من هزيمة حزيران 1967 إلى خيار المقاومة

السنة الرابعة عشر ـ العدد 163 ـ (رمضان ـ شوال 1436 هـ) تموز ـ 2015 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

كان انبعاث السياسة الفلسطينية، الذي تكلّل بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، والعمليات العسكرية الأولى لحركة فتح التي انطلقت في 1 كانون الأول / يناير عام 1965، بمنزلة أول إعادة نظر في انتصار "إسرائيل" في عام 1948-1949، واعتبرته "إسرائيل" فعلاً إعلان حرب.

وقدّم حزب البعث العربي الاشتراكي الذي وصل إلى السلطة في سوريا سنة 1963، في راديكاليته اليسارية، الدعم للفلسطينيين، واعترض بدوره على الأمر الواقع الذي كان الأكثر هشاشةً، لأنه الأقل قبولاً من المجتمع الدولي: أي سيطرة "إسرائيل" على المنطقة المجرّدة من السلاح بين البلدين .

الحرب الخاطفة تلحق الهزيمة بالأمة

في حرب 1967الخاطفة حققت "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية نصراً كبيراً على الزعيم الراحل عبد الناصر والحركة القومية العربية. كانت "إسرائيل" هي التي اتخذت المبادرة بتدمير الطائرات المصرية وهي جاثمة في المطارات. هكذا بدأت "حرب استباقية" احتلّت "إسرائيل" في نهايتها أربعة أضعاف مساحة أراضيها، في الضفة الغربية والقدس الشرقية وسيناء والجولان. وتم تشريد 400 ألف لاجئ فلسطيني جديد. ورفضت "إسرائيل"إعادة الأراضي المحتلة، وأبقت تحت سلطتها شعباً فلسطينياً مقاوماً معتبرة أن اللجوء إلى القوة وحده يحلّ المشاكل؛ وهذا ما أغرقها في أزمة سياسية وأخلاقية عميقة، ليست فضائح الفساد المتكرر سوى واحدة من ظواهرها.

في الأيام الأولى من حزيران/يونيو1967 شرح وزير الخارجية الأمريكي دان راسك موقف إدارته،في مذكّرة برقية إلى السفارات الأمريكية في العالم العربي بتاريخ 3 حزيران/يونيو، قائلاً: لم يعد هناك من حلّ منطقي حيال عقلية "الحرب المقدسة" لدى العرب وما يعادلها لدى "الإسرائيليين" من "عقلية نهاية العالم". لم يعد باستطاعة الولايات المتحدة تشجيع "إسرائيل" على ضبط النفس في ما تعتبره هذه الأخيرة دفاعاً عن مصالحها الحيوية. العرب كما "الإسرائيليون" واثقون من قدرة السلاح على الحسم. إذاً هناك من ارتكب خطأ جسيما ً في الحسابات.

في فرنسا أعلن الجنرال ديغول أمام مجلس الوزراء في 2 حزيران/يونيو 1967: "إن الدولة التي ستكون البادئة في استخدام السلاح لن تلقى تأييداً ولا دعماً من فرنسا". وفي خطوة منطقية، أعلن مع انفجار الحرب حظراً على إمداد أطراف النزاع بالسلاح. وبعد أشهر، وخلال مؤتمر صحافي - لم تُحفظ منه سوى جملة مثيرة للجدل عرّف فيها اليهود بأنهم "شعب واثق من نفسه ومتسلّط" - أضاف أن "إسرائيل" "تنظّم الاحتلال في الأراضي التي غزتها، وهذا ما سيؤدي إلى الظلم والقمع والنفي، وحين ستلقى مقاومة ستسميها إرهاباً".

ومع مرور الوقت، أصبح هذا التحليل أقرب إلى النبوءة، مع أنّه كان له وقع الصدمة في حينه. حتىّ قالت مجلة "لو نوفيل أوبسرفاتور" في عنوانها بتاريخ 7 حزيران/ يونيو: "لماذا تخلىّ ديغول عن "إسرائيل"، موضحة: "ليس لفرنسا الديغولية أصدقاء بل لديها فقط مصالح". صحيح أن خيار الجنرال كان بمنزلة قطيعة مع عقودٍ من الدعم غير المشروط لزعماء "إسرائيل" الذين سمحت لهم فرنسا بالتزوّد بالقنبلة النووية ومن بعدها الهيدروجينية. وقد اصطدم ديغول لدى البعض بشعور الذنب - المشروع - الذي خلّفته مشاركة حكومة فيشي في حملة الإبادة على اليهود؛ في حين خرّب لدى آخرين فرحة الثأر من "العرب"الذي وفرّته "إسرائيل" لمن كان الحنين إلى الجزائر الفرنسية يسكنهم(1).

