تدمير الآثار.. بين الشرع والعقل

السنة الرابعة عشر ـ العدد 160 ـ (حمادى الثانية 1436 هـ) نيسان ـ 2015 م)

بقلم: الشيخ جمال الدين شبيب

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تمثل الآثار في بلادنا العربية والإسلامية جزءاً مهماً من الموروث الثقافي الذي يكرس الانتماء لهذا الدين عبر التواصل مع الحقيقة التي شهدتها أرض تلك البلاد عبر سجال طويل بين النور والظلام والإيمان والكفر والدعوة إلى الله زمن النبوات وطيلة القرون والسنوات الماضية ما يمثل سجلاً واقعياً للأحداث والمناسبات على امتداد تلك الحقب الطويلة من التاريخ.

ومن هذا المنطلق تبرز أهمية المحافظة على تلك المواقع والآثار الإسلامية وغير الإسلامية  كما تبرز الأهمية لضرورة العمل على تحصينها مما قد يؤدي إلى تشويهها أو إتلافها تحت ذرائع شتى في مقدمها محاربة البدع والانحرافات الفكرية التي قد تؤثر في العقيدة ما قد يؤدي إلى تصرفات حمقاء تقوم على الجهل والتجاهل والفهم السطحي للنصوص الشرعية.

وإن قلق المتحمسين لهذا الدين لا يجوز أن يكون مبرراً لمحو وإهمال شواهد ومعالم هذا التاريخ الإنساني المشرق بالدعوة إلى الله والجهاد والإخلاص للعقيدة وإهماله بكل صوره وجوانبه وآثاره، لاسيما وأن هناك العديد من آيات القرآن الكريم التي تحث على النظر المباشر والتبصر بحال الأمم الأخرى وما حل بها عبر آثارها وشواهدها الباقية.

إن استقراء النصوص الإسلامية يقودنا إلى حقيقة شرعية مفادها أن الإسلام لا يقف من الآثار موقفاً سلبياً مجرداً بل في بعض الموارد يحرم هدم الآثار وتراث الأمم السابقة، سواء أكان هذا التراث تراثًا دينيًا أو تراثًا عاماً، ويتضح ذلك في الآية 40 من سورة الحج ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ * وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً * وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ * إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.

إن الصوامع في الآية هي بيوت الرهبان المتعبدين في الصحراء، والبيع جمع "بيعة" وهي الكنائس بكل أشكالها سواء كانت داخل أديرة أو منفصلة، وكلمة صلوات جمع "صلوتا" وهي معابد اليهود، مشيراً إلى أن الآية تؤكد التحريم الواضح لمنع هدم الأماكن المقدسة للأديان السابقة على الإسلام وحمايتها وهي سابقة على الإسلام مما تعد من آثار الحضارات السابقة.

وإن الآية 45 من نفس السورة " فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ " تؤكد على تحريم هدم أي آثار للحضارات السابقة على الإسلام، لأنها الدليل المادي الملموس على وجود قوم آخرين مخالفين على الأمة المؤمنة أن تتعرف على حياتهم وحضارتهم ودراسة أسباب ازدهارها أو هلاكها، وضياع هذه الآثار بأي شكل من الأشكال هو ضياع وفقدان لحضارة معينة، دعا الإسلام للرجوع إليها والنظر إليها للاعتبار والعظة.

ومن خلال الآية المتقدمة تتبين معالم تلك الحضارة الغابرة في الآية السابقة البئر المعطلة وهي البئر المهملة المرتبطة بقوم كانوا يستعملونها وبفقدانهم فقدت البئر أهميتها ونضب ماؤها وتعطلت، أما القصر المشيد فهو كل بناء مشيد من أي مادة سواء من الحجر أو الطوب ويشمل كل الآثار العمرانية السابقة.

بل إن هناك آيات في القرآن الكريم تدعو إلى التأمل فيما صنعته الحضارات السابقة والسير في كل البقاع للتعرف على الحضارات والثقافات للشعوب المختلفة، والسير في مساكن السابقين وتأملها والاستفادة من طرق بنائها ومدى ملاءمتها للبيئة الخاصة بها وأن المسلم عليه أن يتدبر ويستحضر في ذهنه أن من صنعوا هذه المباني العظيمة أهلكوا كغيرهم بسبب عصيانهم لله ورسله ومحاربتهم لهم. وعلى الرغم من زوال هذه الحضارات بقيت آثارهم تدل عليهم كما أعيد استخدام المساكن القديمة لأجيال أخرى وهذا يعزز فكرة التواصل المعماري والحضاري عبر الأجيال.

