التركيبة السلطوية الفلسطينية.. أسئلة في شرعية تمثيل الشتات!!

السنة الرابعة عشر ـ العدد 161 ـ (رجب 1436 هـ) أيار ـ 2015 م)

بقلم: مأمون الحسيني(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

بخلاف رأي ورغبة وطموح ومصلحة أغلبية الفلسطينيين، وبدون أية مقدمات أو مبررات منطقية أو أخلاقية أو وطنية، وبعد يوم واحد فقط على إعلان عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وموفد "القيادة الفلسطينية" إلى العاصمة السورية، دمشق، أحمد مجدلاني(9 نيسان) توافق الفصائل الفلسطينية في سوريا (14 فصيلاً) على عملية عسكرية، بالتنسيق مع الدولة السورية، لإخراج تنظيم "داعش" من مخيم اليرموك بعد اجتياح الأخير للمخيم بداية الشهر الماضي، وإطاحته الحل السياسي الذي كان يفترض البدء بترجمته على الأرض، وتوافقها كذلك على تشكيل غرفة عمليات مشتركة من القوات السورية والفصائل الفلسطينية لاستكمال هذه العملية "النظيفة عسكرياً"..

صدر بيان صحافي في رام الله باسم منظمة التحرير يفيد بأن المنظمة "ترفض تماماً أن تكون طرفاً في صراع مسلح على أرض مخيم اليرموك، بحجة إنقاذ المخيم"، و"ترفض الانجرار إلى أي عمل عسكري، مهما كان نوعه أو غطاؤه"، وتدعو إلى اللجوء إلى "وسائل أخرى حقنا لدماء شعبنا، ومنعا للمزيد من الخراب والتهجير لأبناء المخيم"!!

هذا البيان الذي تناقض مع موقف عضو تنفيذية المنظمة وموفدها إلى دمشق الذي كان قد أبلغ الفصائل الفلسطينية قبل وصوله إلى سوريا أنه يحمل رسالة من أبو مازن شخصياً للقيادة السورية "تتضمن تفويض النظام السوري تنفيذ ما يراه مناسبا في حق مسلحي "داعش" في اليرموك، وتناقض كذلك مع موقف الفصائل الـ 14، والعديد منها أعضاء أصلاء في المنظمة ومؤسساتها، صعق أغلبية الفلسطينيين، وظهّر حقيقة أن التركيبة السلطوية الفلسطينية المشكلة على طريقة "سمك لبن تمر هندي"، تختطف اسم وصفة وختم منظمة التحرير الفلسطينية، ولا تتصرف، بالتالي، بوصفها قيادة لكل الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وإنما هي، في الواقع ووفق ما يدب على الأرض، مجرد سلطة حكم ذاتي محدود لا علاقة لها لا بوحدة الأرض والشعب، ولا بمصير فلسطينيي الشتات، وإخوانهم في الأراضي المحتلة عام 1948، ناهيك عن ارتهانها لإملاءات الخارج، وبالأخص إملاءات حكام وشيوخ الخليج، بدليل ليس فقط  تأييدها، ونظيرتها "الحمساوية" في قطاع غزة، العدوان السعودي على الشعب اليمني المظلوم الذي وقف، على الدوام، إلى جانب القضية الفلسطينية، وقدَم خيرة أبنائه للقتال إلى جانب إخوانهم الفلسطينيين في كافة معارك الثورة الفلسطينية، وإنما الرضوخ كذلك لـ"تمنيات" حكّام الخليج بتأجيل ترجمة قرار وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، فضلاً عن تزامن وتماهي بيان المنظمة ومحتواه مع تصريح أحد مسؤولي الخارجية الأمريكية من أن "الحل في اليرموك لا يتم بهجوم آخر، وإنما بــرفع الحصار وإدخال المساعدات والسماح بمغادرة المدنيين للمخيم"!، ومع دعوة أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون إلى العمل على تفادي ما أسماه "مجزرة" في مخيم اليرموك، واعتباره أن الهجوم على المخيم، أي تحريره من الإرهابيين، "سيشكل جريمة حرب جديدة أفظع من سابقاتها"! وتناغمه كذلك مع قلق أمين عام الجامعة العربية نبيل العربي الذي حوّل الجامعة إلى مغارة لصوص، وأداة للتدخل الأجنبي في الدول العربية، على مصير فلسطينيي المخيم من أية عملية عسكرية، لا بل وتناغم هذا البيان أيضاً مع موقف صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية التي اعتبرت في افتتاحيتها بوم 9/4 الماضي، أن "الأسرة الدولية ملزمة أن تتجنّد على عجل كي تمنع القتل المرتقب في المخيم وتنقذ من يمكن إنقاذه".. و"على دولة إسرائيل أن تساهم بنصيبها (في هذا السياق) وان تفحص مع عباس السبل والوسائل لمساعدة هؤلاء اللاجئين (من اليرموك)"!!

