دور فكرة "الجهاد" في تأصيل ثقافة التطرف
لدى أتباع التيار السياسي الإسلامي

السنة الرابعة عشر ـ العدد 163 ـ (رمضان ـ شوال 1436 هـ) تموز ـ 2015 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تعود الأسس التأصيلية والبنى التنظيرية الأولى التي يقوم عليها مجمل الخطاب والفكر السلفي الجهادي المتطرف الحديث إلى تفسيرات وشروحات الإسلامي المصري "سيد قطب" الذي يمكن اعتباره الأب الروحي- الفكري لتنظيمات السلفية الجهادية والجماعات الإسلاموية السياسية الحديثة التي ظهرت منذ منتصف القرن الماضي وفي أغلب البلدان العربية..

مع عدم نسياننا – بطبيعة الحال- أن مرتكزات فكر وشروحات وتأويلات سيد قطب نفسه للنص الديني، تمتد موغلة في التاريخ لتصل إلى ابن تيمية وغيره من رموز الفكر الإسلامي التاريخي المتشدد الرافض للآخر.

وقد ظلت تلك الرؤى المتطرفة كامنة في عقول شرائح مختلفة من أعضاء الحركات الإسلامية في القرن الماضي، إلى أن وجدت طريقها إلى الاستلهام والتطبيق في "بلاد الشام" بالتحديد، عبر التحرك شبه الثوري الذي قاده السوري الإخواني "مروان حديد"، عقب عصيان مدينة حماة السورية عام 1964، ووجد حديد ورفاقه - بعدما مانع "إخوان" سوريا تنفيذ مطالبه بالعمل المسلح لإسقاط نظام البعث الحاكم في سوريا - ضالته في الانضمام إلى العمل المسلح الذي كانت تتيحه قواعد حركة "فتح" الفلسطينية في الأردن، ضمن ما عرف بـ"قواعد الشيوخ" في غور الأردن (1968 - 1970)، التي كان أبرز وجوهها مدرس الشريعة في الجامعة الأردنية، "الدكتور عبد الله عزام"، الذي لم يجد في الأردن أو فلسطين بعد أحداث أيلول(سبتمبر) 1970 أي بيئة حاضنة لأفكاره التي شكلت البذور النظرية الأولى للسلفية الجهادية في الأردن، فسافر بها إلى  أفغانستان، وصار فيما بعد أحد أهم المنظرين لـ"الجهاد" (وتنظيم القاعدة السلفي) في أفغانستان، وقاتل فيها، وقُتِل.. وكان "مروان حديد" قد أعد في قواعد "فتح" في الأردن الخلايا الأولى لتنظيمه "الطليعة المقاتلة"، الذي كان البذرة الأولى للسلفية الجهادية في سوريا، حيث قاد في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي المواجهات المسلحة الأولى مع الدولة السورية، وقد انضم إليه لاحقاً تنظيم "الإخوان المسلمين" في سوريا، وكانت المواجهة العسكرية بين النظام السوري والتنظيم في أحداث مدينة حماة الشهيرة عام 1982م، وحين أراد النظام تجفيف منابع الفكر الجهادي المسلح في سوريا عمد، إلى جانب العمل الأمني، إلى ترسيخ نمط مهادن من "التدين الشامي" (التدين الاجتماعي الوسطي) غير المعارض، وكانت أفكار محمد سعيد البوطي (الذي قتل في خضم الأزمة السورية)، وجماعة القبيسيات، ورعاية التوجه الصوفي بعضاً من روافده الأساسية. لكن هذه الوصفة، في ظل نظام غير ديمقراطي وقمعي، لم تكبح جماح الأفكار الإسلامية الجهادية المتشددة، التي وجدت فيما بعد في غزو العراق عام 2003 مناسبة للإعلان عن نفسها والانطلاق والتحرك.

وقسم كبير من رموز تلك التنظيمات خرج من سجون الأنظمة العربية ميتاً إلى القبور، وقسم أكبر خرجوا منها كارهين ضد الآخر، ورافضين للدولة والمجتمع، ومنغلقين على أفكار "اللاهوت السياسي الإسلامي" العتيق (إذا جاز التعبير)، وقارئين قراءة تابعة لا ناقدة، لأفكار وخطابات وشروحات سيد قطب، وأبي الحسن الندوي، وأبي الأعلى المودودي، وغيرهم من مرجعيات الإسلام السياسي الحركي، وهم في حالة تعبئة روحية وعاطفية وفكرية طهورية بأفكار هؤلاء، حيث الثقافة الخاصة، ثقافة الجماعة أو الحزب أو الفئة.

