تداعيات الهجوم الإرهابي ضد "صحيفة شارلي إيبدو"

السنة الرابعة عشر ـ العدد 158 ـ (ربيع الثاني 1436 هـ) شباط ـ 2015 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

شهدت العاصمة الفرنسية باريس يوم الأحد 11كانون الثاني 2015، مظاهرة تاريخية احتشد فيها أكثر من مليون ونصف المليون شخص يتقدّمهم كبار زعماء العالم، في تجمع غير مسبوق، للتنديد بالإرهاب، بعد سلسلة هجمات أوقعت 17 قتيلاً وعشرين جريحا خلال ثلاثة أيام في فرنسا.

وهي مظاهرة استثنائية أيضاً بسبب بُعدها العالمي، وتجاوزها مجرد التضامن مع مجلة "شارلي إيبدو"، على الرغم من همجية ما جرى، إلى فضاء الإعلان عن أن حرية التعبير مقدسة يجب ألاّ تمس، حتى وإن شابتها خلافات في كيفية التعبير، وإلى صرامة رفض الإرهاب، أي إرهاب، وأياً كان مصدره. فالتصدّي للإرهاب واجب، لا تفرقة بين إرهاب وإرهاب ولا تمييز بين إرهابي وإرهابي بصرف النظر عن الدين والمذهب.

وكانت المظاهرة في البداية مخصصة للتضامن مع ضحايا صحيفة "شارلي إيبدو" الذين قتلهم الأخوان سعيد وشريف كواشي، الأربعاء الماضي، وكذلك 5 أشخاص قتلهم أميدي كوليبالي، الجمعة، في متجر لبيع الأكل الخاص باليهود. إلا أن المظاهرة التي أطلق عليها "مظاهرة الجمهورية"، اكتسبت زخماً دولياً بعد أن أبدى قادة ومسؤولون في دول عدة رغبتهم بالمشاركة فيها. والرئيس هولاند هو الثاني من بين رؤساء فرنسا، الذي يشارك في مظاهرة بالشارع، بعد الرئيس السابق فرنسوا ميتران الذي انضم عام 1990 إلى مظاهرة للتنديد بتدنيس مقبرة يهودية في كاربنتراس، جنوب شرق البلاد.

وكانت العاصمة الفرنسية، ـ بل كل فرنسا ـ عاشت تحت وقع الصدمة، من جراء الهجوم الإرهابي الذي وقع يوم الأربعاء 7 كانون الثاني2015 على مقر الصحيفة الأسبوعية المتخصصة في الرسوم الكاريكاتيرية "شارلي إيبدو"، الذي أودى بحياة 12 شخصاً، منهم 4 رسامي كاريكاتير، إضافة إلى 11جريحاً. وقد أدانت كل الحكومات الغربية، والحكومات العربية والإسلامية هذا الاعتداء الإرهابي، بوصفه عملاً إرهابياً جباناً يتنافى مع مبادئ الدين الإسلامي الحنيف والقيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية. وأصدرت الصحافة الفرنسية بيانات تنديد بالهجوم على الديمقراطية والحرية، ظلله شعار "كلنا شارلي" وقّعه صحافيو "ليبراسيون"، و"لوموند"، و"نوفيل اوبسرفاتور"، ووكالة الصحافة الفرنسية، وراديو فرنسا، و"الايكو"، وكبرى وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في فرنسا، ووصفت لجنة حماية الصحافيين، ومقرها نيويورك، إطلاق النار بأنه "هجوم وقح" على حرية التعبير.

