اللوحة الرابعة: ملامح وأقلام

السنة الرابعة عشر ـ العدد 161 ـ (رجب 1436 هـ) أيار ـ 2015 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

مستودعات الأموال القذرة في العالم

الصفحة الرابعة: ملامح وأقلام
الكتاب: مافيا إخفاء الأموال المنهوبة
المؤلف: نيكولاس شاكسون، المترجم: د. فاطمة نصر
الناشر: دار سطور الجديدة, القاهرة 

الكتاب الذي بين أيدينا يكشف النقاب بوضوح عن أسلوب جديد للسيطرة السياسية على العالم, من خلال ما تمارسه "مافيا" تهريب الأموال عبر الملاذات الضرائبية الآمنة أو ما يسمى بـ"الأوف شور" "offshore"، التي يمر من خلالها حوالي ثلثي إجراءات التجارة العالمية, وإذا كانت هناك قناعة لدى الملايين في العالم بأن ثمة ما هو فاسد في النظام الاقتصادي العالمي, فإن هذا الكتاب يبحث في المصدر الأصلي لهذه العلة.

وتعبير الـ"offshore" يطلق على بعض الجزر القريبة من الداخل الأوروبي، مثل جزر البهاما وجرسي والكايمان, التي كانت جزءا من مستعمرات سابقة, وعلى الرغم من أنها تتمتع في غالبيتها باستقلال ظاهري عن البلد الأم, فإنها مرتبطة عن كثب بالعواصم المالية والسياسية الكبرى, وتعد هذه الأماكن ملاذات آمنة لإيداع أموال الكبار وأموال الجريمة والأموال المنهوبة, حيث تضمن سرية المودعين، ولا تكاد تخضع أموالهم لضرائب تذكر, وهذه الملاذات ليست مقصورة على تلك الجزر, بل هي موجودة في قلب العواصم الكبرى, ولذلك يستخدم تعبير "الأوف شور" للدلالة على تلك الملاذات الآمنة للأموال.

ويقول المؤلف إن عالم "الأوف شور" يحيطنا من كل جانب، ويمر أكثر من نصف التجارة العالمية, على الأوراق على الأقل, من خلال الملاذات الآمنة, وأكثر من نصف الأصول المصرفية، وثلث الاستثمارات الأجنبية للشركات متعددة الجنسية تمر عبر "الأوف شور", وحوالي 85% من التعاملات المصرفية وإصدار السندات يحدث في مكان يسمى اليورو ماركت, وهي منطقة "أوف شور" غير تابعة لأية دولة, وفي العام 2010 قدر صندوق النقد الدولي أن الميزانيات العمومية لجزر المراكز المالية الصغيرة وحدها يبلغ مجموعها 18 تريليون دولار (أي 18 مليون مليون) أي ما يساوي ثلث حجم الناتج المحلي للعالم كله.

ويشير الكتاب إلى أن ثلث إجراءات التجارة الكوكبية العابرة للحدود تتم داخل الشركات متعددة الجنسية, وتخسر البلدان النامية ما يقدر بحوالي 160 مليار دولار سنوياً أمام هذه الشركات, من خلال تزييف عملية تحديد الأثمان, وكمثال على ذلك فإن أكبر ثلاث شركات موز في العالم، التي يقدر حجم أنشطتها في بريطانيا بحوالي 750 مليون دولار, لم تدفع ضرائب سوى 235 ألف دولار فقط في العام 2006, وفي العام 2007 أكدت دراسة لمكتب المراجعات المحاسبية القومي ببريطانيا أن "أكثر من 230 من أكبر 700 رجل أعمال في البلد، لم يدفعوا أي ضرائب على الإطلاق في العام السابق", وتعد هذه القدرة على القيام بالتلاعب في تحديد ثمن التعاملات المضللة السبب في كون الشركات متعددة الجنسية, تنمو بمعدل أسرع كثيراً من منافسها الأصغر.

