المشهد السوري.. ملامح متغيّرات الميدان وسلّم الأولويات

السنة الرابعة عشر ـ العدد 163 ـ (رمضان ـ شوال 1436 هـ) تموز ـ 2015 م)

بقلم: مأمون الحسيني(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لا يمكن النظر إلى، أو الحديث عن تطورات جبهات المعارك المشتعلة في معظم أنحاء الجغرافيا السورية، ولاسيما في الشمال والجنوب، غداة دخول الحرب عامها الخامس، بمعزل عن اللوحة الكبرى للمشهد السوري الذي شهد في الآونة الأخيرة، وعشية توقيع الاتفاق النووي الإيراني، وترجمة نتائج الانتخابات التشريعية التركية، اندفاعة غير مسبوقة في الهجمات الإرهابية ذات الحشد البشري الكبير والتسليح النوعي المتطور، والمخطط لها استخبارياً وعسكرياً من قبل غرف العمليات المشتركة في كل من تركيا والأردن، وأدت إلى سيطرة الإرهابيين على منطقتي جسر الشغور وأريحا في محافظة إدلب الشمالية، وعلى كل من تدمر والسخنة في وسط البلاد، ومقر "اللواء 52" في الجنوب.

بطبيعة الحال، لا يمكن التقليل من خطورة هذه التطورات الميدانية الصادمة والمؤلمة التي دفعت جبهة أعداء سوريا إلى اعتبار ما حدث مؤشرا هاما على اقتراب ما يسمونه "ساعة الصفر" لإسقاط النظام وتمزيق الدولة السورية، وبالأخص بعد توصل الدول الداعمة للمجموعات الإرهابية (السعودية والأردن وتركيا وقطر) إلى اتفاق يؤجَل معالجة مشكلة تنظيم "داعش"، ويسعى إلى توحيد المجموعات الإرهابية في سوريا، وعلى رأسها "جبهة النصرة"، فرع تنظيم "القاعدة" في بلاد الشام، وتوحيد الجهود بهدف إسقاط الدولة والنظام في دمشق، مع رفع منسوب تدريب وتسليح هذه المجموعات على أراضي الأردن وتركيا، بمساعدة وتمويل سعودي وقطري. وهذا الدعم يمكن إضافته إلى برنامج الدعم لإرهابيي ما يسمى "الجبهة الجنوبية" الذي تنفذه وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي أي إيه)، وتتولى من خلاله تدريب وتسليح هؤلاء الإرهابيين وتزويدهم بالمعلومات الميدانية، وفق ما كشفته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، وهو ما لا يمكن فصله عما كشف في أيار/ مايو الماضي من وثائق لاستخبارات الدفاع الأمريكية أظهرت أن الدول الغربية (وبينها الولايات المتحدة) والخليجية الراعية للإرهاب في سوريا دعمت عامي 2011 و2012 إقامة إمارة "قاعدية" في شرق سوريا للضغط على النظام في دمشق. غير أن ذلك لا يلغي ضرورة تسليط الضوء على بقية جوانب الصورة الكلَية التي تتيح وضع الأمور في نصابها الحقيقي، بعيدا عن بحر التضليل والتهويل والتخويف الذي تعمل كتائب السياسة والإعلام الإقليمية والدولية على إغراق الجميع فيه.

زخم التدخل والإرهاب.. إلى الجنوب در

في البداية، لا بد من توضيح الواقع العملاني التالي: إذا استثنينا جبهة شمال شرق سوريا وامتدادها الغربي التي تلعب فيها "وحدات الحماية الكردية" دوراً رئيسياً، وهي مجال بحث سيتم التطرق إليه، فإن المعارك في سوريا تدور على أربع جبهات رئيسية:

– الجبهة الشرقية التي يعتبر تنظيم "داعش" القوة الرئيسية العاملة فيها، ولاسيما بعد سيطرته، إضافة إلى الرقة، على مدينة تدمر والمعابر الحدودية الخالية بين سورية والعراق.

