الانتخابات التركية...
انتصار الديمقراطية وقطع الطريق أمام الحكم الشمولي

السنة الرابعة عشر ـ العدد 163 ـ (رمضان ـ شوال 1436 هـ) تموز ـ 2015 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

أثبتت النتائج التي حصل عليها حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في الانتخابات البرلمانية التركية أن قرار خوضه هذه الانتخابات كحزبٍ مستقلٍ لم يكن مجرد مغامرة سياسية كما قال البعض، بل إدراكاً عميقاً منه لحقيقة وأهمية الكتلة الانتخابية الكردية الكبيرة نسيبا وللمتغيرات والتحولات التي تشهدها تركيا..

.. ولعل الأهم مضمون خطابه السياسي الذي استطاع الجمع بين  الهموم القومية الكردية وإقناع الناخب التركي بأنه سيعزز الديمقراطية ويقطع الطريق أمام احتمال الانتقال إلى حكم شمولي كان يعد له الرئيس رجب طيب أردوغان تحت عنوان الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي.

مع تجاوز الحزب الكردي العتبة الانتخابية المحددة بـ 10% وحصوله على قرابة نحو 13% من الأصوات والتي حجزت له 80 مقعداً في البرلمان، أضحى الأكراد قوة برلمانية مؤثرة في الحياة السياسية والدستورية، وبقدر ما شكل هذا الفوز انتصارا للأكراد والديمقراطية في البلاد، فإنه شكل هزيمة لمشاريع أردوغان الذي كان يطمح إلى الحصول على أكثر من 367 مقعداً كي يتمكن من تمرير مشروع قرار الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي و وضع دستور جديد للبلاد يتيح له صلاحيات مطلقة بما في ذلك حل البرلمان وجعل نفسه مصدرا وحيدا للسياستين الداخلية والخارجية التركية. وأمام هذه النتائج، لعل السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا، هو لماذا فاز الحزب الكردي و(خسر) حزب العدالة والتنمية؟ في محاولة للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التوقف عند المعطيات والأسباب التالية:

الأول: أن الأكراد وبعد الانتخابات الرئاسية العام الماضي والتي حصل فيها رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرتاش على قرابة 10% من مجموع أصوات الناخبين اكتسبوا المزيد من الثقة بأنفسهم وقدراتهم الانتخابية، وقد نجح الحزب الكردي من خلال ممارسات عملية وخطاب قومي منفتح في استنفار الكتلة الانتخابية الكردية الكبيرة نسيباً والتي تقدر بقرابة ثمانية ملايين ناخب يتركزون بشكل أساسي في مناطق الجنوب والشرق، فضلاً عن المدن الكبرى ولاسيما اسطنبول وأزمير، وقد عكست نتائج الانتخابات في هذه المناطق هذه الحقيقة، إذ للمرة الأولى تعرض حزب العدالة والتنمية إلى هزيمة قاسية في اسطنبول التي كانت تعد خزاناً انتخابياً له طوال السنوات الماضية، فضلاً عن ديار بكر التي تحولت إلى معقل سياسي رمزي للحركة القومية الكردية.

الثاني: الدور الكبير الذي لعبه الحزب الكردي على صعيد عملية السلام الكردية - التركية ونجاحه في إدراج هذه العملية على جدول أعمال السياسة التركية، وقد تعزز هذا الأمر مع صدور بيان مشترك من الحزب الكردي والحكومة التركية في شباط/فبراير الماضي على شكل مسودة بيان يحدد مرجعية السلام على أساس النقاط التي وضعتها كل من الحكومة التركية وزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، وقد كرس ما سبق الحزب ممثلاً شرعياً عن الأكراد في تركيا على الرغم من عدم اعتراف الحكومة التركية بذلك.

الثالث: تصاعد الشعور القومي لدى أكراد تركيا في ظل الانجازات القومية التي حققها الأكراد في العراق وسوريا، وتحول الأكراد في المنطقة إلى لاعب إقليمي مهم على وقع تحالفهم مع الغرب ضد داعش بعد أن كانوا ورقة في الحسابات الإقليمية والدولية، وقد ألهمت معركة كوباني (عين العرب) أكراد تركيا وشدت من عصبهم القومي وتطلعهم إلى نيل المزيد من الحقوق التي حرموا منها منذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك.

