السلام الكردي التركي.. بين الممكن والمستحيل

السنة الرابعة عشر ـ العدد 160 ـ (حمادى الثانية 1436 هـ) نيسان ـ 2015 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

مع دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان حزبه إلى عقد مؤتمر عام طارئ في الربيع لإعلان ترك السلاح وإنهاء العنف بشكل نهائي، دخلت عملية السلام بين تركيا وأكرادها مرحلة جديدة.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان ينتظر دعوة أوجلان بفارغ الصبر للبحث في ترتيب المشهد السياسي التركي على أبواب الانتخابات البرلمانية والانتقال إلى النظام الرئاسي الذي يعد له على قدم وساق، فيما حزب العمال الكردستاني وقيادته في قنديل يبدوان غارقين في جدل الحسابات والخيارات، فهو الحزب الذي انطلق قبل نحو أربعة عقود منطلقا من شعار تحرير وتوحيد كردستان ليجد نفسه اليوم أمام عملية سياسية معقدة وطويلة، يشوبها الكثير من الشكوك وغياب الثقة والإحساس بعدم تحقيق نتائج مضمونة خاصة لجهة سقف الحقوق والمطالب التي رفعها طويلا، وهو ما يثير الشكوك بشأن إمكانية تحقيق سلام يحقق التطلعات الكردية في الاعتراف الدستوري بالقومية الكردية ومنح الأكراد حكما ذاتيا، وبما يؤدي إلى إعادة تأسيس بنية الدولة التركية.

كان أردوغان – كما قلنا - ينتظر بفارغ الصبر تلك الدعوة السحرية من عبد الله أوجلان لمقاتليه ( اتركوا السلاح )، فأردوغان يعتقد أن مثل هذه الدعوة ستفتح الطريق أمام تحقيق وعده بالحصول على 400 مقعد في الانتخابات البرلمانية المقررة في السابع من حزيران المقبل كي تصبح الطريق إلى النظام الرئاسي سالكة دون عقبات، فضلا عن أنها ستدخله التاريخ كأول زعيم تركي نجح في إيجاد حل سلمي لقضية أرهقت تركيا طوال العقود الماضية، حيث تشير التقارير أن هذا الصراع أودى بحياة أكثر من 45 ألف شخص من الجانبين وتدمير قرابة 6 آلاف قرية وبلدة كردية في جنوب شرق تركياً، فضلاً عن تكلفة مالية بلغت نحو 500 مليار دولار (حسب التقارير التركية) كانت كافية لتحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية في المناطق الكردية التي تعاني من الفقر والتخلف مقارنة مع المناطق التركية، لكن من يعرف تعقيدات القضية الكردية في تركيا والإيديولوجية التركية السائدة، يعرف أن تحقيق السلام التركي – الكردي ليس سهلاً، وان الأمور ليست وردية، واعتقد أن أردوغان نفسه يعرف أن الأمور ليست سهلة، وان الطريق مليئة بالعقبات والمخاطر والتعقيدات، إذ فور دعوة أوجلان مقاتليه إلى ترك السلاح أكد أردوغان في تصريح تلفزيوني أن العبرة بالتطبيق وليس التصريحات فقط، وهو عندما أطلق هذا التصريح كان يخاطب أو يفكر بقيادة الحزب في قنديل وليس بأوجلان المعتقل في ايمرالي منذ 15 عاماً، فهو يدرك أنه على الرغم من الرمزية الكبيرة لأوجلان لدى الأكراد ومكانه في وجدانهم الشعبي، إلا أن قرار ترك السلاح من عدمه، هو في يد قنديل التي تجاور إيران والعراق وسورية وتنفتح على أمريكا مع الحرب ضد داعش، حيث تتقاطع المصالح والتحالفات والتحالفات المضادة في منطقة تشهد تطورات عاصفة ودراماتيكية حيث التطلعات التركية الإقليمية الجامحة.