ويشير المؤلف إلى أن جزر فرجين البريطانية التي لا يتعدى سكانها 25 ألف نسمة, تستضيف أكثر من 80 ألف شركة، وهي شركات ورؤوس أموال تهاجر إلى حيث تستطيع الحصول على أفضل أنظمة ضرائبية, وبالتالي فإن عالم "الأوف شور" ليس مجموعة من الدول المستقلة، التي تمارس حقوقها السيادية في سن قوانينها، ووضع أنظمتها الضريبية وفقا لما تراه مناسباً, بل هي مجموعة من شبكات النفوذ التي تتحكم فيها القوى العالمية العظمى, خاصة بريطانيا والولايات المتحدة, كل شبكة منها متداخلة بعمق مع الأخريات.

ويكشف الكتاب أن هناك حوالي 60 منطقة اختصاص قضائي وقانوني في العالم تتميز بالسرية, مقسمة إلى أربع مجموعات؛ الأولى: الملاذات الأوروبية, والثانية: المنطقة البريطانية التي تتمركز في حي المال بلندن, وتمتد في أنحاء العالم وتتشكل دون إحكام حول الإمبراطورية البريطانية السابقة, أما الثالثة: فهي منطقة بؤرتها الولايات المتحدة, وتضم المنطقة الرابعة بعض الأماكن الغريبة التي لا تندرج تحت أي مصنفات مثل الصومال والأورغواي، التي لم تحقق نجاحاً يذكر.

ويقول المؤلف إنه ليس من قبيل المصادفة أن يكون حي المال والأعمال في لندن هو مركز الجزء الأهم من نظام "الأوف شور" البريطاني, الذي يتكون من ثلاث طبقات, ويقدر أحد التقارير الموثوقة أن الحسابات الكلية لذلك التجمع البريطاني تصل إلى أكثر من ثلث جميع الأصول المصرفية الدولية, وإذا أضفنا حي المال والأعمال، فسيصبح المجموعة الكلي النصف تقريباً.

ويقول المؤلف إن سويسرا تظل إحدى أكبر مستودعات الأموال القذرة في العالم، وإنها في العام 2009 استضافت حوالي 2.1 تريليون دولار، في حسابات "أوف شور" يملكها أشخاص غير مقيمين، حوالي نصفهم من أوروبا، وكان هذا المبلغ 3.1 تريليونات دولار في العام 2007، أي قبل الأزمة المالية العالمية في 2009.

ويؤكد أنه لا يمكننا فهم الفقر في أفريقيا من دون فهم الأوف شور، ولسنوات طويلة ظلت أسوأ حرب في العالم، هي الحرب الأهلية في الكونغو الديمقراطية، والتي ترتبط بنهب ثروات البلد وموارده المعدنية بالجملة، عن طريق الملاذات الضريبية، والفساد المتفشي في أنحاء العالم النامي، وتدمير الحكومات واسع النطاق، من خلال المصالح الإجرامية، والأوف شور مركزي في كل تلك القصص، ولا يمكن فهم عدم المساواة الفادحة بين أوروبا والولايات المتحدة، وبين الدول منخفضة الدخل، من دون أن نتفحص دور الاختصاصات القضائية السرية، وإذا نظرنا إلى أي حادث اقتصادي مهم، أو أية عملية حدثت في غضون العقود الأخيرة، سوف نجد أن "الأوف شور" يكمن وراء العنوان الرئيسي، بل قد يكون مركزياً في القصة.

وفي الختام يؤكد المؤلف على أنه إذا لم نقم بالعمل معا، من أجل احتواء السرية المالية والسيطرة عليها، فسيصبح هناك عالم من الحصانة والتواطؤ الإجرامي الدولي، إلى جوار عالم آخر من الفقر المدقع، سيصبح هو العالم الذي نتركه لأطفالنا.. سيكون ثمة قلة قليلة، يتم غسل أحذيتها بالشمبانيا، فيما يصارع بقيتنا من أجل لقمة العيش، وسط ظروف من عدم المساواة المرهقة المتردية، والآن باستطاعتنا تحاشي ذلك المستقبل، لأنه ينبغي علينا تحاشيه.  

اعلى الصفحة