ويجب انتظار اجتياح لبنان ومجازر صبرا وشاتيلا عام 1982، ومن بعدها انتفاضة الحجارة ابتداء من 1987، كي يتخذ الفرنسيون مسافة من "إسرائيل" ويدعون إلى قيام دولة فلسطينية مستقلّة مجاورة تكون عاصمتها القدس الشرقية.

تداعيات الهزيمة

لا يزال العالم العربي يلملم الشظايا المتناثرة لتلك الهزيمة المدوية.. وحين نتذكر هزيمة حزيران/يونيو 1967، نتذكر ثلاثة أمور متلازمة:

أولها: من المؤكد أن الذي استعار عبارة "النكسة" من عالم الطب لينقلها إلى عالم السياسة، كان يقصد يومها أن التحدي السياسي والحضاري والمعنوي والاقتصادي الذي كان يقوده عبد الناصر (في مواجهة كل الضغوط الخارجية والتحالفات الداخلية، من أهل البيت العرب)، كان يلاطم الأمواج، ويحقق إنجازات مؤكدة (كسر احتكار السلاح، بناء السد العالي، تأميم قناة السويس، رفع حجم الأمة العربية في المحافل الدولية إلى أعلى مستوى في التاريخ العربي المعاصر في كتلة عدم الانحياز والقارات الثلاث إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وإطلاق حركة توحيدية لم تشعر الجماهير العربية يوماً، قبلها أو بعدها، بوحدة مصيرها ومستقبلها ومصالحها)، لكن كل هذه المسيرة تعرضت بعد كل هذه الإنجازات للتهديد بعد الهزيمة العسكرية المدوية في يونيو/ حزيران ،1967 بسبب تراكم أخطاء مؤكدة، تحمل عبد الناصر في خطاب التنحي مسؤوليتها كاملة دون تنصل، فأدت الهزيمة العسكرية، إلى انتكاس الخط البياني الصاعد في عقدي الخمسينيات والستينيات(2).

ثانيها: هزيمة "المشروع القومي العربي" بشقيه الناصري والبعثي، وهي هزيمة تاريخية عادلة. والواقع أن "المشروع القومي العربي" كان يعاني من تأخر الوعي الإيديولوجي السياسي للبلدان العربية التي رفعت لواء الحركة القومية العربية في مصر والمشرق العربي. إذ إن هذا التأخر التاريخي كان عاملاً حاسماً في استمرار الوعي المحافظ الامتثالي والتقليدي الذي يرفض تجسيد القطيعة المنهجية والمعرفية مع كل نزعة ماضوية وتقليدية في تطور مستقبل المسألة القومية العربية على أسس ديمقراطية، عقب الهزيمة العربية أمام الإمبريالية الغربية والكيان الصهيوني. علماً أنه من الناحية السياسية والتاريخية، كان العالم العربي من محيطه إلى خليجه منجذباً بحماسة عاطفية لأهداف الحركة القومية العربية في التحرر والاستقلال والوحدة. وكانت مصر الناصرية في مرحلة الستينيات من القرن الماضي مركزاً إقليمياً طليعياً من الناحيتين السياسية والتاريخية، ومرجعية قومية موثوقًاً بها وقادرة على تفعيل الحيوية الشعبية الكامنة، إذ حوّلت هزيمة حرب حزيران التلقف الطوعي، الذي ارتآه الرئيس عبد الناصر تعاطفاً دافئاً مع رغبة في المشاركة في التعدد وسد الثغرات التي من خلالها حصل النزف ومهد لمراجعات تبلورت في الصمود وحرب الاستنزاف.

ثالثها: صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 لمعالجة آثار الهزيمة، والذي تضمن ما اعتبر "مبادئ حل سلمي" للصراع العربي- الصهيوني. وبعد انتصار العام 1967، قال الجنرال موشيه دايان، أبرز مسؤول سياسي في تلك الحقبة، هذه الجملة المشهورة: "نترقّب اتصالاً هاتفياً من العرب". كان يريد أن يحمل على الاعتقاد بأنّه بعد هذا الاتصال، ستنسحب "إسرائيل" من الأراضي المحتلّة - من سيناء وقطاع غزّة والضفّة الغربية والجولان- مقابل اتفاقيات سلام مع العالم العربي. لكن المؤرّخ طوم سيغيف كشف في كتابه 1967 (غير مُترجَم إلى الفرنسيةTom Segev, 1967, Denoel, Paris, 2007)، بأنّ تلك لم تكن في الواقع نيّة الحكومة "الإسرائيلية". مع أنه جرى النظر إلى موقف "إسرائيل" على هذا النحو، سواء في العالم أم في الداخل. إنه ينتظر اتصالات الدول العربية معلنة الاستسلام. فما الذي حدث، منذ حزيران/يونيو 1967وحتى الآن؟.

