الاتفاق النووي الإيراني: معاني وتداعيات

السنة الرابعة عشر ـ العدد 164 ـ (شوال ـ ذو القعدة 1436 هـ) آب ـ 2015 م)

بقلم: معين عبد الحكيم*

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

"إن الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران مع القوى العالمية الست سيساعد على بناء الثقة ووصف الاتفاق بأنه حدث تاريخي". هذا ما قاله وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف اليوم الثلاثاء (14 يوليو/ تموز 2015). وأضاف "إنه يوم تاريخي.. سيساعد الاتفاق على بناء الثقة بين إيران والقوى". 

قد يكون الاتفاق النووي ما بين إيران والمجموعة الغربية نقطة انعطاف في مسيرة المفاوضات والدبلوماسية الدولية فالاتفاق وسيلة وليس هدفاً بحد ذاته ذلك أننا وجدنا توافقاً في الشهور الأخيرة واضح الدلالة وهو الاتفاق على المعاهدة والاتفاق ذاته بغض النظر عن مضمون الاتفاق والنقاط التي كانت مثار جدل ونقاش واختلاف ويمكن أنها المرة الأولى في تاريخ العلاقات الدولية الحديثة نجد نهاية لمفاوضات مضنية بدأت منذ أكثر من عشر سنوات وتعثرت مرات عديدة لتعاود نشاطها الدؤوب على امتداد العامين الماضيين بحيث كانت الحدث الأكثر حضوراً على الساحة الإعلامية العالمية وذلك بانتظار النتائج التي تتمخض عنها.‏

وعلى الرغم من المعارضة الشديدة للاتفاق من جانب حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية الأساسيين في المنطقة مثل الكيان الصهيوني والسعودية ودول الخليج العربي فإن الولايات المتحدة وإدارة أوباما لم تخضع أبداً لتلك الضغوط التي طالت الداخل الأمريكي ضمن الكونغرس فضلاً عن وصول الضغوط إلى داخل البيت الديمقراطي الحزبي الذي أوصل أوباما إلى كرسي البيت الأبيض انتهى سباق المفاوضات الطويل بمعادلة تحافظ على الحقوق السيادية لإيران فيما ترى الولايات المتحدة والغرب الأوروبي أنه حقق هدفه بمنع إيران من تصنيع قنبلة ذرية الأمر المرفوض شرعاً من أعلى مرجعية في إيران, أما الموقف الرافض والمعارض للاتفاق فإنه لم يخف غضبه واصفاً الاتفاق بأنه خطأ تاريخي وفق رأي بنيامين نتنياهو رئيس حكومة العدوان فيما التزم الخليجيون الصمت المصحوب بالغضب بعد فشل مساعيهم المركزة خلال الشهور الستة الماضية مع كل من إسرائيل ولجنة "أيباك" اللوبي الصهيوني الضاغط داخل الولايات المتحدة.‏

المهم في الأمر أن توقيع الاتفاق جاء نتيجة حالات شد وجذب وتمديد مهل ما يعكس تباينات في المواقف فيما كانت النتيجة محطة تحول في العلاقات الدولية التي تعيد للدول حقوقها المغتصبة وتحد من سياسة الضغط وفرض العقوبات التي لم تجد نفعاً في منع إيران من الوصول إلى أهدافها.‏

إنها طريقة الانتصار القادم من معاناة طويلة والتزام مؤكد وإيمان راسخ وعمل جاد لدولة لم ترتضِ لنفسها التبعية أو التفريط بحقوق شعبها.‏