ما سبق، لا يقلل من أهمية دعوة أوجلان، فهي لم تأتِ من الفراغ، بل جاءت بعد مفاوضات غير مباشرة استمرت لأكثر من عامين وخطوات من الجانبين، فحزب العمال التزم بدعوة زعيمه السابقة (21 آذار 2013) بوقف إطلاق النار من جانب واحد وسحب العديد من مقاتليه من المناطق الكردية في تركيا إلى كردستان العراق، في المقابل اتخذت الحكومة التركية خطوات انفتاحية على الأكراد لم تكن ممكنة في عهد الحكومات السابقة. وفي الأساس فإن هذا النزوع نحو السلام جاء بعد قناعة الطرفين بعدم جدوى الحل العسكري، وضرورة البحث عن حل سلمي يحقق الهوية القومية للأكراد والاستقرار لتركيا، ولعل ما يزيد من الرغبة السياسية بتحقيق ما سبق، تلك التطلعات الكبيرة لأردوغان، سواء فيما يتعلق بالانتخابات البرلمانية لتمرير النظام الرئاسي، أو كسب أكراد المنطقة (سورية، العراق، إيران) إلى جانب تركيا في الصراعات الإقليمية الجارية، أو في محاولة لتحسين صورة الديمقراطية في تركيا، وبما يؤدي كل ذلك إلى تعزيز موقع تركيا في الإستراتيجية الغربية ومن نفوذها في المنطقة بعد أن تعرض مشروعها الإقليمي للفشل عقب انهيار حكم الإخوان المسلمين في مصر وانسداد السياسة التركية تجاه الأزمة السورية والوضع في العراق.           

أيهما أولاً: نزع السلاح أم تحقيق السلام؟

ثمة إشكاليات كثيرة وكبيرة تعترض عملية السلام الكردية – التركية، ولعل في مقدمة هذه العقبات، عقبة أو إشكالية، أيهما أولاً، نزع سلاح حزب العمال الكردستاني أم تحقيق السلام؟ من الواضح أن أردوغان يريد من الحزب ترك السلاح أولاً وتسليم عناصر الكردستاني أنفسهم إلى السلطات التركية في إطار ما تسميه أنقرة بقانون الندامة، فيما يرى الكردستاني العكس تماماً، إذ أن رؤيته تقول إن مسألة نزع السلاح تأتي في ختام خطوات عملية السلام، بمعنى حين تحقيق السلام، خصوصاً وأن الثقة بالحكومة التركية مفقودة، كما أن مصير عناصر الكردستاني ينبغي أن يكون من خلال عملية سياسية مدروسة تؤدي إلى الاعتراف بالحزب كممثل لأكراد تركيا وان يشارك في الحياة العامة، وممارسة السلطة في المناطق الكردية التركية على شكل عناصر شرطة محلية وبلدية تقوم بالمهام الأمنية والخدمية والسياسية، وليس التعامل معهم كمجرمين أو مذنبين كما ترى أنقرة. ولعل ما سبق يفرض جملة تحديات على الجانبين. فمثلا هل الحكومة التركية مستعدة لتقديم تنازلات جوهرية للأكراد لتحقيق السلام على الأرض عبر الاستجابة للمطالب الكردية؟ وهل تركيا مستعدة للانتقال إلى الحكم المحلي على غرار الدول الأوروبية في الوقت الذي يتجه فيه أردوغان إلى المركزية الشديدة للسلطة ويحصر كل مفاتيح السلطة والحكم بيده؟ في المقابل، هل المقاتلون الأكراد التابعين لحزب العمال الكردستاني مستعدون للنزول من الجبال بمجرد دعوة أوجلان وهو الحزب الذي قدم تضحيات كبيرة خلال العقود الماضية ويقبل بالرضوخ للحل التركي الذي يريده أردوغان في خدمة سياساته الداخلية والإقليمية؟ من الواضح أن الأمور ليست بسيطة كما يتخيل البعض، ولعل من يقرأ البيان الصادر عن قيادة قنديل عقب دعوة أوجلان سيرى أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل نجاح هذه العملية ما لم يغير الطرفان مواقفهما ويقدمان تنازلات جوهرية ويتخذان قرارات شجاعة. فقيادة الكردستاني اشترطت بشكل واضح وصريح التخلي عن السلاح بتحقيق الحل السلمي من خلال البنود (10 بنود) التي طرحها أوجلان كخريطة طريق للحل، بمعنى أن ترك السلاح هو أخر خطوة في الحل وليس كما يطالب أردوغان بترك السلاح أولا ومن ثم البحث في خطوات الحل، ولعل من يدقق أكثر في بيان الكردستاني سيجد وكأن هناك شيفرة سرية بينه وبين النقاط العشر التي طرحها أوجلان ولاسيما البند العاشر الذي ينص صراحة على تحقيق الضمانات الدستورية والقانونية لتحقيق السلام عبر دمقرطة البلاد على أسس جديدة.