1- هجوم "شارلي إيبدو" يفضح قصور أجهزة الاستخبارات الغربية

كان المنفذان لهذا الهجوم الإرهابي ضد صحيفة "شارلي إيبدو"فرنسيين من أصل جزائري، هما شريف كواشي (32 عاماً) وشقيقه سعيد كواشي (34 عاماً) المولود في السابع من سبتمبر 1980. ولد شريف كواشي في 28 نوفمبر 1982 في باريس وهو يحمل الجنسية الفرنسية. لقبه "أبو حسن" وانتمى إلى شبكة يتزعمها "أمير" هو فريد بنيتو كانت مهمتها إرسال جهاديين إلى العراق للانضمام إلى فرع القاعدة في هذا البلد والذي كان يومها بزعامة أبو مصعب الزرقاوي. اعتقل قبيل توجهه إلى سوريا ثم إلى العراق، وحوكم العام 2008 وحكم بالسجن ثلاث سنوات منها 18 شهراً مع وقف التنفيذ. وبعد عامين، ورد اسمه في محاولة لتهريب الإسلامي إسماعيل عيط علي بلقاسم من السجن. والأخير عضو سابق في المجموعة الإسلامية المسلحة الجزائرية وحكم عليه العام 2002 بالسجن مدى الحياة لارتكابه اعتداء في محطة مترو إقليمية في باريس (موزيه دورساي) في أكتوبر 1995 أسفر عن ثلاثين جريحاً. ويشتبه خصوصاً بأن كواشي كان قريباً من إسلامي فرنسي آخر هو جميل بيغال الذي سجن عشرة أعوام لتحضيره اعتداءات. ويشتبه بأن كواشي شارك في تدريبات مع بيغال.

وأظهرت الأحداث الدامية التي شهدتها فرنسا، مع بداية عام 2015، قصور قدرات وكالات التجسس ومكافحة الإرهاب التي تملك، في كثير من الأحيان، معلومات عن الجناة مسبقاً، لكنها تعجز عن تجميع كل الخيوط إلى أن تسيل الدماء. فمن هجمات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة عام 2001، إلى سلسلة من العمليات الجسيمة في أوروبا وغيرها من أنحاء العالم، يقول مسؤولو الأمن والاستخبارات الأمريكيون والأوروبيون، إن إحدى المشاكل الرئيسية تتمثل في ربط الخيوط بعضها ببعض من كم هائل من المعلومات.

وقال الجنرال المتقاعد، مايكل هايدن، المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية ووكالة الأمن القومي الأمريكي، "عندما يقع حادث يكون أحد الأمور الأولى التي تفعلها هو البحث في كل قواعد البيانات، وبدرجات متفاوتة ستجد شيئاً، وهذا أمر حتمي".وقال بروس ريدل، وهو من كبار المحللين السابقين بوكالة المخابرات المركزية، "المشكلة بالنسبة للمخابرات وأجهزة الأمن الفرنسية أن المواطنين الفرنسيين الذين ذهبوا إلى سوريا أو العراق أو غيرها للمشاركة في الجهاد ثم عادوا أكثر من أن يمكن متابعتهم جميعا على مدار 24 ساعة يومياً". وأضاف ريدل، "إذا لم يخالفوا أي قوانين، فلا يمكن لأجهزة المخابرات في العالم الديمقراطي أن تلقي القبض عليهم أو تراقبك بصفة دائمة لمجرد أنك جهادي متعصب". متابعاً، "المخابرات لا تتنبأ متى يتحول متعصب من شخص متشدد الفكر إلى إرهابي يؤمن بالعنف في أغلب الأحوال".

وقال مسؤولون أوروبيون وأمريكيون، إن الاسمين سعيد كواشي، وشقيقه شريف، اللذين يعتقد أنهما شنا الهجوم على صحيفة شارلي إيبدو الساخرة في باريس كانا مدرجين ضمن قاعدة بيانات "تانيد" السرية التي تضم 1.2 مليون شخص، تعتبرهم الولايات المتحدة إرهابيين محتملين وقائمة أصغر يحظر السماح لأصحاب الأسماء الواردة فيها ركوب طائرات متجهة إلى أمريكا أو داخلها.

وقال المسؤولون الأمريكيون، إن الشقيقين اعتبرا من الأهداف ذات الأولوية الكبيرة لعمليات الرصد والمراقبة بعد أن تورط شريف في جماعة تجند المقاتلين الفرنسيين لتنظيم تابع لتنظيم القاعدة في العراق وبعد أن سافر سعيد للتدريب مع تنظيم القاعدة في اليمن عام 2011. غير أن المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين، قالوا إن السلطات الفرنسية قلصت مستوى متابعتها للشقيقين عندما ظلا يتصرفان بطريقة عادية خلال السنوات القليلة الماضية. وبعد عودة سعيد من اليمن تعمد الشقيقان، فيما يبدو، عدم الاتصال بالآخرين الذين كانا يعلمان أنهم تحت المراقبة، قائلين إن ذلك يشير إلى أنهما ربما كانا يخططان لهجوم منذ سنوات.

