عقيدة أوباما وتراجع الدور الأمريكي في العالم

السنة الرابعة عشر ـ العدد 163 ـ (رمضان ـ شوال 1436 هـ) تموز ـ 2015 م)

بقلم: معين عبد الحكيم*

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

خلال المقابلة الأخيرة التي أجراها معه الصحافي توماس فريدمان، رسم الرئيس الأميركي باراك أوباما، ملامح "عقيدته" الدولية، التي برّر من خلالها الاتفاقية النووية مع إيران وحدّد موقف الولايات المتّحدة من الحلفاء في المنطقة.

والعقيدة، التي تسترجع في بعض جوانبها سياسات رؤساء ككينيدي ونيكسون، تقوم على مبدأ "الردع والاحتواء" كمدخل إلى سياسة "انخراط" فيما تقطع مع سياسات الإدارة السابقة.

ومن تجلّيات هذه العقيدة، إعادة التواصل مع كوبا بعد قطع للعلاقات دام أكثر من نصف قرن، والتقرّب من إيران ولو كان على شكل "اختبار"، بحسب أوباما، وهو ما يمكن للولايات المتحدّة، الواثقة من تفوقها العسكري، أنّ تخاطر به.

عقيدة أوباما الإقليمية

كثيرون يعتقدون أن إيران استطاعت أن تحقق انتصاراً كبيراً بنجاحها في التوقيع على"اتفاق إطاري" لحل أزمة برنامجها النووي. وهذا اعتقاد حقيقي وصحيح، لأن إيران بصمودها وتماسكها الوطني (القيادة والشعب) والتفوق في القدرات العلمية والتكنولوجية النووية والعسكرية أجبرت الدول الست الكبرى في العالم أن تتراجع عن مواقفها السابقة الرافضة لتمكينها من امتلاك برنامج نووي سلمي، والرافضة بالذات لحق إيران في تخصيب اليورانيوم داخل أراضيها.

فبعد سنوات طويلة من التفاوض الشاق حققت إيران انتصارها المزدوج، فقد استطاعت أن تخرج باتفاق يحفظ لها برنامجها وحقوقها النووية السلمية كاملة بما فيها عدم توقف عمل أجهزة الطرد المركزي التي تقوم بتخصيب اليورانيوم داخل الأراضي الإيرانية، وأن تحفظ كل منشآتها النووية دون أي إغلاق أو تدمير مقابل أن تقر بكل الشروط الدولية التي تؤمن سلمية قدراتها النووية، كما استطاعت أن تحصل على موافقة المجتمع الدولي برفع كل العقوبات المفروضة عليها بسبب أزمة برنامجها النووي. كما استطاعت الاحتفاظ بقدراتها العسكرية وعلى الأخص قدراتها الصاروخية، التي كانت إسرائيل وأطراف داعمة لها تطالب بإدخالها ضمن التفاوض على البرنامج النووي الإيراني.

على الرغم من كل هذه الانتصارات والنجاحات وما سوف يترتب عليها، وبالذات ما سوف يترتب على رفع العقوبات الاقتصادية وخاصة العقوبات المفروضة علي تصدير النفط، وما يعنيه ذلك من توفير قدرات هائلة للاقتصاد الإيراني، فإن الانتصار الأهم الذي حققته إيران هو دفع الولايات المتحدة إلى تعديل إستراتيجيتها الإقليمية في الشرق الأوسط وبالتحديد إستراتيجية التعامل مع الدول العربية الخليجية، وهو تعديل أقرب إلى الانقلاب في الإستراتيجية الأمريكية بالمنطقة.

ففي حواره الذي أجراه مع الصحفي الأمريكي البارز توماس فريدمان يوم السبت (4/4/2015) ونشرته صحيفة نيويورك تايمز استبعد الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن تكون إيران مصدراً للتهديد بالنسبة للسعودية والدول العربية الخليجية الأخرى. وقال إنه يعتقد أن "أكبر التهديدات التي يواجهها حلفاء واشنطن من العرب السنة قد لا تكون من جهة إيران وإنما من الاستياء داخل بلدانهم". وأوضح أوباما أن "هذه الدول لديها بعض التهديدات الخارجية الحقيقة للغاية ولكن لديها أيضاً بعض التهديدات الداخلية". وفسر أوباما هذه التهديدات الداخلية التي يراها التهديدات الأهم بـ: "السكان الذين يكونون في بعض الأحيان منعزلين، والشباب الذين يساء استغلال مهاراتهم (العاطلون)، وأيديولوجيا مدمرة ومهلكة (التشدد)، وفي بعض الأحيان مجرد الاعتقاد بأنه لا توجد مخارج سياسية مشروعة للمظالم". 

