العارف الكبير الشيخ محمد تقي بهجت
كوكب تألق في قلوب المؤمنين

السنة الرابعة عشر ـ العدد 162 ـ (شعبان - رمضان 1436 هـ) حزيران ـ 2015 م)

بقلم: غ. ع.

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

في ليلة الجمعة الخامس والعشرين من شوال عام 1334 للهجرة، الموافق لعام 1916 الميلادي أنار منزل كربلائي محمود وليد جعلته يد التقدير الإلهية فيما بعد معيناً ينهل منه عشاق العلم والمعرفة من شيعة أهل بيت العصمة والطهارة ومناراً يضيء لسالكيه درب السير إلى الله سبحانه وتعالى؛ إنّه آية الله الحاج الشيخ محمد تقي البهجة (قدس‌ سره).

لقد كان كربلائي محمود ذلك الرجل الصالح وذو الصيت الطيب في مدينة "فومن" على موعدٍ مع مولوده الذي حباه باسمه الموعود به منذ سني شبابه من خلال حادثة ألّمت به ألا وهو "محمد تقي".

التقوى والورع

اهتم بتهذيب نفسه من الشيخ نعومة أظفاره، فقد كان يولي تحصيل العلوم وتزكية النفس اهتماما بالغا يجعلك تشعر بأنه ليس له أي عمل آخر سوى الانشغال بهذين الأمرين. فكان يصرّ دائماً على الجهد المتواصل والسلوك الشامل لتقوية بنية الإنسان الأخلاقية، والتي تمكنه من مواصلة الصراع والانتصار على الرذائل الأخلاقية، وتعينه في جهاده الأكبر ضد أهوائه ونفسانياته.

كما كان يؤمن دوماً بضرورة ملازمة العلم والأخلاق، ويحذر من خطورة افتراقهما، ويعتقد بأن الخسارة التي يمكن أن تنجم من العالم اللامهذّب والعلم اللامزكى هي أكبر وأكثر بكثير من أية خسارة أخرى.

فالشيخ إنسان مخلص ومشتاق، يحرص دائما على الاستفادة من جميع لحظات حياته في سبيل الله، ويسعى أن يكون دوما متصلا بالله سبحانه وتعالى، فهو ينظر إلى كل شيء وشخص بعين إلهية ربانية.

يقول أحد المجتهدين الكبار في هذا الصدد: "ليس صحيحاً أن نقول إن الشيخ رجل متقي فحسب، بل إنه التقوى بعينها".

ويقول آية الله الشيخ جواد الكربلائي: "أخبرني أحد السادة المحبين للشيخ والمطلعين على أحواله أن الشيخ كان يقضى معظم أوقاته في كل ليلة في التفكر في مجاري المعارف الإلهية، ولم يرض أبداً أن يقضي وقته بالباطل، أو بالحضور في مجلس العبث، وكان يحترز من الكلام الفارغ، وعندما كان يذهب إلى الدرس أو إلى زيارة أمير المؤمنين(ع) كان يضع عباءته على رأسه ولا يلتفت إلى أحد أثناء مشيته.. إنه رجل كتوم خصوصاً في بيان حالاته العرفانية، كما أنه كتوم في إظهار الألطاف الإلهية الخاصة التي أفاضها الله تعالى عليه".

الزهد في العيش والبساطة

إن أولياء الله لا ينظرون إلى مظاهر الدنيا كما ينظر إليها الناس العاديون، بل ينظرون إلى حقيقة الدنيا، فهم لا يشغلون أنفسهم إلا بضمان مستقبلهم الحقيقي ويبتعدون دائما عن قيود المطامع، ويعيشون في صفو القناعة والتواضع.

ولذلك فإنهم يحصلون على روح تفوح منها المعنوية والنقاء، أما الناس العاديون فإنهم يعيشون في ظلمات الجهل والغفلة والترف وينهمكون في المطامع والأهواء.

ويعد الشيخ آية الله بهجت من أولياء الله الصالحين، فهو زاهد عارف عاش دائماً بتواضع وزهد وإعراض عن الدنيا، وهو من أبرز الزاهدين في عصرنا هذا؛ فقد أدرك حقيقة الدنيا وباطنها، وانجذب بكل وجوده إلى عالم المعنى، فلم تشوبه المادة، بل تحرر من جميع قيودها. إنه لم يبتعد عن الدنيا ومظاهرها فكريا فحسب، بل خطى في هذا الطريق خطوات عملية واسعة في شتى مجالات حياته اليومية، فحياته البسيطة وإقامته في بيت قديم وصغير في مدينة قم المقدسة، وعدم استجابته لمطالب العلماء والناس المستمرة التي تطالب بتبديل بيته، هو خير دليل على زهده وتواضعه وعظمة روحه.

يقول الشيخ المصباح اليزدي مشيراً إلى زهده وتواضعه: "كان آية الله بهجت قد استأجر بيتا في جوار مدرسة (الحجتية)، ثم استأجر بيتا صغيرا في بداية شارع (چهار مردان)، ولم يكن في ذلك البيت أكثر من غرفتين، فكان يسدل ستارا وسط الغرفة التي كنا نحضر فيها، وكانت عائلته تعيش وراء ذلك الستار وكنا نحضر الدرس في الجانب الآخر، إنها حياة بسيطة بعيدة عن التكلف والترف ومفعمة بالنور والمعنوية.