لقد كان القاسم المشترك بين كل هذه التيارات والجماعات – التي قبع رموزها ردحاً طويلاً من الزمن في السجون والمعتقلات، وخرجوا من رحم هزائم القومية واليسار العربي عموماً- هو تشرّبها بثقافة العنف والسيف، ووضع ثقافة السلم وراء ظهرانيها، وتتضاعف المشكلة في الجماعات والتنظيمات والأحزاب السياسية بعامة والإسلامية بخاصة، فهذه الأحزاب حينما أرادت أن تثقف أفرادها تثقيفاً سياسياً فإنها وضعت على موائد الأفراد تجارب المجموعات السياسية والمسلحة في أدغال أمريكا اللاتينية، وهي في مجموعها تجمعات يسارية آمنت بالسلاح والقوة طريقاً للوصول إلى الحكم ولو على أشلاء الناس أنفسهم الذين يدعون الدفاع عنهم، وبعض الجماعات الإسلامية التي حاولت الابتعاد عن ثقافة العنف القادمة من المجاميع اليسارية تكهفت بثقافة السلف، ولكن في جانبه العسكري المتزمت فقط، فعرفوا أن منتهى التوحيد هو "حمل النّاس عليه بالسيف" فارضين ثقافة البداوة على المجتمع العربي والمسلم، وبعض المجموعات المسلحة تتحرك بثقافة وقيم العشيرة لمرحلة ما قبل مجيء الإسلام، حيث كانت سلوكيات الغنيمة والغزو والسطو المسلح (بالسيف طبعاً) على الآخرين مبلغ الرجولة، وهذه الثقافة الجاهلية المتخلفة تتكرر بين عصر وآخر، وإن بصور مختلفة، بل وبعضها مشابه لما كان يفعله بعض السلف، وهذا ما لمسناه في أفغانستان والجزائر ونجده اليوم في العراق واليمن وسوريا أيضاً، حيث الظهور الكلي للراديكالية الإسلامية المتطرفة بأبشع صورها، وأقبح وأفظع سلوكياتها، من قتل وتدمير وسحق واستباحة حرمات الناس.. والتي وصل بها الأمر أنها تجعل الأطفال يمارسون سلوكياتها العنيفة الهمجية بعد تربيتهم وتدريبهم على كراهية القانون والنظام العام، ورفض كل ما هو آخر مختلف، والحقد عليه، ورميه بأقذع الصفات اللا إنسانية.

إن الفكر المسيطر والثقافة المهيمنة على (والمتحكمة بـــ) عقل وسلوك وأفعال هؤلاء هي ثقافة وفكر – في أعلى وأجلى وأوضح تعابيره ومعانيه - فكر رفضي إلغائي، قائم على تفسيرات وتأويلات مبتورة من سياقاتها، كما في الآية الكريمة التي يرددها أتباع تلك الجماعات﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾(البقرة: من الآية191)، في حين يفترض أن يلتفتوا إلى آية أخرى لا تفسر الأولى إلا بها وهي آية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء: 107).. وأن يتمعنوا في أحاديث الرسول:

- "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".

- "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم".

- "وإن هذا الدين يسر فأوغلوا فيه برفق ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا"....الخ...

وأن يدركوا أن التطرف غير مقبول دينياً وأخلاقياً، بل هو فعل مرفوض ومنهي عنه في الإسلام بدلالة قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾(البقرة: من الآية 185) ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾(النحل: 125).

ودلالة قول الرسول(ص): "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا". وقوله: "لن يشاد الدين أحد إلا غلبه". وقوله: "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً".

لكن المشكلة ليست في النصوص المؤسّسة لفكرة الوسطية والاعتدال، المعبَّر عنها بكل وضوح وشفافية، بل المشكلة والأزمة مركوزة في الوعي المتشكل وآليات التلاعب بالعقول الرافضة لمنطق الاعتدال والتسامح والاعتدال، إنه التبعية للواقع الظالم القائم، وكسر النصوص له، أي الانطلاق من الواقع السلبي إلى النص (ليس المحكم بل المتشابه) في قراءة عكسية غير تقديرية.

