انتصار إيران النووية.. من دون حرب

السنة الرابعة عشر ـ العدد 164 ـ (شوال ـ ذو القعدة 1436 هـ) آب ـ 2015 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

بعد أكثر من ثلاثة عقود من الصراع التاريخي بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن كانت كراهية الولايات المتحدة هي السمة الواضحة للدولة الإيرانية، حيث تجلت مظاهر هذه الكراهية من خلال الهتافات المتكررة للحشود الشعبية عقب صلاة كل يوم جمعة: "الموت لأمريكا"، "الموت لإسرائيل"، أبرمت الدول الخمس الكبرى + ألمانيا مع إيران يوم 14تموز 2015، اتفاقاً تاريخياً في العاصمة النمساوية فيينا حول البرنامج النووي الإيراني بهدف ضمان طبيعته السلمية البحتة، مقابل رفع العقوبات الدولية المفروضة على طهران بصورة تدريجية.

وبموجب هذا الاتفاق تعترف القوى الدولية رسمياً بالبرنامج النووي السلمي لإيران وتحترم ممارسة الشعب الإيراني لحقوقه النووية في إطار المعاهدات الدولية، وسيتم رفع عنها العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة عليها، ويفسح في المجال لتحرير الأرصدة الإيرانية، وعشرات مليارات الدولارات في المصارف الغربية. وكان الإيرانيون طالبوا بآلية قانونية مرنة لتقصير المهل، وإبلاغ المصارف بالاتفاق من أجل تحرير الأرصدة المجمدة في البنوك الغربية. وسيفتح هذا الاتفاق صفحة جديدة في علاقات لبناء الثقة بين إيران والغرب، وتعزيز السلام العالمي ويُثبت أن الدبلوماسية والتعاون قادران على إزالة عقود من التوتر.

أبرز بنود اتفاق فيينا

أبرمت مجموعة "5+1" وإيران في فيينا، يوم الثلاثاء 14تموز 2015، بعد 22 شهرا من المفاوضات المكثفة، اتفاقا تاريخيا حول البرنامج النووي الإيراني ويستمر حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على إيران لمدة خمس سنوات، فيما لن ترفع العقوبات المتعلقة بتسليح إيران بالصواريخ إلا بعد مرور ثماني سنوات على توقيع الاتفاق، إلا أنه ينص على إلغاء جميع إجراءات الحظر الاقتصادية والمالية المفروضة على إيران دفعة واحدة، ومن بينها، إلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على 800 شركة ومؤسسة تجارية واقتصادية وفي مقدمتها المصرف المركزي الإيراني والمصارف الإيرانية الأخرى، وشركة النفط الوطنية وشركة السفن والملاحة البحرية.

وفي خلاصة لأبرز النتائج التي خرج بها الاتفاق:

- اعتراف القوى الكبرى رسمياً بالبرنامج النووي الإيراني السلمي، واحترام حقوق إيران النووية في إطار المعاهدات الدولية.

- السماح لكل دول العالم بالتعاون مع البرنامج النووي الإيراني في إطار المواصفات والمقاييس العالمية.

- اعتراف الأمم المتحدة بأن إيران بلد يمتلك القدرات والتقنيات النووية وبرنامجا نوويا سلميا يشمل التخصيب ودورة الوقود النووي.

- إلغاء جميع قرارات الحظر التي فرضها مجلس الأمن الدولي على إيران وتشمل كل أشكال الحظر الاقتصادي والمالي، وسيتم إلغاؤها مرة واحدة عبر صدور قرار دولي جديد.

- التحول الجذري في تعامل مجلس الأمن مع إيران بعد صدور قرار مجلس الأمن تحت المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة، مع الإشارة إلى البند 41 وتحديدا البنود الخاصة بإلغاء الحظر السابق عن إيران.

- تواصل كل المنشآت والمراكز النووية الإيرانية نشاطاتها، بخلاف المطالب السابقة، حيث لن يتم إغلاق أو إيقاف نشاطات أي منها بالكامل، وتواصل إيران عمليات التخصيب ولكن بنسب أقل.

- الاحتفاظ بالبنى التحتية النووية الإيرانية، ولكن مع تخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي، واستمرار أنشطة البحث والتطوير حول جميع أجهزة الطرد الرئيسية والمتطورة ومنها "أي ار 4"، و "أي ار 6"، و"اي ار 8".

- يواصل مفاعل "آراك" الذي يعمل بالماء الثقيل نشاطاته، مع إدخال تعديلات عليه بالتعاون مع دول تمتلك أحدث التقنيات في هذا المجال، الأمر الذي يعني التخلي عن المطالب السابقة بإغلاقه أو تحويله إلى العمل بالماء الخفيف.

- بإمكان إيران وباعتبارها منتجا للمواد النووية، خاصة المادتين الاستراتيجيين (اليورانيوم المخصب) و (الماء الثقيل) دخول الأسواق العالمية، وإلغاء كل أشكال الحظر والقيود المفروضة على تصدير واستيراد المواد النووية، والتي فرضت بعضها قبل 35 عاما.

- الإلغاء دفعة واحدة لكل أشكال الحظر الاقتصادي والمالي والمصرفي والنفطي وفي مجالات الغاز والبتروكيمياويات والتجارة والتأمين والنقل المفروضة من قبل الاتحاد الأوروبي وأمريكا.

- تغيير المطالبات من إيران بوقف برنامج الصواريخ، خصوصاً البالستية، إلى تقييد تصميم الصواريخ القادرة على حمل السلاح النووي.

- إلغاء حظر التسلح على إيران، واستبداله ببعض القيود، وفسح المجال أمام توريد أو تصدير بعض المنتجات التسليحية، وإلغاء القيود كاملة أيضاً بعد خمس سنوات.

- إلغاء الحظر عن المواد المزدوجة الاستخدام، وتأمين احتياجات إيران في هذا المجال عبر لجنة مشتركة بين إيران ومجموعة "5+1" لتسهيل ذلك.

- الإلغاء الكامل للحظر المفروض على مواصلة الطلبة الجامعيين الإيرانيين دراساتهم في الفروع الخاصة بالطاقة الذرية.

