الحياة لا تتسع لعجوز!

السنة الرابعة عشر ـ العدد 160 ـ (حمادى الثانية 1436 هـ) نيسان ـ 2015 م)

بقلم:

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

منبر حر

حكى لي صديقي حينما طلبت منه أن يصمت، فقال: أنبأه جدُّه، عن أبيه، عمن لقيه من رجالات الوطن في عهد غابر (بشرفي ليس أغبر من حاضرنا)، قال ـ دام صمته ـ: كنا ثلاثة عربان مسافرين، فلقينا رجلاً لا نعرفه ولا يعرفنا، سلمنا عليه وَجَلاً، فقال نزِقاً: (هويتك ..أنت ويـ...ـاه) ، ولم يكن معنا ـ يا ميمتي ـ هوية، فاقتادنا إلى مخفر الشرطة، وهناك تم ترحيلنا إلى بعيد، إلى حيث تسكن الشياطين مصفدة!.

شتمت صديقي على هذه القصة الفارغة (كنت صغيراً.. صغيراً لا أعرف ما الرمزية)، وشتمته مرّةً أخرى على هذا الحديث المخزي في ساعة كهذه، وشتمته على سحنته التي تشبه سحنة جده المنحوس (سالف الذكر)، وشتمته كثيراً.. واكتشفت فيما بعد أن صديقي هذا: (ضد الشتم)، لقد كان الملعون حقاً.. حقاً.. (محتالاً)!. 

التقيته مرّة أخرى (بعد رحلةٍ تكفّل بتنسيقها لي مِنْ جهده الخاص أخزاه الله وجعلها في ميزان سيئاته)، طلبت منه عدم الحديث، وأخبرته أني غاضب عليه، وأنني أتمنى أن لو سحلت وجهه (ودققت كتفيه)، لكنه ضحك بسخفٍ وصمت..

فجأة قال: أنبأني جدي من جهة أمي (بسند متصل)، عن جده، قال (وكان مقطوع اللسان كبقية المواطنين في ذلك الزمان.. ولا أدري كيف قال؟!) إنه ذهب ذات مرة ليقابل السلطان، وتجشم عناء السفر، واغبرار الطريق (طريق مزدوج ناقة تروح وأخرى تلحقها دونما مجيء)، وقلة الزاد، وارتفاع سعر البنزين وكل مشتقاته، وكثرة الرياح والسحاب المسخر والأهوال والأنواء..

خلاصة الحكاية أن جده وصلَ يطلب العطاء في ساعةِ كان السلطان (يحتضر)، زجروه، ضربوه، أخبروه عن قلة أدبه وعن عدم حسن تربيته، عن عدم تقيده بالأدب مع ولاة أمره، وأخبره مشفق منهم (هكذا كان يظنه) أن عليه أمراً لا فضلاً.. أن ينتظر حتى (تنفرج) الغمة، واستجاب الجد المكروب لأكذب نصيحة..!.

وطال الانتظار (وما علم رحمه الله أن السلاطين يطول احتضار أحدهم حتى تغدو الساعة دهراً)، وتوسل إلى ملك الموت بكل ما يملك من صدقات قدمها قبل عامين، يوم ماتت زوجته (الجدة الصالحة)، وحاول كل ما يمكن.. وأخيراً مات السلطان (الهالك) عن 50 عاماً من الحكم و20 عاماً من الاحتضار..!.

كان الجد المكروب حينها قد تغيّر لونُه، وطالت لحيتُه، وكثُر شيبُ رأسه واستحال (مواطناً أخراً)، وحين عاد إلى السلطانِ الجديدِ يطلبُ العطية ردّوه خائباً، كان النظام (قد تغيّر) والرجل جديدٌ عليهم.. لا يعرفوه ولا يعرفوا له في سجل الطلبات شيئاً، وكانت الدولة تمرُّ بأزمة بعد أن انخفض سعر البر والزبيب (70 درهماً للرطل الواحد)، وجال الجد وصال ولكنه ما أفلح أو (لم يفلح). وعلى الطريق الدولي بين اليمامة وتهامة، وفي محطة وقود (للبعير السريعة) قضى الجد المكروب أنفاسه الأخيرة بدون طول احتضار، ومن ورائه كان خيّال أمن الطرق البرية (يشك ظهر بعيره) بقسيمة مفادها (توقف خاطئ)!..

وكأي ميت.. لم تتسع له صفحات الوفيات، ولم تدفع قيمة تعزيته إحدى الوكالات.. مضى الجد يطلب العطاء من مكان آخر، ولا أحد يعلم به إلا بعيره المنكوب، ورجل أمنٍ يمضغ حبة أسبرين (مختلفة النوعية) يمضِّي بها الوقت كيما يلحق بالجدِّ الهالك وهو يقول بثقل: أيها العجوز الأحمق.. لا تستطيع أن تعيش كل حياتك على ظهر بعير.. رد عليه البعير راغياً: فكيف بشعب!..

هذه المرة.. لم أشتم صديقي، لم أترحم على جده، ولم أتفاعل مع الحكاية الأكذوبة، لم أفعل كل ذلك، لقد اتعظت من المرة السابقة، ومن الحكاية الفارغة، ومن الرحلة التنزهية المجانية، صحت جذلاً، وبفمٍ ملآن نشوةً وحماساً: عاش الوطن، ولتمت كل (البعير)!.

اعلى الصفحة