وفي ظني أن الأجيال التي تربت على هذا التطرف والعنف لا تتحمل بطبيعة الحال المسؤولية لوحدها، ولا يمكن وضع اللوم كله على هذا الجيل، لأن المادة التي يتثقفون عليها هي مادة التطرف ومادة العنف ومادة الإرهاب، بل وبعض المناهج التربوية تعلمهم كراهية المسلم كما قلنا، وتكفيره وحتى الجهاد ضده، بمجرد أنه لا يتفق مع هذا المذهب أو ذاك حتى في بعض الفروع الفقهية، وتوزع في بعض المواسم الدينية الملايين من الكتب والكراسات وبلغات مختلفة في تكفير بعض المسلمين من هذا المذهب الفقهي أو ذاك.

وحتى فكرة الجهاد نفسها (وهي ركن من أركان الدين، وتحفر عميقاً في داخل تربة الاجتماع التاريخي السياسي للإسلام) لم تفهمها تلك الجماعات المتطرفة – في المحصلة وبقطع النظر عن بعض التنظيرات المجمِّلة- إلا كثقافة غزو وسلب ونهب وحرب وغنائم ومقاتل ودماء، مع أن للجهاد أسسه وظروفه وأنواعه ودوافعه وموضوعه وأشكاله ومرتكزاته ومبانيه وأحكامه الفقهية، وهو بالأساس جهاد دفاعي بدئي وقائي، لا هجومي قتالي، فقدمت الدين كله للآخر على أساس أنه دين الغزوات الحربية، ودين السيف البتار، دين أسلمة الناس تحت حد الحراب والسيوف.

ولا شك بأن "الجهاد" – كفاعلية إجرائية إسلامية - يسجل حضوراً متميزاً في داخل المنظومة العقيدية والسياسية التاريخية للإسلام، الأمر الذي يجعل منه على الدوام – وبصرف النظر عن الدرجة والنوع - موضوعاً دائم الحيوية والتجدد خصوصاً في الحالات الحرجة والصعبة التي يمكن أن تمر بها الأمة ككل، حيث قد تتطلب الظروف المعقدة استحضار هذه الفكرة(الجهاد) لتشكل نمط حياة، وأسلوب تفكير، ومنهج عمل متواصل.. ولكن الإسلام لم يدعُ إلى إتباع طريق الجهاد على المستوى الخارجي بمعزل عن معاييره وضوابطه ومحدداته وشروطه، أو بمعزل عن المستوى والكيان الذاتي للإنسان المسلم الذي يشتمل على الروح والفكر والمعنى والقلب والعاطفة والإرادة. الخ.. بل إنه دعا إلى ضرورة الربط بين المستويين الذاتي الفردي والموضوعي العملي لفكرة الجهاد، أي الربط بين الجهاد الأكبر (وهو جهاد النفس ومجاهدة الشهوات، وهو الجهاد الأساس والقاعدة) وبين الجهاد الأصغر (الذي هو جهاد العدو). بما يعني أن تحقيق الجهاد الخارجي لا ضمانة له إلا بالنفاذ إلى الخزان الروحي للفرد المسلم، في أخلاقياته وفضائله وقيمه الرسالية الإسلامية، لإقامة الانسجام النفسي، والتوازن الداخلي، السير على طريق العدالة والاستقامة، وهذا يحتاج إلى جهاد يتشعب ويمتد ويتعمق ليشكل كل الآفاق الداخلية لهذا الفرد، في علاقاته الذاتية، وكل آفاقه الخارجية في علاقاته مع كافة مفردات حياته في المجتمع والبيئة المحيطة.

إذاً، هذا الربط بين الجهادين، مع النظرة الإسلامية التفضيلية للأول على الثاني، هو المدخل لفهم معنى الجهاد ككل. ولا يمكن بالتالي تفسير الجهاد الأصغر (جهاد العدو) بكل تلاوينه وأشكاله بمعزل عن عمقه وركيزته (الجهاد الأكبر)، وما نشاهده اليوم، أو منذ ظهور تيارات الجهاد الدينية في مجالنا الإسلامي، من تطرف وتعصب وأفعال مشينة وسلوكيات فظيعة تعتمد العنف والقوة كمنهج عملي وحيد لدعوتها وخطابها الفكري والسياسي، ما هو إلا نتيجة فصل الجهاد الأكبر عن الجهاد الأكبر، وتفسير كل واحد منهما بمعزل عن الآخر، فتم تشويه صورة الجهاد الذي هو كما عبر عنه أمير المؤمنين الإمام علي(ع) "لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة".. "وأن من تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذلّ وشمله البلاء وديث بالصغار والقماءة، وضرب على قلبه بالأسداد وأديل الحق منه بتصنيع الجهاد، وسيم الخسف ومنع النصف.."