- لأول مرة منذ ثلاثة عقود من الحظر يتم إلغاء قرار منع بيع طائرات الركاب التي تحلق على ارتفاع عال، وفسح المجال أمام إعادة تأهيل قطاع الطيران الإيراني والارتقاء بمستوى الامان فيه.

- الإفراج عن عشرات مليارات الدولارات من العائدات الإيرانية التي تم تجميدها خلال السنوات السابقة خارج البلاد.

- إلغاء الحظر المفروض على المصرف المركزي، وشركة الملاحة البحرية الإيرانية، وشركة النفط الوطنية الإيرانية والشركات التابعة لها، بالإضافة إلى شركة الخطوط الجوية الإيرانية، وغيرها من المؤسسات والبنوك الإيرانية (في المجموع حوالي 800 ما بين أشخاص وشركات).

- تسهيل النشاطات الإيرانية في المجالات التجارية والتقنية والمالية والطاقة.

- إلغاء القيود المفروضة على التعاون الاقتصادي مع إيران وفي كل المجالات ومنها الاستثمار في الصناعات النفطية والغاز والبتروكيمياويات وغيرها.

- وأخيراً إتاحة المجال للتعاون الواسع على المستوى الدولي مع إيران في مجال الطاقة النووية السلمية وإنشاء محطات الطاقة الكهربائية والمفاعلات البحثية وأحدث التقنيات النووية.

وتلتزم إيران لفترة خمس سنوات بتخصيب اليورانيوم إلى تركيز لا يفوق 3.67%، وتؤكد خفض عدد أجهزة الطرد المركزي بمقدار الثلثين لمدة عشر سنوات. ويحق لإيران وفق بنود الاتفاق، الاستفادة من 5060 جهاز طرد مركزي في منشأة "نتانز"، ومن 1042 جهاز طرد مركزي في منشأة "فوردو".

ويفتح تخصيب اليورانيوم بواسطة أجهزة الطرد المركزي الطريق لاستخدامات مختلفة تبعاً لمعدل تكثيف النظير المشع من اليورانيوم "يوـ 235" بحسب المعدلات التالية: 3.5% إلى 5% بالنسبة للوقود النووي، و20% للاستخدام الطبي و90% لصنع قنبلة ذرية. وهذه المرحلة الأخيرة، الأكثر دقة، يعتبر انجازها أيضاً أسرع تقنياً.

وبحسب الاتفاق:

- يخفض عدد أجهزة الطرد المركزي التي تملكها إيران من أكثر من 19 ألفاُ حاليا، منها 10200 قيد التشغيل، إلى 6104 ـ أي بخفض الثلثين ـ خلال فترة عشر سنوات. وسيسمح لـ5060 منها فقط بتخصيب اليورانيوم بنسبة لا تتجاوز 3.67% خلال فترة 15 سنة. وسيتعلق الأمر حصراً بأجهزة الطرد من الجيل الأول.

- ستتمكن إيران من مواصلة أنشطتها في مجال الأبحاث حول أجهزة طرد مركزية أكثر تطوراً والبدء بتصنيعها بعد ثماني سنوات، خاصة أجهزة من نوع "اي ارـ 6" الأكثر قدرة بعشرة أضعاف من الآلات الحالية، و "اي ارـ 8" التي تفوق قدرتها بعشرين مرة.

- تخفض طهران مخزونها من اليورانيوم الضعيف التخصيب من 10 آلاف كلغم حاليا إلى 300 كلغم على مدى 15 عاماً.

- وافقت طهران على عدم بناء منشآت جديدة لتخصيب اليورانيوم طيلة 15 عاماً.

- وافقت إيران على التوقف عن تخصيب اليورانيوم خلال 15 سنة على الأقل في موقع "فوردو"، والذي يستحيل تدميره بحكم موقعه بعمل عسكري. ولن يكون هناك مواد انشطارية في "فوردو" على مدى 15 عاما على الاقل. وسيبقى الموقع مفتوحا لكنه لن يخصب اليورانيوم. وستسحب نحو ثلثي أجهزة الطرد الموجودة في "فوردو" من الموقع.

ـ فيما يتعلق بمنشأة "نتانز" التي تعد المنشأة الرئيسية لتخصيب اليورانيوم في إيران، وتضم حوالي 17 ألف جهاز طرد مركزي من نوع "آي ارـ1" من الجيل الأول، ونحو ألف جهاز من نوع "آي ارـ 2ام" وهي أسرع وتتميز بقدرة استيعاب تصل إلى 50 ألفا في الإجمال، وافقت طهران على أن يصبح "نتانز" منشأتها الوحيدة للتخصيب، وأن تبقي فيه 5060 جهاز طرد فقط كلها من نوع "آي ارـ 1". أما أجهزة الطرد من نوع "آي آرـ 2 أم" فستسحب وتوضع تحت إشراف الوكــالة الدولـية للطاقة الذرية.

ـ يوسع مجال صلاحيات الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الآن فصاعدا لتشمل كل الشبكة النووية الإيرانية، بدءاً من استخراج اليورانيوم وصولاً إلى الأبحاث والتطوير مروراً بتحويل وتخصيب اليورانيوم. وسيتمكن مفتشو الوكالة من الوصول إلى مناجم اليورانيوم وإلى الأماكن التي تنتج فيها إيران "الكعكعة الصفراء" (مكثف اليورانيوم) طيلة 25 عاماً.

ـ وافقت إيران أيضاً على وصول مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشكل محدود إلى مواقع غير نووية خاصة العسكرية منها إذا ساورتهم شكوك في إطار البروتوكول الإضافي لمعاهدة حظر الانتشار النووي التي التزمت إيران بتطبيقها والمصادقة عليها.

ـ ستجري تعديلات على مفاعل المياه الثقيلة الذي هو قيد الإنشاء في "آراك" كي لا يتمكن من إنتاج البلوتونيوم من النوعية العسكرية. وسترسل النفايات المنتجة إلى الخارج طيلة كل فترة حياة المفاعل.