الأمر الثاني والمهم هنا، يتعلق بسقف الحقوق التي يمكن أن تعطيها أنقرة للأكراد ويقبل بها الحزب الكردستاني؟ هل مثلاً يمكن لأنقرة أن توافق على حكم ذاتي للأكراد له إدارة تتمتع بقدر من الاستقلالية والخصوصية بعيداً عن التوجهات المركزية لأردوغان وتطلعه إلى نظام رئاسي مطلق الصلاحيات؟. الأمر الثالث والجوهري هنا، هو أن الحكومة التركية مع من ستتفاوض من أجل تحقيق السلام؟ هل يمكن مثلاً أن تدخل في حوار مع قيادة حزب العمال الكردستاني الذي مازالت أنقرة تصفه بالإرهاب؟ وهل يمكن أن تقبل بالحزب ممثلاً شرعياً لأكراد تركيا ويخوض الانتخابات ويدخل في البرلمان ويعبر عن التوجهات الكردية. في المقابل، السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه على الكردستاني، هل بات الأخير مستعداً حقاً لترك السلاح والانخراط في الحل السياسي والاكتفاء بسقف الحكم الذاتي بعيداً عن شعارات الاستقلال التي رفعها طويلاً؟ أسئلة لا بد من طرحها عند الحديث عن السلام الكردي – التركي، وعلى الإجابة عنها تتوقف مستقبل العملية بين الجانبين.

في الواقع، الأسئلة والمعضلات السابقة لا تقلل من أهمية دعوة أوجلان إلى ترك السلاح، فهذه الدعوة تشكل خطوة مفصلية للدفع بالسلام التركي – الكردي إلى واقع الحل من خلال الخطوات التالية:

أولاً- الانتقال من دائرة المفاوضات المغلقة والسرية والاستخباراتية (حتى الآن المفاوضات هي بين أوجلان والاستخبارات التركية ممثلة برئيسها حق فيدان الذي عاد إلى منصبه بعد أن قدم استقالته) إلى حوار علني بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، وتشكيل لجان لمتابعة مقتضيات العملية السلمية في كافة المجالات، بما يؤدي كل ذلك إلى إزالة العقبات التي تعترض العملية.

ثانياً- وضع خريطة طريق واضحة الخطوات والمراحل والأهداف المرحلية وإيجاد الآليات السياسية والقانونية لتحقيق الأهداف المنشودة، بما يؤدي كل ذلك إلى زرع الثقة وبناء الخطوات اللازمة، على شكل تراكم استراتيجي يحقق عناصر السلام والديمومة.

ثالثاً- إيجاد ضمانات حقيقية لإنجاح العملية السلمية من خلال هيئة متابعة تقوم بالإشراف على العملية وتنفيذ الخطوات المطلوبة من الطرفين، وهنا ينبغي التذكير بدعوة أوجلان إلى أهمية وجود طرف ثالث على شكل هيئة أو لجنة تضم أمريكيين وأوروبيين وشخصيات من منظمات وهيئات دولية تقوم برعاية المفاوضات ومتابعتها والأشراف عليها مرحلة مرحلة، فضلا عن إقليم كردستان، وهو ما قوبل برفض تركي حتى الآن.

رابعاً- أهمية توسيع نطاق مشاركة أحزاب كردية وتركية أخرى في مفاوضات العملية السلمية، فإلى جانب حزب العمال الكردستاني هناك أحزاب كردية أخرى مثل الحزب الديمقراطي والاشتراكي والشعوب الديمقراطية الممثل في البرلمان، فيما على الجانب التركي لا بد من مشاركة أحزاب المعارضة ولاسيما حزب الشعب الجمهوري وكذلك البرلمان، كي لا تكون العملية وكأنها مجرد بين حزبين (حزب العمال الكردستاني وحزب العدالة والتنمية الحاكم)، فالعملية تتعلق بمستقبل العلاقة بين الأتراك والأكراد والعيش المشترك بينهما، وليس بالحسابات الحزبية والانتخابية.

خامساً: أن لا تكون الأهداف من العملية تحقيق غايات وأجندة إقليمية تعمل تركيا على تحقيقها في ظل ما تشهده العراق وسورية من تطورات دامية على وقع الجرائم التي يرتكبها داعش والنصرة، ومحاولة تركيا استغلال صعود نفوذ الجماعات الإرهابية المتشددة في المنطقة لتحقيق أجندة إقليمية عبر تغير الأنظمة لصالح نفوذ تركي يقف وراءه طموحات جامحة باتت تتلخص بالعثمانية الجديدة، وهي نزعة تثير الكثير من الحساسيات التاريخية والاجتماعية والطائفية في المنطقة.