– الجبهة الشمالية التي نجحت "جبهة النصرة" في تشكيل إطار بقيادتها هناك يضم العديد من التنظيمات الإرهابية الأخرى تحت مسمى "جيش الفتح" الذي احتل كلاً من إدلب وجسر الشغور وأريحا.

– الجبهة الوسطى الممتدة على طول المحور الرئيسي حماة – حمص – دمشق، والعنصر الأكثر بروزاً فيها راهناً هي تلك الانتصارات التي يحققها الجيش العربي السوري والمقاومة الإسلامية ضد إرهابيي "النصرة" و"داعش" في مناطق جرود القلمون على الحدود مع لبنان.

– الجبهة الجنوبية، وهي تلك الممتدة، بين دمشق ودرعا في الجنوب، والقنيطرة في الجنوب الغربي، والسويداء في الجنوب الشرقي، حيث شكلت المجموعات الإرهابية في هذه الجبهة قوة مشتركة تضم تنظيمات "جيش الإسلام" و"جبهة النصرة" وما يسمى "الجيش الحر"، والعديد من المجموعات الأخرى.

ما يمكن تسجيله بعد هذه الإضاءة هو أنه، ومع فشل حزب أردوغان في مواصلة إلقاء القبض على السلطة، وعدم قدرته على تحقيق أغلبية تمكّنه من تشكيل الحكومة منفرداً بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة، تم نقل ثقل وزخم التدخل الخارجي في دعم الجماعات الإرهابية المسلحة من شماليّ سوريا إلى جنوبها، وهو وضع مناسب للأمريكيين وأذيالهم وعملائهم كون الشريك الأردني حليفاً منضبطاً، وتنظيمات الإرهاب التي تخضع لغرفة العمليات المشتركة في عمّان "الموك" هي أقوى ما تكون في الجنوب السوري، وقوات تنظيم "داعش" في الجنوب ضعيفة نسبياً ويمكن ضربه وضبطه.

انطلاقاً من ذلك، وفي إطار التصعيد في العمليات العسكرية للإرهابيين المتفوّقة، عدة وعديداً، ضد مواقع الجيش السوري، والذي أدى إلى سحب بعض الوحدات العسكرية وإعادة تجميعها أكثر من مرة خلال الأشهر القليلة الماضية، وترجمة لمخططات شنّ هجمات قاسية عسكرياً في محافظات الجنوب، وبخاصة في السويداء التي ينبغي، وفق هذه المخططات، ترويع أهلها بغية إبعادها عن سلطة الدولة، بالحرب، أو من خلال الوساطات السياسية والضغوط، كانت الهجمات الشرسة التي شنتها 55 مجموعة إرهابية على مقر "اللواء 52" الذي لم يتجاوز المدافعون عنه الـ 300 جندي سوري، ومن ثم التقدم نحو مطار الثعلة الواقع غرب مدينة السويداء، والذي سطّرت فيه قوات الجيش السوري والمتطوعون من أبناء المنطقة ملحمة في الصمود، وكسر الهجمات الإرهابية المتتالية، ودحر الإرهابيين من كامل محيطه، وذلك قبل أن تقتنع هذه الجماعات المدعومة من إسرائيل ووكالة الاستخبارات الأمريكية بعدم قدرتها على انتزاع أي تقدّم عسكري أو سياسي، وتتوجه بناء على توجيهات غرفة عمليات(الموك) بالتعاون مع "شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية"(أمان) إلى جبهات محافظة القنيطرة، وتشن هجمات عنيفة على مواقع "اللواء 90" في التلول الحمر، شمال شرق بلدة حضر المقابلة لبلدة مجدل شمس في الجولان المحتلّ، وعلى بعض قرى المحافظة الأخرى.