على العرب أن يعترفوا بخطورة المشروع الصهيوني في المنطقة وأهدافه التي تتكشف كل يوم من تفكيك للمنطقة وعزلها وتجزئتها. ومنذ هزيمة 1967، انكفأت الدول العربية كل منها على ذاتها، وظهرت تيارات انعزالية تسيطر على تفكيرها، بحيث التفتت كل دولة لذاتها، وأسهم في ذلك ما يسمى بالعولمة التي ترمي في مصالح المخطط الأمريكي - الصهيوني، أبرزها المصالحة مع الكيان الصهيوني، بحيث تحول الأمر إلى أن بعض الدول أصبحت تابعة لـ"إسرائيل".

لقد انتصر المشروع الصهيوني في حرب حزيران 1967، ونجح في إحداث الفرقة بين العرب، إذ بات بعضهم يتصور أن البعض الآخر يسرق ثروته. وباتت مفردات "النكسة" تعني الهزيمة في وجه "إسرائيل"، لكن أيضاً – وخصوصاً- نهاية قاسية للمشروع القومي العربي بإقامة دولة عربية تقدّمية قوميّة وحديثة كان ينادي بها جمال عبد الناصر (1918-1970) الذي تسلم الحكم في مصر في العام 1952، مع الضبّاط الأحرار، وأصبح الداعي إلى الوحدة العربيّة. وكان لحزب البعث، الذي أُسّس في العام 1947 تحت شعار"أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، نفوذ في صفوف العسكريّين وأوساط الطبقات الوسطى، إذ تمكّن هذا الحزب الذي يتمتّع بـ"فروع" تابعة له في الدول العربية كافة، من تسلم السلطة في سوريا والعراق في مرحلة الستينيات.غير أنّ العلاقات السيئة والخلافات بين دمشق وبغداد، ولاسيما داخل الحركة القومية العربية ستحول دون أيّ تحقيق لوحدة عربيّة.

وقد بلغ هذا المشروع ذروته مع إعلان قيام الجمهورية العربية المتحّدة بين مصر وسوريا (1958-1961). فخلال نحو عقديْن من الزمن، بين العاميْن 1950 و1967،أمل العرب في الحصول على فرصة ثانية للـ"تعويض" عن "النكبة" الأساسية في خسارة فلسطين بين العاميْن 1948-1949. ومع العام 1967، أصبح وجود الدولة العبريّة حقيقة لا رجوع عنها، في حين كان يتّضح في "إسرائيل" الخطاب حول اللاّرجوع عن احتلال الأراضي، وهكذا تغيّرت معالم اللعبة السياسيّة في المنطقة.

كما أن المشروع الصهيوني انتصر أيضاً في حرب أكتوبر،1973. وكان الصراع دائراً بين مشروعين متناقضين، فـ"إسرائيل" ترى أنها دولة معترف بها من هيئة الأمم المتحدة، بينما يعتبر المشروع القومي العربي أن "إسرائيل" دولة دخيلة ولا يمكن الاعتراف بها. وهو التناقض الذي أدى إلى حروب ومعارك متتالية، انتهت باعتراف دول عربية بوجود "إسرائيل"، وبالتالي قد انتصر المشروع الصهيوني، الذي يستوجب مقاومته من قبل الشعوب العربية والإسلامية بروح من الصمود في وجهه ولا بديل أمامها إلا بالالتفاف حول المقاومة.

وفي سياق حرب الاستنزاف، سطع نجم الثورة الفلسطينية المعاصرة في فضاء السياسة العربية كردّ فعل على النكبة، حين أكدت على أن قضية فلسطين هي قضية عربية وإسلامية بامتياز، فضلاً عن أنها قضية كونية، وأن عدو الأمة هو الكيان الصهيوني، ما بقي مغتصباً لأراض عربية وينتهك حقوق العرب في فلسطين ولبنان وسوريا. غير أن مبادرة السلام التي سبقها لقاء السادات بكسينجر في أسوان في 7 ديسمبر 1973 أعطت وجها ًآخر لقضية الصراع مع الكيان الصهيوني، بحيث باتت الدبلوماسية هي السلاح الوحيد في مواجهة أي خلاف أو صراع في المناطق العربية الساخنة، وهو ما أضعف القدرة العربية على تجاوز روح الهزيمة.