خزان الثورة.. وعاصمة الشتات

وقبل الإضاءة على مخاطر هذا الموقف "السلطوي" على فلسطينيي مخيم اليرموك، والشتات عموماً، ومجمل القضية الفلسطينية التي يستهدف عدوان "داعش" وبقية المجموعات الإرهابية على المخيم، في أحد عناوينه الرئيسية، تهميشها وتصفيتها ودفعها إلى زوايا النسيان، لا بد من التوضيح بأن اليرموك الذي شكّل الخزّان البشري للثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها، ومدّ جميع الفصائل الفلسطينية بعشرات الآلاف من المقاتلين والناشطين السياسيين, والذي يعتبر بمثابة "تكثيف للصيرورة الفلسطينية"، ولازمة أساسية من لوازم الحفاظ على الشخصية والهوية الوطنية، وعاصمة للشتات الفلسطيني في الدول العربية المحيطة بفلسطين، أُنشئ عام 1957 على مساحته 2 كلم مربع، وهو يبعد نحو 7 كم فقط عن العاصمة السورية دمشق، ويمثل موقعاً استراتيجياً على المستويين العسكري والسياسي، كونه "الخاصرة الجنوبية" لدمشق، ومربط الطرق بأكثر من اتجاه، سواء نحو الجنوب السوري أو نحو المطار الدولي، والمخيم الأكبر للاجئين الفلسطينيين في سوريا حيث كان يستضيف أكثر 160 ألف فلسطيني قبل أن يهجَر الإرهابيون أكثريتهم، وأكثرية إخوانهم السوريين (مليون مواطن)، منذ نحو عامين ونصف العام.

انطلاقاً من ذلك، كان منسوب التعقيد المتعلق بوضع اليرموك يرتفع ويتصاعد باستمرار، وبالأخص بعد احتلاله من قبل المجموعات المسلحة في السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر عام 2012، وعدم إخفاء هذه المجموعات نيتها استخدامه كمنصة لما أسمته "تحرير" دمشق، وإعلان رئيس ما كان يسمى "المجلس الوطني السوري" حينذاك جورج صبرا بأن "اليرموك أرض سورية محررة. ومن حقنا أن نعمل فيها"! ما دفع الجيش السوري "وقوات الدفاع الوطني" و"اللجان الشعبية الفلسطينية" إلى اتخاذ إجراءات عسكرية لحماية العاصمة، ومنع تمدد المسلحين. ولأن هذه الإجراءات على المدخل الشمالي للمخيم أثبتت فعالية عالية، وشكلت عقدة حقيقية أمام تقدم وتحرك المجموعات الإرهابية المسلحة، فقد كان من الطبيعي أن تحتل مكانة مميزة في الحملة الإعلامية ضد سوريا، والتي وصلت بالبعض إلى حد اتهام قوات الجيش السوري والفصائل الفلسطينية الحليفة له بـ"تجويع المخيم"، واستثمار هذا الجوع والموت التراجيدي لأبناء المخيم على يد عصابات الإرهاب التي قطعت الرؤوس ودمرت البيوت وسرقت ونهبت كل شيء، في الخطاب السياسي لمحاور الإقليم، وإدراجه في جدول الأرباح والخسائرـ وتحويله إلى رأسمال دعائي ترجم بدقة مستوى الانحطاط الأخلاقي وتكلس المشاعر، وسيادة التوحش.

