نحو إستراتيجية متطورة لمواجهة تطورات المنطقة..
الساحة الشمالية كنموذج اختبار

السنة الرابعة عشر ـ العدد 164 ـ (شوال ـ ذو القعدة 1436 هـ) آب ـ 2015 م)

 ترجمة وإعداد: حسن سليمان

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

ترجمات

مركز أبحاث الأمن القومي

بعد أربعة أعوام منذ بداية عملية تكوين منطقة الشرق الأوسط من جديد، في أعقاب الانقلابات والثورات التي وقعت فيها، فإن إسرائيل مطالبة بملائمة نفسها بصورة حثيثة مع التغييرات والظواهر الجديدة التي تسود وتتغير في كل حين.

لقد نجحت إسرائيل على طول حدودها لغاية الآن، بمواجهة التطورات الحاصلة هناك بموجب طرق معروفة: اتفاقيات السلام مع مصر والأردن، ما زالت مستقرة بسبب المصالح المشتركة، مصر والأردن تحاربان العناصر الإسلامية المتطرفة، في حين بقيت القضية الفلسطينية لغاية الآن منعزلة بصورة نسبية عما يدور في المنطقة، الأمر الذي يمكن في معظم الوقت من استيعاب اللاعبين الموجودين – حماس والسلطة الفلسطينية.

الساحة التي تغيرت أكثر من غيرها هي الساحة الشمالية التي تضم سوريا ولبنان، حيث حدثت فيها تغييرات درامية بشكل كبير. انهيار الدولة السورية مع توثيق الأواصر بين نظام الأسد وبين حزب الله وإيران، صعود تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وتعزيز قوة مقاتلي "جبهة النصرة" تدخل الولايات المتحدة والتحالف العربي – الغربي – جميع هذه التطورات خلقت فوضى قواعدها غير معروفة.

من أجل خلق وقائع وإعداد الردود على التحديات الموصوفة أعلاه، وبالتأكيد على الجبهة الشمالية، يتوجب على إسرائيل بداية توضيح مفاهيم القضايا الأساسية في مفهومها الأمني، ولكي تدرك على ماذا من المتوجب أن تبني إستراتيجيتها المقبولة بالنسبة لها على وقع التغييرات الدرامية الجارية – فهل هذه التغييرات هي ولادة لعملية طويلة الأمد ومتواصلة، أم هي انعطافة درامية في الوقت الحالي. ولاحقاً لتوضيح الإستراتجية العامة، من المهم التركيز على الجبهة الشمالية كمصدر للوقائع المتغيرة الجديدة على الأرض وغير المعروفة بالنسبة لإسرائيل، بالإضافة إلى أنها ساحة ينشط فيها لاعبون إقليميون وعالميون يظهرون أهمية كبرى لمكانتها. من الممكن القول، إلى حد كبير انه في جزء كبير من التوصيات والمبادئ المقترحة لا يوجد جديد، ولكن أهميتها تكمن بالتأكيد على تنفيذ أنماط متبعة دائماً، إلا أنها غير منفذة فعلاً. مساحة الوقت الحالية تستوجب دراسة دقيقة لما هو جديد وقديم من حيث المفاهيم والأعمال، من اجل وضع التصور المطلوب من أجل التنفيذ حاضراً ومستقبلاً.

تغييرات معرفية

جذر المشكلة الإستراتيجية لإسرائيل منغرس في العاصفة التي تهز منطقة الشرق الأوسط، والتي ما زالت نتائجها ليس في حكم المتوقع، ونهايتها غير متوقعة في المدى المنظور. سلسلة التغييرات والإجراءات المعقدة تشكل تحدياً للمفاهيم الأساسية التي اعتادت إسرائيل عليها في الماضي، بعضها يتعلق بالمنطقة بأكملها وبعضها الآخر يتعلق بالمنطقة الشمالية بشكل خاص. من الممكن تجزئة مجمل التغييرات إلى مجموعتين رئيسيتين: تغييرات معرفية تتأثر بالمجريات الإقليمية وكذلك العالمية التي تتعلق بالأمن القومي، تغييرات جيو/إستراتيجية تعكس التطورات على الساحة الشمالية (تتم مناقشتها في الجزء الثاني من المقال).