لقد تراجع "المشروع القومي العربي" لمصلحة قوى التسوية، على الرغم من أن الناصرية كظاهرة تعتبر أول محاولة فعالة وجدية للتعبير عن حركة النهضة الثانية للأمة العربية، بوصفها استعادة لمشروع محمد علي الذي نشد النهوض لمصر والمشرق العربي، عن طريق استحضار "مظاهر تقدم" المجتمعات الغربية، أي تقليد تلك المجتمعات الغربية  لعدم إدراك أن عملية التقدم، تحتاج نهضة فكرية شاملة.

والناصرية هي أول حركة شعبية تاريخية عريضة على صعيد العالم العربي، استنهضها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر لمقاومة الهيمنة الامبريالية الغربية والصهيونية من خلال مقاومة الأحلاف العسكرية تارةً، والدعوة إلى الحياد الإيجابي تارة أخرى، وأخيراً البحث عن هوية قومية ديناميكية واجتماعية تقوم على تآزر الطبقات الاجتماعية لبعضها البعض، وتخفيف حدة الظلم الاجتماعي.

وبفضل تأثير الفورة النفطية التي أعقبت حرب تشرين عام 1973، تعززت مكانة البلدان والنظم النفطية، التي كانت في منأىً، وفي تعارض مع المشروع القومي الناصري، والتي غدت داعمة للتيار الأصولي الذي انتشر في المنطقة، في مسعىً لوضعه في مواجهة التيار والمشروع القومي، لكي يسهل فرض المشروع الاستعماري على المنطقة الذي يشكل النقيض التاريخي للمشروع القومي التحريري والنهضوي للأمة وللشعوب العربية.

المقاومة من المقدس الوطني إلى المقدس الديني

عندما انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة بقيادة فتح في 1 كانون الثاني عام 1965، ولعبت دوراً بارزاً في تفجير الكفاح المسلح في فلسطين المحتلة وفي بلدان الطوق، جنباً إلى جنب مع باقي فصائل منظمة التحرير الفلسطينية الأخرى، لم تشارك الحركة الإسلامية الفلسطينية في معمعان الكفاح المسلح الذي كان دائراً آنذاك، واستمر لمدة عقدين من الزمن. وعندما انساقت معظم فصائل منظمة التحرير الفلسطينية في خط التسوية، والبحث عن حلول سلمية للصراع العربي- الصهيوني، وأصيبت المنظمة بالعجز والوهن، في ظل تراجع دورها على الصعيد العسكري، برزت " الظاهرة الجهادية" من خلال تفجر العمل العسكري الذي مهد لانطلاقة الانتفاضة الأولى في فلسطين المحتلة في 9 كانون الأول 1987.

تاريخياً وجدلياً مثلت الانتفاضة الفلسطينية بداية انتقال الكفاح المسلح من المقدس الوطني إلى المقدس الديني. فالمقاومة الفلسطينية اكتسبت شرعيتها السياسية والتاريخية في ظل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لها عندما تبنت ومارست الكفاح المسلح طريقاً لتحرير فلسطين.

غير أنه، وفي عام 1974 عندما ذهب الزعيم الراحل ياسر عرفات إلى الأمم المتحدة لتحتضنه الشرعية الدولية، لم يعد الكفاح المسلح مرتبطاً بالأهداف الإستراتيجية كالتحرير والعودة. وما كان يمكن أن يصعد عرفات إلى منبر الأمم المتحدة بهذه السهولة، وكان هذا إعلاناً أن منظمة التحرير أصبحت جزءاً من السياسة واللعبة الدولية والإقليمية التي لا تسمح مطلقاً باستمرار المقاومة الفلسطينية من أجل التحرير. وبدأت منظمة التحرير التي أنشئت من أجل هدف التحرير ومنه تستمد اسمها، تتلاشى رويداً رويدا.

آنذاك، جرى توظيف العمل العسكري في خدمة خط التسوية السياسية الذي بدأ يهيمن على الساحة الفلسطينية منذ أواسط السبعينيات. وبات المطلوب من الفدائي أن يعمل في خدمة السياسي. وعلى المقاتل أن يقاتل ويستشهد من أجل أن يُحسِّن السياسي فرص المساومة. وعندما دخل السياسي إلى نفق التسوية الراهن أعلن أن مشروع المقاومة والكفاح المسلح وصل إلى طريق مسدود. لم يعد يرى أن هناك فرصة للفدائي للجهاد والاستشهاد. الفرصة الوحيدة التي بقيت أمام هذا الفدائي أن ينخرط في مشروع السياسي للإجهاز على كل نفس أو رمق في الشعب الفلسطيني ينبض بالمقاومة، لذلك أي مشروع مقاومة مهما كان لونه يوظف لخدمة أهداف سياسية تكتيكية سينتهي به الأمر إلى ما انتهت إليه منظمة التحرير طال النهار أم قصر. فما أوجدوهما اسمه "الحل الوطني" من خلال التسوية(3).