ولعل ما يؤكد على أهمية الانطلاق بالعملية على أسس صادقة وعملية لتحقيق الأهداف الموجودة، وجود ما يمكن تسميته في الجانبين التركي والكردي بصقور لا يؤمنون بالعملية السلمية، فضلا عن غياب الثقة والإرث الثقيل للصراع واختلاف الأولويات إلى درجة التناقض.

دعوة مفصلية أمام الامتحان

على الرغم من العقبات السابقة، ينبغي القول إن دعوة أوجلان إلى ترك السلاح كانت مفصلية في الصراع، فهي جاءت عقب مفاوضات غير مباشرة استمرت لأكثر من عامين وخطوات من الجانبين ومتغيرات محلية وإقليمية وتطورات عاصفة، فالحزب الكردستاني أحدث خلال العقد الماضي تحولاً كبيراً في أيديولوجيته وشعاراته ومطالبه، إذ انه لم يعد الحزب الماركسي الذي يطالب بإقامة دولة قومية مستقلة ويؤمن بالسلاح لتحرير المناطق الكردية التركية وإنما بات يبحث عن عملية سياسية تحقق للأكراد الاعتراف الدستوري بحقوقهم، كما أن الجانب التركي الذي استخدم كل ما لديه من قوة وعنف خلال الفترة الماضية يبدو أنه وصل إلى قناعة بعدم جدوى هذا النهج وبالتالي ضرورة البحث عن حل سياسي، فضلاً عن إدراكه بأهمية الورقة الكردية في الحسابات والصراعات الإقليمية الجارية في المنطقة خاصة بعد أن تحول الأكراد في عموم منطقة الشرق الأوسط من ورقة كانت تستخدم هنا أو هناك إلى لاعب إقليمي ولاسيما بعد انفتاح الغرب عليهم وبروز أهمية دورهم في محاربة تنظيم داعش الإرهابي في العراق وسورية. وعليه يمكن القول إن العملية السلمية السياسية بين الأكراد والأتراك تأتي تعبيراً عن قناعة عميقة لدى الطرفين باستحالة حل القضية الكردية في تركيا عسكرياً، وبالتالي ضرورة البحث عن حل سلمي على أساس تحقيق الهوية للأكراد والاستقرار لتركيا، وانطلاقاً من هذه القناعة يسعى كل طرف للاستفادة من المتغيرات الجارية ومناخ مرحلة ما بعد (ثورات الربيع العربي) للانتقال إلى مرحلة جديدة. لكن من الواضح، أن إيجاد حل نهائي لهذه القضية تتجاوز محاولة التجاوب أو الانعطاف للظروف والمتغيرات واتخاذ خطوات محدودة على الرغم من أهميتها لجهة تأسيس الثقة ومد الجسور وإيجاد خريطة للحل، فهذه القضية تقف على إرث دموي وشقاق قومي وإنكار سياسي تركي للتعدد القومي والمذهبي والديني في تركيا منذ تأسيس الجمهورية قبل نحو قرن من الزمن. وعليه، فإن دعوة أوجلان إلى ترك السلاح تشكل خطوة مفصلية للانتقال بالعملية من دائرة المفاوضات المغلقة إلى خطوات الحل الحقيقي على أساس خريطة واضحة الخطوات والمراحل وضمانات وآليات لتحقيق الهدف المنشود.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن الأنظار باتت تتجه إلى الدور المهم الذي يقوم به حزب الشعوب الديمقراطية الكردي في هذا المجال على شكل ناقل للرسائل بين أوجلان وقيادة حزب العمال في قنديل من جهة، وتقريب وجهات النظر بين الحزب والحكومة التركية من جهة ثانية، وهو دور أكسب الحزب مصداقية كبيرة في الشارعين الكردي والتركي ويوحي بدور كبير له في المرحلة المقبلة، خصوصاً إذا تجاوز عتبة 10% في الانتخابات البرلمانية المقررة في السابع من حزيران/ يونيو للدخول إلى البرلمان، وإذا ما نجح في هذا الامتحان، فإن عملية السلام ستحصل على دفعة قوية دون أن يعني ما سبق التقليل من أهمية موقف قيادة حزب العمال في قنديل من دعوة زعيمه إلى ترك السلاح حيث سيتضح هذا الموقف في المؤتمر الطارئ للحزب والذي من المقرر أن يعقده قريباً. وإلى أن يعقد الحزب مؤتمره العام ومعرفة قراره النهائي بشأن دعوة زعيمة إلى ترك السلاح وكيف؟ وفي أي ظروف؟ فإن الحكومة التركية قد تتخذ مجموعة من الخطوات الشكلية والبسيطة للإيحاء بأنها جادة في العملية السلمية ومستعدة لتقديم تنازلات، ولعل من أهم هذه الخطوات الإفراج عن بعض الأسرى والمعتقلين من المرضى وتشكيل لجنة أو هيئة من البرلمان لمتابعة العملية السلمية والقيام بحملات إعلامية ضخمة من خلال توجيه وسائل الإعلام بالتركيز على فوائد السلام مع الإصرار على نزع السلاح الكردستاني، وهو ما قد يفجر العملية السلمية، ويعود بالأمور إلى نقطة الصفر، إذ أن السلاح بالنسبة للكردستاني قضية حساسة خاصة وأنه يرى أن هذا السلاح هو الذي اجبر الدولة التركية على الدخول في العملية السلمية والتعامل معه ولو بشكل غير مباشر، وعليه لا يمكن تسليم رقبته للدولة التركية دون تحقيق السلام على الأرض، وبغير ذلك لن يسلم سلاحه، وهو في سبيل ذلك قد يشترط نزع سلاحه بمجموعه من الشروط الصعبة التي قد تنسف العملية السلمية خاصة وان ثمة صقور في قيادة الحزب يرفضون في الأساس ترك السلاح ويعتقدون أن ظروف وجود أوجلان في السجن هي التي أملت عليه الدعوة إلى تركه، وأن الحزب الذي قدم تضحيات كبيرة على مدار العقود الماضية في سبيل القضية القومية لن يتنازل هكذا دون تنازلات كبيرة من الجانب التركي، خصوصاً وأن الظروف الجارية في المنطقة توحي بأنه هناك فرصة كبيرة أمام الأكراد لتحقيق تطلعاتهم القومية ولاسيما في ظل الدعم الغربي لهم وتحول إقليم كردستان العراق إلى مرجعية سياسية داعمة لحقوق الأكراد في باقي دول المنطقة.