التغييرات المعرفية تعرض مشكلة تقليدية أساسها تكيف الدولة مع التطورات المذهبية، التكنولوجية، الاجتماعية، الثقافية وغيرها في المحيط القريب والبعيد. استعداد مستقبلي للمعركة القادمة على الساحة الشمالية يحمل في طياته عدداً يماثل هذه التغييرات، التي يجب التفكير فيها. الأول هو طبيعة التهديد العسكري المحدق بإسرائيل. فيما يتعلق بالشمال على سبيل المثال، فقبل الحرب الأهلية في سوريا كان التهديد هو بالمواجهة مع الجيش السوري بتغطية من قدرات حزب الله العسكرية – تحديداً الصواريخ والقذائف – مع دعم إيراني. حالياً، وفي أعقاب التراجع المستمر والمعارك المتواصلة، فإن التهديد من قبل الجيش السوري تراجع بصورة ملموسة، وجزء من سلاح الجيش السوري سقط بأيدي عناصر سلفية جهادية، وجزء منه تم تسليمه لحزب الله. الجيش الإسرائيلي مطالب بالإعداد لبناء قوة تعطي رداً متنوعاً واسعاً على ما ورد بدون قواعد لعبة معروفة ومقبولة، وبدون قدرة على تحديد مواعيد انتهاء ممكنة. وكل ذلك بمستوى عالٍ من عدم اليقين، حيث من الممكن القول إن منطق الإرهاب وإلحاق الضرر بالجبهة الداخلية الإسرائيلية يمثل تهديداً مركزياً في صندوق الأدوات لمحور طهران – دمشق – بيروت وأيضاً المتطرفون من السنة السلفية. هذا الإجراء يعبر عن تغيير واسع في القواعد في منطقة الشرق الأوسط، والذي مضمونه نفاذ مفعول احتكار القوة من قبل الدولة وانتقاله إلى العديد من اللاعبين ذوي القدرة العسكرية – جزء منها متطورة – ومفهوم عمل يرتكز على حرب العصابات والإرهاب.

التغيير المعرفي الثاني يتعلق بمبدأ الردع، والذي يمثل إحدى المرتكزات التي يستند عليها مفهوم الأمن الإسرائيلي بصورة تقليدية. الردع بطبيعته لا يمكن قياسه أو وزنه أبداً، وبشكل عام من الممكن تقديره بتأثير رجعي. إسرائيل تواجه معركة خطوطها الحمراء وقواعد لعبتها غير واضحة كما هو عليه الحال في الماضي، ومع صعوبة في مسألة – كيف يمكن التأثير على نية التنظيمات العاملة وفقاً للمفهوم الجهادي؟. بسبب طبيعة هذه المواجهات، من غير الممكن تحديد طرق عمل واضحة على الأرض وخلق معادلة ربح وخسارة تردع أعداء إسرائيل وخصومها.

إسرائيل تجتهد من أجل بلورة رؤية إستراتيجية تتناسب والوضع الجديد، وفي إطارها بلورة رؤية المعركة ما بين المعارك، والتي تهدف لتعزيز الردع تجاه الأعداء من خلال التخمين حول المتوقع منهم في حال سيناريو التصعيد، وفي نفس الوقت مع تشويش عملية تعزيز قواتهم وخلق الظروف المريحة جداً بالنسبة لإسرائيل، في حال نشوب معركة عسكرية بدرجة عالية. على الرغم من النية في تنفيذ هذه السياسات، التنحي جانبا وعدم التدخل في الأحداث الجارية في المنطقة استوجبت استخداماً محدوداً جداً لجولة قتالية بين المعارك.

تغيير واحد مرتبط بتعزيز وتثبيت أسس الدفاع في مفهوم الأمن. خلافا للروح الهجومية للجيش الإسرائيلي، والذي ارتبط ببناء قوة هجومية – حاسمة منذ تأسيس الجيش الإسرائيلي، فإن المواجهات في العقدين الأخيرين تختلف عن حروب الماضي، والتي اعتمدت أسلوب قوة النيران والمناورة. اليوم، يركز الأعداء على مهاجمة إسرائيل عبر مسار مختلف، إرهاب ضد السكان المدنيين، العمل وفق أسلوب حرب العصابات، محاولات التشويش على منظومات حيوية لأداء الدولة واستخدام وسائل تحت أرضية. وذلك من اجل تحييد التفوق التكنولوجي والهجومي للجيش الإسرائيلي – الأمر الذي غير من عملية بناء القوة إلى استثمار في بناء قدرة دفاعية فاعلة وسلبية. من الأولى، فإن الرد الفوري على التغييرات في الساحة الشمالية كان ببناء عائق امني متطور في هضبة الجولان، وزيادة عدد بطاريات القبة الحديدية لاعتراض الصواريخ والقذائف الموجهة نحو الأراضي الإسرائيلية.

