اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الرابعة عشر ـ العدد 160 ـ (حمادى الثانية 1436 هـ) نيسان ـ 2015 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

الحب!!.. أم الرحمة؟!!

على الرغم من قيمة مشاعر الحب عندي، وأهميته في حياتي كوني شاعراً كتبتُ فيه ـ وسأظل أكتب ـ.. وعلى الرغم من أن الحب يكاد يكون صنم هذا العصر الذي يُحرق له البخور، ويُقدم له الشباب القرابين من دمائهم، ويُقدم له الشيوخ القرابين من سمعتهم، وتُرتل له الأناشيد، ويُزمر له الزامر، ويُطبل الطبال، وترقص الراقصة، وتعمل بلاتوهات السينما واستوديوهات التليفزيون، والكباريهات ليل نهار لتمجيده ورفعه على العرش، ليكون المعبود الأول والمقصود الأول، والشاغل الأوحد والهدف الأوحد والغاية المثلى للحياة التي بدونها لا تكون الحياة حياة.

وعلى الرغم من أننا جميعاً جناة أو ضحايا لهذا الحب، وليس فينا إلا من أصابه جرح أو سهم أو حرق، أو أصاب غيره بجرح أو سهم أو حرق. على الرغم من هذه الأهمية القصوى، والصدارة المطلقة لموضوع الحب في هذا الزمان، فإني أستأذنكم في إعادة نظر وفي وقفة تأمل، وفي محاولة فهم لهذا التيه الذي نتيه فيه جميعاً شيوخاً وشباباً وصبايا. وأسأل نفسي أولاً وأسألكم: هل تعلمون لماذا يرتبط الحب دائماً بالألم، ولماذا ينتهي بالدموع وخيبة الآمال؟!..

دعوني أحاول الإجابة فأقول: إن الحب والرغبة قرينان.. وإنه لا يمكن أن تحب امرأة دون أن ترغبها، ولهذا ما تلبث نسمات الحب الرفافة الحنون أن تمازج الدم واللحم، والجبلة البشرية فتتحول إلى ريح وإعصار وزوبعة، حيث ينصهر اللحم والعظم في أتون من الشهوة العارمة، واللذة الوقتية التي ما تكاد تشتعل حتى تنطفئ. هل أقول إن الحب يتضمن قسوة خفية، وعدواناً مستتراً؟.

نعم هو كذلك إذا اصطبغ بالشهوة، وهو لا بد أن يتلون بالشهوة بحكم البشرية.. والمرأة التي تشعر أن الرجل استولى على روحها، تحاول هي الأخرى أن تنزع روحه وتستولي عليها.. وفي ذلك عدوان خفي متبادل، وإن كان يأخذ شكل الحب.

والمرة الوحيدة التي جاء فيها ذكر الحب في القرآن هي قصة امرأة العزيز التي شغفها فتاها (يوسف) حبّاً. فماذا فعلت امرأة العزيز حينما تعفف يوسف الصدّيق؟.. وماذا فعلت حينما دخل عليهما الزوج؟.. لقد طالبت بإيداع يوسف السجن وتعذيبه. وماذا قالت لصاحباتها و هي تروي قصة حبها؟: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾(يوسف آية 32).. إن عنف حبها اقترن عندها بالقسوة والسجن والتعذيب. وماذا قال يوسف الصدّيق؟.. ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾(يوسف: من الآية 33) لأنه أدرك ببصيرته أن الحب سجن، وأن الشهوة قيد إذا استسلم له الرجل أطبق على عنقه حتى الموت.. ورأى أن مكثه في السجن عدة سنوات، أرحم من الخضوع للشهوة التي هي سجن مؤبد إلى آخر الحياة.

إن الحب لا يظل حباً صافياً رفافاً شفافاً، وإنما ما يلبث بحكم الجبلة البشرية أن يصبح جزءاً من ثالوث هو: الحب والجنس والقسوة، وهو ثالوث متلاحم يقترن بعضه ببعض على الدوام. ولأن قصة الحب التي خالطتها الشهوة ما تلبث أن تنتهي إلى الإشباع في دقائق، ثم بعد ذلك يأتي التعب والملل والرغبة عند الاثنين في تغيير الطبق، وتجديد الصنف لإشعال الشهوة والفضول من جديد.. لهذا ما يلبث أن يتداعى الحب إلى شك في كل طرف من غدر الطرف الآخر.. وهذا بدوره يؤدي إلى مزيد من الارتياب والتربص والقسوة والغيرة، وهكذا يتحول الحب إلى تعاسة وآلام ودموع وتجريح.