إيران تدخل النادي النووي باتفاق "تاريخي"

ليس من شك أن التوصل إلى إبرام اتفاق تاريخي بهذا المستوى بين إيران ودول مجموعة الخمسة + واحد، لا بد أن ترافقه تنازلات مؤلمة من الطرفين، لكن حتى لو قدمت إيران هذه التنازلات فإنها استطاعت بفضل حكمة وإرادة قيادتها السياسية أن تطور برنامجها النووي في ظل تحديات إقليمية ودولية غاية في الصعوبة، إلى درجة أن هذا البرنامج أصبح بإمكانه أن يؤمن لإيران قاعدة صناعية وطاقية صلبة واستقلال اقتصادي، ودور إقليمي أفضل، هي كلها عناصر تم الحفاظ عليها في الاتفاق الذي جعل إيران رسمياً دولة عتبة نووية، قادرة ضمنياً على إنتاج السلاح النووي، لكنها لن تخطو نحو إنتاجه، كدول كثيرة تعمل في نادي العتبة النووية كاليابان والأرجنتين وكوريا الجنوبية وكندا وأستراليا.

كما أن التجميد الذي يلحق بأكثر أقسام البرنامج تقدماً خصوصاً إنتاج البلوتونيوم بالمياه الثقيلة، وتحريم بناء منشآت جديدة، ووقف منشأة "فوردو" عن العمل، ولجم تطوير البحث في طاردات مركزية جديدة، واقتصار البرنامج والتخصيب على نماذج قديمة، هي كلها أثمان لا بد من دفعها، غير أن عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً من تجميد جزئي للبرنامج، لا تحسب في حياة الأمم، ولا تزن فيها.

عبّر البرنامج النووي الإيراني عن مطامح  "الأمة" الإيرانية، لأنه لا يوجد أي حزب سياسي إيراني، ولا حتى المعارضة الملكية الموالية للشاه والقريبة جدا من واشنطن، تعارض امتلاك إيران التكنولوجيا النووية. وهناك شبه إجماع في المشهد السياسي الإيراني- الذي ليس هو أحادياً- على ضرورة امتلاك إيران التكنولوجيا النووي. وهذا الأمر ليس جديداً.

ففي زمن حكم الشاه، الحليف السابق للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في آن معا، حقق هذا الأخير أولى خطواته نحو تطوير البرنامج النووي الإيراني في أواسط السبعينات، ومنذ ذلك العهد بدأت الشكوك تنتاب مسؤولي الوكالة الدولية للطاقة النووية، رغم توقيع إيران على معاهدة عدم تطوير التكنولوجيا النووية لخدمة أغراض عسكرية منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، وإخضاع منشآتها النووية للتفتيش من قبل المؤسسة الدولية. وجاءت الثورة الإسلامية في عام 1979 لتضع حدا للبرنامج النووي الذي طورته إيران مع فرنسا. وقد استبعد آية الله الخميني الخيار النووي العسكري، بوصفه خيارا لا يتماشى مع تعاليم الدين الإسلامي.

واستقبل العالم الغربي، ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية منه، إعلان إيران انضمامها إلى "النادي النووي" في سنة 2006، أي انضمامها إلى الدول الحائزة تكنولوجيا نووية بقلق  بالغ و تنديد. واحتفلت إيران بـ"إنجازها" في استكمال دورة الوقود النووي،ذلك أن إعلان إيران أنها نجحت في تخصيب اليورانيوم إلى المستوى الضروري لإنتاج الوقود النووي، وبالتالي صارت الدولة النووية الثامنة في العالم، يسلط الضوء على الدول التي سبقتها إلى عضوية النادي النووي.

حتى الآن هناك أقل من عشرة بلدان تمتلك السلاح النووي. ومن أصل الدول التي تمتلك التقنية النووية، هناك خمس دول تمتلك أسلحة نووية وفق التعريف الذي تعتمده  "معاهدة منع الانتشار النووي TNP"، وهي فوق ذلك القوى الكبرى الخمس الدائمة العضوية  في مجلس الأمن، أي الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا (تحديداً الاتحاد السوفيتي السابق) وبريطانيا، وفرنسا، والصين، وكلها باستثناء الصين كانت الدول  الحليفة التي انتصرت على "دول المحور" في الحرب العالمية الثانية.

ومن المعروف هنا أن المواقف التقليدية من طرف القوى النووية الكبرى، الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، روسيا، الصين)، تصر على احتكار السلاح النووي، وتعارض امتلاكه من جانب أي دولة أخرى. لكن جرى خرق هذا الحظر، وقامت العديد من الدول بصناعة أسلحتها النووية، مثل إسرائيل والهند وجنوب إفريقيا وباكستان وكوريا الشمالية. بعض هذه الدول تمكن من خرق القاعدة خلال فترة الحرب الباردة (إسرائيل، جنوب أفريقيا)، والبعض الآخر انتظر حتى نهاية العقد الأخير من القرن العشرين حتى ينجز مشروعه النووي العسكري، مثل الهند التي أعلنت امتلاكها القنبلة الذرية في بدايات مايو/ أيار سنة 1998،وباكستان التي تلتها بأيام معدودة. وحدها كوريا الشمالية انتظرت حتى سنة 2006، لكي تعلن استكمال برنامجها النووي العسكري.

إن تجاوز هذا المحظور من طرف المجموعة الأخيرة، يعني عملياً رفض توقيع اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية التي تم التوصل إليها سنة 1995. وقد صار بدءاً من هذا التاريخ، في حكم الممنوع على أي دولة أن تكون مالكة للسلاح النووي، وتتمتع بعضوية الوكالة الدولية للطاقة الذرية في الوقت عينه . والسبب هو أن أحد شروط العضوية هو التوقيع على اتفاقية حظر الانتشار النووي، وهذا لا ينطبق من حيث المبدأ على القوى النووية التقليدية، كون برامجها النووية أصبحت سابقة للاتفاقية.