الحاجة إلى بلورة إستراتيجية متطورة

الفرق الملاحظ الأساسي من الماضي والذي من الممكن أن نورثه للإستراتيجية المطلوبة، هو الأمثلة المتزايدة للاعبين من غير الدول، والذين يمتازون بعدم المسؤولية تجاه المنطقة أو السكان، ولا يتبنون قواعد اللعبة المقبولة في عائلة الشعوب. المحيط الإقليمي وتحديدا ما أعتيد على تسميته بـ"الهلال الخصيب" آخذ بالتشرذم إلى مجموعات، وتجزأ بسبب صراعات دينية، عرقية، عشائرية وثقافية. على الرغم من أن لبنان والأردن ما زالا لغاية الآن قادرين على الحفاظ على سلامتهما، على الرغم من العبء الثقيل المتمثل بالملايين من اللاجئين، إلا انه على ما يبدو فإن هذا الوضع لن يستمر طويلاً، وعلى ما يبدو أن سوريا والعراق لن تعودا إلى ما كانتا عليه. هذا المعطى يستوجب تطوير رؤية مواجهة وأدوات مواجهة أمام اللاعبين الجدد الذين يعملون على تدمير هذه الدول، من خلال الاعتراف بمركزية هؤلاء اللاعبين، والتي تختلف في كيفيتها عما كان قائما تجاه الدول. فكل محاولة لتطبيق القواعد السياسية القديمة على الوقائع الجديدة مصيرها الفشل. فعلى سبيل المثال، فإن استخدام إسرائيل التهديد الرادع عبر دمج رسائل التقوقع والدور الفاعل – والتي اعتادت استخدامها كوسائل فاعلة (مثل أسلوب دبلوماسي مدموج مع طيران منخفض فوق قصر الرئيس الأسد) – لم يعد سارياً ولا يؤثر على اللاعبين الجدد. بالإضافة إلى، أنه من الصعب العثور لدى اللاعبين الجدد على نقاط الضعف التي من الممكن العمل على تفعيل دوافع الضغط والتأثير عليها لتأسيس قواعد الردع. بخصوص خلق صورة استخبارية موثوقة، فإنه في هذه الحالة أيضاً، يتطلب الأمر تفكيراً جديداً. اليوم ينشغل العمل الاستخباري بمعدلات اقل في توقع التهديدات والاتجاهات، وإلى حد كبير ينشغل في إعطاء الأدوات التي تساعد الكابينت في اتخاذ القرارات. بالإضافة، إلى أن إعطاء إسرائيل القدرة على أن تبني لنفسها خريطة غير خاضعة للمفاهيم السياسية – حدود، سلطات، سيادة، نسبة القوة بين عناصر القوة – هي مقيدة جدا وتقاس بواسطة مفاهيم لا تعبر بصورة صحيحة عن المصالح، النوايا، ومفاهيم العالم والعناصر الدافعة للاعبين من غير الدول. لذا فإنه من الممكن إضافة سلالة جديدة لما هو ناقص في العمل الاستخباري – ذكاء اجتماعي. هذا المصطلح، حيوي كنتيجة للتجمعات والتحالفات المجتمعية، وبمساعدة زيادة تأثير الإعلام والشبكات الاجتماعية، والتي من جهة تمكن من تجنيد وتوجيه الجموع إلى الأفكار المتطرفة، ومن جهة أخرى فإنها تعطي للمجتمع المدني منصة لإسماع صوته عبرها، وعن طريقها من الممكن تحسس اتجاه الأفكار والاتجاهات في عصر يحدد فيه المؤشر الإعلامي أكثر مما يحدث في الساحة السياسية والدبلوماسية.

البعد البنيوي

على المستوى البنيوي المطلوب سياسات إسرائيلية تعتمد على إدخال مبدأ لا يتم بموجبه عزل ساحة العمليات، أو بناء جدار فاصل بين جبهة الصراع، وجبهة التوسع، وبهذه الطريقة يمكن تركيز المواجهة الثنائية. اليوم، بسبب التبعات بين الساحات وبين اللاعبين، يوجد ديناميكاً ثنائية ومتعددة الفئات. ونتيجة لهذا، يتوجب على المخططين في إسرائيل أن يأخذوا بالحسبان السيناريوهات التي تحتوي على تطورات معقدة مرتبطة بأكثر من لاعب أو بمجموعة من اللاعبين ممن يتخذون القرارات. النظرة الثنائية هي ذات بعد واحد. ولا تصمد حالياً عند اختبار الواقع، ولا تخدم المصالح الإسرائيلية ولا تحسن علاقات القوة تجاه العدو. علاوة على ذلك، وبسبب عدم اليقين من جميع وجهات النظر، فعلى إسرائيل أن تقوم ببناء نظرة تعطي ردوداً شاملة للعديد من السيناريوهات قدر الإمكان، ولفحص كامل العواقب والتبعات غير المقصودة. وذلك، من أجل منع تبعات غير متوقعة من شأنها تعزيز التهديدات والمخاطر على إسرائيل. مطلوب أيضاً إفساح مجال أمام صانعي القرارات للتفكير، وحرية التصرف لتعلم الوضع الجديد من اجل إعطاء الردود المناسبة، دون الاعتماد على الردود الفورية الجاهزة الموجودة في المخازن، وذلك من اجل تقليص احتمال التورط والتدهور إلى أوضاع صعبة ومعقدة جدا.