على المقلب الآخر، وتحديداً المعارضة التركية بشقيها العلماني (حزب الشعب الجمهوري) والقومي (حزب الحركة القومية) ترفض عملية السلام الجارية بين حكومة العدالة والتنمية وحزب العمال الكردستاني وفق الصيغة المطروحة، ففي الوقت الذي يعتقد حزب الشعب الجمهوري المعارض بزعامة كليجدار أوغلو أن هدف حزب العدالة والتنمية من العملية السلمية هو انتخابي بالدرجة الأولى وليس إيجاد حل سياسي حقيقي للقضية الكردية، يعتبر حزب الحركة القومية أن عملية السلام مع الكردستاني خيانة للقومية التركية ويفتح الباب أمام تقسيم تركيا، وعليه تشن أوساط  الحزب حملة غير مسبوقة ضد أردوغان وتدعو إلى محاكمته بتهمة الخيانة.

في مقابل هذه التعقيدات والعقبات، ثمة عوامل مشجعة للحل سلمياً، فالرجلان القويان أي أردوغان وأوجلان يريان أن عملية السلام أصبحت واقعاً لا يمكن القفز فوقه أو التراجع عنه، وكل طرف يرى في الأخر من موقعه القوي ضمانة لإزالة العقبات التي تعترض تحقيق السلام، وعليه ثمة من يرى أن الصقور في حزب العمال الكردستاني لن يغامروا برفض دعوة زعيمهم لترك السلاح، لأن ذلك قد يكون مدخلاً لانشقاق الحزب أو الانفصال عن زعيمهم التاريخي وربما بمثابة نهاية سياسية وحزبية للكثير من الأعضاء، كما أن دور إقليم كردستان العراق واضح في هذا المجال خاصة وان الإقليم له علاقات جيدة مع أنقرة والكردستاني معاً، وهو في الأساس طرف مشارك في هذه العملية منذ البداية، كما أنه عملياً لا خيار لحل القضية الكردية في تركيا خارج عملية السلام، وربما هناك من يرى أن وجود حكومة حزب العدالة والتنمية في الحكم يشكل أفضل فرصة لتحقيق هذه العملية، نظراً لنفوذها القوي وقدرتها على اتخاذ الخطوات اللازمة والانتقال بالبلاد إلى مرحلة جديدة، بل ثمة من يرى أن تسوية القضية الكردية في تركيا باتت أكثر من قضية ملحة لصانع القرار التركي، لا لوقف مسيرة القتل والدم فحسب، بل لتحقيق رؤية تركيا المستقبل، فدون إيجاد حل لهذه القضية لا يمكن لرجب طيب أردوغان تحقيق أهدافه في بناء تركيا جديدة يتطلع إليها مع حلول عام 2023، أي في المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية.      