وما يلفت في هذا السياق التصعيدي الإرهابي، هو ذلك الالتزام الدقيق من قبل المجموعات المسلحة بالتوجيهات الإسرائيلية التي تسعى وتعمل على "مذهبة" الحرب في سوريا كمقدمة للاستحواذ على أراض سورية إضافية على جبهة الجولان المحتل، وتمهيد التربة لتقسيم سوريا انسجاماً مع مخططات واشنطن المعدّة للمنطقة برمتها. ولعل من المهم الإشارة، في هذا السياق، إلى مفارقة بحث رئيس الأركان الأمريكي المعتزل الجنرال مارتين ديمبسي مع القادة الصهاينة، أثناء زيارته الأخيرة للكيان، وغداة مجزرة "قلب لوزة" التي ارتكبتها "جبهة النصرة" ضد أبناء البلدة الواقعة في جبل السمّاق بريف إدلب، ما سمي "التخوف على مصير الدروز" في سوريا. وهي ذات النغمة التي عزفها رئيس الكيان الصهيوني رؤوبين ريفلين ورزمة من المسؤولين الإسرائيليين الذين ما زالوا يروّجون لرواية "المجازر" التي ستتعرض لها بلدات الموحّدين الدروز في سوريا، ويهولون ويحثون على ما يسمى "الأمن الذاتي" بعيداً عن الجيش السوري، وبتفاهم مع المسلحين الإرهابيين.

الموحّدون الدروز.. وعين العاصفة

ومن أجل إعطاء زحم إضافي للمخطط الإسرائيلي الذي شكّل التهويل والتخويف والتضليل مرحلته الأولى، جرى الكشف عن لقاءات ومداولات وخطط موضوعة، لسلخ البلدات السورية الدرزية عن الجيش وتزويدها بالسلاح الأمريكي عبر الأردن، تمهيداً لإقامة ما يسمى منطقة "حماية درزية ذاتية" مع ترتيب تفاهمات وعلاقات طيبة مع الفصائل الإرهابية المسلحة التي تنشط في الجنوب السوري، بدعوى ضرورة المحافظة على العلاقات التاريخية التي تربط جبل العرب بسهل حوران، وكأن الإرهابيين هم الممثل الشرعي لأهل حوران الذين عانوا الأمرّين من فصائل الإرهاب، وهجّر قسم كبير منهم إلى الأردن، وإلى محافظة السويداء بالذات. وحسب صحيفة "معاريف" العبرية، فإن ثمة مبادرة إسرائيلية "طموحة" لتشكيل "جيش درزي" قوامه 100 ألف مقاتل، يقوده ضابط درزي خدم في الجيش السوري، و"أما السلاح الثقيل والتدريب فستوفرهما الولايات المتحدة من خلال الأردن". وعلى الرغم من أن تقرير الصحيفة المسرب من جهات استخباراتية، لم يتساءل كيف لمنطقة السويداء القادرة على تشكيل مثل هذا الجيش أن تسقط بأيدي الإرهابيين الذين سيرتكبون المجازر بحق الموحّدين الدروز، إلا أنه عاد ليعزف على نغمة هذه المجازر، وعلى المرحلة التي ستليها، حيث أشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة الأمنية في إسرائيل تستعد لـ"سيناريو طوارئ" لاستيعاب وحماية عشرات الآلاف من اللاجئين الدروز، ممن سيصلون إلى مناطق في الجولان(المحتل)! أما الذريعة الأبرز التي يجري تسويقها لتبرير هذا السلوك الإسرائيلي الذي ينطبق عليه المثل الدارج "يقتل القتيل ويمشي بجنازته"، فهي الاستجابة لرغبة دروز فلسطين المحتلة في توفير الحماية لأشقائهم في سوريا. فيما المفارقة هي أن هؤلاء المقصود بهم "دروز فلسطين" هم صهاينة ينافسون اليهود على تطرفهم وصهيونيتهم، من نمط نائب وزير التعاون الإقليمي في الحكومة الإسرائيلية أيوب قرّه الذي يرفض أن يوصّف عربياً، وغيره من قيادات درزية واضحة الانتماء تناغمت مع حملة التهويل الإسرائيلية، وطرقت أبواب السفارات الغربية في تل أبيب، طلباً للإغاثة والمساندة والحؤول دون ما يطلقون عليه "المذبحة المقبلة، فيما الأغلبية الساحقة من الموحّدين الدروز في فلسطين، وبالتزامن مع الضغوط العسكرية والأمنية والإعلامية لفصل محافظة السويداء عن جسم الدولة السورية، تظاهروا في معظم قرى الجليل والكرمل، تضامناً مع أهالي قرى جبل السماق الذين ارتكبت "جبهة النصرة" مجزرة في حقهم، ومناصرة لأبناء السويداء في مواجهة المجموعات المسلحة، كما طالبوا بوقف استقبال جرحى الإرهابيين من "النصرة" وبقية المجموعات الإرهابية في المستشفيات الصهيونية.