.. ومن يتعمق قليلاً في هذه الكلمات سيدرك الأهمية الكبرى لفكرة الجهاد، فهو ركن وثيق من أركان الدين، وهو جزء من المنظومة العقيدية للإسلام، ولا يصح إيمان المسلم ما لم يعتقد به، ولكن تاريخياً غلبت عليه صورة الغزو والهجوم واستعمال العنف الأعمى لتحقيق الغايات والمصالح والمطامع الخاصة، كما ذكرنا، وسلط المستشرقون الضوء على هذه الناحية السلبية المظلمة، فزادوه تشويهاً وتحريفاً في ذهنية الناس، ووعي المجتمع، في سعيهم للنيل من سمعة الدين الإسلامي، ومكانته، ودوره، وحضوره في العوالم الإسلامية والأخرى غير الإسلامية.

وعلى الرغم من كون الجهاد (بفرعيه: الأكبر والأصغر) ركناً أساسياً من أركان الإسلام، لكنه ليس سبيلاً "دائمياً"، أو أسلوباً وطريقاً متواصلاً واستراتيجياً (وبالتحديد فرعه الأصغر)، بل هو واجب بشروطه وشرائطه، وهو مرهون بأوضاع المسلمين، وظروفهم وعلاقاتهم وموازين قوتهم، أما المبدأ العام الرئيسي في السلوك الدعوتي الإسلامي على هذا الصعيد (وعلى كل الأصعدة)، فهو قائم على قواعد متينة من العدل والتسامح واليسر والإحسان، وهي مفردات "مبادئية" بالعنوان الأولي (إذا صح التعبير) قيمية ومعيارية و"مقاصدية" راسخة، تستوعب كل تشريعات وقوانين وأخلاقيات هذا الدين، حتى في تفاصيلها الدقيقة.. ونحن نجد في القرآن الكريم تأسيساً دينياً لمفهوم وثقافة التسامح، يتمثل في كل هذا الحديث الواسع حول مفردات ومفاهيم "الصفح" و"العفو" و"الإحسان" و"الدفع بالتي هي أحسن" و"الإعراض عن الجاهلين"، "بالحكمة والموعظة الحسنة"، وغير ذلك من المعاني التي تلتقي وتنطلق معه.. فنحن نقرأ الآيات الكريمة التالية:

﴿وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾(الرعد: من الآية 22).

﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾(المؤمنون: من الآية 96).

﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(*) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾(فصّلت: 34-35).      

﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً﴾(الفرقان:63).

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾(النحل: من الآية 125).

﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(البقرة: من الآية 237).

﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾(القصص: من الآية 77).

﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ﴾(النحل: من الآية 90).

﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(النساء: من الآية 58).

وهكذا نلاحظ أن مبدأي التسامح والعدل يشكلان قلب وجوهر أي تشريع ديني، (حتى تشريع وركن الجهاد)، فمبدأ "التسامح" يمثل الأسلوب المسالم الوديع، الذي يواجه به الإنسان اعتداء الآخرين عليه، وإساءتهم إلى حقوقه، فهو يهدف إلى أن يجعل من الإنسان المُعتدى عليه إنساناً مثالياً تنبع الرحمة من قلبه، لتنطلق في حياة الآخرين محبة وسلاماً، ويتدفق الخير من روحه ليقبض على مجتمعه نعمى وهناء.

ولكن المشكلة التي حدثت عبر تاريخ تشريع وتأصيل فكرة الجهاد عملياً في تاريخنا السياسي العربي والإسلامي حتى اليوم، هو ارتباط الجهاد بقضيتين تم التلاعب بهما:

- أولاهما: اعتبار الجهاد هجومياً وليس دفاعياً، مع أن العداوة المشروعة في الإسلام لا تنشأ إلا في حالة وجود عدوان ، أي العدوان الذي يتوجّه من فريق إلى فريق، وهو نوع من البغي والتميّز الذي يدفع فريقاً يرى في نفسه القوة والتفوق ليعتدي على فريق آخر بقصد التجبّر والهيمنة والسيطرة، وهذا ما يحدث بين الشعوب والأمم كما يحدث بين الأفراد، فالعدوّ هو المعتدي، والذاهب في عدوانه إلى الحدود القصوى والأئمة، وهو الذي يجوز اعتباره عدوّاً، ويجوز قتاله، وفي هذه الحالة يكون هذا القتال نوعاً من "الجهاد". وأساس ذلك هو أن الجهاد في الإسلام هو جهاد دفاعيّ وليس جهادًا هجوميّاً.