هذه الوضعية المزرية من تراجع المقاومة، وعدم تطويرها، أسهمت في إضعاف "المقدس الوطني" للكفاح المسلح عند فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، ولاسيما بعد أن بدأ خط التسوية يسيطر على عقول المقاتلين منذ العام 1974. فبعد أن كانت قيادة المنظمة تضفي على الكفاح المسلح القداسة في العقد الأول من عمر الثورة الفلسطينية، بدأت تتراجع عنه لاحقاً، وتحرمه كلما توغلت في تبني خيار الحل السلمي.

وانطلاقاً من هذا نستطيع القول، إن التراجع في الأداء العسكري للمقاومة الفلسطينية، لم يبدأ بإسقاط حق المقاومة في أوسلو، بل لقد بدأ مبكراً، وكان من أهم محطاته عندما أعلن عرفات في خطابه أمام الأمم المتحدة في جنيف عام 1988 نبذه للكفاح المسلح ووصفه "بالإرهاب"، في عز أيام الانتفاضة.

وهكذا سقط المقدس الوطني في أحابيل خط التسوية. وفي معرض تصديه الفكري والسياسي للمقولات الاستسلامية الصادرة عن قيادات منظمة التحرير الفلسطينية التي بدأت تتنصل من فكرة الكفاح المسلح، باعتباره خياراً لم يقدم شيئاً للشعب الفلسطيني حسب وجهة نظرها، يحدد الدكتور رمضان عبد الله بدقة الهدف من الكفاح المسلح، فيقول: "فهمنا لطبيعة الصراع بأن "إسرائيل" كيان ودور يجعلنا نأخذ برؤية أن هدف المشروع الصهيوني لا يقف عند الحدود الجغرافية لأرض فلسطين. أي أن المعركة معركة ضارية شاملة. لكن الكفاح المسلح الفلسطيني جعل الهدف المباشر هو تحرير الأرض. وهذا بحد ذاته صحيح، ولا يتناقض مع القول بشمولية المعركة. فالهدف المباشر للشعب الفلسطيني الذي عرَّفته أدبيات الثورة الفلسطينية أنه طليعة الأمة في المعركة، هو أن يستعيد أرضه كاملة وحقوقه في وطنه فلسطين كاملة.

هكذا كان الحال في بداية مسيرة الكفاح الفلسطيني المسلح وغير المسلح. اليوم تبدلت الأحوال. فـ"المناضلون" القدامى يطلعون علينا أسراباً على الفضائيات العربية يمطروننا بوابل من الأكاذيب والأضاليل، ويقولون لنا إن لديهم مشروعاً وطنياً هدفه "إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف". طبعاًَ شريكهم الكبير والمفضل شمعون بيريز يقول "القدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل" وأن عنده معلومات بأن الفلسطينيين يبنون في أبوديس ويحضرونها لتكون عاصمة لهم وبديلاً عن القدس.

على نقيض تراجع "المقدس الوطني" في المقاومة الفلسطينية، برز المقدس الديني في الجهاد من أجل التحرير. وتعتقد الحركات الإسلامية التي تبوأت مركز الريادة في المقاومة الفلسطينية، أنه لا يستطيع أي حاكم أو أي قائد مهزوم أن يضع المقاومة ببساطة في بورصة السياسة ويفرط فيها على طاولة المفاوضات، فالمشكلة بدأت عندما استبعد المقدس الديني، وعندما استبعد الجانب العقائدي، بما يحمله من مخزون روحي تعبوي، في استمرار المقاومة. وعندما لم يتم تداول هذه الأداة،الكفاح المسلح، من منظور الدين وضمن مفهوم الحكم الشرعي الذي هو في صلب عقيدة الأمة وانتمائها، وضع الكفاح المسلح لقمة سائغة للناس ليرفعه مَن يرفعه ويشطبه مَن يشطبه.

حول عملية انتقال الكفاح المسلح من المقدس الوطني إلى المقدس الديني، وبروز الحركة الإسلامية الجهادية في فلسطين كقوة طليعية

أحدث بروز الدور الإسلامي في الانتفاضة، ومن ثم في الكفاح المسلح والعمليات الاستشهادية، حالة من الفزع لدى قادة العدو الصهيوني، حاولوا تصديرها إلى قيادة منظمة التحرير في الساحة الفلسطينية فأطلقوا فزّاعة البديل الإسلامي للمنظمة وللمشروع الوطني الذي تعبر عنه، ونجحوا من خلال تلك الفزاعة اصطياد قيادة منظمة التحرير في شرك التسوية فجرى توقيع اتفاق "أوسلو" المشؤوم في أيلول/سبتمبر1993.