السلام والنظام الرئاسي

في الواقع، في ظل التعقيدات الكبيرة التي تعترض العملية السلمية بين الأكراد والأتراك، يمكن القول إن الحسابات السياسية للطرفين (أردوغان وأوجلان) هي التي تشكل المحرك القوي لعملية السلام الحالية، أردوغان يدرك أن نزع سلاح حزب العمال الكردستاني انجاز تاريخي بعدما فشلت المؤسسة العسكرية التركية طوال العقود الماضية في القضاء على الحزب عسكرياً، وتحقيق مثل هذا الإنجاز حتى لو كان قراراً من قيادة الكردستاني في قنديل قبل الانتخابات البرلمانية سيحقق سعيه للحصول على 400 مقعد في البرلمان المقبل، وهو يقصد هنا نواب حزب العدالة والتنمية وحزب الشعوب الديمقراطية، بما يعني إمكانية إقامة تحالف بينهما داخل البرلمان، وإن سارت الأمور على هذا النحو فسيكون ذلك بمثابة مفتاح سحري بيد أردوغان لتحقيق كل الخطوات الدستورية والقانونية التي يريد من خلالها تغير وجه تركيا والتخلص من الفكر الكمالي وبناء الجمهورية الثانية عبر الانتقال إلى النظام الرئاسي، وإن حصل أردوغان على مثل هذه الأصوات فإنه سينجح في تمرير جميع مشاريعه داخل البرلمان دون الحاجة إلى استفتاء أو اخذ رأي المعارضة بعين الاعتبار، نظراً لأن مثل هذه الأصوات ستضمن له الأغلبية للأزمة لتمرير أي مشروع قانون داخل البرلمان، وفي المقدمة منها مشروع الانتقال إلى النظام الرئاسي الذي يطمح أردوغان منه جعله حاكماً بصلاحيات مطلقة بما في ذلك حق حل البرلمان وإقالة الحكومة. كما يدرك أردوغان أيضاً أن وراء خطوة الحل السلمي للقضية الكردية ثمة مكاسب إستراتيجية تنتظره على المستوى الإقليمي والدولي، وهي السعي لكسب أكراد المنطقة في العراق وسورية وإيران إلى جانبه في معركة الاصطفافات الإقليمية الجارية، فضلاً عن إعطاء (درس ديمقراطي) في المنطقة لجهة كيفية حل المشكلات القومية، والأهم تقوية موقع تركيا في الإستراتيجية الغربية ولاسيما أوروبا حيث الطموح التركي القديم إلى نيل العضوية الأوروبية في وقت كان إيجاد حل لقضية الحريات القومية والدينية في تركيا واحدة من أهم الشروط والمعايير الأوروبية للقبول بعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وأمام هذه المكاسب والتطلعات وقد يندفع أردوغان باتجاه اتخاذ المزيد من الخطوات السياسية في هذا السياق، من خلال دستور جديد يقر بالاعتراف الدستوري بالقومية الكردية والحقوق الثقافية واللغوية وبشكل من أشكال الحكم المحلي، فكل ما سبق، قد يصبح بسيطاً أمام الطموحات والأحلام الكبيرة لدى  أردوغان. فالرجل يريد نظاماً رئاسياً على مقاسه، نظاماً يُتوِّجُه سلطاناً في قصره الجديد المعروف بطرازه العثماني والذي يسمى بالأبيض، فيما أوجلان يريد أن يرى نفسه خارج سجن ايمرالي، وأن يصبح  مانديلا الأكراد ويحصل على جائزة نوبل للسلام عبر حل سلمي لقضية أزهقت المزيد من الدماء لأجلها. أحلام كبيرة للرجلين ربما تدفعهما إلى العمل والتنسيق معا من تحت الطاولة، دون أن يعني ما سبق أن الطريق إلى السلام بات مفروشاً بالورد، فإرث الصراع الثقيل يحمل معه مئات القنابل القابلة للانفجار في كل مرحلة وخطوة. إنها معادلة الممكن والمستحيل معاً في معركة السلام الكردي – التركي.

كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*) 

اعلى الصفحة