المهم هو أن إسرائيل، وبعد أن خاض أبناء السويداء المعارك إلى جانب الجيش السوري، وثبتوا بالدم ولاءهم للدولة ومؤسساتها وجيشهم الوطني، وجّهت تهويلها باتجاه بلدات ريف القنيطرة الشمالي، وفي مقدمها بلدة حضر القريبة من الحدود في الجولان، واستغلت الاشتباكات التي دارت بين الجيش السوري وأهالي البلدة في مواجهة المسلحين، قبل أن تتوسع المعارك إلى العديد من القرى المجاورة، لتكرر حديثها عن المجازر المقبلة، ودراسة سبل توفير الحماية للموحّدين الدروز من أبناء هذه القرى.

وفي هذه المرة دخل رئيس أركان الجيش الإسرائيلي غادي ايزنكوت على الخط وزعم، أمام لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، بأن الحرب الداخلية في سوريا والواقع الحالي في الجولان، يؤثر على إسرائيل وهو مقلق جداً. وأضاف أن "هناك احتمالاً أن نضطر إلى مواجهة قضية لاجئين من داخل سوريا سيتوافدون إلى الحدود الإسرائيلية، لكننا في كل الأحوال سنعمل على منع وقوع مذبحة بحق الدروز، وسنقدم المساعدة الطبية اللازمة للجرحى، ومن سيأتي إلينا لن نقفل الباب في وجهه"!!.

أما المفارقة التي يتجاهلها ايزنكوت وبقية الطاقم السياسي والعسكري الصهيوني، هي أنه، وفي قلب هذا المشهد المعرّض للمزيد من التعقيدات الميدانية والسياسية والإعلامية، وفي مواجهة الحرب الميدانية والنفسية التي يقودها الإسرائيليون وغرفة عمليات "الموك" في عمان ضد أبناء الجنوب السوري عامة، وضد أبناء محافظة السويداء وقرى الموحّدين الدروز على أسس طائفية ومذهبية، ما زال أهل جبل العرب الذين فجّروا الثورة السورية الكبرى في العام 1925، وقدموا آلاف الشهداء في الدفاع عن الوطن منذ العام 2011، يرفضون إسباغ أية صبغة مذهبية عليهم، وهم كانوا وما زالوا يؤكدون بأنهم رأس الرمح السوري والعربي في مواجهة الأعداء الإسرائيليين ووحوش الإرهاب والتكفير الذين قدّموا الدليل تلو الدليل على أنهم مجرد أدوات قتل واستئصال لا تفرق بين ضحية وأخرى.

الأكراد و"كانتونات" الإدارة الذاتية!