تعتبر المرحلة الثانية بعد توقيع اتفاق أوسلو أشد خطورة على مسيرة المقاومة الفلسطينية بقيادة الحركة الإسلامية. وكان لصمود حركتي الجهاد الإسلامي وحماس في تلك المرحلة الدور الأساس في حفظ القضية الفلسطينية من الضياع.

وحاولت قيادة المنظمة أن تستثمر ظاهرة الكفاح المسلح لكي تدخل مسار المفاوضات مع "إسرائيل" الذي يمكنها من إقامة دولة فلسطينية على أي شبر من أرض فلسطين، ولكن النتائج التي توصلت إليها عبر اتفاقيات أوسلو الهزيلة لم تكن حسبما أرادته السلطة الفلسطينية. ومع ذلك بدأت السلطة الفلسطينية تقول إن الكفاح المسلح لم يرجع لنا شبراً من الأرض وأن المفاوضات، أي المساومة وليس المقاومة، هي التي ستعيد لنا الحقوق وستقيم الدولة الفلسطينية المستقلة.

ضمن هذا السياق التاريخي،برزت الحركات الإسلامية الجهادية في فلسطين المحتلة المعارضة لنهج أوسلو،وقامت بعمليات استشهادية على امتداد السنوات 1996 و2000 و2001. وبلغ عدد العمليات التي نفذتها حركتا حماس والجهاد الإسلاميتان 36 عملية استشهادية خلال السنوات الآنفة الذكر, خلفت 243 قتيلاً صهيونياً, وأكثر من 600 جريحٍ. ‏

لا شك أن هذه العمليات الاستشهادية لم تكن تشكك في شرعية السلطة الفلسطينية فقط, بل شككت أيضاً في إمكانية قيادتها للشعب الفلسطيني نحو الحرية والاستقلال والاستقرار الاقتصادي. وكان الكيان الصهيوني يلجأ إلى إغلاق الضفة الغربية وغزة ومنع العمال الفلسطينيين من الدخول إليه,عقب كل عملية استشهادية, الأمر الذي أدّى إلى مفاقمة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية داخل أراضي السلطة الفلسطينية. ومن ثم راحت علامات التأييد والحماس لاتفاق أوسلو والسلطة تنزوي تدريجياً , فيما استغلت حركتا حماس والجهاد هذه الأوضاع لرفع شعبيتهما في الشارع الفلسطيني, إما بتنفيذ العمليات الاستشهادية ضد الكيان الصهيوني على أساس أنها ستعجل بإخراج الاحتلال, أو بتنفيذ مشروعات لرعاية الأسر الفقيرة والمتضررة من الإغلاق الطويل للضفة الغربية وغزة. كما تسبب هذه العمليات أيضاً في توقف عملية التسوية وتأخر استحقاقات الكثير من الاتفاقات التي كان قد تم توقيعها بين الكيان الصهيوني والسلطة, لينتهي الأمر بتفجر الأوضاع مجدداً في28 سبتمبر عام 2000, وبدء حرب علنية بين الكيان الصهيوني والسلطة انتهت بتدمير بنية هذه الأخيرة بشكل تام. ‏

لقد ألقت العمليات الاستشهادية التي قامت بها حركتا حماس والجهاد الإسلامي الضوء مجدداً على دور حركة الجهاد في المقاومة. وفيما أظهرت العمليات في الخليل وفي تل أبيب وسواها قدرة فائقة على القيام الاستشهاديين الفلسطينيين بعمليات نوعية تهز من هيبة الجيش "الإسرائيلي"، وتجعل المجتمع الصهيوني برمته يعيش حالة من الرعب المستدام على مصيره ومستقبله، برزت أصوات عربية تنتقد هذه العمليات الاستشهادية من زاوية أنه إذا كانت حركة الجهاد الإسلامي تمتلك القدرة على ذلك، فلماذا تلجأ إلى العمليات ضد المدنيين بما لها من نتائج سلبية أحيانًا على النضال الوطني المشروع؟

من وجهة نظر الحركة الإسلامية الجهادية في فلسطين، تعتبر العمليات الاستشهادية من الناحية الإستراتيجية ومن الناحية التكتيكية الأسلوب الأمثل أو الأوحد الذي يمكن أن تواجه به جبروت العدوان الصهيوني وآلته العسكرية، وتحدث به توازن الرعب المطلوب، ولاسيما عندما يستمر العدو في ضرب الشعب الفلسطيني الأعزل بكل شراسة.