وهذا يعني أن على الدول التي سعت منذ ذلك الحين لدخول النادي النووي، أن تختار بين برنامج نووي عسكري يعرضها لمتاعب مع المجتمع الدولي، كما هو الحال مع إيران، وبين برنامج نووي سلمي تتولى منظمة الطاقة الإشراف عليه ومراقبته بصورة دائمة، وتقديم المساعدات الفنية اللازمة له. وقد ندر حتى الآن التسامح مع حالة من الحالات، حاولت خرق هذه القاعدة، وهذا يمكن ملاحظته بوضوح من خلال النزاع حول الملفين الكوري الشمالي والإيراني، حيث تبدو إمكانية الجمع بين الخيارين النوويين العسكري والمدني مستحيلة، وهي تلقى الرفض من جانب الدول الغربية المؤثرة.

لقد فضلت غالبية القوى النووية الجديدة، أي الواقعة خارج نادي الكبار، الخيار الأول الذي وصلته عبر أساليب ملتوية، بدأت عادة بإقامة برنامج مدني، ثم انتهت إلى برنامج عسكري. وقد رأت هذه القوى التي تقع أغلبها في منطقة جغرافية واحدة (آسيا الوسطى، وشرق آسيا)، أن امتلاك سلاح الردع أفضل لها من الناحية الإستراتيجية، من التوظيف النووي في الميدان السلمي، فالمشاكل التي تعيشها بسبب مخلفات نزاعات الحرب الباردة، والخلافات الإثنية والحدودية، دفعتها للتأمين على النفس بوجه التهديدات التي يمثلها الجار الآخر، كما هو الحال بين الهند والصين، وباكستان والهند، وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، أو اليابان وجاراتها.

دولتان من الدول غير الموقعة للمعاهدة انضمتا علناً إلى النادي النووي وهما الهند وباكستان بعد إجرائهما تجارب وتفجيرات نووية. أما إسرائيل التي تتكتم على وضعها وترفض توقيع المعاهدة، فتؤكد التقارير أنها تمتلك ما لا يقل عن 200 رأس نووي. أما كوريا الشمالية فقد اجتازت العتبة النووية على الأرجح، والحال هذه يبدو أن إيران يستهويها مسار النمط الكوري الشمالي.

وفي الواقع هناك خمسون دولة تمتلك اليوم مفاعلات أبحاث أو محطات طاقة التي تسمح لها باجتياز العتبة النووية إما عاجلاً وإما آجلاً. بيد أنه من الملاحظ أن عدد الدول المرشحة لامتلاك السلاح النووي قد تضاءل تدريجياً مع مر العقود. ولا بد من لفت النظر إلى أن هناك بلداناً مختلفة أيضاً، مثل كندا، وسويسرا، وألمانيا، والسويد، والبرازيل، وتايوان، وإيطاليا، وكوريا الجنوبية، والأرجنتين، وليبيا، والعراق، قد استهوتها المغامرة النووية في مراحل مختلفة وفي ظروف متنوعة. فجنوب إفريقيا سعت خلال فترة الحكم العنصري إلى دخول "النادي النووي" لكنها تخلت عن طموحها ودمرت موجودات ترسانتها لاحقا. كما أنه  يتعذر بدقة رصد المستوى الذي وصل إليه النشاط التخصيبي لكوريا الشمالية.

هناك ثلاثة عوامل رئيسة مرتبطة عضوياً سمحت إلى حد الآن استبعاد آفاق عالم حيث تتنافس فيه عدة قوى نووية. بيد أن هذه العوامل هي اليوم ضعيفة، منفردة ومجتمعة.

في مركز هذا الترتيب، يرمز بشكل طبيعي نظام حظر الانتشار النووي الذي تم التوقيع عليه في عام 1968، والذي وقعت عليه منذ ذلك الحين كل الدول باستثناء إسرائيل، والهند، وباكستان وكوريا الشمالية. وهذه المعاهدة هي مضمومة إلى نظام المراقبة والتفتيش للوكالة الدولية للطاقة النووية.

المكاسب الإيرانية من الاتفاق

في تغريدة على موقع "تويتر" كتب الرئيس الإيراني حسن روحاني أن نجاح المحادثات دليل على أن "الالتزام البناء يؤتي ثماراً" وأنه بات من الممكن الآن "التركيز على التحديات المشتركة" في إشارة إلى مكافحة تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"-"داعش". لكن من التداعيات الإيجابية للاتفاق على صعيد الداخل الإيراني، أنه  سيجري إنهاء تجميد مليارات الدولارات من أرصدة إيران، وإنهاء العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على إيران، والتي ستُرفع عندما يبدأ تطبيق الاتفاق.. الحظر والقيود المفروضة على التعاون الاقتصادي مع إيران سترفع في جميع المجالات بما في ذلك الاستثمار في النفط والغاز. سيجري الإفراج عن مليارات الدولارات من أرصدة إيران المجمدة... وسيجري رفع الحظر المفروض على الطيران الإيراني بعد ثلاثة عقود، والحظر المفروض على المصرف المركزي الإيراني وشركة النفط الوطنية الإيرانية وخطوط الملاحة الإيرانية وإيران للطيران والكثير من المؤسسات الأخرى والأشخاص. كما سينتهي حظر شراء بعض التقنيات والآلات ذات الاستخدام المزدوج سينتهي. يمكن لإيران أن تحصل على ما تحتاجه من خلال مفوضية مشتركة بينها وبين مجموعة 5+1... سيجري رفع حظر الأسلحة عن إيران وإحلال بعض القيود الجديدة. سيكون بإمكان إيران استيراد وتصدير السلاح حالة بحالة.

من خلال إبرام هذا الاتفاق التاريخي، ستتحول إيران إلى قوة اقتصادية كبرى في منطقة الشرق الأوسط، وهي رهانات لن تجد طريقها إلى التحقق إلا بعد رفع العقوبات الاقتصادية على إيران.

وجاء تعيين وزراء المجموعة الاقتصادية من ذوي التوجّه النيو/ليبرالي مقصوداً تماماً، لأن ذلك "سيرفع عوائق كثيرة من أمام ترطيب العلاقات الإيرانية - الأمريكية، بحيث يحصر الخلاف في نظرة كل من إيران وأمريكا للعالم والمنطقة بالمنظور السياسي فقط" (مصطفى اللباد - "السفير": حكومة روحاني الجديدة تكشف انحيازاتها مبكراً 12/8/2013).