كشف أوباما في حواره مع فريدمان أنه سيجري مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي قريباً حواراً في كامب ديفيد بالولايات المتحدة وصفه بأنه "سيكون حواراً صعباً" يتمحور حول الوصول إلى إجابات لأسئلة شديدة الأهمية من نوع كيف يمكننا أن نبني قدراتكم الدفاعية ضد التهديدات الخارجية، ولكن أيضاً كيف يمكننا أن نعزز الجسد السياسي في هذه البلدان، بحيث يشعر الشباب السُنة أن لديهم أشياء أخرى غير "داعش" للاختيار من بينها. ولخص مضمون هذا الحوار المنتظر مع قادة دول الخليج سوف يتمحور أولاً وقبل كل شيء في: كيف يبنون قدرات دفاعية أكثر فعالية، مع ضرورة الإدراك بأن أكبر التهديدات التي يواجهونها قد لا تكون قادمة من غزو إيراني، بل سيكون مصدرها الاستياء من داخل بلدانهم. (المقابلة أجريت قبل المؤتمر الذي عقده أوباما مع زعماء دول مجلس التعاون الخليجي).

مفاهيم غريبة وجديدة: "العرب السُنة" و"الشباب السُنة" يريد أوباما أن يفرضها علينا في تحدٍ سافر لما نعتقده أهم مرتكزات حضارتنا": العروبة والإسلام خالصة من كل تقسيمات مذهبية وطائفية وعرقية.

هذه هي عقيدة أوباما أو مبدأ أوباما الجديد الذي يحدد معالم الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة. وهي عقيدة تنبع من ضرورة تقسيم العرب إلى"سُنة وشيعة" كما تنبع من قناعة بأن "الاتفاق النووي هو أفضل رهان للولايات المتحدة لأنه سيجعل إيران لا تمتلك السلاح النووي".

هذه العقيدة تنبع أيضاً من قناعة تقول إن التهديدات الحقيقية التي تواجه الدول العربية، وخصوصاً الخليجية منها، هي بالأساس تهديدات داخلية ترجع إلى خصوصية البناء الاجتماعي- السياسي لهذه الدول دون اعتبار للتهديدات الخارجية، ومن ثم فإن مواجهة هذه التهديدات الداخلية يجب أن تكون جوهر أي إستراتيجية لتحقيق الأمن. وإذا كان أوباما قد أعفى إيران من كونها مصدراً أساسياً لتهديد أمن الدول الخليجية، لكنه اكتشف أن مصادر تهديد أمن الدول العربية هي بالأساس أسباب داخلية.

كما أن هذه العقيدة ترتكز على مفهوم أحادية المسئولية الأمريكية في التصدي للتهديدات الخارجية التي تواجه الدول الخليجية. لأن أوباما بحث بكامب ديفيد في كيفية بناء قدرات دفاعية أكثر كفاءة وطمأن هذه الدول بدعم الولايات المتحدة لهم في مواجهة أي هجوم من الخارج، ولعل هذا يخفف بعضاً من مخاوفهم، ويسمح لهم بإجراء حوار مثمر بشكل أكبر مع الإيرانيين، هذا يعني أنه لا يعتبر أن إيران لم تعد تُمثل أحد مصادر التهديد الخارجي التي سوف يتصدى لها أوباما دعماً للحلفاء الخليجيين. كما أنه، وبالبديهي، يستبعد وضع إسرائيل في أي مواجهة مع هذه الدول حيث اعتبر أن "أي إضعاف لإسرائيل خلال عهده أو بسببه سيشكل فشلاً جذرياً لرئاسته".

ما يخطط له الرئيس أوباما هو أن ينكب العرب على أزماتهم الداخلية وفي مقدمتها الحرب على الإرهاب، وأن يكفوا عن الاهتمام بما يحدث خارج بلادهم لا في العراق ولا في سوريا ولا في لبنان ولا في ليبيا ولا في اليمن، فهذه مسئولية الولايات المتحدة وحلفائها "إسرائيل وتركيا" وإيران" باعتبار أن الدول الثلاث قوى إقليمية معترف بها أمريكياً وعالمياً.