أما المفارقة، في هذا السياق، فهي أنه في مقابل "الموت جوعا" في أحياء وجنبات اليرموك، كان ثمة مخيم آخر ("النيرب" القريب من حلب) يشبهه في الموقع حاصرته المجموعات المسلحة لفترة طويلة من الزمن، فيما كان يقوم الجيش السوري بتزويد سكانه (حوالي ستة آلاف) بحاجتهم من الخبز والتموين. وقد شكَل بعض سكانه "لواء القدس" ضد الإرهابيين المسلحين، وسقط منهم عدة شهداء.   

ما بين الارتباك والتلعثم وتدوير الزوايا

ومع أن الموقف الرسمي الفلسطيني دعا منذ بداية الأزمة في سورية إلى النأي بالنفس، والى اتخاذ ما أسماه موقف "الحياد الايجابي" المتمحور حول عدم توريط المخيمات الفلسطينية في الأحداث الدموية، وعدم توظيف العنصر الفلسطيني والقضية الفلسطينية في هذه الأوضاع التي ليس فيها مصلحة للشعب الفلسطيني بالانخراط والتورط، إلا أن ما حدث كان على خلاف ذلك، حيث جرى جرَ المخيمات الفلسطينية إلى قلب الكارثة، وأضيفت نكبة جديدة عنوانها الأبرز حرف النضال الوطني الفلسطيني عن أهدافه، وخاصة للفلسطينيين المقيمين في سورية، وإسقاط حلقة مركزية من حلقات "حق العودة إلى فلسطين"، بعد اضطرار ما يقارب الـ300 ألف فلسطيني إلى مغادرة مخيماتهم وتجمعاتهم السكانية وخسارة كل ما يملكون، واتجاه أعداد وازنة منهم إلى بلاد الاغتراب، ولاسيما إلى البلدان الأوروبية. ومع أن دخول منظمة التحرير الفلسطينية المتأخر، عبر الوفد التي تم تشكيله لمتابعة الأزمة، على خط إشكاليات المخيم وتبنّي قضيته، ساهم في استبعاد الحلول العسكرية، كما ساهم في دخول المواد التموينية والطبية، وبشكل متواتر إلى المخيم، إلا أن سياسة تدوير الزوايا التي اعتمدها الوفد، والتي بدت جلية في حرصه على عدم التحدث بشفافية، تحت ذريعة عدم استفزاز أحد، ولاسيما المسلحين داخل المخيم، والتشبث بمنسوب عال من التحفظ حيال الجهات التي تقف حجر عثرة أمام الحلول المقترحة، أشاع حالة من التململ والارتياب في أوساط لاجئي المخيم الذين لا يتوفر للكثيرين منهم الحد الأدنى من شروط الحياة الإنسانية. وقد بدأ هذا المزاج الشعبي بالتغير، بشكل جزئي، بعد تحميل موفد المنظمة إلى دمشق د. أحمد مجدلاني المسلحين مسؤولية إطلاق النار على إحدى قوافل الإغاثة التي كانت تحاول الدخول إلى المخيم من جهة الحجر الأسود، حيث اعتبر ذلك بمثابة مغادرة للتحفَظ والتلعثم اللذين وسما تحركات وتصريحات أعضاء الوفد الفلسطيني، ومقدمة للتعاطي بصرامة ومسؤولية مع الأزمة وأطرافها الذين ينبغي وضعهم أمام مسؤولياتهم.