معاني ودلالات

شأنه شأن الانعطفات الكبرى في التاريخ يضع الإعلان عن الاتفاق بين إيران والدول الست حول البرنامج النووي الإيراني، حداً بين مرحلتين سابقة ولاحقة، بما يعنيه ذلك من انقلاب في المعادلات والتوازنات والأولويات على مستوى صراعات الإقليم بل العالم، فالأهمية الإستراتيجية للإعلان لا تتعلق بالتفاصيل النووية ولا حتى بدخول إيران رسمياً إلى نادي الدول النووية كما سبق أن دخلته باكستان حليفة الغرب، من دون أن يعني ذلك أي تغيير جدي في توازنات القوى على الساحة الدولية، بل إن الأمر يتعلق في الحالة الإيرانية باضطرار الغرب بعد 35 عاماً من محاولة فرض العزلة والحصار والحروب المباشرة وغير المباشرة على دولة تنتمي للعالم ثالث، إلى الاعتراف أخيراً بهذه الدولة كقوة كبرى وطرف مهم في الأسرة الدولية، لتكون إيران بذلك أول دولة في العالم يشرع لها مجلس الأمن والأمم المتحدة كامل حقوقها النووية السلمية، وأول دولة في العالم تخرج من تحت طائلة البند السابع بالجهود الدبلوماسية، وأول دولة في العالم يعترف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في خطاب علني بأنها شكلت نداً ذكياً لبلاده، وليتم كل ذلك وإيران لا تزال ترفع ذات الشعارات السياسية التي رفعتها إبان ثورتها، والتي تسببت بالمواجهة التاريخية القاسية مع الغرب خلال العقود الثلاثة والنصف الماضية، ما يعني أوتوماتيكياً وبالضرورة سقوط البروباغندا التي كانت تلصق صفات الجنون والفشل بقيادة هذا البلد، وبقيادة أي بلد يجرؤ على تحدي السياسات الغربية في العالم، ما سيكون له تداعيات ضخمة على صعيد فتح الأفق أمام طموحات دول العالم الثالث الراغبة بالانعتاق والتحرر من أعباء التبعية السياسية والاقتصادية لدول العالم الغربي التي تفقد مركزيتها التاريخية في النظام الدولي بسرعة يوماً بعد آخر.

بالتأكيد لا يعني ما سبق أن الاتفاق يضع نهاية لصراع الغرب مع إيران، أو أننا سنكون إزاء تحالف غربي إيراني، كما تحاول أن تصور الدعاية السياسية الساذجة التي تطلقها الأنظمة العائلية المرتبطة تاريخيا ووجودياً بالغرب في عالمنا العربي، بل إن الترجمة السياسية الواقعية للإعلان عن الاتفاق بين إيران والدول الست الكبرى في العالم تتلخص بالاعتراف العالمي الناجز بإيران وبموقعها في معادلات الصراع الدولي كطرف أساسي، وبالتخلي النهائي عن فكرة حذف دورها، سواء كان ذلك عبر استهدافها بضربة عسكرية أو حصارها اقتصادياً أو عبر محاولة إسقاط حلفائها، وبالتالي نحن أمام نموذج شبيه بالاعتراف بمكانة الاتحاد السوفييتي كدولة عظمى إثر الحرب العالمية الثانية، أو الاعتراف بالمارد الصيني في بداية عقد السبعينيات، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكي نفسه خلال خطابه الذي تلا إعلان الاتفاق، لكن ما يميز النموذج الإيراني كبلد متوسط العدد سكانيا ويقع خارج القارة الأوروبية البيضاء، البعد التحرري الذي ينطوي عليه، والذي سيجعله حالة ملهمة لشعوب وحكومات البلدان النامية في المنطقة وحول العالم، وبالتالي يشبه نجاح إيران بانتزاع الاعتراف ببرنامجها النووي نجاح مصر الناصرية في واقعة تأميم قناة السويس، وهو النجاح الذي أهلها لإطلاق مشروع على مستوى المنطقة سمي بالمد القومي العربي، وكما شكل نجاح مصر في تأميم قناة السويس ذعراً للقاعدة الاستعمارية في المنطقة (إسرائيل) ولأنظمة السلالات العائلية المرتبطة جذريا بالغرب وسياساته في منطقتنا، يسبب الاعتراف الدولي بإيران عبر بوابة الاعتراف بمشروعها النووي اليوم ذعراً مضاعفاً للأطراف الإقليمية ذاتها، فإيران التي تصر على لسان قادتها على خوض معركة وجودية مع الصهيونية والغطرسة الأمريكية، أنجزت خلال فترة العقوبات ومحاولات العزل الماضية، بنية علمية وعسكرية ضخمة، واقتصاداً متيناً سيزيده رفع العقوبات الاقتصادية انتعاشاً، ما يعني فضيحة تاريخية ثقيلة لأنظمة السقوط العربية التي حاولت بإلحاح إقناع شعوبها خلال العقود العجاف السابقة منذ اتفاقية كامب ديفيد، بعقلانية سياسة الارتماء تحت الجزمة الأمريكية وبفوائد التكيف مع الحالة الصهيونية.