البعد المفاهيمي

المستوى المفاهيمي يتركز على الجانب النظري أكثر من أي شيء آخر، وفيه يجب التركيز على الجهد في التفكير. بالاشتقاق من حروب الماضي مقابل معارك سياسية تتشكل لغة عسكرية وسياسية، والتي تعبر عن مفاهيم تقليدية. الطريق السليمة للبدء في هذا الإجراء هي قبل كل شيء خلق لغة مفاهيم جديدة، تعبر عن انقلاب في التفكير وتساهم في تعميق الحوار حول الحالات الجديدة: مفهوم العمل الثنائي، مقابل العديد من اللاعبين في المقابل، وصف إجراء إستراتيجي ليس من نوع الحسم والردع، التي هي غير قابلة للتطبيق، تغيير تأثير الحدود السياسية إلى مساحات تعتبر ملائمة، إيجاد العديد من شروط الاستعداد المشتركة وبناء تحالفات ذات مصالح مشابهة لمواجهة التحديات والظواهر الفريدة، رسم أفكار، حقائق، تشخيصات، مجموعات منتمية وإستراتيجية متبلورة تجاه الأقليات، صندوق أدوات متعدد المجالات مهمته تفعيل العديد من الجهود- السياسية، الدبلوماسية، الاقتصادية، العسكرية، القانونية، الإعلامية، البنى التحتية، الحرب الاستخبارية، حرب المعلومات، متابعة السكان المحليين  -كل ذلك بصورة محكمة ومشتركة. مصطلح "متعدد المجالات" يجسد الاعتراف انه في الحرب الحديثة، فإن استخدام جميع محتويات صندوق الأدوات من قبل الدولة أو تحالف الدول هو أمر إجباري من أجل خلق الجهد المطلوب تجاه اللاعبين الآخرين. كما يجب توصيف عامل مؤسسي يكون مسؤولاً عن تفعيل منسق ومتزامن بين جميع الجهود، من أجل إنتاج جدوى كبيرة.

بنظرة أكثر تركيزاً إلى الداخل، فإلى جانب خلق لغة جديدة فمن الممكن بناء بنى تحتية معرفية واسعة عن اللاعبين ذوي العلاقة، وعن طرق تصرفهم وتأثيرهم. أحد العناصر الجوهرية بهذا الخصوص هو علاقة الشراكة للعديد من الكيانات غير الرسمية. على الرغم من أن الشرق الأوسط تحرك إلى الأمام، إلا أنه وإلى حد بعيد شكّل صيغة لحساسيات ورغبات قديمة تجد تعبيرها بالانقسامات الاجتماعية المتزايدة. لذا، فإن فهم الأفكار المعرفية، القبائلية، الدينية والمجتمعية هي جزء أساسي من عملية التكيف، ويشكل  توصيف حركة السكان في المنطقة، أهمية حاسمة في ذلك. ظاهرة اللجوء والهجرة غيرت بطريقة لا يمكن التعرف عليها، كل من سوريا، الأردن، لبنان والعراق، ولا يمكن التطرق إلى طبيعة السكان المعروفة في هذه الدول قبل سنين. عن طريق استخدام أدوات استخبارية جديدة مثل الاستخبارات الاجتماعية والنفسية تتحول المتابعة المدنية إلى التطبيق والفعالية، فصحيح أنه من غير الممكن العثور على اتجاهات جديدة في أوساط سكان المنطقة عن طريق استخدام الأدوات التقليدية، كما شهدنا على ذلك أكثر من مرة خلال الحرب في سوريا والعراق، التي تدور عبر قنوات اجتماعية وإعلامية جديدة أكثر من حروب الماضي. فهم هذه الميزات يساعد في العثور على نقاط التأثير على اللاعبين المختلفين وفي القدرة على ممارسة الضغوط ضدهم وفي مراكز الثقل لديهم. مطلوب اليوم استخبارات نوعية على ثلاث مستويات:

1- استخبارات للبحث عن اتجاهات وأهداف الأعداء والخصوم، مع التركيز على "المحور الراديكالي الشيعي" بزعامة إيران، الدولة الإسلامية وعناصر إضافية ينتمون للجماعات الجهادية السلفية ويهددون بالعمل ضد إسرائيل، عبر الوصول أو التمركز على طول الحدود.