يرى المحللون الإستراتيجيون أنه على الرغم من أهمية الانتفاضة الفلسطينية في وقف مسلسل الانحدار التاريخي العربي نحو قاع البئر، وفي خلقها توازن رعب حقيقياً بينها وبين الجيش الصهيوني، فإنها لم تكن لها أهداف محددة، ولا استراتيجيا، باستثناء ذلك الموقف الوطني الراديكالي المطالب بضرورة إعادة النظر بأي ثمن في اتفاقات أوسلو كما في المسؤولين الذين تفاوضوا حولها.

حرب تموز/يوليو 2006 واستعادة مقولة الشرق الأوسط الكبير

الانتصار الساحق الذي حقّقه الجيش الصهيوني،في مواجهة الجيوش الثلاثة الكبرى في العالم العربي في حرب 1967، لم يُطمئن "الإسرائيليّين" ويمنحهم شعوراً بالأمان. فـ"إسرائيل" ليست على الإطلاق مكاناً آمناً، ومنذ العام 1967 شهدت ست حروبٍ جديدة لم تكن في صالح "إسرائيل": حرب الاستنزاف على طول قناة السويس وجبهة الجولان (1986-1970)، حرب الغفران (1973)، الانتفاضتان الفلسطينيتان (1987-1993 و 2000-2005) وحربا لبنان (1982 و2006). خمسة آلاف "إسرائيليّ" وقرابة الخمسين ألف عربيّ - مصريّين، سوريّين، لبنانيّين وطبعاً فلسطينيّين - لقوا مصرعهم فيها. باختصار، إنّ "إسرائيل" لم تُنهِ بعد اليوم السابع من حرب الستة أيام.

الصعوبة ل"إسرائيل" لا تقتصر فقط على أنّ الصراع ما زال مستمرّاً،لكن بألاّ يخرج الجيش منه منتصراً. فقد أشار الجنرال المُتقاعد دوي تاماري،الذي أصبح مؤرِّخاً، بعيد أحداث لبنان في صيف 2006، بأنّ حرب الـ1967 كانت آخر انتصار لا جدال فيه يحقّقه هذا الجيش. فهو يعتبر بأنّ المواجهات اللاحقة كافة انتهت بالانسحاب،إن لم يكن بالهزيمة. وفي كلّ مرة، كانت تل أبيب تضطرّ إلى القيام بتنازلات كبيرة. فقد انتهت حرب العام 1973 بالانسحاب الكامل من سيناء، وفق اتفّاقيات السلام التي جرى التوقيع عليها مع مصرفي العام 1979؛ وقد أدّت الانتفاضة الأولى إلى اتفاقيات أوسلو في العام 1993؛ وانتهى اجتياح لبنان في العام 1982 بالانسحاب غير المشروط في 25 أيار 2000؛ بفضل  الانتصار الكبير الذي حققه حزب الله، الذي كان في طليعة حركة المقاومة العربية ومعه الحركات الفلسطينية الجهادية في المواجهة مع العدو الصهيوني، بعد الهزيمة

ماذا عن حرب تموز 2006 في لبنان؟.. يقول الصحافي "الإسرائيلي" ميرون رابورور الذي يعمل في جريدة هآرتس اليومية، في تلّ أبيب، إذا كانت الطبقة السياسية قد هتفت لفترة بأنّها انتصرت، فهنالك 20% من "الإسرائيليّين" فقط يعتبرون بأنهم انتصروا فيها، وفق دراسة أجرتها جريدة هآرتس قبل أسبوع من انتهاء الحرب. هذه الصعوبة في تحقيق انتصار واضح تفسّر دون شك لماذا اعترف منذ مدة أحد المحنّكين في السياسة "الإسرائيلية" - شرط عدم البوح باسمه - بأنه غير متأكّد أنّ "إسرائيل" ستبقى في الوجود بعد عشرين عاماً. إذاً بدل التخفيف من مشاعر الخوف، كلّ ما فعلته هذه الأربعون سنة من الاحتلال كان تغذيتها.

ولعل أبرز تجليات جدلية الهزيمة في عام 1967 ظهور المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله التي استطاعت أن تُحرّر جنوب لبنان بقوة السلاح في 25 أيار/مايو عام 2000. ثم هناك حرب يوليو/ تموز 2006 التي مثلت فصلاً مُهماً من فصول نهاية "إسرائيل الكبرى" وتحطيم جيشها وقوتها الوهمية. فهذه الحرب كبدت دولة الاحتلال خسائر كبيرة لم تَخسرها على مدار تاريخها الحربي. ولا تزال لعنة حرب لبنان تطارد غالبية السياسيين والعسكريين في "إسرائيل"الذين سيدفعون ضريبة باهظة لفترة طويلة، لأن صمود المقاومة اللبنانية في وجه أسطورة الجيش الذي لا يقهر خلق أزمة وجودية "لإسرائيل" بسبب الإخفاق في تحقيق جيش العدو الصهيوني جملة من الأهداف الإستراتيجية للدولة "الإسرائيلية"، وهذا هو الجزء المهم في مضمون التقرير المرحلي للجنة "فينوغراد" الذي صدر في الثلاثين من إبريل/نيسان2007.

