اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الرابعة عشر ـ العدد 165 ـ (ذو القعدة - ذو الحجة 1436 هـ) أيلول ـ 2015 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

الثقافة والحياة

تأخذ العلاقة بين الثقافة والمثقف صورة صميمة جوهرية لا انفصام فيها، إذ لا يمكن فهم "المثقف" إلا في ضوء مفهوم محدد للثقافة، فالمثقف وليد الثقافة، صقل بها وتشكل في بوتقتها.

وتتمثل الثقافة انتروبولوجياً في العلاقة الحيوية بين الإنسان والوجود مسلكاً وروحاً وفعلاً وحياة، وهذا يعني أن الثقافة بصورتها الأنتروبولوجية هي الحياة الإنسانية بأكمل معانيها وأعمق تجلياتها. وضمن هذا التصور الشامل للحياة الثقافية يصعب علينا تعريف "المثقف" إذ لا بد من تجاوز المفهوم الأنتروبولوجي للثقافة والخوض في مفهوم الثقافة الإبداعية، أي: في الجانب الواعي للثقافة الذي يتمثل في الجوانب العليا من الإنتاج الثقافي في مجال الوعي العام وفي فضاءات العلوم الإنسانية (من فلسفة وفكر ودين وفن وأدب وشعر وموسيقى ومسرح)، وفي عمق هذا التموج الثقافي للوعي الإنساني يمكننا أن نستجلي فهمنا للمثقف بوصفه صورة راقية للوعي الإنساني في أكثر جوانبه نضجا وتطورا وانطلاقا. وهذا يعني أن "المثقف" هو المرآة التي تنعكس فيها الثقافة الواعية الإبداعية للمجتمع الإنساني حيث يتماهى "المثقف" مع إرادة التغيير في الحياة ويتفاعل مع الثقافة بوجهها الإنساني على حدّ سواء.

فالمثقف وفق هذه الرؤية وعي ثقافي، تتجلى قدرته على امتلاك الحقيقة، والتأثير فيها، وإعادة تشكيلها وإنتاجها روحياً وأخلاقياً وإنسانياً، والثقافة التي تميّزه هي في هذه الحالة ثقافة الأخلاق والحياة التي تتمثل في قيم الحق والعدل والخير والجمال. والثقافة هنا في هذا السياق تعني نمطاً من أنماط التجليات الثقافية للمثقف ودوره في الحياة، وهي ترمز في الوقت ذاته إلى تدفق فعله الثقافي الذي يتصف بالقيمة الأخلاقية، ترسيخا للسمو الأخلاقي الذي يتميز به "المثقف" تأثيراً في الكون والحياة الثقافية.

ومن أجل تقديم تصور واضح عن مفهوم "المثقف" لا بد من المقارنة بين الثقافة والمثقف؛ فالثقافة هي المحمول، والمثقف هو حاملها بل هي المنتوج والمثقف مُنتجها ونتاجها في آن واحد. وهنا يجري التمييز في الأصل بين الثقافة culture وبين المثقف؛ ففي اللغة الفرنسية تعني كلمة (intellectuel) في أحد وجوهها (المفكِّر) أي المشتغل في مجال الإنتاج الفكري والمعرفي على وجه الخصوص، والمثقف وفقاً لهذا التصور يكون الإنسان العارف المصقول بالمعرفة، والمحمّل بعطائها، وهذا هو الحد الأدنى لمفهوم "المثقف" في صلة التواصل مع الثقافة والتشبع بمعطياتها.

ومن المؤكد أن مفهوم "المثقف" الفعّال يتجاوز حدود العلاقة الطبيعية بين الفرد والثقافة إلى حد الانتاج الثقافي، وهذا يعني أن "المثقف" لا يقف عند حدود تمثل الثقافة والتماهي بها، بل لا بد له أن يتجاوز هذا المستوى إلى درجة المشاركة في إنتاجها وإبداعها وتجديدها. ومن هنا يجب التمييز بين "المثقف" العادي والمثقف البنيوي المنتج للثقافة والفاعل في عملية إبداعها. ومن الضرورة بمكان التمييز بين درجة الفعل الثقافي ومستوياته. فهناك "المثقف" العادي المنتج للثقافة في حدودها الدنيا، وهناك المنتجون لها في أعلى درجة من درجات الإنتاج الإبداعي، مثل: كبار العلماء والمفكرين والمثقفين الذين يؤثرون في الحركة الثقافية إنتاجاً وصيرورة وإبداعاً. والنخبة الثقافية، وفقاً لهذا التصور، ترمز إلى هؤلاء المثقفين الذي استطاعوا أن يحققوا أعلى درجة إبداعية في عملية الإنتاج الثقافي وفي عملية التأثير الثقافي في مجال الكتابة والإبداع في مختلف أوجه النشاطات الفكرية في مجال الشعر والأدب والفلسفة والموسيقى والعلوم الإنسانية بصورة عامة. وفي مجال التمييز بين "المثقف" وغيره من الناس، لا يمكننا أن نتحدث عن الإنسان الجاهل تماماً، فالناس مثقفون على وجه العموم، والثقافة خاصية إنسانية، فالإنسان يرتبط جوهريا بالمعرفة ويمتلك القدرة العقلية في عملية تَمثُّل الفكر وفي عملية إنتاجه بمستويات مختلفة.

فالثقافة معرفة وقيمة أخلاقية بالدرجة الأولى، ومن هذا المنطلق الأخلاقي تتمنهج رؤيتنا للمثقف حيث تكون الثقافة مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقاً من طبيعته العقلانية، وبهذا تكون الثقافة أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه. ويكون "المثقف" في هذه الحالة سعياً إنسانياً لتحقيق هذه الغايات الثقافية العليا.

وفي دائرة هذه العلاقة بين الثقافة والمثقف يمكن القول: إن "السلوك عبارة عن ترجمة عملية للتصورات الذهنية المنبثقة عن ثقافة ما، فالفرد، في أي مجتمع، مغمور بتراث ثقافي يتجاوزه، وهو التراث الثقافي للحضارة التي ينتمي إليها. وهو من خلال هذا التراث يدرك العالم ويحكم عليه، غير أن هذا التراث عندما يتجمد ولا يتجدد يسير نحو الضمور فالزوال، ويحول بالتالي بين الفرد وبين كامل إدراكه لذاته وغيره، ومن هنا كانت هناك صلة دائرية بين تجدد المجتمع وتجدد الفرد فكل منهما يجدد الآخر. وضمن هذا التصور يمكن إدراك هوية "المثقف" في صلته الحقيقية مع الثقافة والحياة والمجتمع.

اعلى الصفحة