ومما عقد الأمر سفر آلاف الأجانب للمشاركة في القتال في صفوف الجماعات الإسلامية المتشددة في سوريا، مثل تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، و"جبهة النصرة"، وبدأ كثير منهم يعودون الآن إلى أوطانهم بما اكتسبوه من خبرات قتالية. وعادة ما تظهر التحقيقات في أعقاب هجمات المتشددين أو محاولتهم شن هجمات أن وكالات التجسس كان لديها معلومات مسبقة كان من الممكن أن تشير إلى أن هؤلاء المشبوهين يمثلون خطراً وشيكاً، لو أنه تم ربط خيوط المعلومات على النحو السليم. وبعد هجمات 11 سبتمبر أكدت التحقيقات أن وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الاتحادي كانت لديهما خيوط أولية عن هوية بعض الرجال الذين خطفوا الطائرات وقادوها واصطدموا بها ببرجي مركز التجارة العالمي ووزارة الدفاع الأمريكية. لكن المعلومات لم توزع توزيعاً سليماً.

وأظهرت تحقيقات برلمانية أن الوكالات البريطانية جمعت معلومات عن اثنين من الرجال الـ4 الذين فجروا مترو الأنفاق في لندن، في يوليو عام 2005، وذلك في تحقيق سابق في مجال مكافحة الإرهاب. غير أن وكالات التجسس لم تعتبر هؤلاء الرجال أهدافاً ذات أولوية كبيرة لعمليات المراقبة. وكانت هناك ظروف مشابهة فيما يتعلق برجلين تآمرا على الولايات المتحدة، هما طبيب نفسي بالجيش قتل 13 شخصاً بالرصاص في قاعدة فورت هود عام 2009 ونيجيري كاد أن ينجح في إسقاط طائرة متجهة إلى ديترويت بقنبلة في ملابسه الداخلية. فقد كان لدى الوكالات الأمريكية بعض المعلومات التي تربط كلا من الرجلين بجماعة تابعة لتنظيم القاعدة في اليمن، ربط المحققون بينها وبين سعيد كواشي. لكن الخيوط لم تتجمع لتوضح الصورة إلا بعد وقوع الهجمات.

2-العملية الإرهابية الأكثر دموية منذ الـ 1961

لقد هزّ هذا الاعتداء الإرهابي العالم أجمع، فهو ليس الاعتداء الأول التي تشهده فرنسا، غير أنه الأقوى منذ العام 1961، وإن كانت الصحيفة الفرنسية الأسبوعية "شارلي إيبدو"، سبق أن تلقت تهديدات عدة منذ أن نشرت في عام 2006 رسوما كاريكاتيرية تتعلق بالنبي محمد(ص). إذ عدّت الطبقة السياسية الفرنسية أن تاريخ السابع من كانون الثاني 2015 سيكون مفصلياً، و"ستكون هناك فرنسا ما قبل الاعتداء وما بعده". ففي عام 1961، ومع بداية الجمهورية الفرنسية الخامسة، وفي عز الثورة الجزائرية، زرعت  منظمة الجيش السري الفرنسي التي كانت مناهضة للزعيم الفرنسي الجنرال شارل ديغول، قنبلة في سكة القطار الذي يربط بين باريس و مدينة ستراسبورغ في الشرق، فانحرف القطار عن السكة وأسفر الحادث عن 28 قتيلا. ويوم 3 تشرين الأول عام 1980، انفجرت قنبلة أمام كنيس يهودي وقت الصلاة، في شارع كوبرنيك في باريس أسفر عن مقتل 4 أشخاص و جرح  20شخصاً. وفي 9 آب عام 1982، أطلق خمسة مهاجمين النار على مطعم غولدينبرغ الموجود في شارع روزيي في قلب الحي اليهودي في باريس، أسفر عن مقتل 6 أشخاص و 22 جريحاً. وفي 29 آذار عام 1982، نفذت مجموعة كارلوس هجوماً على القطار الذي كان من المفترض أن يستقله الرئيس السابق جاك شيراك، في رحلة تربط بين تولوز وباريس، وأسفر عن مقتل 5 أشخاص وجرح 77 شخصاً. وفي 15 تموز عام 1983، انفجرت قنبلة في مقر شركة الطيران التركية بمطار أورلي أسفرت عن مقتل 8 أشخاص و جرح 54 شخصاً. و في 17أيلول عام 1986، كانت باريس مسرحاً لعمل إرهابي، حين انفجرت قنبلة أمام محل تاتي أسفرت عن مقتل 7 أشخاص و جرح 55 شخصا. وفي 25 تموز عام 1995، انفجرت قنبلة في محطة المترو في سان ميشال في قلب العاصمة الفرنسية أسفرت عن مقتل 8 أشخاص و 119 جرحاً. وفي 3 كانون الأول عام 1996، انفجرت قنبلة في محطة بورت رويال في جنوب باريس أسفرت عن مقتل 4 أشخاص وجرح 91 شخصاً. وما بين 11و 15 آذار قتل محمد مراح الجزائري الذي ينتمي إلى تنظيم "القاعدة" في مدينة تولوز الفرنسية  7 أشخاص منهم 3 أطفال، وجرح 6أشخاص.