مرحلة جديدة من التوازنات

لا يستطيع المراقب، والمتابع لمسيرة المفاوضات النووية الإيرانية إلا أن يقف باحترام، وتقدير كبيرين لهذا الصبر، والجَلَد الإيراني، والثبات والعزيمة الكبيرين اللذين تمتعت بهما القيادة الإيرانية، والشعب الإيراني حتى ساعة إعلان الاتفاق التاريخي الذي يعود الفضل في إنجازه أيضاً لقوى محور المقاومة، وعلى رأسها سورية بشعبها البطل، وجيشها الأبي، وتضحياتها الكبيرة، إضافة لحزب الله المقاوم- الشريف- والبطل…

شاء من شاء، وأبى من أبى ستدخل المنطقة، والعالم مرحلة جديدة في التوازنات الإقليمية، والدولية، وهناك رابحون، ومهزومون حتى لو قيل إن الاتفاق قائم على وضعية (رابح- رابح)- وهو كذلك ولكن هناك من هو مهزوم نفسياً، وفعلياً نتيجة بناء سياساته كاملة على العداء لإيران لأكثر من عدة عقود، وهنا أخص بشكل رئيسي "إسرائيل والسعودية" اللتين أصيبتا بالصدمة بعد إعلان الاتفاق، لأن مجرد إعلانه يعني سقوطاً كاملاً، وإفلاساً لسياساتهم التي سُخرت من أجلها وما تزال إمكانات كبيرة لمنع توقيع الاتفاق…

واشنطن صاحبة الإرادة وراء توقيع هذا الاتفاق التاريخي انطلقت في مقاربتها من عدة نقاط أبرزها:

1- ضرورة انخراط واشنطن، مع القدرة على تلبية الحاجات الإستراتيجية الأساسية، هو أفضل بكثير من عقوبات، وعزل بلا نهاية (أوباما- 5/4/2015 نيويورك تايمز).

2- على الولايات المتحدة التي تمتلك قدرات عسكرية هائلة أن تمتلك الثقة بالنفس للسير ببعض المخاطر المحسوبة بهدف فتح إمكانات جديدة، وفرص مهمة- مثل الاتفاق النووي مع إيران الذي سيضع البرنامج النووي تحت أعين واشنطن، وهو أفضل من ترك إيران تتقدم لصنع قنبلة نووية…

3- قال أوباما بوضوح في حديثه الشهير مع توماس فريدمان: (إذا تمكنّا من حل هذه القضايا بالطرق الدبلوماسية، فإننا على الأغلب سنكون أكثر أماناً، وأمناً، وفي وضع أفضل لحماية حلفائنا.. ومن يعرف يمكن أن تتغير إيران..

4- لا خيار لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي، ولذلك الأكثر فعالية في هذه الحالة المبادرة الدبلوماسية، والاتفاق الذي يمكن من خلاله إقامة الدليل- وإثبات النوايا.

5- إن أي ضربة عسكرية، أو عدة ضربات عسكرية يمكن أن تؤخر البرنامج النووي الإيراني لمرحلة من الزمن، ولكن من المؤكد أن ذلك سوف يدفع إيران للإسراع نحو القنبلة، ويقوي التيار المتشدد في إيران. وإذا لم نفعل شيئاً (كما قال أوباما) سوى المحافظة على العقوبات فإنهم سوف يستمرون في بناء البنية التحتية النووية، ولن تكون لدينا إمكانية من الداخل لمعرفة ما يحدث، إضافة إلى أن امتلاك الدول لقنبلة نووية يجعل حل الأمر أكثر خطورة، والمشكلة أكثر تفاقماً..

إذاً بوضوح شديد قالها أوباما قبل ثلاثة أشهر: إنه ماضٍ في خياره لتوقيع الاتفاق النووي مستنداً إلى المعطيات السابقة، وإلى فشل ذريع للسياسات الأمريكية السابقة التي اعتمدها أسلافه من خلال استخدام القوة، والغطرسة، والعقوبات، والاحتلال، والعزل، وأدت إلى كوارث حقيقية للولايات المتحدة، وشعوب المنطقة، وإلى آلاف الضحايا والأبرياء، دون أي نتيجة.