بمعنى آخر، تراهن حكومة روحاني على السوق الإيراني الواعد بملايينه الثمانين وقدراتها الاقتصادية المتحررة من العقوبات للسيطرة على المنطقة من غير وسيلة السلاح النووي. وتملك إيران من الآن مشروعات جاهزة للعمل عليها للتحول إلى مركز "طريق الحرير الجديد"، عبر إنشاء مشروعات عملاقة تربط إيران بجيرانها الأقربين والأبعدين، مثل إقامة موانئ جديدة على بحر العرب وتوسيع المطارات القائمة لاجتذاب رحلات طيران مباشرة وسائحين من شرق آسيا، ومدّ خطوط أنابيب الغاز الطبيعي جنوباً إلى الهند وباكستان وشمالاً إلى تركيا وأوروبا وبالتوازي معها خطوط سكك حديدية في الاتجاهين. وفي العام الماضي، افتتح خط سكة حديد جديد بملكية إنكليزية تحت اسم "مجوهرات فارس"، يصل بين بودابست وعدد من المدن الإيرانية مثل مشهد ويزد وشيراز وأصفهان، كباكورة لسياحة أوروبية واعدة. كما تزمع إيران إقامة ست مناطق حرة لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية بالتركيز على إعادة التصدير وعلى قطاع البتروكيماويات. باختصار، تراهن إيران على التحول إلى المركز الاقتصادي الممتاز بين شرق آسيا والشرق الأوسط. ولذلك الغرض، تراهن إيران على تحييد أمريكا سياسياً عبر تحسين العلاقات معها، وفي الوقت نفسه الانفتاح على بقية القوى الكبرى في العالم مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي والدول النافذة مثل اليابان والهند وكوريا الجنوبية(جريدة السفير 13تموز 2015).

وعلى الرغم من الخلافات السياسية القائمة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، فإن القيادة السياسية الإيرانية ستتعامل ببراغماتية عالية في المجال الاقتصادي مع الدول الكبرى الغربية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، التي سيسيل لعاب شركاتها العملاقة على الاستثمار في السوق الإيرانية الناشئة التي تعد 80مليون مستهلكا، فضلاً عن الثروات البترولية و الغازية التي تملكها إيران .و ما يهم الشركات الأمريكية العملاقة، هو الاستثمار في قطاع  الطاقة و الذي تحتاجه إيران من أجل تطوير بنيتها التحتية في هذا المجال، وقد تصل الاستثمارات في قطاع الطاقة إلى مئات المليارات من الدولارات، وهو ما لا تقدر عليه سوى الشركات الأمريكية، التي تمتلك التكنولوجيا المتطورة ورأس المال.

إن قسطاً أساسياً من قوة الموقف الإيراني يعود إلى الموقفين الروسي والصيني. فإلى وقت قريب بدت روسيا والصين على غير اتفاق مع أوروبا والولايات المتحدة فيما يخص البرنامج النووي الإيراني. ويعود تميزهما هذا إلى أسباب تخص كل منهما على حدة، لكنها مرتبطة في الأحوال كلها بعلاقات التبادل مع إيران.فالصين على تعاون مع إيران منذ فترة طويلة، ولاسيما في ميدان الصواريخ الباليستية بعيدة المدى، وهناك آفاق واسعة للعلاقات الثنائية في المستقبل القريب، في ظل حاجة إيران للخبرات الصينية في تشييد البنية التحتية. ولم تقدم الدبلوماسية الصينية على أي خطوة من شأنها تعكير صفو العلاقة والصداقة مع طهران التي وجدت أن مصدر انطلاقتها في السنوات الأخيرة هو امتلاكها للنفط .والصين اليوم سعياً وراء امتلاك الطاقة تتوق إلى الانخراط في الرهانات الجيوبوليتيكية أصبحت منذ عام 1993 مستورداً صريحاً للذهب الأسود. فهي تشتري ثلث احتياجاتها من الخارج، وسوف يتجاوز هذا المعدل ليصل إلى 50% في عام 2020، ومن المحتمل إلى 80% في عام 2030. ويضع هذا الأمر الصين في حالة فقدان للأمن الاستراتيجي، ما دام ثلث هذا الاستيراد مصدره الشرق الوسط. زد على ذلك حالة عدم الاستقرار التي تعاني منها المنطقة، النفط يصل الصين عبر الطرق البحرية أي 12000كم تفصل ما بين شنغهاي و مضيق هرمز الواقع تحت سيطرة القوات البحرية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية.

هذا يعني أن الحماس الصيني للفكاك من ربقة الحصار الأمريكي عبر إقامة علاقات وثيقة مع دول نفطية لها حساسيتها الخاصة تجاه واشنطن، والهدف هو فتح مزيد من نقاط  العبور إلى ممرات آسيا الوسطى التي اشتهرت بالأمان. وفي هذا الصدد تقدم إيران ورقة رابحة مزدوجة. ففي عام 2004، وقع البلدان اتفاقاً تشتري بموجبه الصين مادتي الغاز والنفط بقيمة 70 مليار دولار، ومدّة التسليم تصل على ثلاثين عاماً. ومن هذا المنطلق سوف يساهم الصينيون في  استثمار آبار يادفاران الواقعة على مقربة من الحدود العراقية، كما تأمل بكين أن تشارك في مشروع خط الأنابيب مرورًا بإيران وحتى بحر قزوين، حيث يمكنها لا حقاً الاتصال مع خط الأنابيب الآخر الذي يربط كازاخستان  بالصين الغربية.

إن الاتفاق الأمريكي لآسيا الوسطى لا يتفق مع تلك المخططات. وهذا بدوره قد أحيا مخاوف بكين حيال الطرق القارية البديلة، يغذيه قلق الصينيين من الوقوع بين فكي كماشة من الشرق والغرب. من هنا عملت بكين وطهران  اللتين تواجهان الاستهداف عينه لتصليب جبهتيهما في مواجهة الاندفاع الأمريكي في المنطقة.