وعلى الرغم من الجهد المكثف والميداني الذي قام به الوفد، خلال زياراته المتعددة للعاصمة السورية، والذي أفضى إلى بلورة مشاريع حلول واتفاقات مع كافة الأطراف، ولاسيما مع ممثلي المسلحين، فإن انهيار هذه التفاهمات والاتفاقات التي كانت قد أحيت أمالاً عريضة بإمكانية وضع حد لمأساة المخيم، ساهم في تكريس حالة من اليأس والقنوط لدى أبناء اليرموك، وخلق شعوراً لدى أوساط واسعة من هؤلاء بأن وفد المنظمة، إما أنه لم يستطع فك رموز خريطة المسلحين وانتماءاتهم التنظيمية، ومشغّليهم الخارجيين، وسقط، بالتالي، في فخ مناوراتهم وتكتيكاتهم، ولاسيما عندما وافق على التفاوض مع بعض الشخصيات التي لا يمتلك العديد منها أي تمثيل جدَي على الأرض؛ وإما أنه غير جاد في تحمّل مسؤولياته حيال العنوان المركزي لـ"حق العودة" وخزّان الثورة الفلسطينية على مر العقود؛ أو أن المنظمة باتت غير قادرة على حماية شعبها في أماكن اللجوء والشتات.

وطوال الأشهر الماضية، كانت متغيرات الميدان داخل اليرموك، وفي جواره الجغرافي، تؤكد ارتباط التوترات والانفجارات الدورية والمتتالية في المخيم، بدخول تنظيم "داعش" على الخط، ورفع مستوى ضغطه، وبعض القوى الأخرى من نمط "جبهة النصرة"، على التنظيمات المسلحة الأخرى التي تحتل المخيم لرفض أية مبادرة أو اتفاق تحت طائلة الاعتقال أو التصفية والقتل، وحيثية ذلك لا تتعلق فقط بخشية المجموعات المسلحة في مناطق الجوار، سواء في الحجر الأسود، أو الغوطة الغربية والموصولة جغرافيا حتى حدود درعا، من فقدان العمق الجغرافي لها في حال سار مخيم اليرموك على خطى المصالحة الوطنية كما في العديد من المناطق في محيطه، وإنما أيضاً بارتفاع منسوب المعارك بين تنظيم "داعش" وتحالف عدة قوى أخرى من المسلحين، على رأسها "الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام" و"جيش الإسلام"، وامتدادها إلى الحجر الأسود المحاذي للمخيم، والذي بات يشكل آخر معاقل "داعش" في الريف الدمشقي الجنوبي، بعد طرد عناصره من بلدتي مسرابا وميدعا في الغوطة الشرقية، وكذلك من بلدات ببيلا ويلدا وبيت سحم في ريف دمشق الجنوبي، ما جعل من المراهنة على إمكانية نجاح أية "مبادرة" أو اتفاق يحيَد المخيم مجرد عبث ومضيعة للوقت الذي هو، وبحق، "من دم".

وعليه، وعلى الرغم من أن واقع اليرموك وآفاق مستقبله لا تحتمل أية تأويلات أو أحجيات، إلا أن التركيبة السلطوية الفلسطينية أصرت على مواصلة سياسة دفن الرأس في الرمال، وتصدير الخطاب المفكك والمتلعثم، وتجاهل كافة المعطيات والاستخلاصات الجلية والصارخة التي تفيد بالتالي:

- إن الأزمة المستعصية في مخيم اليرموك، وسواه من مخيمات سوريا، جزء لا يتجزأ من الأزمة العامة في البلاد، ومن الخطأ الفادح النظر إليها من زوايا أخرى ذات طبيعة إرادوية.

- إن معظم المجموعات المسلحة التي أفشلت كافة الاتفاقات التي تم التوصل إليها، وبصرف النظر عن مسمياتها، تلتزم بفتوى مؤسس ومرشد تنظيم "القاعدة" عبد الله عزام التي يحرّم فيها على "المجاهدين" الانسحاب من أية أراض أو مواقع يسيطرون عليها إلا في حالات الضرورة القصوى الخارجة عن الإرادة.

- إن القوى المسلحة في اليرموك مرتبطة أيديولوجياً وتنظيمياً بالفصائل الأساسية المتواجدة في معظم الجغرافيا السورية، ولا تمتلك أية هوامش جدية لاتخاذ قرارات حاسمة، وتوقيع بعضها على مبادرات أو اتفاقات سابقة لتحييد المخيم، ليس أكثر من مناورات للاستفادة من "خصوصية المخيم" وعدم جدية الطرف الآخر في الحسم، ومحاولات لشراء الوقت اللازم لإعادة تنظيم الذات، وإبقاء المخيم، تاليا، رهينة في إطار المساومات الموضعية والكبرى في المناطق الأخرى.