الرابع: الخطاب المنفتح لحزب الشعوب الديمقراطي، فالحزب لم يطرح نفسه حزبا كرديا وللأكراد فقط، بل طرح نفسه ضامنا للديمقراطية ونجح في مد الجسور مع القوى الديمقراطية  التركية فضلاً عن الأقليات الدينية (السريان – الأرمن – الآشوريين) والطوائف (الطائفة العلوية) وكذلك المهمشين، وبذلك نجح في كسب تعاطف هذه الأوساط والحصول على أصواتها وهو ما لم يفعله حزب تركي أخر في هذه الانتخابات. في مقابل هذه الأسباب لفوز الأكراد، ثمة أسباب كثيرة تقف وراء خسارة العدالة والتنمية في معركة الانتخابات، ولعل من أهمها:

1- أن حزب العدالة والتنمية لم ينجح وبشكل أدق لم يهتم طوال السنوات الماضية ببناء تحالفات مع القوى والأحزاب الأخرى، بل مارس السياسة بطريقة شمولية أقرب إلى سياسة الحزب الواحد، ومع تفجر الخلاف بينه وبين حليفه السابق فتح الله غولن، مارس أردوغان سياسة إقصائية ضد الجماعة تحت عنوان محاربة (الكيان الموازي) وقد انعكس هذا النهج الأمني ألإقصائي على باقي القوى والأحزاب المعارضة تحت عناوين مختلفة، وكذلك في الشارع التركي عندما لجأ أردوغان إلى قمع الحريات ومحاصرة وسائل الإعلام حيث وصل به الأمر إلى حجب العديد من مواقع التواصل الاجتماعي. وهو ما جعل من أردوغان في نظر كثيرين رمزاً للاستبداد خاصة بعد قمعه لتظاهرات ساحة تقسيم باسطنبول في وقت كان يطالب بالحرية للشعبين في مصر وسورية.

2- تراجع الاقتصاد، مع أنه يسجل لحكومة العدالة والتنمية نجاحها الكبير في نهضة الاقتصاد التركي وانتشاله من أزمة خانقة كانت تعيش على وقع وصفات صندوق النقد الدولي في نهاية التسعينيات، إلا أن الاقتصاد التركي بدأ يشهد تراجعاً كبيراً في السنوات الأخيرة مع تراجع معدلات النمو والتنمية وتصاعد نسب التضخم وتزايد معدلات البطالة وتراجع قيمة العملة التركية وتنامي الفساد، حيث كانت لفضيحة الفساد التي هزت البلاد قبل أكثر من عام وقع الزلزال على مصداقية العدالة والتنمية وأردوغان شخصياً، وفي المحصلة باتت الحياة المعيشية صعبة جداً وسط تنامي المخاوف من انهيار اقتصادي خاصة مع انهيار قيمة الليرة واحتمال هروب الاستثمارات في ظل دخول البلاد مرحلة جديدة مفتوحة على كل السيناريوهات.

3- انصراف الناخب الكردي عن العدالة والتنمية بعد إحساسه بعدم جدية أردوغان في إيجاد حل سلمي للقضية الكردية، إذ من المعروف أن الناخب الكردي كان يصوت في السابق لحزب العدالة والتنمية بدرجة كبيرة، فبعد سنوات من الوعود والتصريحات عن عزمه إيجاد حل سلمي للقضية الكردية ظهر أردوغان قبل الانتخابات البرلمانية ليقول لا توجد قضية كردية في تركيا، وقد كانت هذه الكلمات كافية ليصرف الناخب الكردي عنه إلى درجة أن قرابة 90% من أصوات الأكراد في ديار بكر ذهبت إلى الحزب الكردي بعد أن كانت نحو40% منها تذهب للعدالة والتنمية في الانتخابات السابقة. بما يعني هذا المؤشر أن الناخب الكردي بما في ذلك الديني صوت على أساس الهوية القومية بعد أن كان يصوت على أساس (الدين كإيديولوجية) لحزب العدالة والتنمية.