وعلى هذا الأساس فإنّ الصراع مع العدوّ الصهيوني (من وجهة نظر إسلامية) هو صراع مشروع وربما يكون واجباً، ولكن أوّلاً ليس بوصف الإسرائيليين يهوداً بل معتدين، لأن اليهود بتصنيف الإسلام هم أهل الكتاب الذين قرّر الإسلام الانفتاح عليهم واحترامهم واحترام شعائرهم، والسماح لهم بالتعبير عن عاداتهم وطقوسهم وشعائرهم وحريتهم الكاملة في ممارسة هذه الشعائر، والصهاينة بوصفهم يمارسون أعلى صور العداء للمسلمين عموماً وللعرب والفلسطينيين خصوصاً، فهم اغتصبوا الأرض، وشردوا الشعب، ونهبوا الثروات، وارتكبوا ويرتكبون الجرائم والعدوان الحربي، أي قتال المسلمين، وبالتالي فإن مثل هذا العداء من قبل المسلمين هو رد فعل، وجهادنا لهم هو جهاد دفاع وليس جهاد عدوان.

- وثانيتهما: ربط الجهاد بالكفر، وتنامي هذا الاعتقاد خلال القرنٍ الأخير، ما شكّل ضربةً قاسيةً لفقه العيش وفقه الدين معاً، واضطر ذلك عدداً من كبار الفقهاء، أبرزهم محمود شلتوت شيخ الأزهر، إلى مهاجمة ذلك والردّ عليه في كتابه "القرآن والقتال" (1949)، حيث نبّه إلى أنّ (القتال لا يكون إلا لدفع العدوان ورد المعتدين كما جرى التوضيح)، بل نبّه أيضاً إلى خطر التكفير وبالتالي الجهاد على الداخل المسلم، بسبب عودة مفهوم الولاء والبراء، والذي لا يتناول غير المسلمين فقط، بل يتناول مسلمين آخرين أيضاً يختلف معهم المتشددون في الرأي (والاعتقاد!). وقد حصل ما توقعه شلتوت، عندما انتشرت ظواهر تكفير الحكام والأنظمة والمجتمعات، واستحلال ممارسة العنف ضدها.. وهكذا فقد تطورت المسألة من دعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومكافحة البِدَع، إلى ربط العنف بإقامة الدولة الإسلامية التي تطبّق (الشريعة!).. وبذلك تطرّق الخلل والاختلال لدى فئة من المتشددين إلى مفهوم الدين ذاته، فالشريعة هي الدين، وعندما يقال إنها غير مطبقة، فهذا يعني أن الدين لم يعد حاضراً في المجتمعات والدول، وأنه لا بد من فرضه بالقوة، وعلى هذا الأساس الفاسد قامت الأحزاب الدينية العنيفة والسياسية. وهذا التحريف والتحوير لمفهوم الجهاد أخلّ بفقه العيش والتأقلم الحياة ومع العالم، وأخلّ التحوير في مفهوم الشريعة بفقه الدين.

والتحوير في مفهوم الجهاد جعلنا نتصادم مع الجميع، ووضعنا في مواجهة(خاسرة) مع بعضنا ومع العالم كله، ما تزال على أشدّها، وأما التحوير في فهم الشريعة فقد وضع الدين ذاته في مواجهة الأمة ككل. وكان الأمر الثاني خطيراً لأن كثيرين - بحجة صَون الهوية - اندفعوا ليس لفصل الإسلام عن العالم وحسْب، بل ولفصل الدين عن حاضنته الاجتماعية.. والمعروف منذ أكثر من ألف سنة أنّ "الجماعة" في الاعتقاد الإسلامي هي التي تحتضن الدين، والدين عبادات وأخلاق ومعاملات يعيشها المسلمون بالتزام شديد.. وها نحن نتلفت فنجد أن عصابات مسلحة (وعن طريق قيامها بالتأصيلات المحرفة والمنحرفة)، وأُخرى مسلحة بالأسلحة النارية، تستلب الدين بمفاهيمها الخاصة، ثم تقتل الناس بحجة إقامة الدولة، و(إحقاق الشريعة!). ولهذا نحن محتاجون لأكثر من تجديد "الخطاب"، فالتجديد ينطوي - بحسب الداعين إليه - على جانب واحد هو فتح التقليد، واستحداث تغييرات ونوازل، وفقه جديد للتلاؤم مع العالم، والسير مع حركة التاريخ .

باحث وكاتب سوري(*)

اعلى الصفحة