- إن إطالة أزمة المخيم إلى أقصى مدى ممكن إنما تهدف، وبشكل أساسي، إلى دفع المزيد من أهله النازحين، ولاسيما الشباب منهم، إلى الهجرة نحو بلاد الاغتراب، والتي تؤشر الأرقام والمعطيات على أن منسوبها يرتفع باستمرار، وضمان حدوث تغييرات ديموغرافية تنزع عن اليرموك الذي احتشدت في متنه وهوامشه أكثرية من اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا إلى سوريا بعد النكبة، رموزه العميقة التي تكثف الصيرورة الفلسطينية والشخصية والهوية الوطنية.

خطوة أولى في مخطط كبير

في كل الأحوال، ومع اجتياح "داعش" لليرموك بتواطؤ ومساعدة "جبهة النصرة" التي تعتبر الذراع الشامية لتنظيم "القاعدة"، بدا جلياً لكل المتابعين والمحللين أن هذا التطور ليس سوى الخطوة الأولى في مخطط كبير تشارك به عدة فصائل إسلاموية، ويستهدف إشعال مناطق جنوب دمشق بشكل كامل، من أجل إخراجها من إطار المصالحة مع الجيش السوري وإعادة إدخالها في دائرة الصراع معه من جديد. وحسب بعض المصادر المطّلعة فإن فهم ما يجري في مخيم اليرموك يتطلب إدراك حقيقة أن التحالف القائم بين "جبهة النصرة" و"داعش" و"أحرار الشام" هو تحالف "وجودي"، والفصائل المنخرطة فيه باتت تمثل جسداً واحداً بعد أن وضعتها المصالحات في مأزق خطير، وبالتالي لا حل أمامها في مواجهته سوى بالعمل معا. ولذا فإن انسحاب بعض عناصر "داعش" من المخيم لا يعني فقدانه الهيمنة على المناطق التي انسحب منها، بل هو يتحرك داخلها بحرية تامة، وكل ما في الأمر أن أمام مسلحي "داعش" مهمة أخرى عليهم القيام بها، وهي الهجوم على البلدات المتصلة باليرموك، والتي يتواجد فيها عناصر مجموعات إرهابية أخرى مناهضة لـ"داعش".

في موازاة ذلك، ثمة تناقض آخر أفرزته التطورات الأخيرة في المخيم له علاقة بموقف مجموعة "أكناف بيت المقدس" المرتبطة بحركة "حماس"، والتي قامت في نهاية العام 2012، بالتعاون مع "جبهة النصرة" الإرهابية، بالسيطرة على اليرموك، وتهجير نحو مليون ومائتي ألف مواطن فلسطيني وسوري تاهوا في تغريبة جديدة لم تنهي فصولها حتى الآن، وتحويل اليرموك، تالياً، إلى بؤرة إرهابية للقتل والاغتيال والترهيب والسرقة والتدمير وتهديد العاصمة طوال نحو عامين ونصف العام، وذلك قبل أن تغدر "النصرة" بـ"الأكناف" وتجلب "داعش" إلى المخيم. إذ بعد تصدّي هذه المجموعة للهجوم الأخير على المخيم، اعتبر البعض، متسرعاً، أن هذه المجموعة التي انضم العديد من عناصرها لـ"داعش"، تراجعت عن عدائها لسوريا، ودخلت في تحالف مع الفصائل الفلسطينية الأخرى لدحر إرهابيي "داعش" من المخيم، غير أن الواقع يؤشر على أن "الأكناف" وجدت نفسها، حينذاك، أمام خيارين: إما الاستسلام لـ"داعش" ومواجهة القتل والذبح، وإما فتح خط اتصال مع منظمة التحرير الفلسطينية والسفارة الفلسطينية في دمشق كي تدخل وسيطا مع السلطات السورية للسماح بدخول الذخيرة والغذاء إليها وعلاج الجرحى الذين سقطوا نتيجة المعارك. ويبدو، حتى الآن، أن الأمر لا يتعدى هذا المستوى الانتهازي، بدليل إعلان "الأكناف" عن معركة جديدة تستهدف استعادة المخيم، أطلقت عليها اسم "على الحق ظاهرين"، وذلك بالتنسيق مع العملية التي تقوم بها ما تسمى "غرفة عمليات نصرة المخيم" بقيادة "جيش الإسلام" الإرهابي في الحجر الأسود، فيما تم تجاهل ذكر الفصائل الفلسطينية التي احتضنتها في لحظة الضعف.