في الزاوية الشمالية، والشمالية الشرقية من لوحة هذا المشهد السوري الملطخ بالدم، تنتصب تحديات جديدة وخطيرة لها علاقة بخريطة المعارك التي تقودها "وحدات حماية الشعب" الكردية ضد تنظيم "داعش" في مناطق متعددة هناك. إذ يبدو، بعد سيطرة "الوحدات"، وتحت غطاء جوي من "قوات التحالف" الذي تقوده الولايات المتحدة، على بلدة تل أبيض في ريف الرقة وأكثر من 20 قرية مجاورة، أن الأكراد قطعوا شوطا لا بأس به باتجاه توسيع مناطق ما يسمى "الإدارة الذاتية" عبر وصل "كانتونيَ" بين أجزائها: الجزيرة السورية (الحسكة) بكوباني(عين العرب) ومن ثم، في مرحلة لاحقة، باتجاه عفرين في أقصى الشمال الغربي من سوريا، كما يبدو أن حزب "الاتحاد الديمقراطي" الذي يقود "الوحدات" يعمل لتثبيت سيطرته في هذه "الكانتونات" الثلاثة، ودخول مناطق أخرى لا تواجد للأكراد فيها، وذلك عبر نسج تحالفات مع عشائر عربية، وقوى أشورية وسريانية وفصائل مما يسمى "الجيش الحر"، فيما كل الظروف الميدانية والسياسية تبدو مواتية لهذه القفزة الهوائية، بدءاً من الجيش المدرّب جيداً، والذراع الجوية المسماة "التحالف الدولي"، أي أمريكا وحلف شمال الأطلسي. وصولاً إلى السيطرة على الحقول النفطية في رميلان، ومعامل غاز في السويدية، ومحالج قطن في ريف الحسكة، إضافة إلى سهول قمح وتجارة المواشي.

ومع أن من شأن هيمنة "وحدات حماية الشعب" الكردية على الشريط الشمالي من سوريا، والذي يتقاطع بالمناسبة، بشكل كبير، مع بعض الخرائط التي وضعت لما يسمى "دولة كردستان في سوريا" التي تشمل الشريط الممتد من منطقة "عين ديوار"، القريبة من بلدة المالكية (ديريك) شمال شرق البلاد، إلى مدينة اسكندرون على البحر المتوسط، أن تُبعد تنظيم "داعش" نهائياً عن الحدود التركية، وتفقده المعابر وخطوط الإمداد والتهريب التي كان يستخدمها في استقدام الإرهابيين وإدخال شحنات الأسلحة وكافة المواد التي يحتاجها لإدارة مناطق سيطرته، فضلاً عن وقف عمليات تهريب النفط والآثار وغيرها من المواد الثمينة التي يبيعها التنظيم إلى الطرف التركي، عبر وسطاء وتجار وعصابات مافيا مختصة بالتهريب، غير أن هذه السيطرة، ستعني، في حال تحققها، وجود مخطط أمريكي مدروس بعناية، يقضي بعدم الاكتفاء بالتنسيق مع الأكراد لبسط سيطرتهم على الكانتونات الثلاثة، وإنما توسيع هذا التنسيق إلى مداه الأقصى، على نحو يؤدي إلى تحقيق الربط الجغرافي بين هذه الكانتونات، وتحويلها إلى شريط متصل من المدن والبلدات على طول الحدود التركية.

ويبدو من المهم التوضيح بأن المشكلة في هذا التطور وتداعياته المحتملة، لا تتعلق أساساً بقبول أو رفض "حق تقرير المصير" للأمة الكردية التي عانت الكثير خلال القرون والعقود الماضية، وإنما في الكثير من الالتباسات التي تستبطن هذا التوجه - المغامرة الذي دونه عقبات عملانية ولوجستية هائلة، والذي سيضع الأكراد في مواجهة أربع دول لا تزال تعتبر الأكراد جزءاً من تركيبتها ونسيجها الوطني، وبالأخص النظام التركي الذي يجاهر بعدائه التاريخي لهذه الأمة العريقة. ولعل الأهم في هذه الالتباسات هو أن توجه الأكراد نحو ما يسمى "الاستقلال" في كل من العراق وسوريا فقط، وبمساعدة الأمريكيين والإسرائيليين، لا علاقة له إطلاقاً بممارسة "حق تقرير المصير"، بل هو عملية انفصالية تأتي في سياق تقسيم الدولتين، وتدميرهما، وإشعال النيران في صراع إقليمي جديد، عربي ـ كردي، من دون التوصل إلى حل تاريخي للقضية الكردية.