4- السياسة الخارجية التي اتبعها أردوغان ولاسيما إزاء سورية والعراق ومصر، وقد أدت هذه السياسة إلى تداعيات أمنية واقتصادية وسياسية على الداخل التركي على شكل انقسام سياسي واجتماعي وحتى طائفي، ومع اشتداد خطر التنظيمات الإرهابية ولاسيما داعش بدأ المواطن التركي يحس بأن أمنه بات مهددا، وهو هنا في تحليله للأسباب لم يجد سوى أردوغان ليحمله المسؤولية المباشرة خاصة في ظل التقارير التي نشرتها الصحافة التركية قبل أيام من الانتخابات وتحدثت بالصور والتواريخ والوقائع عن تورط أجهزة الاستخبارات العسكرية التركية بنقل أسلحة للمجموعات المسلحة في سوريا، وقد استغلت المعارضة التركية هذا الأمر إلى جانب قضية الأعداد الهائلة للاجئين السوريين بهدف إسقاط حكم أردوغان.

في معنى الصعود الكردي

في الواقع، بغض النظر عن جدل الفوز والخسارة، يمكن القول إن حزب الشعوب الديمقراطي كان الرابح الأكبر من هذه الانتخابات، خصوصاً وأن النتائج أظهرت مدى ارتباط هذه النتائج بالتحولات السياسية والاجتماعية والديمقراطية في البلاد، وبما يعزز ذلك من قواعد اللعبة الديمقراطية من جهة، ومن جهة ثانية يحقق التوازن في الهوية السياسية والاجتماعية خدمة للاستقرار بعد أن تحولت القضية الكردية خلال العقود الماضية إلى رمز ومؤشر لمدى الديمقراطية من عدمها، إذ أنه يمكن القول إن نتائج هذه الانتخابات نقلت هذه القضية من طورها العسكري إلى السياسي عبر بوابة صندوق الاقتراع، والسؤال هنا، هو كيف سيؤثر الفوز الكردي على مسار الحراك السياسي الكردي في المستقبل؟.

دون شك، لا يمكن النظر إلى السياق التاريخي الذي تأسس فيه حزب الشعوب الديمقراطي الذي تأسس عام 2012 بعيدا عن المراجعات السياسية التي يجريها باستمرار زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، وهي مراجعات تدخل في إطار بحثه عن شراكة سياسية مع الجانب التركي للانتقال بتركيا إلى مرحلة جديدة تؤسس لهوية جديدة للبلاد، هوية تعيد الاعتبار للمكون الكردي على شكل اعتراف به، بعد أن أقصى أتاتورك هذه الهوية لصالح العنصر القومي التركي عندما سخر كل الإمكانات لصالح هذا العنصر التركي وإقصاء جميع المكونات الأخرى، وعليه يمكن القول إن الفلسفة الحقيقية لحزب الشعوب الديمقراطي في أن يكون حزباً وطنياً تركياً ويمثل كل أطياف المجتمع هي فلسفة أوجلان، وهي فلسفة تصب في إطار التطلع إلى إقامة كونفدراليات تجمع شعوب المنطقة بعيداً عن المفاهيم الإيديولوجية القومية الضيقة والتي تصل أحيانا إلى حد العنصرية. وانطلاقاً من هذا التصور ينبغي النظر إلى انه لا معنى لوصول الأكراد إلى البرلمان ما لم يتبعه مشاركة فعالة في الحياة السياسية والمساهمة في رسم السياسة الداخلية والخارجية للبلاد. ولعل التحدي هنا يكمن في كيفية ترجمة هذه النتائج إلى واقع سياسي يعزز قواعد اللعبة الديمقراطية أولاً، ويحقق التوازن السياسي والاجتماعي والهوية لصالح الاستقرار والتنمية والنمو ثانياً. وفي قلب هذا الدرس ثمة قضية قديمة – جديدة هي القضية الكردية التي كانت الانتخابات انتصاراً لها، خصوصاً لجهة نزع الطابع العسكري عنها لصالح إدخالها في قلب الحياة السياسة التركية باتجاه حل سياسي يحقق الاستقرار لتركيا ويفضي إلى الاعتراف بالقومية الكردية على شكل تأسيس جديد لهوية البلاد. وعليه، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو كيف سيؤثر الفوز الكردي على خيارات الأكراد السياسية في البلاد؟

دون شك، من شأن الفوز الكبير للأكراد، والذي يعد انتصاراً سياسياً، التأسيس لواقع جديد على صعيد العلاقة الكردية التركية، لعل أهم معالمه:

1- انتقال جهود حل القضية الكردية من دائرة الاستخبارات التركية إلى المحافل السياسية ولاسيما البرلمان والحكومة، بما يعني إنتاج معادلة سياسية راسخة، عنوانها الاعتراف بالهوية القومية للأكراد في البلاد وإخراج هذا السيناريو إلى الوجود عبر دستور جديد وهو في صلب الأجندة السياسية للمرحلة المقبلة.