مشكلة أمريكا أنها اعتمدت على حلفاء بلا كرامة، لمواجهة شعوب تدفع الغالي والنفيس من أجل كرامتها الوطنية، واستقلالها، وسيادتها فأوباما يعترف بوضوح أن الشعب الإيراني دفع مليون شهيد في الحرب الظالمة ضده من صدام حسين، وأن لديه القدرة الكافية عندما يتعلق الأمر بالكرامة الوطنية، وبالبقاء، وأن واشنطن عملت على تقويض الدولة الإيرانية، والديمقراطية فيها، وهو ما يعني فشل كل السياسات والمخططات طوال أكثر من ثلاثة عقود ضد إيران وشعبها..

كما يُقر (أوباما) أن الإنجازات النووية للشعب الإيراني تحولت إلى قضية كرامة وطنية لا تراجع فيها، وأنها مكتسبات دفع ثمنها الإيرانيون جميعاً ولذلك لا مجال لأحد لأن يساوم عليها.

انطلاقاً من هذه المقاربة الأمريكية- الأوبامية الجديدة تجاه إيران والتي أنتجت اتفاقاً تاريخياً، هل يمكن القول إنها ستنسحب على ملفات المنطقة الأخرى، وأقصد هنا بشكل أساسي (سورية)؟!.

الجواب بوضوح: نعم، لأن سورية فشلت معها سياسات العقوبات الجائرة، والعزل، وإرسال جيوش المرتزقة، والقتلة من كل أنحاء العالم، واستخدام عتاة الإرهابيين، والمجرمين لتركيعها، ومع ذلك فإنها لم تركع.. وقدم شعبها، وجيشها آلاف الشهداء من أجل الكرامة الوطنية والسيادة والاستقلال، فالقضية في سورية، كما هو الحال في إيران ليست عدم قدرة على التفاوض مع واشنطن، أو رفض استخدام الدبلوماسية كأداة أساسية لحل الخلافات، والنزاعات، أو عدم إدراك لإمكانات واشنطن العسكرية، والمالية، والسياسية، والاقتصادية والإعلامية، ولكن: العنوان الأساسي لهذا الصراع المرير هو (الكرامة الوطنية)، وبهذا المقياس الذي يقره أوباما نفسه تجاه إيران، فإن على الجميع أن يدرك أيضاً أنه نفس المقياس الذي تقيس به سورية سياساتها، ومقارباتها، فالدول والشعوب التي (لا كرامة وطنية لديها) لا حساب لها في صراعات الأمم، والشعوب، وفي رسم الخرائط الجديدة.

أعتقد أن ما قاله محمد جواد ظريف لجون كيري قبل أيام من انتهاء المفاوضات (تعلّم ألا تهدد إيرانياً) هو اختصار لمفهوم الكرامة الوطنية الإيرانية التي لا تفرط بحق، وتفاوض بشرف، وكبرياء، وهو نفس الدرس الذي أعطاه الراحل الكبير حافظ الأسد لبيل كلينتون عندما رفض التنازل عن أمتار قليلة من الأرض المحتلة، لأن الأرض كالعرض، وكان ذلك تعبيراً عن الكرامة الوطنية السورية التي أكدها الرئيس بشار الأسد لكولن باول الذي جاءه مهدداً بعد احتلال العراق، وأعاد عدد من أدوات أمريكا في المنطقة تكرار ذلك طوال سنوات الحرب، والعدوان على سورية.. دون فائدة..

إن ما يجري هو انتصار للكرامة الوطنية، التي لا يعرف معناها إلا من تنبت في أرضه شقائق النعمان.

انتصار للدبلوماسية الإيرانية

الاتفاق بين إيران ودول 5 + 1 حول البرنامج النووي الإيراني حدث تاريخي هام حيث تم تغليب لغة الحوار والمنطق على لغة العقوبات والعزلة وتم انتزاع اعتراف دولي بحق الشعب الإيراني في الحصول على التكنولوجيا والأبحاث التي تعتمد على البرنامج النووي. وفي ذلك انتصار للدبلوماسية الإيرانية وإرادة الشعب الإيراني الذي واجه التحديات بمزيد من الصبر والحكمة والصمود فنال ما يريد لجهة الحفاظ على سيادته وقراره الوطني بالتمسك بحقوق الإيرانيين في التطور والتقدم دون تدخلات خارجية .‏