روسيا والصين وعقيدة أوباما

كانت بكين المحطة الأولى لسرغيه شايغو بعد تعيينه وزيراً للدفاع خلفاً لسيرديكوف الذي أقاله بوتين على خلفية الكشف عن فساد تقول بعض المصادر الإعلامية إنه على صلة مباشرة بصفقة الأسلحة الروسية للعراق. ويتميز سرغيه شايغو عن سلفه بأنه مقرَّب جداً من الرئيس بوتين، والأهم أن بوتين يكنُّ للرجل المودة والاحترام لأنه أظهر طيلة سنوات من عمله وزيراً لحالات الطوارئ في روسيا قدرة عالية على التعامل بسرعة مع الحوادث والكوارث الطبيعية والتقنية التي تعرضت لها روسيا. من هنا وبناءً على الثقة بقدرات الرجل عُيِّن وزيراً للدفاع، وها هو ذا يختار الصين محطة أولى، ما يدل على أنه يدرك تماماً أوَّليات السياسة الخارجية الروسية، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالتعاون التقني العسكري مع الدول الصديقة. وتأتي زيارة شايغو إلى الصين في وقت يؤكد خلاله تطابق المواقف الروسية والصينية من القضايا الدولية والنزاعات في العالم، على طبيعة العلاقة بين البلدين. أما في تفاصيل الزيارة فقد استقبل الزعيم الصيني هو جينتاو وزير الدفاع الروسي كما استقبله نظيره الصيني، وركزت المحادثات على التعاون العسكري بين البلدين. فالصين ترغب في  الحصول على المزيد من التقنيات العسكرية الروسية الحديثة، بينما ترغب روسيا في أن تصبح الصين مستثمراً رئيسياً في مجمع صناعتها الحربية.

وفي رأس قائمة أهداف هذا التعاون يقف سعي موسكو وبكين للحفاظ على الأمن والاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ كما في العالم كله. ويرى الخبراء أن الدافع وراء السعي الروسي والصيني لتعزيز العلاقات بينهما في المجال العسكري يعود إلى تلاقي المصالح بينهما، لاسيما مصلحتهما بالعمل معاً من أجل مواجهة أهداف العقيدة العسكرية الأمريكية الجديدة التي تبناها أوباما في مطلع عام ،2012 والتي تقوم على نقل مركز اهتمام المصالح العسكرية الإستراتيجية الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط نحو منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

من جانب آخر يخفي التعاون الروسي - الصيني في طياته رغبة في العمل المشترك من أجل مواجهة تهديد الدرع الصاروخية الأمريكية، التي لا يقتصر تهديدها الاستراتيجي على روسيا وأمنها ومصالحها، بل يطول الصين أيضاً ومناطق النفوذ التقليدي لبكين. ولمواجهة التهديد الأمريكي تبدو الصين بأمسّ الحاجة إلى تعزيز قوتها البحرية، ذلك أن الولايات المتحدة ما زالت متفوقة في هذا الجانب وتنتشر القطع الحربية البحرية الأمريكية في البحار والمحيطات حول الصين وفي بحار متاخمة لها، من هنا يبدو أن الصين ستعتمد على تعاونها التقني العسكري مع روسيا لتحصل على قوة بحرية تساعدها على سحب زمام المبادرة في البحار المجاورة من أيدي الأساطيل الأمريكية. وتعتمد الصين على روسيا في هذا المجال لأنها لا تستطيع الاعتماد على تعاون مع الغرب يؤمن لها هذه الاحتياجات، وذلك بسبب عقوبات تحظر مثل هذا التعاون مع الصين تبناها الغرب منذ عام 1989. وروسيا لم تنضم إلى هذه العقوبات. وكان بوتين قد أجرى زيارة إلى الصين في صيف العام الجاري، وصرح خلالها بأن روسيا والصين تعوِّلان إلى حد كبير على التعاون الثنائي في تعزيز الأمن والاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وزيارة شايغو أتت في سياق هذا التعاون، ذلك أن الوزير الروسي شارك، بعد محادثات هامة مع القيادات السياسية والعسكرية في بكين، في أعمال الدورة السابعة عشرة لاجتماعات اللجنة الحكومية الصينية -الروسية للتعاون العسكري، التي تقوم بوضع الخطط للمضي في التعاون بين البلدين بما يخدم مصلحتيهما.