حتى يومنا هذا لا يملك الشيخ بيتاً يسع لعدد كبير من الزائرين، فليس في بيته سوى غرفتين أو ثلاث غرف صغيرة مفروشة بنفس الفراش القديم الذي كان يفرشه قبل أكثر من أربعين سنة، ولم يتغير بيته بعد مرجعيته رغم أنه لا يسع لاستقبال الزائرين والمراجعين الذين يزداد عددهم يوماً بعد يوم. لذا يجلس الشيخ في أيام الأعياد والأعزية في مسجد (فاطمية) لاستقبال الناس".

العبادة

إن العبادة والتقيد بالعبادات يعد عاملا رئيسيا في توفيق الإنسان وتكامله، وقد قطع الشيخ في هذا المجال مشواراً طويلاً من شأنه أن يكون أسوة للآخرين. فعلاقة آية الله بهجت وارتباطه بربه، وذكره الدائم، ومواظبته على النوافل، وتهجده العجيب أمر يثير الدهشة ويدعو إلى الاعتبار.

أما صلاة الجماعة التي يقيمها الشيخ فهي من أروع وأفضل وأخلص الصلوات التي تقام في إيران الإسلامية؛ إذ يشترك في هذه الصلاة العلماء الأفاضل، والطلاب الأتقياء، والمجاهدين الأشاوس، وباقي الناس بجميع أصنافهم.

وتتحلى هذه الصلاة بالمعنوية الكاملة، بحيث يجتمع فيها أحياناً - وخصوصاً في ليالي الجمعة - أنين الشيخ وبكاء المصلين، فتعرج فيها لأرواح، وتبكي فيها العيون، وتصقل فيها القلوب. ولا شك في أنه لا يوجد مكان معنوي وملكوتي كهذا في أية صلاة جماعة أخرى في عصرنا الحاضر.

وليس عجيباً أن يكتظ المسجد بالمصلين ويضيق المكان بهم في أغلب الأوقات، فيضطر الكثير منهم - حتى أولئك الذين جاؤوا من مكان بعيد لينالوا فيض هذه الصلاة - أن يغادروا المسجد قبل إقامتها. إن هذه الصلاة كانت ولا زالت محط أنظار أولياء الله، فقد كان يحضرها آية الله الطباطبائي، وكان آية الله بهاء الديني يوليها بعنايته الخاصة.

ويقول أحد الإخوة: "ذات ليلة تحدث آية الله بهجت بعد الصلاة وقال: لو كان سلاطين العالم يعلمون كم يشعر الإنسان باللذة أثناء العبادة لتركوا سلطانهم". وبعد أن اشترى الشيخ بيته الذي يقيم فيه الآن كان أغلب الإخوة يحضرون في هذا البيت لإقامة الصلاة، لأنه كان أقرب من المكان السابق.

ثم استدعي الشيخ إلى مسجد (فاطمية)، وأصبح ذلك المسجد محلاً لاجتماع كل الأشخاص الراغبين في إقامة الصلاة بإمامته، وقد مضى أكثر من أربعين سنة على إقامة هذه الصلاة ثلاث مرات يوميا في هذا المسجد. وقد نقل الشيخ في الأيام الأخيرة محل إقامة درسه من البيت إلى هذا المسجد، كما تقام فيه أيضا المراسم الخاصة بالأعياد والتعازي".

الزيارة والتوسل

يبدأ برنامجه اليومي الشيخ على الرغم من كبر وسنه السيدة فاطمة المعصومة بزيارة(ع)، فإنه يتشرف يومياً بزيارة السيدة المعصومة، ويقف أمام الضريح الطاهر بخضوع وخشوع واحترام تام، ثم يقرأ زيارة عاشوراء.

ويروي مؤلف كتاب (أنوار الملكوت) عن آية الله الشيخ عباس القوچاني وصي المرحوم الميرزا ​​علي القاضي هذه الرواية الطريفة: "كثيراً ما كان آية الله بهجت يذهب إلى مسجد السهلة ويقضي الليل وحيداً حتى الصباح في ذلك المسجد وذات ليلة إذ لم يكن مصباح المسجد موقدا وكان الظلام دامساً، احتاج الشيخ إلى تجديد وضوئه في منتصف الليل، فاضطر إلى الخروج من المسجد والذهاب إلى الجانب الشرقي منه حيث المرافق الصحية موجودة هناك، وبينما هو يمشي في الظلام شعر الشيخ بشيء من الخوف، وفجأة ظهر ضوء أمامه وأخذ يضيء له الطريق كالمصباح، حتى أكمل الشيخ وضوئه ورجع إلى المسجد، وعندما دخل الشيخ المسجد اختفى ذلك الضوء".