تحت ظلال هذا المشهد الميداني المعقد، ارتفع منسوب التخبط والارتباك والتلعثم في موقف منظمة التحرير الفلسطينية التي تراجعت عن موقفها الذي كان يفترض أن يوفّر غطاء سياسيا لعملية تحرير المخيم من الإرهابيين، فيما ألقى موقف "حماس" التي أعلنت على لسان القيادي موسى أبو مرزوق، أنها غير معنية بمحاربة "داعش"، مزيداً من الشكوك حول دور جماعة "أكناف بيت المقدس" المرتبطة بها، وحول طبيعة موقفها وعلاقاتها مع بقية المجموعات المسلحة. ويبدو، وفق رزمة من المعطيات والمؤشرات والتحليلات، أن موقف السلطة الفلسطينية (ومنظمة التحرير ضمناً) الذي أثار خلافات جدية في الساحة الفلسطينية، وداخل أوساط حركة "فتح"، بدليل دعوة عضو لجنتها المركزية اللواء توفيق الطيراوي قوات الثورة بمخيمات لبنان إلى التوجه لتحرير اليرموك من "داعش"، وتأكيد عضو اللجنة عباس زكي في صفحته على "فيسبوك" أن "الارتباك في مواجهة العدوان جبن وخذلان وليست "فتح" هي التي تحمل سيفاً مثلوماً في مواجهة العدوان على مخيمات شعبها"، وتأكيد العضو الآخر في اللجنة عثمان أبو غريبة أن فتح "ستحارب "داعش" باليرموك، لأن النأي بالنفس يعني أن الحركة منحازة لـ"داعش". هذا الموقف جاء نتيجة ضغوط سعودية وقطرية، ومغريات عبرت عن نفسها بإعادة الرياض والدوحة، بعد الانقلاب على مهمة المجدلاني، تحويل الأموال إلى السلطة، وتقديم قطر قرض من دون فوائد بقيمة 100 مليون دولار"، بحسب مسؤول  فلسطيني.

منطق انتهازي وذرائع متهافتة

أما بخصوص الذرائع والحجج المعروضة لهذا الانقلاب، فإن التركيبة السلطوية الفلسطينية لم تجد أي حرج في اعتبار اجتياح عصابات "داعش" لمخيم اليرموك وارتكابها المجازر وقطع الرؤوس بحق من تبقّى من سكانه، تنفيذاً لأوامر مشغّلي الخارج، مجرد شأن داخلي سوري لا ينبغي زج الفلسطينيين فيه، كون الموقف "المبدئي" لهذه التركيبة السلطوية هو عدم التدخل في الشؤون الداخلية العربية! ناهيك عن الزعم بأن "إقحام الفلسطينيين، وتحديداً ممثلهم الشرعي والوحيد، بالصراع الدائر في سوريا, يعني استدراج الكراهية والأحقاد المؤسسة على مفاهيم طائفية ومذهبية, وأخرى سياسية, ما يسهل على دولة الاحتلال عزل القضية الفلسطينية واجتثاثها من وعي الجماهير العربية في الدول المحيطة بفلسطين, ما يعني تجريد فلسطين من عمقها الاستراتيجي العربي الشعبي والرسمي"!، وذلك على الرغم من أن هذا الموقف الخطير والمصيري للتركيبة السلطوية الفلسطينية من شأنه المساهمة في تداعي منظمة التحرير العاجزة والمنكفئة عن مهامها حيال فلسطينيي الشتات، والمرتهنة لإملاءات الخارج، بسبب قصورها وعجزها عن حماية المخيمات وتركها لمصيرها.