هذه القراءة تقودنا إلى الاستنتاج أن لدى شعوب الأمة العربية حيوية ملهمة ولكن ليست لديها مرجعية وطنية أو قومية. وعلى الرغم من ذلك تمكنت هذه الحيوية من أن تحقق إنجازات متقطعة مثل إصرار مصر على الصمود بعد الهزيمة، و"معركة الكرامة" أوائل 1968، ثم انتفاضتي شعب فلسطين الأولى في نهاية عام 1987، والثانية في نهاية سبتمبر 2000، ضد الاحتلال والتهويد وبروز مقاومة الاحتلال في كل من فلسطين ولبنان والعراق التي استطاعت أن تهز المواقع الأمريكية – الصهيونية، عبر بَثِ روحية تحريرية جديدة في مقاومة الولايات المتحدة الأمريكية.

خلال الولاية الأولى للرئيس بوش، لم يتردّد المحافظون الجدد في اعتماد إستراتيجيّة "الفوضى الخلاّقة" في الشرق الأدنى. ومع بدء الحرب الثانية على لبنان في تموز 2006، قالت كوندوليزا رايس: إن العالم يشهد مخاض ولادة شرق أوسط جديد، بيد أن هذه الفكرة بالذات ليست جديدة، وشمعون بيريز ليس صاحبها كما يعتقد كثيرون. المشروع لا يعني أن يندمج الكيان الصهيوني في المنطقة العربية ويصبح جزءاً من المنطقة ومن تاريخها، إنما أن يصبح الكيان الصهيوني هو الرائد الأمني والعسكري والسياسي والاقتصادي.

ومن الواضح في سياق كهذا، أن الهدف الرئيس الذي كانت تسعى إليه الولايات المتحدة من وراء الحرب الإسرائيلية السادسة على لبنان هو منح إسرائيل الفرصة كاملة لتدمير البنية العسكرية لحزب الله، ثم الاستدارة بعد ذلك لتصفية الحركات الجهادية في فلسطين، وعزل إيران وتقليص نفوذها في المنطقة تمهيداً لتصفية نظامها إن أمكن... وهذا هو"الشرق الأوسط الجديد" الذي كانت أمريكا تعتقد أنه سيولد من رحم الحرب اللبنانية.

إذا كان السلاح النووي الإسرائيلي يمتلك قدرة كبيرة على الردع في مواجهة الجيوش النظامية العربية مجتمعة، فإن إمكانية أن يصبح هذا السلاح النووي في متناول إيران أو بلدان عربية في المستقبل أصبح يؤرق وجودياً قادة الكيان الصهيوني. وفضلا عن ذلك، فإن الإستراتيجية الدفاعية للمقاومات العربية في العراق وفلسطين ولبنان باتت توازن تكنولوجيا إستراتيجية الهجوم الأمريكي– الصهيوني في المنطقة، يشهد على ذلك حرب الاستنزاف الدائرة في هذه الأقاليم العربية. وما يزيد من رعب الكيان الصهيوني بوصفه مجتمعاً عسكرياً، هو ضمور طاقاته الحربية مع تقادم الزمن، من جراء صمود المقاومة الشعبية المسلحة في كل من فلسطين ولبنان، وفي ظل تزايد الشعور المرير الذي ينتاب الصهاينة الآن بسبب التراجع المستمر في العامل الديموغرافي الاستيطاني الذي يتغذى من يهود الدياسبورا، على الرغم من الطفرة المؤقتة لليهود الذين قدموا من الاتحاد السوفييتي بعد انهياره.

هوامش:

1- دومينيك فيدال و ألكسي برج ،حتى ديغول كان معزولاً.. ، بحث منشور ضمن ملف عن نكسة 1967، في صحيفة لوموند ديبلوماتيك الشهرية، حزيران 2007.

2- إلياس سحّاب، الآن اكتملت النكسة فأصبحت هزيمة، مقالة منشورة بصحيفة الخليج الإماراتية  تاريخ 5 حزيران 2007.

3- د. رمضان عبد الله شلح، الحركة الإسلامية والجهاد في فلسطين، ملاحظات أولية، المصدر: مجلة المجاهد.

اعلى الصفحة