2- انتقال الشرعية التمثيلية للأكراد إلى حزب الشعوب الديمقراطي حزباً ممثلاً ومشاركاً في الحياة العامة بدلاً من بقاء الحزب جناحاً سياسياً لحزب العمال الكردستاني، بمعنى تشكيل مرجعية سياسية مقبولة لدى الأكراد والأتراك وحتى القوى الإقليمية والدولية، ولعل مثل هذا الأمر يقصي خيار الحل العسكري الحاضر تحت الطاولة، سواء من قبل الحكومة التركية أو حزب العمال الكردستاني والانتصار للخيار السياسي.

3- قضية الاعتراف بالهوية لا بد تؤسس للانتقال إلى الحكم المحلي من خلال الاعتراف بشكل من أشكال الحكم المحلي للأكراد في مناطقهم حيث يتركزون في معظم ولايات جنوب تركيا وشرقها، وفي الأصل فإن قضية الانتقال إلى الحكم المحلي مطروحة للنقاش منذ أعوام وسط ميل نحو تطبيق الحكم المحلي المستمد معالمه من التجربة الأوروبية، بما يعزز المساعي الانضمام إلى العضوية الأوروبية.

4- منهجية الخطاب السياسي، إذ أن الخيار الديمقراطي لحل القضايا والأزمات من نوع القضية الكردية لا بد أن يحمل رؤية تجسد هوية منفتحة على الأخر والتعايش معه في نسيج اجتماعي تاريخي تفرضه التاريخ والجغرافية والتجربة المشتركة، والتحدي هنا يكمن في كيفية تقديم الهوية المحلية دون الصدام مع الأخر، خصوصاً وأن النتاج السياسي السائد في الساحة التركية أوجد فوقية قومية تركية (عزز هذا الأمر سياسة أتاتورك التي جسدت تقدس العنصر التركي على حساب باقي العناصر) من الصعوبة أن تعترف بالأخر، بل تعد كل خطوة منه للاعتراف به انشقاقاً قومياً عن السائد السياسي (إيديولوجية سياسة حزب الحركة القومية)، ولعل الحزب الكردي أدرك هذا الأمر، إذ حرص خلال الحملات الانتخابية على انتهاج خطاب وطني يقبل به الجميع من جهة، ويخاطب كل المكونات الاجتماعية ويحترم خصوصيتها من جهة ثانية، ولعل هذا الخطاب المنفتح يشكل إحدى أهم أسرار نجاح الحزب الكردي.

المعطيات السابقة، تبدو قضايا إشكالية في النسيج الاجتماعي والسياسي للهوية، وهي معطيات تنتظر اتضاح المشهد السياسي التركي بعد الانتخابات كي تتحول إلى واقع سياسي يؤسس لتركيا الجديدة.

سيناريوهات مفتوحة

أسئلة كثيرة تطرح على وقع نتائج الانتخابات البرلمانية التركية على نحو، هل البلاد مقبلة على حكومة ائتلافية أم ذاهبة إلى انتخابات مبكرة؟.

في الحديث عن السيناريوهات المحتملة، تتجه الأنظار إلى إمكانية خيار بناء تحالف بين العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية بزعامة دولت باهجلي وربما بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري الذي يمثل إرث أتاتورك على اعتبار أن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي أعلن عقب إعلان نتائج الانتخابات مباشرة أنه لن يشارك في أي حكومة ائتلافية مع حزب العدالة والتنمية بل ذهب أبعد من ذلك عندما أعلن زعيمه صلاح الدين دميرتاش أن النظام الرئاسي أصبح من الماضي، لكن في جميع الأحوال فإن نتائج الانتخابات تفرض خيار الذهاب إلى حكومة ائتلافية ربما لن تكون سوى حكومة تصريف أعمال في ضوء التجارب الفاشلة للحكومات الائتلافية السابقة، ولعل ما يعزز من هذه الفرضية هو أن أردوغان لن يستسلم للوضع الجديد ولن يتخلى عن تطلعاته الكبيرة ولاسيما الانتقال إلى النظام الرئاسي، وهنا ينبغي التوقف عند

