وتسليم خدماتها إلى الدول العربية المضيفة كمقدمة لإلغاء وإزالة المخيمات، وحيثية ذلك الأساسية هي أن الكيان الإسرائيلي الذي أقيم على أنقاض الوجود المادي للشعب الفلسطيني، يعتبر أن الخطر الديموغرافي الفلسطيني هو أحد أهم الأخطار الوجودية التي تواجهه في السنوات المقبلة، ولاسيما في ظل ارتفاع منسوب التزايد السكاني الفلسطيني، ونضوب الهجرة اليهودية. ولأن فكرة المشروع الصهيوني قامت على أساس معادلة السيطرة على الأرض والقضاء على الشعب، ولا مجال لترجمة وتكريس هذه المعادلة طالما هناك شعب لا زال يطالب بأرضه، فإن مسألة وجود ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين يطالبون بالعودة إلى أرضهم، بقيت تحتل مقدمة الاهتمامات الإسرائيلية، وتقف على رأس جدول أعمال الحكومات المتعاقبة التي لم تأل جهدا لإلغاء وتصفية قضية اللاجئين.    

المخيمات وقواسم التدمير والتهجير

على هذه الأرضية، وانطلاقاً من حقيقة أن كل مساس أو استهداف بالمخيمات الفلسطينية يشكل خدمة ثمينة للعدو الصهيوني ومخططاته، يمكن الإحاطة بواقع هذه المخيمات التي يشكل مشهد الدمار والتدمير والتهجير القاسم المشترك فيما بينها راهنا. ولو بدأنا ببعض النماذج البارزة، في هذا السياق، فسنقف على واقع أن أبناء مخيم نهر البارد، القريب من مدينة طرابلس، والذي تم تدميره، وتهجير سكانه البالغ عددهم نحو 40 ألف نسمة، نتيجة الاشتباكات التي وقعت بين مجموعات تكفيرية (فتح الإسلام) والجيش اللبناني، ما زالوا يناضلون من أجل إعادة إعماره منذ ما يزيد عن ثماني سنوات، فيما كان أبناء مخيم عين الحلوة الذين يناهز عددهم الـ 60 ألف فلسطيني يرزحون تحت وطأة الفقر والحرمان والقلق والخوف من المجهول، في ظل حالة دمار شامل لمعظم أبنية المخيم، وأحوال معيشية واجتماعية بائسة لعائلات الشهداء والمفقودين الذي يقدَرون بالمئات، وانعدام شبه تام لميادين العمل ومجالاته، ناهيك عن انتشار بعض القوى الإسلامية وغياب المرجعية الفلسطينية الموحدة في ظل انعكاس الانقسام الفلسطيني على العمل الفلسطيني الموحد. وكل ذلك قبل أن تجتاح المخيم الموجات الأخيرة من التفجيرات الأمنية. أما مخيمات قطاع غزة المحاصرة التي تشكل النموذج الأكثر مأساوية فلا زالت تئن تحت وطأة تداعيات الاعتداءات الإسرائيلية الدورية، ولاسيما العدوان الأخير الذي سوَى معظم المنازل بالأرض، دون أن تلوح في الأفق أي بارقة أمل عملية وجدَية بانطلاق صفارة إعادة الإعمار.

واستتباعاً، فإن ما حدث ويحدث منذ بضع سنوات، وعلى خلفية فوضى المنطقة وهجوم أدوات الإرهاب والتكفير الأمريكية- الإسرائيلية على منطقة المشرق العربي، وفي القلب منها سوريا، كان مناسبة وفرصة لا تتكرر لبدء تنفيذ مخطط تدمير المخيمات وتهجير الفلسطينيين، والذي اتخذ أبعادا خطيرة ومصيرية بعد غزو الإرهابيين في سوريا معظم المخيمات الفلسطينية، في اللاذقية ودرعا وحلب، ومخيم خان الشيح الذي يستخدم كمحطة أساسية لوصل إرهابيي محافظة القنيطرة المرتبطين مباشرة بالعدو الإسرائيلي في الجولان المحتل، بإرهابيي الغوطة الغربية لمدينة دمشق، فضلا عن مخيم اليرموك الذي تحتله اليوم منظمتا "داعش" و"النصرة" اللتان قامتا بذبح الرجال وسبي النساء، والنهب والسرقة، واعتبار المخيم من الغنائم. ولعل من المهم، في هذا المضمار، وبمناسبة مراهنة البعض في الساحة الفلسطينية على الوساطات والتسويات المؤقتة الإسعافية لإخراج مخيم "عين الحلوة" من المأزق الراهن، لعل من المهم الإشارة إلى أن المتحاورين بشأن أزمة "اليرموك" سبق وأن توصّلوا إلى رزمة من الاتفاقات لإخراج المخيم من مستنقع القتل والجوع، وانقطاع سبل العيش لمن تبقّى من أبنائه، وتخفيف أعباء المعاناة التي يعيشها مئات الآلف من أبناء الشعب الفلسطيني المشرَد خارج المخيم، والذي أنهكته الظروف الصعبة والمعاناة المتراكمة التي تتكدس فصولها تباعا، إلا أن كل الاتفاقات تلك كان مصيرها سلة المهملات. لا بل إن منظمة التحرير الفلسطينية التي ما زالت تعتبر، أقله على المستوى الرسمي، الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، سبق وأن تنصلت، وتحت وطأة الإغراءات والتهديدات العربية والغربية، من موقفها المؤيد لتحرير مخيم اليرموك وحماية أبنائه الذين يتعرضون للقتل والذبح والإبادة على يد "داعش" و"النصرة"، واكتفت، وعلى طريقة مجلس الأمن، بالتعهد بـ"بذل الجهد الوطني والسياسي الموحد، مع جميع الأطراف، لحماية المخيم وضمان البقاء والصمود فيه"!!