تعول الصين على التعاون مع روسيا، وتعول روسيا على جارتها العملاقة الصين، فكلتاهما عرضة اليوم لمصدر تهديد واحد، وكلتاهما تقع على الرقعة الجغرافية ذاتها التي تقول العقيدة الأمريكية العسكرية الجديدة إنها منطقة مصالح حيوية وإستراتيجية للولايات المتحدة، وكلتاهما مستاءة إلى حد بعيد جداً من مجمل السياسات الأمريكية، وإصرار واشنطن على التمسك بالهيمنة العالمية سياسياً وعسكرياً، حتى لو تطلَّب الأمر الحد من النفوذين الروسي والصيني، ولو كان ذلك في عقر دارهما. من هنا كان من الطبيعي أن يتجه وزير الدفاع الروسي الجديد، في أول زيارة خارجية له بعد تعيينه، إلى بكين، ليؤكد أهمية المضي في تعزيز العلاقات بين دولتين جارتين سيكون من الصعب على إحداهما مواجهة التحديات وحدها إن تخلت عنها الأخرى.

أخيراً تتوقع بعض المصادر المطلعة أن تبدأ مرحلة التعاون الروسي - الصيني في مجال الصناعات البحرية والصناعات العسكرية بشكل عام، مع تركيز على الأساطيل العسكرية التي من شأنها تعزيز قوة الصين العسكرية في آسيا والمحيط الهادئ من جانب، وتأمين دعم مالي لمجمع الصناعات العسكرية الروسي تضمن له استمرار تطوره بفضل استثمارات صينية عملاقة متوقعة في هذا المجال.

تراجع الدور الأمريكي

مع مرور أكثر من ست سنوات على تولي إدارة الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، قيادة الولايات المتحدة رسمياً منذ العشرين من يناير 2009، ظهرت كتابات عدة تُقيم سياسته الخارجية، لاسيما أن أوباما قد عُلقت عليه الآمال لإحداث تحولات في السياسة الخارجية الأمريكية بعد عسكرتها، خلال السنوات الثماني للرئيس الأسبق، جورج دبليو بوش، وسيطرة تيار المحافظين الجدد على صناعة القرار، والتي شهدت تدهوراً وتراجعاً في الصورة والمكانة الأمريكية عالمياً، فضلاً عن فقدان واشنطن العديد من حلفائها التقليديين حول العالم.

انقسمت تلك الكتابات حول تقييم السياسة الخارجية الأمريكية لأوباما حول ما إذا كانت لديه رؤية متماسكة للسياسة الخارجية الأمريكية تُشكل عقيدة يسعي إلى تطبيقها وتنفيذها على المسرح الدولي، أم لا. فيرى عدد منهم أن أوباما ليست لديه عقيدة في مجال السياسة الخارجية على غرار الرؤساء السابقين، في حين رأى آخرون أن لديه عقيدة، ولكن اختلفوا حول مرتكزاتها.

وفي هذا السياق، يأتي كتاب كولن دوك، أستاذ الشئون الدولية بجامعة جورج مايسن الأمريكية، بعنوان "عقيدة أوباما: إستراتيجية أمريكا الكبرى اليوم The Obama Doctrine: American Grand Strategy Today"، ويحدد الكاتب معنى "عقيدة أوباما" بنسق ثابت في سياسات الرئيس الأمريكي، وليست مجرد ردة فعل على التطورات الدولية. يُشير دوك في كتابه إلى أن عقيدة الرئيس الأمريكي باراك أوباما التي كانت وليدة بحث ودراسة من قبله تقوم على محورين رئيسيين، هما:

المحور الأول: تقليل الانخراط الأمريكي في الشئون الدولية، المقابل التركيز على الداخل الأمريكي من أجل بناء الولايات المتحدة، وتمرير مشاريعه الليبرالية، حيث يرى الرئيس الأمريكي أن حفاظ الولايات المتحدة على مكانتها العالمية، في ظل المتغيرات الدولية، وصعود قوى دولية جديدة تُنافسها على المكانة والنفوذ على الصعيد الدولي، ينطلق بالأساس من الداخل الأمريكي. وهو التوجه الذي أكده باراك أوباما في إستراتيجيته للأمن القومي الأمريكي لعامي 2010 و2015.