وخلال الخمسين سنة التي مضت، تعرضت أيضاً مختلف أجهزة الإعلام الفرنسية، ولاسيما المكتوبة منها لهجمات إرهابية من قبل مجموعات مختلفة، تنتمي إلى أقصى اليمين الفرنسي في مرحلة الستينيات بسبب رفض هذه المجموعات استقلال الجزائر عن فرنسا، وإلى أقصى اليسار الفرنسي المتعاطف مع المقاومة الفلسطينية منذ عقد السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات، ومنذ عقد التسعينيات تصدرت المجموعات الإسلامية التي تتبنى "الجهاد العالمي" طليعة العمل الإرهابي في العاصمة الفرنسية.

ليست هذه المرة الأولى التي تتعرض فيها إحدى المؤسسات الإعلامية الفرنسية "شارلي ايبدو" التي تعد في نظر البعض رمزاً لحرية التعبير في العالم، لعمل إرهابي، إذ تم حرق جزء من مقرها في 2 تشرين الثاني 2011 عندما أصدرت عددا خاصاً، أطلقت عليه اسم "شريعة إيبدو"، كرّدة فعل على صعود الإسلاميين في تونس و ليبيا بعد سقوط النظامين في البلدين. وفي سنة 2005 تعرضت هذه الصحيفة نفسها لهجوم إرهابي، في سياق الحملة على الرسوم الكاريكاتيرية الدنمركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم- التي طرحتها التغييرات الديموغرافية خلال السنوات العشرين الأخيرة في أوروبا، إذ  يضم الاتحاد الأوروبي اليوم 15 مليون مسلم، منهم نحو 5 ملايين في فرنسا وحدها.

3- فرنسا وتغاضيها عن "تجنيد الجهاديين" إلى سورية

يجمع المحللون الملمون بالشأن الفرنسي على أن المجزرة التي تعرضت لها  الصحيفة الساخرة، تأتي في سياق محلي لـ"جهاد" فرنسي وليد وصاعد منذ الغزو الأمريكي للعراق في سنة 2003، حيث انتقل العديد من "الجهاديين" الإسلاميين الفرنسيين للقتال في العراق ثم في سورية، وتنامي عدد "الجهاديين" الفرنسيين الذين انضموا إلى صفوف الجماعات الجهادية في سورية. ويختصر مرجع لبناني سابق المشهد برواية سمعها شخصياً من مسؤول أمني أوروبي وتتضمن الآتي: "في صيف عام 2013، سهّل جهاز أمني أوروبي عملية تجنيد مجموعة جهادية مقيمة في عاصمة أوروبية إلى سورية عن طريق تركيا، وصادف أن أحد أفراد المجموعة تعذر عليه الالتحاق بالمجموعة والوصول إلى المطار الأوروبي بسبب زواجه قبل يومين من تاريخ التحاقه، فطلب منه "أميره" الالتحاق بـ"الجهاديين" في مالي، وبالفعل سافر إلى هناك عن طريق دولة في شمال أفريقيا، ولم تمض ساعات على وصوله، حتى وقع في كمين للجيش الفرنسي. أثناء التحقيق معه، قال للضابط الفرنسي: "لقد صادف أنني تأخرت عن الالتحاق بمجموعة جهادية متوجهة إلى سورية.. وبرعاية من جهاز أمني أوروبي بسبب زوجتي.. فتم تعديل الوجهة. لو كنت أقاتل في سورية كنت ستتعامل معي كبطل يقاتل الحكومة السورية. أما أنني أقاتل هنا (ضدكم)، فقد أصبحت مجرماً من وجهة نظركم"!.