وعلى الرغم من أن واقع "اليرموك" وآفاق مستقبله لا تحتمل أية تأويلات أو أحجيات، إلا أن المنظمة أصرّت على تجاهل كافة المعطيات والاستخلاصات الجلية والصارخة التي كانت، وما زالت، تؤكد بأن الأزمة القديمة- المتجددة في مخيم اليرموك، وسواه من مخيمات سوريا، جزء لا يتجزأ من الأزمة العامة في البلاد، وأن الإرهابيين هناك يرتبطون أيديولوجياً وتنظيمياً وعملياً بفصائل التكفيريين المتواجدة في معظم الجغرافيا السورية، ولا يمتلكون، بالتالي، أية هوامش جدية لاتخاذ قرارات حاسمة، فضلاً عن أن إطالة أزمة المخيم إلى أقصى مدى ممكن إنما تهدف، وبشكل أساسي، إلى دفع المزيد من أهله النازحين، ولاسيما الشباب منهم، إلى الهجرة نحو بلاد الاغتراب، وضمان حدوث تغييرات ديموغرافية تنزع عن اليرموك رموزه العميقة التي تكثف الصيرورة الفلسطينية والشخصية والهوية الوطنية.

القضية الفلسطينية والتصفية الموصوفة

وما يزيد من خطورة هذا المشهد الذي يلخص عملية التصفية الموصوفة التي تتعرض لها القضية الفلسطينية على رؤوس الأشهاد، هو تزامنه وتكاتفه مع تكثيف عمليات الاستيطان في القدس ومجمل الضفة الغربية، وتراكم الجرائم ضد الفلسطينيين من قبل قوى الإرهاب والتطرف الاستيطانية، والتي سقط فيها كوكبة من الشهداء الأطفال والفتية والآباء والأمهات، وارتفاع منسوب الاعتداءات على المسجد الأقصى توطئة لهدمه وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه، تحت ظلال انسداد كل الآفاق الواقعية والافتراضية: لا مفاوضات ولا عمل مسلح، وربما لا انتفاضة شعبية واسعة، فيما تواصل الأطراف الإقليمية والعربية الداعمة للإرهاب في سوريا والعراق واليمن ومصر وليبيا، وبالأخص تركيا والسعودية والأردن وقطر، بذل كل ما باستطاعتها لمساعدة إسرائيل في هذه المهمة، وتجد دول العالم ما يبرئ ذمتها تجاه الأرض والحقوق الفلسطينية التي يرسم فصل تصفيتها الأخير بالدم والنار والدمار.