متغيرات الميدان وسلّم الأولويات

في مواجهة هذه التعقيدات المتشابكة الممتدة على طول وعرض الجغرافيا السورية، وتحت وطأة التطورات السياسية والدبلوماسية، وارتفاع منسوب الدعم والرعاية والتسليح الذي تقدمه جبهة أعداء سوريا لأدواتها الإرهابية التي يمكن رفدها وتسمينها باستمرار، والمتغيرات الميدانية الخاضعة لموازين قوى رجراجة ومتبدلة باستمرار، لا بد من توضيح التالي: إن الحرب المستمرة في سوريا منذ أربع سنوات ونيّف، والتي تكاد تلخص الصراع على شكل وطبيعة النظام العالمي الجديد ورسم الحدود بين دول الإقليم، أعقد بكثير مما يجري تصويره؛ إن التكتيك الذي يلجا إليه الجيش العربي السوري الذي ما زال يسيطر على المساحة الأهم من البلاد والمدن الإستراتيجية المتواصلة جغرافياً، والتي تضم نحو ثلاثة أرباع مواطني الدولة، يتوكأ على السياق الاستراتيجي الذي يفيد، وفق المرئي، بأن ثمة منهجية ثابتة وطويلة الأمد قوامها اعتماد سلم أولويات لتحديد المعارك الملحّة التي تلامس "الخطوط الحمر"، والأخرى المؤجلة التي تتمتع فيها فصائل الإرهاب بخطوط إمداد مفتوحة يمكن أن تقود إلى عملية استنزاف طويلة المدى؛ إن مناطق سيطرة الإرهابيين المقطّعة الأوصال معرّضة، ولأسباب مختلفة ومتنوعة، للتغيّر في مرحلة لاحقة على غرار ما حدث، في العديد من المناطق السورية الحيوية، خلال السنوات الماضية.

وعليه، يبدو أن القيادة السورية، وبالتعاون مع كافة حلفائها، قد بدأت تتصرف، وفق المرئي من المعطيات والتطورات، بطريقة تمنع حدوث أي خسائر إضافية في الجغرافيا، وفق قاعدة تعزيز القدرات الدفاعية لصد أي هجمات في الجنوب أو الشمال أو الوسط. وهو ما يفرض رفع مستوى التنسيق بين هذه القوى التي يبدو أنها قامت بتشكيل غرفة عمليات أوسع وأكثر تنظيماً بهدف تحقيق التالي:

- الحفاظ على نقاط الانتشار العسكري التي تمنع الإرهابيين من تحقيق أي إنجاز عسكري.

- التوجه نحو إعادة السيطرة على المواقع الإستراتيجية التي خسرها الجيش السوري، مثل أريحا وجسر الشغور وجنوب إدلب، وتوسيع دائرة الأمان العسكري في جنوب دمشق.

- استعادة كل المناطق الحدودية مع لبنان في القلمون وسلسلة الجبال اللبنانية الشرقية ومناطق مشاريع القاع والزبداني.

- إعادة النظر بآليات العمل، وعلى صعيد القوى الميدانية، ما يتيح توسيع مشاركة الأهالي في أكثر من منطقة في عمليات تثبيت نقاط التماس، وفي تعزيز الانتشار العسكري الذي يمنع أي خروقات جديدة من جانب المسلحين.

ولعل هذا ما يفسر الإنجازات البارزة الأخيرة للجيش العربي السوري في منطقة جنوب الحسكة، وفي مطار الثلعة العسكري وكامل محيطه غرب مدينة السويداء، وفي قرى القنيطرة الشمالية، وفي جرود القلمون التي تتمتع بأهمية إستراتيجية تفوق بكثير مناطق الشمال والجنوب المفتوحة على الحدود التركية والأردنية، والتي تتطلب حسم معاركها صياغة تسويات إقليمية ودولية تفضي إلى إغلاق الحدود وقطع خطوط إمدادها، حيث سيشكل تطهير الجرود بالكامل منعطفاً استراتيجياً في الحرب التي تشن على سوريا، كونه سيشرّع الأبواب أمام إعادة رسم لوحة جديدة للمعارك في معظم أنحاء الجغرافيا السورية. 

كاتب فلسطيني(*)

 

اعلى الصفحة