التواضع

من الأبعاد الأخرى في شخصيه الشيخ المعنوية، التواضع والتهرب من الشهرة ومخالفة الهوى، فلم يسمح الشيخ بطبع فتاواه حتى توفي جميع المراجع السابقين له في العمر، بل حتى زملائه الذين كانوا يدرسون معه في زمن واحد مع أنه يعد من مشاهير رجال الفقه والاجتهاد ، ومن المدرسين البارزين في الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة، ورغم كل ذلك لم يسمح الشيخ بطبع فتاواه إلا بعد إلحاح العلماء وإصرارهم، كما أنه لم يجوز على الإطلاق استخدام الوجوه الشرعية لطبع رسالته العملية، ويؤكد دائما على الخطباء في المجلس التي يقيمها أن لا يذكروا اسمه في المجلس، وهذا دليل على تقواه وورعه ومخالفته لهواه.

السير والسلوك والمقام المعنوي

ترجع سوابق الشيخ بهجت في السير والسلوك (المعنوي) إلى عشرات السنين، فهو من تلامذة العارف الكامل سماحة آية الله علي آغا القاضي، وكان يحظى باهتمام ذلك العالم الرباني الكبير. وقد أحرز الشيخ مقامات عرفانية جديرة وهو في عنفوان شبابه، وشهد على ذلك الكثير من مقربي المرحوم آية الله القاضي بقولهم: "نحن نعلم مقاماته العرفانية، ومطلعون على مراحل السير والسلوك التي قطعها، ولكننا على عهد معه أن لا ننبس بكلمة في هذا الصدد". كما كان الشيخ يحظى باهتمام الإمام الخميني (قدس سره)، فقد زاره الإمام والتقى به في مدينة قم في بداية الثورة.

رأي الإمام الخميني بالشيخ بهجت (قدس سره)

كان الإمام (رحمه الله) يولي آية الله بهجت عنايته الخاصة، وقد يكون نقل بعض الأحداث في هذا المجال خير دليل على هذا الادعاء:

يقول أحد تلامذة الإمام (قدس سره): "بعد إطلاق سراح الإمام ومجيئه إلى قم المقدسة عام 1963، أقام الناس مجلس فرح في جميع الأحياء في هذه المدينة، وكان بيت الإمام آنذاك مكتظا بحشود الناس، وكان آية الله بهجت من الذين كانوا يأتون إلى بيت الإمام في كل يوم، فقد كان يقف بضع دقائق أمام باب إحدى الغرف في البيت، وعندما يقترح عليه أن يجلس داخل الغرفة كان يجيبهم بقوله: "إني ألزم نفسي بالمجيء إلى هنا والوقوف في هذا المكان بضع دقائق تكريما لهذه الشخصية العظيمة".

ويقول الشيخ مصباح اليزدي في هذا الصدد: "يروي المرحوم السيد مصطفى (رضوان الله عليه) عن أبيه المرحوم الإمام (أعلى الله مقامه):" كان الإمام يعتقد أن الشيخ بهجت يتمتع بمقامات معنوية ممتازة جدا، ويضيف السيد مصطفى (رحمه الله): كان أبي يقول: إن الشيخ يتمتع بقدرة "الموت الاختياري"، أي أنه يستطيع أن يخلع روحه عن جسده، ثم يرجعها في أي وقت يشاء، ويعد هذا المقام من المقامات الرفيعة التي يمكن أن يصل إليها العرفاء في رحلة السير والسلوك العرفاني، كما أن للشيخ مقامات معنوية أخرى في المعارف التوحيدية يعجز لساني عن التحدث عنها".

ويقول الشيخ مصباح في مكان آخر: "يروي المرحوم السيد مصطفى(رحمه الله) عن أبيه المرحوم الإمام (رحمه الله): عندما رأى الإمام (رحمه الله) بساطة حياة الشيخ أخذ من السيد البروجردي (الذي كان له ارتباط وثيق معه) مبلغاً من المال ليعطيه إلى الشيخ بهجت، غير أن الشيخ رفض هذا المبلغ، ومن ناحية أخرى لم ير الإمام المصلحة في إرجاع المبلغ للسيد البروجردي، ففكر بطريقة يعالج بها هذه المسألة، فقال للشيخ: "أنا أهبك مبلغا من مالي الخاص، وأنت اسمح لي أن لا أرجع هذا المبلغ "، وهكذا قبل الشيخ المبلغ كهبة من أموال الإمام الخاصة". وأيضاً يقول الشيخ مصباح اليزدي في العناية الخاصة التي كان يوليها الإمام للشيخ بهجت:

"ذات مرة تشرف خبراء القيادة بزيارة الإمام الراحل (رحمه الله) وطلبوا من إرشادا في المسائل الأخلاقية، فأحالهم الإمام إلى زيارة آية الله العظمى الشيخ بهجت، فقالوا له: إن الشيخ لا يقبل أحد فقال الإمام:؟ أصروا عليه حتى يقبل".

هذا غيضٌ من فيوضات هذا العارف الكبير تاذي يضيقُ المجال للحديث عن بعض صفاته وكراماته.. رحمة الله عليه.

اعلى الصفحة