وعلى الرغم من الغضب العارم الذي يضطرم في نفوس كل الفلسطينيين المفجوعين بمواقف هذه القيادات، إلا أن ثمة ضرورة للوقوف، ولو على عجالة، أمام هذا الخطاب التضليلي المتهافت الذي يحاول تغطية وتمويه حقيقة انخراط سلطتي رام الله وغزة في المحور العربي- الإقليمي المعادي للمقاومة على حساب القضية الوطنية وحقوق الشعب الفلسطيني، وطرح الأسئلة على هؤلاء الذين اختطفوا منظمة التحرير، ووضعوا مصير الفلسطينيين وقضيتهم في أيدي حفنة من المتنفّذين، وعلى نظرائهم في غزة الذين تورطوا، ومنذ البداية، في أحداث اليرموك.

ولعل أبرز الأسئلة الصارخة الملحة، وبصرف النظر عن نفاق الذريعة وسقوط مزاعم مصطلح "المعارضة المسلحة"، هو: هل إن "داعش" (والنصرة) تنظيم معارض وشأن سوري داخلي، أم هو تنظيم إرهابي عالمي، وفق قرارات الأمم المتحدة، لا يعترف بأية حدود أو أوطان أو قوميات؟. وهل التصدي لجرائمه، بالتالي، هو تدخل في شؤون الشقيقة سوريا، على الرغم من أن الحكومة السورية، ولخصوصية وضع اليرموك، كانت قد أعلنت مراراً وتكراراً تفويض الفصائل الفلسطينية حل أزمة المخيم بالطريقة التي تراها مناسبة، بما في ذلك توقيع اتفاقات مع المسلحين (بلغ عددها 15 اتفاقاً)، وذلك قبل أن تعلن مؤخراً أن الجيش العربي السوري "لم يدخل المخيم ولم ولن يضرب المخيم ولن يكون هناك"، وأن أية مشاركة عسكرية سورية في اليرموك لن تتم إلا بطلب من رئيس المنظمة والسلطة الفلسطينية محمود عباس؟. ثم، ماذا عن شرعية تمثيل منظمة التحرير للفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم، في حين أنها ترفض الدفاع عن حقوق، لا بل عن حياة أبناء اليرموك الذين شكَلوا الخزان البشري الأساسي للثورة الفلسطينية المعاصرة؟. وهل المطلوب إفراغ ما تبقّى من سكان عاصمة الشتات وتصفية الوجود الفلسطيني السياسي والديمغرافي في سوريا للتخلص من عبء "حق العودة" الذي يشكل القاعدة المركزية في هيكل الحقوق الوطنية الفلسطينية، والنقيض الموضوعي لمشروع الدولة "اليهودية"؟. وهل ثمة فائض وقت للمسارعة في إخراج هذه المجموعات الإرهابية من المخيم، بالتنسيق مع الدولة السورية، وبما يظهّر طبيعة ومستوى العلاقة الفلسطينية- السورية؟. وأخيراً، ألم يحن وقت الكف عن تبنّي وإطلاق المواقف الرمادية المدمرة، والإعلان بوضوح أن "داعش" و"النصرة" وبقية المجموعات المسلحة التي تحتل مخيم اليرموك هي مجموعات إرهابية معادية للشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية المشروعة، ومن ثم، مغادرة مربع التباكي المراوغ والكاذب على مصير من تبقى من سكان المخيم، واستذكار فواجع مخيمات لبنان والأردن وغيرها، وإعادة قراءة الماضي بأمانة وصدق وشفافية وشرف، والتحذير من سكاكين وسيوف وبنادق "داعش" التي تستهدف كل ما هو آدمي، وليس من الذين يصطف الفلسطينيون والسوريون خلفهم لدحر الإرهاب والإرهابيين، وتحرير المخيم الذي طال أمد احتلاله؟!!.   

كاتب فلسطيني(*)

اعلى الصفحة