2- الاستخبارات اللازمة لغرض حماية احد حلفاء إسرائيل – كما حدث مع تسلل الجهاديين إلى سيناء والأردن، ومن خلال المحافظة على ميزان القوى الداخلي للدول التي لها اتفاقات سلام مع إسرائيل.

3- الاستخبارات التي تشير إلى البحث عن الفرص، ولإيجاد آلية مشتركة ومصالح مترابطة مع لاعبين في المنطقة. على الرغم من أن عدم الاستقرار المتواصل يمس بمصداقية الكثير من اللاعبين وبقدرتهم على الاعتماد على تحالف إستراتيجي فيما بينهم، إلا أن الجانب الايجابي لهذه الظاهرة هي الفرصة للتعاون الوثيق على قاعدة الأهداف المشتركة.

تحدي التكيف الإسرائيلي

ما زالت إسرائيل غير قادرة بعد على تطوير وبلورة نظرة تجاه مكانها في الشرق الأوسط الذي يتشكل من جديد. الإستراتيجية المسيطرة التي تميز سياسة إسرائيل منذ بداية القلاقل الإقليمية هي عدم التدخل والتنحي جانباً. الأهمية في أساس سياسة إسرائيل هذه ناجمة من رغبتها بالبقاء خارج الصراعات الإقليمية التي من الممكن أن تجلب عدم الاستقرار إلى داخل حدودها، كما هو حاصل لدى جاراتها. بالإضافة إلى، أن إسرائيل لن تذرف دموعاً كثيرة في حال قيام عناصر متطرفة بقتل بعضها بعضاً عبر صراعاتها الداخلية – وهو الاتجاه الذي لم يضعف بعد المحور الشيعي ومرساته -  نظام الأسد في سوريا. فإسرائيل غير معنية بأن يتوجه الاهتمام الإقليمي والعالمي إليها كجزء من المشكلة الإقليمية. وعلاوة على ذلك، فإن لإسرائيل تجربة مريرة وطويلة من تدخلها في الصراعات الإقليمية والمحلية ومن محاولاتها لتنصيب الملوك والكيانات ، وفي مقدمتها الحرب الأهلية في لبنان، الأمر الذي تسبب في أن تتخذ جانب الحذر تجاه أي خطوة في هذا الاتجاه.

لغاية العام الماضي ظهرت إستراتيجية التنحي جانبا مناسبة لإسرائيل، حيث لم تشهد اضطرابات نتيجة لما يدور حولها. إلا أنه وبنظرة فاحصة فمن الممكن التخمين أنها لن تظل محصنة للأبد. العنف المتواصل والمستمر على طول الحدود في الجولان (وبالمقابل أيضاً في غزة ولبنان وسيناء)، لا يتلاشى ولا يبتعد. واليوم أيضاً، مع عدم وجود الدولة الإسلامية في مدى المواجهة مع إسرائيل، وتنظيم جبهة النصرة اختار عدم المواجهة معها، فإن نشاطهم تسبب بشكل غير مباشر بزعزعة الهدوء حول إسرائيل. نشاط إسرائيل بمستويات منخفضة باتجاه التعاون مع المجتمع المحلي في الجولان السورية، غير قادرة على إحباط جهود حزب الله وإيران للتمركز في الجولان وجنوب سوريا، والتي أدت إلى مواجهة مع إسرائيل في كانون الثاني 2015. لذا، ومن اجل الاستعداد لسيناريوهات مستقبلية، يتوجب بلورة إستراتيجية محدّثة.

تحديات إسرائيل على الجبهة الشمالية

من الممكن تحليل الإجراءات والاتجاهات على الساحة الشمالية بشكل مبدئي على المستوى المنهجي والمفاهيمي.

فإسرائيل تراقب بقلق حيث عاد حزب الله ليحتل مكانة "حامي لبنان" في وجه الخطر المتنامي للإسلام السني والسلفي. وفي نفس الوقت، فهو يتسلح ويعاظم قوته بمستويات تشكل خطراً على إسرائيل، وتعاظم قواته يتطلب بلورة ردٍ عسكريٍّ فاعل. كما أن إيران ونظام الأسد، أصبح العالم ينظر إليهما، ليس كجزء من المشكلة بل كجزء من الحل لمحاربة الدولة الإسلامية. وبناء على ذلك، فإن إسرائيل مطالبة بدراسة سياستها على ضوء الظاهرتين الجوهريتين:

الأولى- هي تمدد الأحداث إلى مناطقها، وتحديدا الأعمال الإرهابية عبر حدودها الشمالية وبتشجيع الإرهاب الداخلي.