وكل هذا مما يعزز من أهمية الحفاظ على جميع الآثار لأخذ العبر والدروس منها في كافة صورها.

من هنا فإننا نرى تدمير التراث الحضاري للأمم هو أمر محرم شرعًا ومرفوض جملةً وتفصيلًا، وكذلك التعامل بالتهريب والبيع والشراء للآثار، وأن استباحة المعالم الأثرية لاسيما الموغلة في القدم والتي تعود للقرن الثالث عشر قبل الميلاد وما بعده هو أمر مخالف لمقاصد الكثير من النصوص الشرعية الثابتة الواضحة الدلالة.

بل إن النصوص الدينية الإسلامية تمنح الإنسان حرية الإرادة والاختيار وتترك حكمه إلى الله ليوم الحساب. وعلى سبيل المثال نذكر ما جاء في القرآن: ﴿لكم دينكم ولي ديني﴾، و﴿لا إكراه في الدين﴾، ﴿فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾، ﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾، ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون﴾، وغيرها الكثير من الآيات البينات التي تمنح الإنسان حرية الاختيار. فكيف يمكننا كبشر أن نحاسب بعض البشر على خياراتهم العقدية ولو كانت مخالفة لما نعتقده.. وبمفعول رجعي أيضاً يمتد عبر القرون الغابرة؟!!

.. فهذه الآثار الهامة التي دمرها متطرفون في سوريا أو الموصل أو غيرهما إنما تمثل تراثاً حضارياً وكنوزاً أثرية تم اكتشافها عن طريق حفريات دقيقة وبجهود مضنية بذلها خبراء في الحفريات والتاريخ القديم، من مختلف أنحاء العالم وعراقيون منذ القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا.

وهذه الكنوز التاريخية المدمرة لا تقدر بثمن، وهي ملك البشرية، وقد بقيت آلاف السنين، متحدية الزمن، ربما لأنها كانت مطمورة في باطن الأرض، وإذا بها تتحطم بالمعاول والجرافات في القرن الحادي والعشرين على يد مجموعة من الجهلة، فأية كارثة حضارية هذه تحدث في بلاد الرافدين، مهد الحضارة الإنسانية؟.

أما الاحتجاج ببعض الأحاديث النبوية التي تدعو لتحطيم الأصنام وتسوية القبور فجمهور أهل العلم يرى أنها أحاديث ظرفية قيلت يوم كان القوم حديثي عهد بجاهلية وكفر يخشى عليهم العودة لعبادتها وتقديسها كما كانوا ولا يصح تنزيلها عشوائياً على وقائع مخالفة لظروف إنشائها في الأساس.

ومن هنا فإننا نرى أن الآثار الإنسانية التاريخية ينبغي العناية بها وعدم مسها بسوء، وهي إرث إنساني يجب الحفاظ عليه، ولا يجوز الاقتراب منه بالأذى أو التشويه أو التدمير أبداً، وأن ما يقوم به بعض المنتسبين للإسلام من تدمير للهوية وطمسٍ لتاريخ شعوبٍ بأكملها هو جريمة حربٍ لن ينساها التاريخ ولن تسقط بالتقادم ومخالفة لمنطوق نصوص قرآنية ثابتة.

وإن انتشار موجات الغلو والتطرف في القول والفعل يؤدي ببعض الجماعات المتشددة إلى انتهاج سلوكيات غريبة تدفعهم لتدمير معالم الحضارات والقضاء على الثقافات والأعراق منفذين بذلك - عن إدراك أو غباء - أجندة استعمارية مشبوهة تهدف لإفراغ أوطاننا العربية والإسلامية من مكوناتها التراثية والثقافية وزرع عوامل النزاع والحقد وثقافة الكراهية بين هذه المكونات.

من هنا فإن دور العلماء والمؤسسات الدينية الرسمية والشعبية والمجامع الفقهية أساسي ويجب على الجميع بذل الجهود للعمل على محاصرة وتبيان فساد منهج الفكر الخارجي المعاصر والتصدي لتصحيح المواقف المتشنجة لأتباعه، والحد من انتشاره خصوصاً في أوساط الشباب والعامة، وما لم يجد هذا الفكر من يواجهه ويهزمه علمياً وفكرياً ابتداءً فإن جرائم أتباعه وأنصاره ستزداد تطرفاً ولن تسلم أي منطقة تقع تحت دائرة نفوذهم من انحرافهم الفكري وعنفهم البالغ.

رئيس الهيئة الإسلامية للإعلام – لبنان(*)

اعلى الصفحة