تلك الرؤية لأوباما لتقليل الانخراط الأمريكي في القضايا الدولية ترتبط بقضية بمساعيه هو وأعضاء من حزبه (الحزب الديمقراطي) في الكونجرس(مجلسى النواب والشيوخ) إلى تقليص ميزانية الدفاع الأمريكية، وإنهاء التزامات الولايات المتحدة الخارجية المكلفة مالياً، والتي يأتي في إطارها سحب القوات الأمريكية من أفغانستان والعراق، وعدم الدفع بجنود أمريكيين في النزاعات والصراعات الدولية إلا في أضيق الحدود، وبمشاركة حلفائها ليتقاسموا مع الولايات المتحدة المهمة والتكلفة.

يقول الكاتب إن تقليل الانخراط الأمريكي غير المأمون في قضايا دولية، حسبما يري الرئيس الأمريكي، سمح له التركيز على قضايا الداخل الأمريكي، مثل: قضايا الهجرة، والرعاية الصحية، والتعليم، والبيئة، التي تُعد أولوية أولى لأوباما. ويُشير دوك إلى أن نجاحه في إحراز تقدم في تلك القضايا الداخلية مكنه من الفوز بفترة رئاسية ثانية.

المحور الثاني: السعي لاحتواء الخصوم (الصين، وروسيا، وإيران)، وتقديم التنازلات لهم على أمل تغيير سلوكهم المعادي للولايات المتحدة على الصعيد الدولي.

يرى الرئيس الأمريكي - حسبما يشير الكاتب - إلى أن تلك العقيدة القائمة على تقليل الانخراط والوجود الأمريكي المباشر في الساحة الدولية، وانتهاج سياسة أكثر استيعابا ومرونة للأخطار الدولية والخصوم، من شأنها أن تجعل العالم أكثر أمناً عكس ما يردده أنصار التيار التدخلي في الشئون الدولية، والذي يركز على زيادة الانخراط الأمريكي في الشئون الدولية من أجل استقرار وأمن النظام الدولي.

في تقييم لعقيدة الرئيس الأمريكي، يرى الكاتب أنها لم تُحقق ما كان يصبو إليه باراك أوباما، بل إنها أوجدت من المشكلات أكثر من عملها على حل الأزمات التي واجهتها الولايات المتحدة مع خصومها على المسرح الدولي، حيث أدت سياسة تقديم التنازلات، واحتواء منافسي الولايات المتحدة (الصين، وروسيا، وإيران) إلى أن فقدت واشنطن عددا من حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط، وآسيا، ووسط أوروبا الشرقية.

ويرى الكاتب أنه على الرغم من تقديم الإدارة الأمريكية تنازلات لخصومها الثلاثة، فإنهم لا يزالون يرون في الولايات المتحدة الأمريكية عائقاً أمام طموحاتهم الإقليمية. ويشير إلى أن تلك الدول الثلاث قد تبنت سياسات أكثر حزمًا وعداءً خلال فترة أوباما.

ويضيف دوك أن النهج الذي تبناه أوباما، القائم على تقليل الانخراط في الشئون الدولية، مقابل التركيز على الداخل الأمريكي، جعل حلفاء الولايات المتحدة التقليديين على اقتناع بأنها تتراجع عن دورها التقليدي، وهو الأمر الذي شجع على اشتعال الصراعات، وتعقدها، وتأزمها، وفقد حلفاء واشنطن التقليديين الثقة في أي التزامات أمريكية، والسعي لإعادة النظر في تحالفاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية.

ويتحدث الكتاب عن فجوة بين خطاب أوباما في السنة السادسة من حكمه، والحقائق الدولية. ففي بداية إدارته، تعهد الرئيس الأمريكي بالعمل على القضاء على الأسلحة النووية من كافة أنحاء العالم. لكنه في إدارته الثانية، تخلى عن هذا الهدف بقبول امتلاك إيران برنامجاً نووياً قد يُمكنها من تخطي العتبة النووية، والذي من شأنه أن يُشعل سباق الأسلحة النووية في منطقة الشرق الأوسط. كما أن كوريا الشمالية - إحدى الدول المارقة - اختبرت حكم الرئيس أوباما بتحدي أسلحة نووية وصورايخ بعيدة المدى.