هذه الرواية تختصر معظم التعامل السياسي والأمني الأوروبي، وخصوصاً الفرنسي، مع قضية الإرهاب، وهي أنموذج لنقاش سيتصاعد في أوروبا عن مسؤولية كل بلد في مواجهة الإرهاب العائد سواء من مالي أو من سورية أو العراق؟.

وكان الإرهابيان اللذان نفذا الهجوم ضد الصحيفة الفرنسية أخوين يحملان الجنسية الفرنسة، ومن أصل جزائري، وهما سعيد وشريف كواشي. وبينت التحقيقات معرفة الأجهزة الأمنية الدقيقة بتعرجات الشقيقين، من محاولة أصغرهما شريف احتراف غناء "الراب"، فاعتزاله من أجل الإسلام السلفي "الجهادي"، الذي بسطه له داعية تونسي في باريس، بينما كان شقيقه يعمل عام 2005، في شبكة لتجنيد "مجاهدين"، وإرسالهم إلى عمليات "القاعدة" الانتحارية في العراق العقد الماضي.

ونبشت الشرطة للإعلام سيرة الشقيقين اللذين قبع أكبرهما سعيد ثلاثة أعوام في سجن باريسي عقاباً على تجنيد "جهاديين"، والتحاقهما بداعية آخر هو أبو بكر حكيم، في تونس ما بعد الثورة لتلقي تدريبات عسكرية، تمهيداً لإرسالهما إلى سورية. واتضح أن حكيم يمثل صلة الوصل بينهما وبين تنظيم "داعش" الإرهابي الذي التحق به في سورية. وكان أبو بكر حكيم قد أمضى سبعة أعوام في السجن الفرنسي، قبل أن تتسلمه تونس في عام 2012 وتطلق سراحه حكومة "النهضة"، في العام التالي. وظهر حكيم في شريط مصور في سورية قبل عشرة أيام، باسم جديد هو "أبو مقاتل" تبنى فيه عمليات الاغتيال التي هزت تونس قبل عام ونصف العام، وسقط برصاصها عضوا المجلس التأسيسي، شهيدا اليسار التونسي شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

فالعملية الإرهابية التي ضربت مؤسسة ثقافية وصحافية كبيرة تتجاوز بكثير مجرد الانتقام من الصحيفة التي لم تتوقف في إطار حرية التعبير عن التنديد بالإسلاميين عبر السخرية من النبي محمد(ص). ويبدو الربط مع الأزمة في سورية ممكنا من خلال ما تقوله القناة الفرنسية الأولى من أن الشرطة الفرنسية تعتقد أن المهاجمين قد يكونان من بين العائدين من سورية. وتظهر الصور الملتقطة مسلحين محترفين يتمتعان بخبرة قتالية واضحة وبتصميم كبير على القتل بدم بارد. وكان المتحدث باسم "داعش" المدعو أبو محمد العدناني دعا من سماهم الموحدين، في تسجيل صوتي صدر بعد انطلاق غارات التحالف ضد "داعش" إلى "قتل الفرنسيين الكفرة الأنجاس" وغيرهم من البريطانيين والكنديين على حد قوله.