لقد بعث الإيرانيون خلال فترة المفاوضات الشاقة والطويلة مع مجموعة السداسية الدولية رسائل بالغة الأهمية في مقدمتها أن إيران تتعامل بشفافية مع برنامجها النووي السلمي وأن الاتهامات التي توجه إليها من قبل بعض القوى الدولية التي تتربص شراث بالشعب الإيراني ولاسيما الاتهام بسعي إيران لصنع أسلحة دمار شامل هي مجرد أوهام والدليل التعاون الكبير الذي أبداه الوفد الإيراني المفاوض مع المجموعة الدولية وحرصه على تبديد الأوهام التي حاول زرعها الكيان الصهيوني وبعض الدول المرتبطة بالكيان الصهيوني مثل السعودية وقطر وحكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا الذين كانوا يسعون لخدمة المخطط العدواني الإسرائيلي في التوسع والاستيطان وحرف الأنظار عن القضية الفلسطينية ليتحول الصراع إلى طائفي ومذهبي في المنطقة .‏

الرسائل الأخرى التي يمكن استنتاجها من الانتصار الإيراني وتوقيع الاتفاق النووي مع المجموعة الدولية هي تغليب المنطق والحوار لحل المشكلات والأزمات الدولية وان الأساليب الاستعمارية في فرض العقوبات والعزلة والتهديد بشن العدوان المباشر لن تحقق للمعتدين أجندتهم العدوانية فقد تبين أن العقوبات التي فرضت على إيران والتهديد بشن العدوان عليها والتي من المفترض حسب أوهامهم إضعاف إيران ومنع تطورها العلمي والتكنولوجي أتت بنتائج عكسية حيث باتت إيران تملك ثورة علمية وتكنولوجية وتقدماً كبيراً على جميع الأصعدة الأمر الذي دفع الدول الاستعمارية المعادية لإيران بالإسراع في إجراء مفاوضات طويلة كان من نتائجها انتصار إرادة الحق على إرادة الباطل بالاتفاق النووي الذي يفتح الباب على مصراعيه لمزيد من التقدم العلمي والاقتصادي للشعب الإيراني .‏

الاتفاق الذي تم التوصل إليه له أهمية كبيرة حيث أثبتت فيه إيران أنها دولة محورية وإقليمية يحسب لها حساب في حل أزمات المنطقة وعبر المنطق والحوار ولا شك أيضا أن الصمود السوري الأسطوري في وجه الإرهاب الذي أرادت منه القوى الاستعمارية أن يكون الذراع العسكرية لتدمير دول المنطقة العربية عموما وحلفاء إيران خصوصا وبالتالي محاصرة الجمهورية الإسلامية الإيرانية هذا الصمود كان له تأثير كبير بالإضافة إلى إمكانيات الشعب الإيراني في دفع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى تليين مواقفهم والتراجع عن سياسة الغطرسة وفرض العقوبات والعزلة على الدول التي لا تدور في فلك سياستهم البراغماتية ولاسيما تجاه إيران الأمر الذي يفسر سعي هذه الدول الاستعمارية إلى التوصل إلى اتفاق مع إيران يكفل الحقوق المشروعة للشعب الإيراني ويضمن مشاركة إيران في معالجة القضايا الإقليمية ولاسيما المتعلقة بمكافحة الإرهاب الذي بدأ يتمدد ويرتد ليطال مصنعيه وداعميه حيث سيزيل هذا الاتفاق عوائق تشكيل تحالف دولي حقيقي لاجتثاث الإرهاب من المنطقة.‏

الانتصار الكبير الذي حققته الدبلوماسية الإيرانية عبر تمسكها بالثوابت الوطنية وفي مقدمتها حق الشعب الإيراني في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية ورفع العقوبات الجائرة المفروضة على الشعب الإيراني سيغير وجه المنطقة وسيكون لتداعياته اثر كبير داخل إيران وفي المنطقة فعلى الصعيد الداخلي ستفتح الأسواق العالمية أمام المنتجات والنفط الإيراني وستقوم شركات أجنبية بالتوجه نحو الاستثمار الاقتصادي وبالتالي ستشهد إيران قفزة نوعية في الاقتصاد والاستثمار كما ستتيح للحكومة الإيراني الاستفادة في تطوير مؤسساتها بالأموال الكبيرة المحتجزة والتي سيتم الإفراج عنها بحسب الاتفاق المبرم الأمر الذي يشير إلى أن المرحلة والأوضاع السائدة في إيران قبل توقيع الاتفاق ستتغير نحو الأفضل ما يجعل من إيران أكثر قوة في جميع المجالات الاقتصادية والعلمية والبحثية .‏