الثانية- هي خلق قاعدة تهديد في الجولان في أعقاب تمركز حزب الله وعناصر من قوات الحرس الثوري الإيراني في المنطقة، بموازاة بنى تحتية لعناصر الجهاد السلفي مثل جبهة النصرة، خاصة في جنوب الجولان. سياسة التنحي جانباً التي اتبعتها إسرائيل لغاية الآن، لن تحول دون خلق التهديدات الجديدة ولا تشكل ردا على تحديات المستقبل. المشكلة الإستراتيجية معقدة لأنه من الصعب العثور على "نقطة نهاية" قابلة للتحقيق من قبل إسرائيل، بسبب عدم اليقين المتزايد في أعقاب التحولات على الجبهة الشمالية، وتجمع اللاعبين مع أفكار متعددة ومخفية وغياب اتجاهات ثابتة لفترة طويلة. في الماضي، وبموجب الاستقرار النسبي الذي ساد في سوريا ولبنان، عملت إسرائيل أمام لاعبين هم دول – نظام الأسد في سوريا – كعنوان يتحمل المسؤولية، كما أن حزب الله تحرك انطلاقاً من مصالح تتعلق بالسكان في لبنان. وعليه كان من السهل رسم التهديد المقصود وأوضاع النهاية المطلوبة، ووفقا لذلك تمت بلورة منطق إستراتيجي منتظم. حالياً هناك صعوبة في رسم علاقات القوة والاتجاهات والتطورات، ولذلك تجد المؤسسة صعوبة في صياغة محتوى إستراتيجي واضح.

وبنظرة أكثر شمولية فقد طرأ في المنطقة تحولات جيو/إستراتيجية وهي تؤثر بشكل مباشر على الجبهة الشمالية. فإذا كان باستطاعة إسرائيل ولغاية العام 2011 أن تشير وبمستوى عالٍ من اليقين إلى التهديد الرئيسي الذي يواجهها والذي نبع من تعزيز محور إيران – سوريا – حزب الله، وكذلك قدرة الجيش السوري ومنظومة صواريخ وقذائف حزب الله، أصبح الوضع اليوم مختلفاً وأكثر تعقيداً مع تفكك النظام السياسي وصعود وتسلل عناصر جديدة، أغلبهم من السلفيين الجهاديين المسلحين بوسائل قتالية نوعية. فالتحدي انتقل من مواجهة عنصر معروف ومحدد ويمتلك بنية معروفة، مع نظم رقابة وسيطرة معروفة، إلى خليط كبير من اللاعبين الذين ليس لهم منطق معرفي، يتحالفون وينشقون، وأصحاب قدرة على التكيف السريع مع المتغيرات المحيطة بهم، وبذلك أصبح من الصعب التنبؤ بسبب هذا النسيج، بدرجة التهديدات والربط فيما بينها. فعلى سبيل المثال، هل يمكن اليوم القول بيقين كبير ما هو التهديد الرئيسي على امن إسرائيل: إيران أم الدولة الإسلامية؟.

بتحليل الاتجاهات الجيو/إستراتيجية، المطلوب تقييم شامل لخطورة التهديدات، ومستوياتها وتحديد سلم أولويات لمواجهتها من قبل إسرائيل. وبهذا الخصوص، فقد ظهرت هناك فجوة بين إسرائيل وحليفتها الإستراتيجية، الولايات المتحدة، حول توصيف التهديد الإستراتيجي في المنطقة والأسس المطلوبة للتعامل معه. ففي حين ترى إسرائيل أن التهديد الرئيسي يتمثل بالمحور الشيعي المتطرف بقيادة إيران، عبر العراق، سوريا وحزب الله، فإن الولايات المتحدة تعتقد أن الدولة الإسلامية هي التهديد الرئيسي الذي يستوجب نشاطاً عسكرياً له الأولوية على كافة الجهود الأخرى، حتى ولو كان الثمن بذلك التنسيق مع طهران. الهدف الأساسي للولايات المتحدة هو إخضاع الدولة الإسلامية بداية. هذه المسألة تعد جوهرية على ضوء التطورات الحاصلة على الجبهة الشمالية لإسرائيل – في هضبة الجولان – ومسألة إسرائيلية إستراتيجية على ضوء سعي الإيرانيين لتوسيع تأثيرهم في منطقة الشرق الأوسط.