العارفون بخبايا الشرق الأوسط والحروب الدائرة فيه يطرحون الأسئلة على السلطات الفرنسية: هل يستطيع الفرنسيون أن يمارسوا الشفافية تجاه شعوبهم بالكشف عن بعض أدوارهم في تنظيم وتسليح مجموعات "جهادية" وتسهيل انتقالها من أوروبا إلى سورية وغيرها؟ وهل يخفى على المخابرات الفرنسية تحديد أن "الفيروس الجهادي" موجود في كل بلد من بلدان العالم (ومنها فرنسا) سواء أكان فردا أم مجموعة أو أكثر، وتالياً، يمكن لهذا "الفيروس" أن يتفشى بأسرع مما يتوقع القيّمون على أجهزة الاستخبارات؟ ومن يستطيع أن يعطي تفسيراً لعمليات تجنيد "الجهاديين" في فرنسا وغيرها؟ ولماذا فشلت سياسات الاحتواء والاستيعاب الأوروبية؟ ولماذا يفضل "أوروبيون جهاديون" الموت من أجل "خليفة" وهمي على العيش فيما تسمى "بلاد حقوق الإنسان"؟ وأين مسؤولية سياسات التهميش والعزل والنبذ (تعاظم دور الأحزاب والمجموعات اليمينية المتطرفة في فرنسا وغيرها)؟. بين الواجب الأوروبي الأخلاقي وواقع السلوك السياسي والأمني الأوروبي هوة لا يعرف أحد كيف يمكن ردمها، ويبقى السؤال الكبير: هل هناك إستراتيجية أوروبية أو فرنسية في الشرق الأوسط؟

4- إرهابيو فرنسا يغتالون الحرية ويقدمون أكبر هدية للصهيونية

يأتي هذا الهجوم الإرهابي في ظل مناخ سياسي يتسم بالريبة والشك تجاه المسلمين في فرنسا، وفي العالم الغربي عامة، نتيجة ما ترتكبه باستمرار الجماعات الإرهابية التكفيرية من فظاعات مدوية في كل من العراق، وسورية، وليبيا، وتونس.

كما يأتي هذا الهجوم الإرهابي في ظل ممارسة البرلمان الفرنسي ضغوطات على الحكومة من أجل الاعتراف بدولة فلسطين، ما يجعل هذه العملية بمنزلة خدمة مجانية للصهيونية العالمية، وهدية قدمت على طبق من ذهب لـ"إسرائيل" من أجل المزيد من تشويه صورة العرب والمسلمين في الغرب.. ثم إن هذه المجموعات الإرهابية التي وجدت ضالتها في البلدان الديمقراطية الغربية لتنعم بالحياة والشغل وبحق المواطنة والتعليم، تعمل في الوقت الحاضر على تأجيج صراع الحضارات الذي ينفخ اليمين المتطرف، في فرنسا خاصة والغرب عامة، في ناره، لشيطنة العرب والمسلمين، وهاهي عملية باريس الإرهابية تقدم له أفضل الخدمات.

وفور وقوع هذا الهجوم الإرهابي كانت أجهزة الأمن الفرنسية، بالتوازي مع انعقاد مجلس أمني مصغّر، لبلد يتأهب للدخول في حالة حرب، تعد لوائح بإسلاميين مشتبه بهم، وتبدأ حملة مداهمات واسعة في عدد من المدن الفرنسية، من دون اعتقالات حتى الآن، مشيرة بوضوح إلى أنها، بخلاف السياسيين، تبحث عن الإرهابيين في الأوساط الإسلامية، وليس غيرها. وقال مسؤولون في الشرطة ومصدر حكومي: إن الشرطة تبحث عن شقيقين من منطقة باريس ورجل ثالث من مدينة رانس في شمال شرق البلاد، وكلهم فرنسيون.وأبلغ مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (إف بي آي) الأجهزة الأمنية الفرنسية أن أحد الشقيقين المطلوبين كان مقاتلا في العراق بينما كان الآخر يعمل مدرباً في أحد معسكرات "الجهاديين" في سورية.