الأول: تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الحركة القومية، خصوصاً وأن هناك مشتركات أيديولوجية كثيرة بين الحزبين، ولكن هذا الأمر يتطلب من أردوغان التضحية بالعملية السلمية مع الأكراد نظراً لأن حزب الحركة القومية يرفض أي اعتراف بوجود قضية قومية كردية، ولعل مثل هذا الخيار سيؤثر على العملية السلمية مع الأكراد، وربما يدفع الأكراد إلى العنف تمسكاً بمطالبهم، ومثل هذا الخيار يحمل مخاطر عودة العسكر إلى الساحة السياسية التركية بعد أن نجح أردوغان في إبعادهم عنها. وفي حال فشل هذا الخيار فإن خيار إقامة حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري يصبح قوياً على الرغم من الاختلاف الإيديولوجي الكبير بين الجانبين، وإذا ما نجح مثل هذا الخيار فربما نجد أنفسنا أمام تكرار سيناريو تونس بين حزب حركة النهضة ونداء تونس على شكل زواج سياسي بين (الإسلام السياسي) و(العلمانية).

الثاني: بعد انتهاء مدة 45 يوماً أي المهلة الدستورية لتشكيل حكومة ائتلافية هو أن يقوم أردوغان بتكليف رئيس حزب أخر بتشكيل حكومة ائتلافية، ومع الإدراك المسبق بعدم نجاح مثل هذا الخيار نظراً للتناقضات الكبيرة بين أحزاب المعارضة وافتقارها إلى الأغلبية البرلمانية، فإن الأنظار تتجه إلى السيناريو المفضل لدى أردوغان، أي الدعوة إلى انتخابات مبكرة، لكن مثل هذا السيناريو قد يتطلب منه الاستقالة من رئاسة الجمهورية والعودة إلى قيادة حزب العدالة والتنمية ليقود الحزب بشكل مباشر خصوصاً وأن الحزب لن يكون بمنأى عن تداعيات نتائج الانتخابات، لاسيما في ظل تحميل البعض أردوغان – أوغلو مسؤولية ما جرى.

وفي الحديث عن السيناريوهات، ينبغي عدم استبعاد احتمال نشوء حكومة ائتلافية بين العدالة والتنمية وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي على الرغم من إعلان دميرتاش رفضه تشكيل حكومة ائتلافية مع العدالة والتنمية، لكن العارف بواقع الحركة الكردية يدرك أن صنع القرار الكردي لا يعود إلى دميرتاش وحده، فهناك زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان القابع في سجن أمرالي منذ 15 عاماً وله الكلمة العليا في هذا الشأن، وأردوغان الذي أرسل له مراراً رئيس استخباراته هاكان فيدان يدرك قيمة أوجلان اليوم أكثر من أي يوم مضى لا محبة به وإنما إنقاذاً لتطلعاته الجامحة التي أصبحت في مهب نتائج الانتخابات، وعليه فإن أردوغان قد يلجأ من جديد إلى إرسال فيدان إلى أوجلان في السجن كي يعقد معه صفقة بشأن تشكيل حكومة ائتلافية، على أساس أن هذه الصفقة ستنقذ عملية السلام الكردية – التركية من الانهيار من جهة، كما تنقذ البلاد من أزمة سياسية محتملة قد تفتح الباب أمام تحرك من الجيش من جديد من جهة ثانية.

في جميع الأحوال دخلت تركيا مرحلة جديدة، ومع هذه المرحلة يمكن القول إن نتائج الانتخابات البرلمانية رسمت جملة من الحقائق والمعطيات الجديدة التي ستكون لها تداعياتها على المشهد التركي في المرحلة المقبلة، ولعل من أهم هذه الحقائق والمعطيات:

1- أن حزب العدالة والتنمية لم يعد الحزب الذي يمتلك الأغلبية البرلمانية، تلك الأغلبية التي ضمنت له طوال الفترة الماضية رئاسات البرلمان والحكومة والجمهورية، بما يعني أن البلاد ستشهد خريطة سياسية جديدة للقوى السياسية والحزبية على نحو تحقيق نوع من التوازن السياسي والحزبي.

2- أن الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي كما يريد أردوغان أصبح في حكم المؤجل إن لم يكن من الماضي، ولعل مصير مثل هذا النظام يتوقف على نتائج حزب العدالة والتنمية في حال الذهاب إلى انتخابات مبكرة.