هدف إيران المعلن هو جعل الصين في رأس قائمة مسوقي النفط والغاز الإيرانيَّيْن بدلا ًمن اليابان. وفي هذه الظروف لم يكن مستغرباً معارضة الصين في عام 2004 لقرار مجلس الأمن الخاص بالملف النووي الإيراني. وخلال السنوات الماضية،كانت الصين تعارض فرض العقوبات على طهران أو الحديث عن أية إجراءات عسكرية أخرى. فالصين "لا تزال ترى أن الحل الدبلوماسي هو الحل الأنسب". أما الموقف الروسي، فهو الأكثر وضوحاً وتأثيراً. فروسيا هي الحليف الأول لإيران فيما يتصل بالبرنامج النووي، وكانت مواقف موسكو مؤيدة  لطهران دائماً، أو رافضة لمسايرة الضغوط الأوروبية والأمريكية عليها، وآخر هذه المواقف الاقتراح الذي قدمته روسيا لإيجاد مخرج من عقدة تخصيب اليورانيوم الذي تصر عليه إيران.

تداعيات الاتفاق على الصعيد الإقليمي

رحبت الدول الكبرى التي أبرمت الاتفاق مع إيران، بهذا الإنجاز التاريخي، وأجمعت على القول إنها تأمل في أن تغتنم طهران الفرصة للعودة إلى الأسرة الدولية. فيما قال الرئيس الأمريكي أن الاتفاق يؤكد على نجاح الجهود الدبلوماسية المضنية ويوفر الفرصة لتطبيع العلاقات مع إيران. وأضاف "لقد أوقفنا انتشار الأسلحة النووية في المنطقة. تم قطع جميع الطرق المؤدية إلى السلاح النووي". وتابع "هذا الاتفاق يوفر فرصة للمضي في اتجاه جديد علينا أن نغتنمها"، واعداً برفع العقوبات الأمريكية عن إيران التي لا تزال العلاقات الدبلوماسية مقطوعة معها منذ 35 عاماً. ولكنه حذر من أنه إذا لم تحترم إيران التزاماتها فسيتم فرض "كل العقوبات" مجدداً.

بمجرد إعلان الاتفاق مع إيران، بدأ الرئيس الأمريكي معركته الدبلوماسية الأخيرة قبل إدخال الاتفاق حيز التنفيذ، وهي معركة داخلية بحتة حيث يأمل أوباما الحصول على دعم كامل من الكونغرس لـ"اتفاق مهم بهذا الحجم" بحسب تعبيره. وحذر أوباما الكونغرس من أنه سيستخدم "حق النقض ضد أي تشريع يعرقل التطبيق الناجح للاتفاق. نحن الآن لا نلعب لعبة سياسية داخلية" في إشارة تحذيرية إلى معارضيه الجمهوريين. وشدد أوباما على أن "الاتفاق يقطع أي طريق أمام إيران للحصول على أسلحة نووية" مؤكداً ارتكاز الاتفاق على "التحقق من قيام إيران بالتزاماتها وليس على الثقة بالقادة الإيرانيين.

ولما كانت إيران تدرك خطورة سيناريو أن يدخل الاتفاق عن طريق فيتو أوباما داخل الكونغرس، وهو ما يجعل الاتفاق ضعيف أمريكياً، يمكن نقضه عن طريق الرئيس الأمريكي المقبل، أصر الوفد الإيراني في المفاوضات أن يتم تأمين غطاء دولي للاتفاق في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وسيتم طرح مشروع قرار بهذا الصدد عندما يتم تمرير نص الاتفاق إلى مجلس الأمن. والقرار الدولي المتوقع تبنيه سينص على رفع العقوبات الدولية المفروضة على الاقتصاد الإيراني، ما قد يعرقل قدرة الرئيس الأمريكي المقبل على التنصل من الاتفاق إلا بمبرر حقيقي مثل انتهاك الإيرانيين شروط الاتفاق ورفضهم الإجابة على طلب ما من الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

الاتفاق بمنزلة الكارثة على إسرائيل

هناك إجماع من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار الإسرائيليّ بمُعارضة تحوّل إيران إلى دولةٍ نوويّة، لأنّ أحد أعمدة السياسة الإسرائيليّة منذ إقامتها على أنقاض الشعب الفلسطينيّ يقوم على منع الدول المُعادية من امتلاك أسلحة غير تقليديّة. ولم يبقَ أمام إسرائيل سوى ساحة الكونغرس كملعب وحيد للمواجهة، على أمل أنْ يساهم ذلك في عرقلة إقرار الاتفاق، كما قالت المصادر السياسيّة الإسرائيلية. وتقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو طابور المنددين بالاتفاق، واصفاً إياه بـ"الخطأ التاريخي" وإنه سيبذل قصارى جهده "لعرقلة طموحات إيران النووية". وأضاف في بداية اجتماع مع وزير الخارجية الهولندي بيرت كوندرز الذي زار القدس المحتلة ورام الله في أواسط شهر تموز 2015، "ستحصل إيران على مسار آمن ومؤكد نحو الأسلحة النووية. ستُرفع الكثير من القيود التي من المفترض أن تمنعها من الوصول إلى ذلك".

وتابع نتنياهو "ستحصل إيران على الجائزة الكبرى. جائزة حجمها مئات المليارات من الدولارات ستمكنها من مواصلة متابعة عدوانها وإرهابها في المنطقة وفي العالم. هذا خطأ سيئ له أبعاد تاريخية".

وشدد نتنياهو أمام الصحافيين على أن "إسرائيل غير ملزمة بهذا الاتفاق مع إيران. إسرائيل ليست ملزمة بهذا الاتفاق مع إيران، لان إيران ما زالت تسعى لتدميرنا"، مضيفاً: "سنواصل الدفاع عن أنفسنا".

من ناحيته، حذّر وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون من أنّ الدول الكبرى ترتكب خطأً تاريخيًا بتوقيع اتفاق سيئ مع إيران، وتقدم تنازلات غير مسبوقة لنظام ينشر الإرهاب ويهدّد العالم بالحرب.