والحب لا يكاد ينفك أبداً عن هذا الثالوث: ((الحب والجنس والقسوة)).. وهو لهذا مقضيٌّ عليه بالإحباط وخيبة الأمل، ومحكوم عليه بالتقلب من الضد إلى الضد، ومن النقيض إلى النقيض.. فيرتد الحب عداوة وينقلب كراهية وتنتحر العواطف كل يوم مائة مرة.. وذلك هو عين العذاب. ولهذا لا يصلح هذا الثالوث أن يكون أساساً لزواج.. ولا يصلح لبناء البيوت، ولا يصلح لإقامة الوشائج الثابتة بين الجنسين.

ومن دلائل عظمة القرآن وإعجازه أنه حينما ذكر الزواج، لم يذكر الحب وإنما ذكر المودة والرحمة والسكن.. سكن النفوس بعضها إلى بعض.. وراحة النفوس بعضها إلى بعض.. وقيام الرحمة وليس الحب.. والمودة وليس الشهوة.. إنها الرحمة والمودة.. مفتاح البيوت.. والرحمة تحتوي على الحب بالضرورة.. والحب لا يشتمل على الرحمة، بل يكاد بالشهوة أن ينقلب عدواناً.. والرحمة أعمق من الحب وأصفى وأطهر.

والرحمة عاطفة إنسانية راقية مركبة، ففيها الحب، وفيها التضحية، وفيها إنكار الذات، وفيها التسامح، وفيها العطف، وفيها العفو، وفيها الكرم.. وكلنا قادرون على الحب بحكم الجبلة البشرية.. وقليل منا هم القادرون على الرحمة.

ولذلك جاء كتاب الحكمة الأزلية الذي تنزل علينا من الحق.. يذكرنا عند الزواج بالرحمة والمودة والسكن.. ولم يذكر كلمة واحدة عن الحب، محطماً بذلك صنم العصر ومعبوده الأول، كما حطم أصنام الكعبة من قديم. والذين خبروا الحياة وباشروا حلوها ومرّها، وتمرسوا بالنساء يعرفون مدى عمق وأصالة وصدق هذه الكلمات المنزلة.

وليس في هذه الكلمات مصادرة للحب، أو إلغاء للشهوة وإنما هي توكيد، وبيان بأن ممارسة الحب والشهوة بدون إطار من الرحمة والمودة والشرعية هو عبث لا بد أن ينتهي إلى الإحباط. والحيوانات تمارس الحب والشهوة وتتبادل الغزل. وإنما الإنسان وحده هو الذي امتاز بهذا الإطار من المودة والرحمة والرأفة، لأنه هو وحده الذي استطاع أن يستعلي على شهواته؛ فيصوم وهو جائع ويتعفف وهو مشتاق. والرحمة ليست ضعفاً وإنما هي غاية القوة، لأنها استعلاء على الحيوانية والبهيمية والظلمة الشهوانية.. الرحمة هي النور والشهوة هي النار.. وأهل الرحمة هم أهل النور والصفاء والبهاء، وهم الوجهاء حقاً.. والقسوة جبن والرحمة شجاعة.. ولا يؤتى الرحمة إلا كل شجاع كريم نبيل.. ولا يشتغل بالانتقام والتنكيل إلا أهل الصغار والخسة والوضاعة. والرحمة هي خاتم الجنة على جباه السعداء الموعودين من أهل الأرض.. تعرفهم بسيماهم وسمتهم ووضاءتهم.

وعلامة الرحيم هي الهدوء والسكينة والسماحة، ورحابة الصدر، والحلم والوداعة والصبر والتريث، ومراجعة النفس قبل الاندفاع في ردود الأفعال، وعدم التهالك على الحظوظ العاجلة والمنافع الشخصية، والتنزه عن الغل وضبط الشهوة، وطول التفكير وحب الصمت والائتناس بالخلوة وعدم الوحشة من التوحد، لأن الرحيم له من داخله نور يؤنسه، ولأنه في حوار دائم مع الحق، وفي بسطة دائمة مع الخلق.

والرحماء قليلون، وهم أركان الدنيا وأوتادها التي يحفظ بها الله الأرض ومن عليها. ولا تقوم القيامة إلا حينما تنفد الرحمة من القلوب، ويتفشى الغلّ، وتسود المادية الغليظة، وتنفرد الشهوات بمصير الناس، فينهار بنيان الأرض وتتهدم هياكلها من القواعد.

اللهم إني أسألك رحمة.. اللهم إني أسألك مودة تدوم.. اللهم إني أسألك سكناً عطوفاً وقلباً طيباً.. اللهم لا رحمة إلا بك ومنك وإليك.

اعلى الصفحة