أما على الصعيد الإقليمي والدولي فان الاتفاق النووي سيكون له تأثير كبير في موضوع مكافحة الإرهاب لاسيما أن إيران أعلنت مرارا أنها ستساعد الدول التي تتعرض للإرهاب وستقدم لها الدعم الذي من شأنه أن يساهم في محاربته واجتثاثه وهذا بالتأكيد سيساهم في امن واستقرار المنطقة والقضاء على العوامل التي تثير الفوضى وفي مقدمتها التنظيمات التكفيرية الإجرامية التي تعيث فسادا وإجراما وقتلا في المنطقة العربية .‏

لقد انتصر الشعب الإيراني بصموده وصبره وإرادته على مواجهة التحديات التي فرضت عليه وأثبت للعالم أجمع أن لغة الحوار هي الأجدى في حل المشاكل الإقليمية وهذا ما تجلى فعلا في المفاوضات الطويلة والشاقة على مدى سنوات والتوصل في نهاية المطاف إلى هذا الاتفاق التاريخي الذي من شأنه فتح مجالات واسعة للعلاقات الدولية والتعاون في حل مشاكل المنطقة عبر الحوار وبما تكفله القوانين الدولية فهنيئا للشعب الإيراني هذا الانتصار العظيم الذي يضمن حقوقه المشروعة ويعود بنتائج ايجابية على شعوب المنطقة وأمنها واستقرارها .‏

انجازات وتداعيات

توّجت إيران صبرها الاستراتيجي المعهود، وطول أناتها في تحمل عبء الضغوط الغربية والحصار والعقوبات الاقتصادية والمالية الجائرة، ومثابرتها على الحوار والتفاوض من موقع الند للند مع مجموعة خمسة زائد واحد، وعدم قبول الاملاءات أو الرضوخ للتهديدات، توجت كل ذلك بإنجاز اتفاق نووي تاريخي له نكهة الانتصار السياسي والعلمي بالنظر للظروف الاستثنائية التي يمر بها العالم، اتفاق نووي من شأنه خلق مناخات مؤثرة في معظم ملفات المنطقة ومشكلاتها المزمنة إيجاباً أو سلباً..

فبحكمة قائدها وصبر وتحمل شعبها وشجاعة وحنكة مفاوضيها استطاعت الجمهورية الإسلامية في إيران أن تحجز لنفسها مكاناً في النادي النووي بين الكبار، وأن تحتل موقعاً مرموقاً على المسرح الدولي لا يستطيع أحد أن يتجاوزه أو يتجاهله، مبرهنة للعالم بطلان منطق القوة والتهديد وعدم جدواه في التعاطي بين الدول في مقابل التأكيد على أن منطق الحوار والتفاوض هو الذي يجب أن يسود العلاقات الدولية.‏

فكيف يمكن قياس حجم الانجاز الإيراني في فيينا وتقدير قيمة الانتصار الذي حققه وفدها المفاوض في ليلة قدر نووية، وما هي أهم الانعكاسات المحتملة لمثل هذا الاتفاق التاريخي على مجمل الأوضاع في المنطقة..؟!.‏

مبدئياً لم تكن إيران في يوم من الأيام تسعى لإنتاج السلاح النووي أو الحصول عليه، وثمة فتوى واضحة من قائد الثورة الإيرانية بتحريم إنتاج السلاح النووي أو استخدامه، وتجدر الإشارة إلى أن إيران كانت على الدوام إلى جانب سورية في مقدمة المطالبين بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووي وخاصة ترسانة الكيان الصهيوني، ولهذا كانت حريصة على سلمية برنامجها النووي وبما ينسجم مع مقتضيات معاهدة منع الانتشار النووي، وهذا ما أكدته التقارير الدورية لخبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلا أن الغرب ومعه الكيان الصهيوني حول هذا الملف مادة للابتزاز والاستثمار السياسي، فعمد إلى النفخ بما يسمى فزاعة التهديد النووي الإيراني الافتراضي من أجل صرفه على شكل صفقات سلاح مع بعض المشيخات الخليجية، وقد نجحت كل من واشنطن ومعها لندن وباريس باستغلال هذه العقدة الخليجية كأسوأ ما يكون الاستغلال.‏