ويرى الكاتب أن الرئيس أوباما بالغ في نجاحاته لمكافحة الإرهاب العابر للحدود، قائلاً إن تنظيم القاعدة في نمو، وتنتشر فروعه في كافة أنحاء منطقة الشرق الأوسط، وإن الإدارة استخدمت أكثر بكثير من إدارة "بوش" الابن الطائرات بدون طيار لاستهداف الجهاديين. وعلى الرغم من أن استخدام الطائرات بدون طيار - وفق دوك - عنصر حيوي في مكافحة الإرهابيين، فإنه يُثير إشكالية حول الالتزام الأمريكي بتحقيق الأمن الأمريكي والعالمي، مقابل احترامها لقيم حقوق الإنسان التي تدافع عنها.

يرى دوك في كتابه أن "عقيدة أوباما" أحدثت تراجعاً في الدور والصورة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وفقدان حلفائها بالمنطقة الثقة في الولايات المتحدة، وتعهداتها بحمايتهم. فأشار إلى أنه على الرغم من محاولات أوباما للتواصل مع العالم الإسلامي في بداية إدارته، فإن الصورة الأمريكية في المنطقة في تراجع، مقارنة بإدارة بوش الابن. وأَضاف أنه بعد ست سنوات من خطاب أوباما في جامعة القاهرة للعالم الإسلامي، تزدري جميع الأطراف في مصر (الليبراليون، والعلمانيون، والإخوان المسلمون، والجيش) الرئيس الأمريكي، كما دعمت الولايات المتحدة من الخلف قوات الناتو للإطاحة بـمعمر القذافي في 2011، تاركة ليبيا دولة فاشلة، وملاذاً آمنا للتنظيمات الإرهابية، وأمراء الحروب، والجريمة المنظمة الإسلامية، وأن الانسحاب الأمريكي من العراق تركه - أيضاً - ساحة للتنظيمات  الإسلامية المتطرفة.

ينتقد الكاتب السياسة التي تبنتها إدارة أوباما الهادفة لإقامة توازنات إقليمية في منطقة الشرق الأوسط، مع تأكيد عدم سعي أي قوى شرق أوسطية للسيطرة والهيمنة على المنطقة بما يسمح للولايات المتحدة بالانسحاب من المنطقة، وعدم التدخل إلا للحفاظ على توازن القوى، حيث يرى أن تلك السياسة أدت إلى عكس ما توقعته الإدارة بأن اختل ميزان القوى لمصلحة إيران بصورة تمكنها من السيطرة والهيمنة على المنطقة.

وينتقد دوك أيضاً سياسة الرئيس الأمريكي تجاه إيران، والتي أعلن عنها أوباما، خلال حواره مع توماس فريدمان، عقب التوصل إلى اتفاق إطاري بشأن البرنامج النووي الإيراني في الأول من أبريل الماضي، والتي تتلخص في أن سياسة الاحتواء وتقديم التنازلات لإيران، خلال المفاوضات بشأن برنامجها النووي، قد تدفعها إلى تغيير سياساتها التقليدية المعادية للولايات المتحدة الأمريكية منذ الثورة الإسلامية عام 1979.

وقال دوك في كتابه إن النظام الإسلامي الإيراني المراوغ استفاد من التنازلات الأمريكية دون تغيير جدي في سياساته الإقليمية التي تزعج حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تستغل إيران التنازلات الأمريكية بتفكيك البرنامج النووي الإيراني، مع إمكانية الحفاظ عليه، مع رفع العقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضة عليها بشأن برنامجها النووي، والتي من شأنها العمل على تحسن الاقتصاد الإيراني في تعزيز سياساتها التدخلية في قضايا المنطقة.

 وهكذا: أدت "عقيدة أوباما" القائمة على تقليل الانخراط الأمريكي خارجياً، مع التركيز على الداخل لتنفيذ سياساته الليبرالية، إلى تدهور المكانة والدور الأمريكي عالمياً، لتصبح السياسة الخارجية الأمريكية للرئيس باراك أوباما، في فترته الرئاسية الثانية، غير شعبية، بل أضحت مصدر قلق له ولحزبه.

ولذا، فمن المتوقع أن تكون سياسة الرئيس أوباما الخارجية، ومواقفه من القضايا الدولية، محل انتقاد وهجوم شرس، ليس فقط من قبل مرشح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، ولكن أيضاً من قبل المرشح الديمقراطي الذي يتوقع أن يتبرأ منها.

 

باحث في القضايا الإقليمية(*)

 

اعلى الصفحة