3- أن الأكراد في تركيا أصبحوا قوة برلمانية وسياسية مؤثرة لم يعد باستطاعة القوى الحاكمة تجاهلها أو الاستخفاف بها أو القفز فوقها، وهو ما يفرض على هذه القوى التعامل معهم (الأكراد) كشعب تعرض للظلم والإنكار ولا بد من أنصافه وإلا فإن احتمالات الصدام والانفجار تصبح قوية ومرجحة في أي وقت، إذ أن الثابت أن الأكراد لن يقبلوا بعد اليوم بأن يبقوا مهمشين ومقصيين إلى ما لا نهاية.

4- أن حزب العدالة والتنمية نفسه دخل في مرحلة جديدة، وإذا كان العنوان الجديد لأردوغان ولأحمد داود أوغلو هو ضرورة المراجعة السياسية لتلافي تداعيات الفشل في الانتخابات، فانه بالنسبة لقسم كبير من قيادة الحزب وأنصاره، هو أن الثنائي أردوغان وأوغلو يتحملان مسؤولية الفشل، وأمام هذا الاصطفاف قد يشهد الحزب انقسامات وانشقاقات خصوصاً في ظل تفاقم الخلاف بين أردوغان والرئيس السابق عبد الله الذي تتجه الأنظار إليه بوصفه منقذاً للحزب من أردوغان وتأثيره السلبي أو حتى تشكيل حزب جديد باسم مختلف.

5- على مستوى السياسة الخارجية قد نشهد تغيراً جذرياً في سياسة تركيا ولاسيما تجاه الدول العربية والإسلامية وتحديدا سورية ومصر، إذ يعرف الجميع أن أردوغان دفع بالسياسة الخارجية التركية تجاه هذه الدول إلى انتهاج بعد إيديولوجي اثر سلباً على العلاقات التركية مع الخارج وانعكس سلباً على الداخل التركي، انقساماً وتهديدا للأمن خاصة في ظل تصاعد نفوذ الجماعات الإرهابية ولاسيما داعش في سورية والعراق، والجميع يحمل أردوغان المسؤولية عن هذا الأمر. لكن الآن ومع الوضع الجديد فإن حزب العدالة والتنمية لم يعد يستطيع التفرد بقيادة السياسة الخارجية وستمارس الأحزاب الجديدة المزيد من المراقبة والمحاسبة من داخل البرلمان على هذه السياسة، فضلاً عن المشاركة في رسم مضمونها من خلال الحكومة، وهو ما يعني أن السياسة الخارجية التركية معرضة للتغيير وإعادة المراجعة، خصوصاً إذا ما علمنا أن مواقف الأحزاب التركية (غير حزب العدالة والتنمية) تعارض التدخل في الشؤون الداخلية للدول وممارسة السياسة الخارجية من منطق إيديولوجي كما هو حال حزب العدالة والتنمية الذي أظهر نفسه طرفاً داخلياً في الأزمات العربية من خلال دعم قوى الإسلام السياسي.

في جميع الأحوال، دخلت تركيا مرحلة سياسية جديدة، وكل السيناريوهات باتت مطروحة، سواء على صعيد تشكيل حكومة ائتلافية أو الذهاب إلى انتخابات مبكرة أو حتى ربما الدخول في أزمة سياسية مفتوحة ستكون لها بالتأكيد تداعيات على السياسة الخارجية التركية ولاسيما تجاه الأزمة السورية والوضع في العراق.

ومع المرحلة الجديدة هذه، فإن ثمة قضية مهمة سيكون لها الكثير من الأهمية، وهي القضية القديمة – الجديدة أي القضية الكردية، فالفوز الكبير الذي حققه الأكراد واستعادة ما يشبه الوعي بالهوية القومية وربط جسور العلاقة مع باقي فئات الشعب التركي.. وغير ذلك من القضايا المتصلة، سيكون لها دور كبير في رسم صورة جديدة لتركيا وهويتها وخريطتها القومية والاجتماعية التي تبدو جميعها باتت أمام إعادة تشكيل من جديد بعد أن خرج المارد الكردي من القمم الذي وضعه فيه أتاتورك قبل نحو اقل من قرن.                

كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*)

اعلى الصفحة