تعريف التهديد الرئيسي على الجبهة الشمالية

المسألة المركزية الموضوعة على طاولة بحث القيادة الإسرائيلية هي ماهية القوة الإقليمية القائدة، والتي تمكن من التعرف على التهديد الرئيسي على إسرائيل على الجبهة الشمالية: هل حقيقة أن إيران هي دولة تقف على العتبة النووية و/أو تعزيز التأثير الإيراني في الشرق الأوسط، أو تمدد الدولة الإسلامية والإسلام المتطرف؟ أم هو ربما استمرار انتشار ظاهرة تفكك الدول التقليدية، أو هو الخطوات السياسية للسلطة الفلسطينية؟ أم ربما الحديث عن دمج عدة تهديدات؟ الإجابة على هذا السؤال هو الخط الموجه فيما يتعلق بسياسة إسرائيل على الجبهة الشمالية، حيث تقف هناك أمامها جملة من التهديدات التي من المتوجب تحديد درجة خطورتها على المدى القريب والبعيد، ومن اجل التقرير حول أولويات الرد. حسب فهمنا، اعتبار المحور الذي تقوده إيران التهديد الرئيسي على إسرائيل هو حديث الساعة. فإيران بقدراتها الإستراتيجية وحزب الله مع منظومة الصواريخ، والوسائل غير المأهولة التي بحوزته تشكل معا التهديد العسكري الجوهري لإسرائيل. وكذلك اتساع دائرة الاحتكاك والمواجهة بين إسرائيل وهذا المحور في أعقاب محاولاته لتأسيس قواعد له في هضبة الجولان وجنوب سوريا تمنحه منصة إضافية لتحدي إسرائيل. التهديدان المعروفان اللذان قصدتهما إسرائيل لغاية العام 2011، هما الحرب ضد الجيش السوري والحرب ضد حزب الله على الجبهة اللبنانية فقط، لم يعودا المقصودين حالياً. فالجيش السوري أصبح ضعيفاً ولا يشكل تهديداً آنياً على إسرائيل، في حين أن حزب الله وسع نطاق نشاطاته من لبنان إلى الشرق إلى العمق السوري، وجنوباً إلى هضبة الجولان. الصراع الدائر في جنوب سوريا بين حزب الله وإيران من جهة وبين قوات المعارضة لنظام الأسد من جهة أخرى، هو إلى حد بعيد، الصراع على طبيعة المعركة القادمة مع إسرائيل. فعلى إسرائيل أن تركز قدراتها الاستخبارية والعملياتية للمس بمعاقل الإيرانيين وحزب الله في سوريا، ومنعها من إيجاد قاعدة عسكرية لمهاجمة إسرائيل من عدة جبهات في نفس الوقت(هضبة الجولان، لبنان، العمق السوري).

بنظرة متعددة الجوانب يتوجب على إسرائيل أن تدرس باستمرار تبعات المواجهة مع المحور على لاعبين آخرين وأيضاً على أعداء محتملين، على الأردن كشريك وعلى لاعبين آخرين أصحاب مصالح مشابهة، والذين من الممكن تجنيدهم لمحاربة ترسيخ قواعد المحور جنوب سوريا. قرار كهذا يوجه جهود إسرائيل على تفعيل عمليات الحرب فيما بين الحروب، التي تسمح بفرض منطقة حظر جوي على سلاح الجو السوري وشركاه في منطقة هضبة الجولان، إلى جانب تفعيل جهود متعددة الأوجه (إنسانية، اقتصادية، بنى تحتية وغير ذلك) لبناء شراكة مع لاعبين محليين. كل ذلك من أجل إعداد مجال تأثير واسع في جنوب سوريا وهضبة الجولان، وكذلك إلحاق الضرر بقواعد المحور في المنطقة ولاستقرار منطقة هضبة الجولان. وفي المقابل مطلوب بناء استعدادات لمواجهة مع المحور في المنطقة الشمالية. في هذا الإطار، على إسرائيل، إبراز تبعتين متوقعتين في حال بادر حزب الله وإيران بخطوات تصعيدية من الإرهاب ضد إسرائيل: الأولى، ضربة إسرائيلية مسبقة لمراسي نظام الأسد، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى سقوطه. والثانية، ضربة مدمرة لقدرة حزب الله وممتلكاته، وكذلك للبنى التي بواسطتها يحاول أن ينشط ويطلق الصواريخ باتجاه إسرائيل.