وقال يعلون، أمام لجنة الخارجية والأمن البرلمانية، إنّ "الاتفاق النوويّ مع إيران سيؤثر أكثر من أي شيء آخر في مكانتنا السياسية والأمنية، لأنّ الحديث يدور عن اتفاق سيئ يسمح لإيران بأنْ تكون دولة حافة نووية". وأضاف أنّه "سيكون لهذا الاتفاق انعكاسات على دول أخرى ترى في هذا الوضع تهديدًا عليها، مثل السعودية ومصر وتركيا"، وتوقف عند حقيقة أنّ هذا الاتفاق لن يؤدي في الواقع إلى إغلاق منشأة نووية واحدة أو تدمير جهاز طرد مركزي واحد. كما حذّر من المستقبل الآتي لإسرائيل، مؤكّدًا على أنّها ستُواصل الاستعداد للدفاع عن أنفسنا بقدراتنا الذاتية. وخلُص إلى القول إنّ الاتفاق يُبيّض صورة إيران، التي خرقت قرارات مجلس الأمن.

تداعيات الاتفاق على منطقة الشرق الأوسط

يجمع المحللون أن الشرق الأوسط ما قبل الاتفاق النووي، لن يكون كما بعده. وبين متفائل من الاتفاق، ومتشائم منه، ما هو مؤكد أن التسوية التاريخية التي حصلت في فيينا، ستتمخض عنها نتائج جيو/سياسية في منطقة الشرق الأوسط، و ستمثل محطة محورية لإعادة رسم المشهد الجيو/استراتيجي في الشرق الأوسط على المدى المنظور، إن على المستوى الداخلي في هذا البلد أو ذاك، أو على مستوى العلاقات العابرة لـ"حدود سايكس – بيكو" التي تزداد هشاشة يوماً بعد يوم. هكذا يجزم كثيرون بأن الاتفاق النووي ستترتب عليه نتائج جيو/سياسية أكثر أهمية بكثير من خطوات أخرى توازيه في الأهمية اتخذها باراك أوباما بعد بدء ولايته الرئاسية (الانسحاب من العراق) وفي وسطها (الانسحاب من أفغانستان) ومع بدء العد العكسي لنهايتها (الاتفاق التاريخي مع كوبا)، وهو ما يوحي بإعادة ترتيب للسياسات الخارجية قبل ان يتسلم خلفه، ديمقراطياً كان أم جمهورياً، مفاتيح البيت الأبيض بعد ما يقرب من العام ونصف العام.

والواضح حتى الآن أن الاتفاق النووي يعني، من الناحية السياسية، اعترافاً مباشراً من قبل الولايات المتحدة بإيران كقوة إقليمية كبرى، ينبغي التنسيق معها في كل ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط، وهو ما يمنح، بطبيعة الحال، هامش مناورة سياسياً واسعاً للجمهورية الإسلامية في مقاربة الكثير من الملفات الملتهبة. وربما يكون الميدانان السوري والعراقي الاختبار التطبيقي الأول للتحوّلات السياسية المترتبة على الاتفاق النووي. وفي هذا الإطار، كان لافتاً ما قاله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من أن الاتفاق النووي يسهّل تشكيل "تحالف واسع" ضد "الدولة الإسلامية"، وما أشار إليه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، بعيد إعلان فيينا، من انه ينبغي حث إيران على المساعدة في إيجاد حل للازمة السورية.

ومع ذلك، فإن الطرفين الإيراني والأمريكي قد يلتقيان عند مصلحة مشتركة تتمثل في التصدي للخطر المتنامي الذي يمثله "داعش"، علماً بأن الطرفين أجريا تجارب ميدانية صغيرة في هذا الإطار خلال الأشهر الماضية على جبهات القتال ضد التنظيم التكفيري في العراق(صحيفة السفير 15/7/2015).

يقوم المشروع الإيراني على فرضية مفادها أن توازن الرعب في الخليج، والحضور الإيراني المكثف الذي يمتد من غرب أفغانستان إلى سورية ولبنان سيضغط على واشنطن لقبول إيران كشريك إقليمي أبرز، وبالتالي تقاسم المصالح والنفوذ في العالم العربي، في جغرافيته ونفطه وموارده. وفي المقابل تريد واشنطن من طهران التعاون معها للخروج من مأزقها في كل من أفغانستان والعراق وملاحقة الإرهابيين، ومنع إيران من امتلاك السلاح النووي، مقابل سلة من الحوافز لإيران بينها ضمانات بعدم تغيير النظام، وبدائل للبرنامج النووي .

وتظل الأولوية لإيران تكمن في تحقيق طموحاتها النووية التي تخدم بالضرورة دورها الإقليمي الفاعل في منطقة الخليج العربي، والشرق الأوسط عموماً، مستغلة غياب الدور الإقليمي العربي، وانتهاجها إستراتيجية "الممانعة"، أي مواجهة إسرائيل عبر الحركات الإسلامية الجهادية في لبنان وفلسطين في ظل انسداد مسارات التسوية للصراع العربي- الصهيوني الذي تنخرط فيه الدول العربية الرئيسية بأشكال متفاوتة، ومواجهة أمريكا عبر حلفائها في العراق، الأمر الذي يظهر إيران في أعين الشعوب العربية كقوة "تغيير" في مقابل عجز الدول العربية.

تريد إيران أن توظف العامل النووي لكي يفسح لها في المجال لتكريس موقعها كقوة إقليمية كبرى لها شأنها في التاريخ والحضارة، والشؤون المعاصرة وبالتالي الإقرار بتفوقها الإقليمي كتحصيل حاصل. بهذا المعنى، يقول الكاتب المتخصص في الشؤون الإيرانية ميشال نوفل، يمكن تفكيك لغز البرنامج النووي الإيراني (أو السعي إلى الحصول على القدرة النووية) باعتباره "كلمة السر" لسلة المطالب الإيرانية الموازية لـ"الأذرع الإقليمية" في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان والأوراق السياسية المتصلة بها والتي تعتقد طهران أنها تتحكم بها ويمكن أن تضغط من خلالها على رقعة شطرنج "اللعبة الكبرى" في الشرق الأوسط والخليج. وقد رأينا اللاعب الإيراني يلجأ إلى التلميح حيناً أو الغمز من قناة "الشريك" الأمريكي حيناً آخر لتمرير رسائل من نوع "لقد حدث أن اتفقنا وإياكم في الماضي حول أفغانستان.. وحول العراق في مرحلة معينة" وكأن يريد أن ينبه مجموعة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا إلى أنه لا ينوي الانخراط في الحوار ليقتصر على الموضوع النووي فحسب(...).