الانجاز الإيراني في الاتفاق تجلى واضحا باعتراف القوى الكبرى في العالم بحق إيران بتخصيب اليورانيوم والاستخدام السلمي للطاقة النووية، وتعهد المجتمع الدولي برفع عقوباته الجائرة عن إيران بشكل تدريجي والإفراج عن أرصدتها المجمدة في البنوك الغربية، والإقرار بأهمية وجدوى الحوار والتفاوض لحل مشكلات العالم وأزماته، وتغليب منطق العقل على منطق التهديد والحرب الذي يؤمن به الكيان الصهيوني، وأما انتصار إيران الحقيقي فتجلى بالتوقيع على الاتفاق دون التخلي عن أي حق من حقوق شعبها أو أي من أصدقائها وحلفائها، ودون ربط ملفها النووي بأي ملف آخر، ومن المتوقع أن تشهد الأيام التالية للاتفاق حركة غربية نشطة باتجاه إيران للاستثمار في مجالاتها الحيوية وخاصة قطاعي النفط والغاز، والتعاون معها في مكافحة الإرهاب وحل العديد من الأزمات التي تشهدها المنطقة والعالم، ولعل من أهم معجزات الاتفاق وعجائبه أن لوران فابيوس وزير خارجية فرنسا الأكثر تعطيلاً وعرقلة لمفاوضات فيينا سيكون أول المهرولين نحو طهران من أجل السمسرة وعقد الصفقات بينما كانت بلاده آخر المرتشين من المال الخليجي وعاقدي الصفقات المريبة على نية العرقلة والتعطيل..؟!‏

ويجمع الكثير من المراقبين على أن الاتفاق النووي سينعكس إيجاباً على مجمل قضايا المنطقة وخاصة الحرب على داعش وبقية التنظيمات الإرهابية في سورية والعراق، والانتخابات الرئاسية في لبنان، والعديد من القضايا الأخرى بحيث يكون لإيران الدور الأبرز في إنجاز العديد من التسويات لأزمات المنطقة.‏

ولكن كما للاتفاق النووي مقاييس نجاح ومناخات إيجابية فمن غير المستبعد أن تكون له تداعيات ومنعكسات سلبية لا سيما وأن الغاضبين والمحبطين من توقيعه لم يفقدوا كامل الأمل من إمكانية وضع العصي في العجلات ومحاولة الضغط على إيران وحلفائها في ملفات أخرى، وفي هذا السياق قد يسعى رئيس حكومة الكيان الصهيوني الفاقد لصوابه بنيامين نتنياهو لاستعمال آخر أوراقه اللوبية في الولايات المتحدة لوضع الكونغرس الأمريكي المتصهين في مواجهة أوباما، ولكن أمل نتنياهو ضعيف بالنظر للصلاحيات والفيتوات التي يتمتع بها الأخير لتمرير اتفاق هو آخر آماله لحفظ ماء وجه ولايتيه الخاويتين من أي إنجاز..!‏

ومن الممكن أن يندفع نتنياهو الخائب والمحبط لتسخين جبهة من الجبهات التي تدعمها إيران من أجل خلط الأوراق وجر أمريكا إلى أزمة جديدة وبالتالي إعطاء اللوبي الصهيوني فرصة جديدة للضغط على البيت الأبيض.‏

في المقابل تبدو السعودية ثاني المحبطين من الاتفاق كما لو أنها أكلت "كماً نووياً" أمريكيا فرنسيا مزدوجاً بحيث ضاعت رشاواها التسليحية هدراً و"بعزقة" على أقدام المفاوضين، ولذلك من المحتمل أن يزداد إجرامها وتخريبها في اليمن وتعنتها في سورية على أمل العودة "بخفي حُنين معتدل" ولا يستبعد أن تنسق مع حليفها المحبط في تل أبيب بعض الخطوات التصعيدية، ولا تنقص الطرفين البربرية ولا التوحش، ولا تعوذهما الحماقة ولا التهور، وتجارب السنوات والأشهر الماضية أفضل برهان..!!‏ 

باحث في القضايا الإقليمية(*)

 

اعلى الصفحة