إسرائيل مطالبة لموضعة مكانتها الإستراتيجية بالنسبة إلى اللاعبين المؤثرين في المنطقة في الحاضر وفي المستقبل: الولايات المتحدة وروسيا كدول كبرى متدخلة ومؤثرة، تحالف دولي ينشط في المنطقة، دول عربية براغماتية حافظت على أنظمتها ومعنية بالاستقرار، لفحص إمكانية تنسيق إستراتيجي مع تركيا في مواجهة تهديد المحور واستمرار نظام الأسد (إسقاط النظام السوري هو هدف مركزي للرئيس التركي أردوغان)، ولتوضيح الاتجاهات في أوساط الأقليات في الشرق الأوسط والتي أيقظت الاضطرابات في بنية الدول هويتهم الانفصالية، وللإشارة إلى لاعبين يتمتعون باحتمالية لعب دور ايجابي ورئيسي في تكوين سوريا الجديدة في يوم ما بعد الأسد، وللعمل بصورة مباشرة وغير مباشرة لتعزيز مكانتهم.

في مقابل تحديد الأهداف الإستراتيجية على الجبهة الشمالية، يوصى أيضاً بوضع إستراتيجية منافسة تتفحص وتوزن بطريقة مختلفة المعطيات، التي تشير إلى الدولة الإسلامية كتهديد رئيسي (بصورة شبيهة للإستراتيجية الأمريكية). في مثل هذا السيناريو أي أن المحور ليس هو التهديد الرئيسي، من الممكن توسيع أفق التفكير والإشارة إلى مصلحة إستراتيجية مشتركة وطرق وصول إلى المحور، من أجل فحص إمكانية خلق تفاهمات وتنسيق لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية. فقط مواقف بديلة حقيقية تؤدي إلى الحاجة لإستراتيجية فاعلة وقابلة للتحقيق لصالح إسرائيل.

الخلاصة

بعد مرور أربع سنوات منذ بداية زعزعة النظم القديمة في الشرق الأوسط، من غير المتوقع نهاية قريبة للتقلبات الحاصلة بصورة متواصلة منذ ذلك التاريخ. وضع كهذا لم يعد يسمح أيضاً لإسرائيل بالتنحي جانباً والاكتفاء بعدم التدخل وتعزيز دفاعاتها، بهدف التطلع إلى عدم التأثر من تبعات الاضطرابات. التغييرات التي حدثت في العراق وسوريا خلقت ردوداً متسلسلة إقليمية وشكلت جبهة شمالية مختلفة عن تلك التي اعتادت إسرائيل عليها قبل العام 2011، من خلال تصاعد المصاعب المفاهيمية وغياب إستراتيجية متبلورة. إسرائيل لم تجد بعد المبادئ المكونة المطلوبة لها من أجل مواجهة الحقائق الحاصلة، والأمر يحدث فجوة آخذة بالاتساع بين الهدف المحدد فيما يتعلق بالجبهة الشمالية، وبين صندوق الأدوات الموضوع لخدمتها من أجل خلق تأثير ورد على التهديدات من الجبهة الشمالية، والاتجاهات والإجراءات القائمة فعلاً على هذه الجبهة.

من أجل تقليص هذه الفجوة، على حكومة إسرائيل القيام وبسرعة بإجراء عملية حساب معمقة هدفها خلق إستراتيجية محدثة لكل ما يتعلق بالمنطقة الشمالية. هذه العملية تترافق مع نشاطات وسطية تستدعى حسب التطورات في المنطقة، والتي تسمح بتفهم اكبر للمحيط. وفي المقابل، مطلوب رسم لميزان القوى الكثيرة واللاعبين وللاتجاهات، ومن ضمن ذلك البحث عن شركاء خاصين لبناء صندوق أدوات متعدد المجالات والذي يتناسب مع التحديات الجديدة. الإستراتيجية ذاتها تتطلب خلطاً بين الأهداف بعيدة المدى – المشتقة من توضيح المصالح لإسرائيل وسلم أولوياتها: المحور بقيادة إيران يشكل التهديد الرئيسي الحالي؟.. أم المعسكر الذي يقوده تنظيم الدولة الإسلامية؟؟ – وبين الأهداف قصيرة المدى – التي تركز على منع خلق تهديدات جديدة يصعب التعامل معها مستقبلاً -.

في هذا الإطار، على إسرائيل أن تتفحص مكانها بين نسيج اللاعبين الإقليميين والدوليين المشاركين بما يدور على الجبهة الشمالية، وبلورة إستراتيجية محدثة عبر الاستخدام السليم للعناصر، المفاهيم واتجاهات التفكير الحديثة الموجودة في هذا النسيج. تفكير إستراتيجي متطور حيوي من اجل توجيه سياسة إسرائيل ونشاطاتها أمام الجبهة الشمالية، والاستعداد بصورة فاعلة لسيناريو التصعيد أمام المحور وعناصر القوة الراديكاليين في المنطقة الشمالية وفي منطقة الشرق الأوسط بأكملها.  

اعلى الصفحة