إذاً، إن المسألة الملحة الآن من وجهة نظر الحكومة الإيرانية تدور حول طريقة توظيف العامل النووي في محادثات شاملة تتناول كل القضايا المتعلقة بموقع إيران الإقليمي والاعتراف بدورها كشريك كامل الحقوق بحيث يجري التعامل معها مثل تركيا على الأقل، على أن يُصار إلى إرجاء البحث في حجم هذا الدور وحدوده إلى مرحلة لاحقة، مع التشديد على أن الشرط الضروري لقيام الحوار هو الابتعاد عن التعامل مع إيران وكأنها عنصر دخيل على المنطقة.

لذلك يمكن رؤية الصراع التنافسي المحتدم بين إيران وإسرائيل على أنه- في أحد وجوهه- تنافس على دور الوكيل الإقليمي الوحيد لواشنطن في منطقة منزوعة المشاريع الإقليمية العربية، منذ الغزو الأمريكي للعراق. فهل ستقبل واشنطن بدور إقليمي لإيران؟ المنطق والعقل يقولان إن احتمالات التغيير في ديناميكية العلاقة بين أمريكا وإيران ممكنة من دون التخلي عن الثوابت والهواجس للبلدين.

إن إيران فخورة بتاريخها العريق، وهو تاريخ مليء بالحقد على القوى الأجنبية التي حاولت أن تملي عليها سياساتها. وقد أصبحت المسألة النووية قضية وطنية، فالإيرانيون بمختلف نزعاتهم، من الليبراليين المقربين من الغرب إلى الأصوليين، يعتبرون أن الحصول على التكنولوجيا النووية هو ضرورة وطنية. وحتى وإن تغير النظام فإن السياسة النووية ستستمر، كما استمرت بعد ثورة العام 1979. وأكثر ما تعرضه للخطر الإستراتيجية الأمريكية الحالية هو التعاطف الذي تتمتع به في أوساط الشعب الإيراني، وهو الورقة الوحيدة التي تملكها في هذا البلد. وبإصرارها على إذلال إيران وحرمانها أشكال التقدم التكنولوجي فإن ما تقوضه واشنطن هو مصالحها الخاصة.

وإذا كانت الدول العربية، ولاسيما الخليجية منها، مارست سياسة الصمت لمدة طويلة إزاء البرنامج النووي الإيراني، فإن تخوفها الآن نابع من أن برامج إيران باتت تشكل مشكلة كبرى لنظام منع الانتشار النووي، وللأمن الدولي، ولأمن الخليج على وجه الخصوص، في ظل تضافر الدلائل على أن إيران أنجزت مشروعاً لتخصيب اليورانيوم بنسبة 20%، وتسير بخطى ثابتة وقوية على طريق امتلاك السلاح النووي، الأمر الذي ينصبها على رأس المعسكر الراديكالي المتشدد في الشرق الأوسط العربي والإسلامي. ومن المرجح أن تحمل إيران إذ ذاك الدول الإسلامية والعربية على التزام سياستها الراديكالية، وعلى قطع علاقتها مع الكيان الصهيوني.

بيد أن العوامل التي جعلت هذه الاستكانة العربية لا يمكن احتمالها على أكثر من صعيد، ورجحت كفة القلق، وتصدرت دواعي التساهل، هي الصعود القوي لإيران في المنطقة بعد الاحتلال الأمريكي له في العام 2003، وبروزها كقوة طليعية للتيار الراديكالي، فضلاً عن احتمال ظهور جار نووي قريب من الخليج .

على نحو غير مألوف، أظهرت الحرب العدوانية التي خاضها الكيان الصهيوني ضد حزب الله في صيف 2007، في نظر القادة العرب عمق وقوة التأثير والاندفاع الإقليمي الإيراني في المنطقة، لاسيما في لبنان. فهذه الحرب، لا الوضع السائد في العراق، هي التي أسهمت في خلق تعبئة سياسية لا مثيل لها، بعد أن أثبتت الحرب أن إيران أصبحت اللاعب الأول على الساحة اللبنانية، وأن قدراتها العسكرية المتطورة، التي أظهر "حزب الله" جزءاً صغيراً منها، هي إحدى أهم أوراقها الردعية. وهناك "البراعة" الإيرانية في نسج التحالفات سواء مع أحزاب تنطوي تحت مظلة "الشيطان الأكبر" في العراق؛ أو مع أخرى تناصب واشنطن العداء العقائدي في لبنان، جعلت جمعها للتناقضات الأيديولوجية في سياسة إقليمية تخدم مصالحها الوطنية مثالاً يومياً على براغماتية سياسية قلَّ نظيرها .

وفضلاً عن ذلك فإن القضايا الكبرى التي تواجهها المنطقة، بدءاً من الصراع العربي – الصهيوني، ومروراً بالأزمتين العراقية والسورية، وانتهاء بالتسوية التاريخية حول البرنامج النووي الإيراني التي تعطي إيران دوراً إقليمياً بارزاً، تؤكد ليس فقط الارتباط الإقليمي البنيوي المستجد الذي أصبح يربط بين هذه القضايا، ولكن أيضاً امتداداتها السلبية سواء بشكل مباشر، أم عبر تفرعاتها وتجلياتها، وخصوصاً السياسية والإيديولوجية والطائفية، إلى داخل المجتمعات العربية نفسها. وبسبب عدم فاعلية دول الخليج العربي في تحقيق مسائل الأمن الإقليمي، عزز هذا الوضع  موقع إيران، وزاد من تبعية الدول العربية الخليجية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية.  

اعلى الصفحة