أما بخصوص القيادة الفلسطينية التي تتخبط في بحر من الفوضى لإثارة غبار كثيف في وجه الإدارة الأمريكية التي تركتها وحيدة في الميدان بعد انسحابها من الملف الفلسطيني، فلم تجد أمامها، لمواجهة هذا الوضع المستجد الذي يزداد تعقيداً وتأزّماً على خلفية الحديث المتكرر عن إمكانية إنجاز تفاهم الإسرائيلي مع حركة "حماس" على "هدنة طويلة الأمد"، سوى التلويح بقرارات ذات طبيعة إستراتيجية، من نمط بلورة تحالف جديد مع إيران، والهرولة نحو فك وتركيب هياكل منظمة التحرير الفلسطينية المهلهلة والخاوية أصلا. وإذا كان ما يحدث في فلسطين وجوارها العربي والإقليمي، يؤكد الحاجة الماسّة إلى عقد دورة عادية للمجلس الوطني الفلسطيني لإعادة بناء الشراكة الوطنية على أساس عقد اجتماعي وإستراتيجية وبرنامج سياسي جديدين. كون عمليات الاستيطان الصهيوني في القدس المحتلة ومعظم أنحاء الضفة الغربية ما زالت على أشدَها، والهجوم الصهيوني اليومي على المسجد الأقصى لترجمة تقسيمه، زمانياً ومكانياً، ما بين المسلمين واليهود، توطئة لهدمه وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه، تفقأ أعين العرب والمسلمين، وجرائم الجيش الصهيوني والمستوطنين الإرهابية ضد الشعب الفلسطيني لا تكاد تقف عن حد، واستهتار الكيان العبري بالقوانين والمواثيق الأممية وقرارات المجتمع الدولي وصلت إلى حد تأكيد رئيس هذا الكيان، رؤوفين ريفلين، ما أسماه "حق إسرائيل" بـ"السيادة" على الضفة الغربية المحتلة وبناء المستوطنات، فيما يندفع البعض نحو التفاهم مع الصهاينة تحت عنوان "التهدئة". غير أن هذا المطلب الضروري والملحّ الذي يؤمل منه إخراج القضية الفلسطينية من قعر الاهتمامات العربية والإقليمية والدولية، يتم استخدامه واستثماره اليوم بطريقة لا علاقة لها بالحيثيات والعناوين الوطنية المطروحة، وذلك رغم التراجع الجزئي والمؤقت عن الدعوة لعقد دورة طارئة للمجلس الوطني، والدعوة لعقد دورة عادية، ورغم الحاجة الماسَة إلى ترميم هياكل منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيلها وإعادة الحياة إلى أوصالها المهترئة. وهذا لا يتعلق فقط بالانعطافة النوعية التي أحدثها "اتفاق أوسلو" وتشكيل السلطة الفلسطينية في مؤسسات وهياكل المنظمة، وأدت، عمليا، إلى انعقاد دورة عادية واحدة للمجلس الوطني في العام 1996 لمراجعة وتعديل، لا بل تهشيم الميثاق الوطني الفلسطيني، ودورة أخرى غير عادية في العام 2009، وارتهان انعقاد هذا البرلمان الفلسطيني، فعلياً، لرغبات واشنطن وحساباتها السياسية، بل يتصل كذلك بالصراع المستشري في أوساط الطبقة السياسية الفلسطينية المتنفَذة على النفوذ والمكاسب الفئوية والشخصية على حساب القضايا الكبرى والمصيرية التي تهدد الوجود الوطني والسياسي والبشري الفلسطيني.

ما جرى ويجري فعلياً، على السطح وفي الكواليس، هو أنه، وبدلاً من إعادة ترميم البيت الفلسطيني، وتجديد شرعية منظمة التحرير وحمايتها من الأخطار الداخلية والخارجية التي تتهددها، واجتراح برنامج سياسي كفاحي واقعي يمكنه مواجهة الاستحقاقات المصيرية الوجودية، ويحظى بتأييد الأكثرية الفلسطينية، يمكن التقدير بأن دورة المجلس المقبلة، ووفق ما يدب على الأرض حتى الآن، ستؤدي إلى تعميق الشروخ الفلسطينية، وبث الخلاف والفرقة داخل المنظمة، وداخل كل فصيل، كما أنها ستنجب قيادة مشكوكاً في شرعيتها. أما بخصوص مسألة تدمير المخيمات الفلسطينية في سوريا ولبنان، والتي تغلق كل السبل أمام اللاجئين الفلسطينيين، ولا تبقي أمامهم سوى الهجرة عبر التهريب في زوارق ومراكب يبتلع معظمها البحر، أو عبر تأشيرات سفر باتجاه واحد من سفارات دول بعيدة وقفت على الدوام إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته، فيبدو أنها لا تشكل هاجساً للساعين إلى تجديد دماء "الشرعية الفلسطينية"، وذلك على رغم أن قضية اللاجئين ما زالت تشكل الجوهر الحقيقي والفعلي للقضية الفلسطينية التي تضع التطورات الكارثية التي تشهدها المنطقة العربية ودولها عملية تصفيتها، مرة واحدة وأخيرة وبالضربة القاضية،على نار حامية.

في كل الأحوال، وعلى النقيض من إهمال منظمة التحرير لملف اللاجئين الذي وصل إلى ذروة الاشتعال، وبات يهدد بتهاوي هياكل الشرعية الفلسطينية، فإن قضية تحرير مخيم اليرموك، وبقية مخيمات سوريا من أيادي إرهابيي "داعش" و"النصرة" وأشباههم، وإعادة إعمار مخيم نهر البارد في لبنان، وتحصين بقية المخيمات لبنان، وبالأخص مخيم عين الحلوة، من العبث والاختراق الذي يقود إلى كارثة شبيهة بالكوارث التي سبقت، ينبغي أن تحتل مقدمة مهام وأولويات كل القيادات والمؤسسات الفلسطينية التي ينبغي لها مغادرة مربع الشيزوفرينيا الذي تقبع فيه، والاهتمام بالقضايا المصرية الكبرى، كقضية اللاجئين والمخيمات الفلسطينية، بدلاً من الضياع في خضم الأحداث والمصالح الصغيرة.

كاتب فلسطيني(*)

اعلى الصفحة