لقد أطلقت  الجاليات العربية والمسلمة في فرنسا صيحات الفزع، خوفاً من تداعيات هذا العمل الإرهابي على أوضاعها، في مجتمع فرنسي يعيش أزمة اقتصادية خانقة، وبات يعيش أيضاً أزمة هوية، وأصبح يميل رويداً رويدا إلى الانقسام وإلى اتخاذ موقف معاد من المسلمين، باعتبارهم دعاة العنف والإرهاب، هو الموقف ذاته الذي يروج له اليمين المتشدد المتربص بطبعه بالأجانب، والمحفز على نبذ وجودهم.

الحقيقة أن الإعلام الغربي الذي تتحكم به المركزية الأوروبية الإقصائية لا يزال يرفض التمييز بين حرية التعبير وحرية الإعلام واستقلاله بوصفهما حقوقا أساسية يضمنها الإعلان العالمي حول حقوق الإنسان، وبين الإساءة للمعتقد الديني، فقد جسدت تلك الصحف الأوروبية، ومنها صحيفة "شارلي إيبدو" الغطرسة والغباء مجتمعين، انطلاقاً من استقوائها بسلاح حرية التعبير وحرية الإعلام، معفية نفسها في الوقت عينه من واجبات المسؤولية المقترنة، فقد رأت أن قضية الرسوم الكاريكاتورية طرحت أيضاً مسألة دولة القانون كقيمة ديمقراطية. وانتقدت مواقف الحكومات الأوروبية، مذكّرة السلطات العامة والوطنية والدولية المنهمكة في البحث عن توازن بين الحرية والمسؤولية، بأن قوانين النظام الديمقراطي سُنّت لكي تُطبق، ولعل أبرز المواقف المنددة بما نشرته بعض الصحف الأوروبية من إساءة للرسول العربي الكريم محمد صلّى الله عليه وسلَم، هي التي شددت على التلازم بين حرية التعبير واحترام القيم والمعتقدات.

5- الإسلام والغرب لا فصل بين احترام الحريات والأديان

العقلاء ودعاة الحرية في العالم الغربي الذين استقوا مبادئهم من منطلقات الثورة الفرنسية وفلاسفة التنوير، يؤكدون على هذا التلازم الآنف الذكر، ويربطون هذه المنطلقات بحقوق الإنسان، ولاسيما حقه في حرية الاعتقاد، التي لا يجوز أن تنتهكها حرية التعبير، ما يعني  بالضرورة وتكراراً تلازمهما على نحو يكرس الحرية بمعناها العام و بدلالاتها الخاصة في الوقت عينه، ويطالب هؤلاء العقلاء الأوروبيون بضرورة إدراك أن مشهد المجتمعات الأوروبية تغيّر بسبب الهجرة والمهاجرين، ومن أجل ذلك لا بد من أن ينشأ وعي في أوروبا، يحترم حساسيات المسلمين، ويتجنب ما لا يستطيعون قبوله، ويراعي حساسيات غير المسلمين من المهاجرين أيضاً. وليست هناك حدود قانونية للصحافة، لكنْ هناك حدود مدنية، ومن المفهوم في أي مجتمع مدني أن على المرء أن يحترم حريات الآخرين بقدر ما يحترم حرية ذاته، حتى لا يُثير حساسيات لا داعي لها، إنها مسؤولية مدنية وحكمة، وليست سؤالاً في الشرعية والحقوق. ومع ذلك تبقى هناك مسائل ذات حساسية عالية للمسلمين، يجب على الأوروبيين أن يراعوها، وأن يسلكوا سبيل الحكمة وليس الوقاحة والاستهتار والاستفزاز.

لقد أنتج الجدل حول الرسوم، وكذلك تسهيل حركة ما يسمى "الجهاديين" الذين يقاتلون في سورية، شرخاً بين المسلمين المعتدلين والمسلمين الأصوليين من جهة، وبين مسلمي أوروبا ومسلمي الشرق من جهة أخرى... الباحث أوليفييه روا أشار إلى أن المنظمات الإسلامية في أوروبا تحفظت إزاء العاصفة التي سببتها الرسوم وكتب في صحيفة "لوموند" الفرنسية: "يجب البحث عن وسيلة للسيطرة على التوتر لكونه يظهر شرخاً بين إسلام أوروبا وأزمات الشرق الأوسط". وأضاف: "تجب معاملة مسلمي أوروبا كمواطنين، تماماً مثل المسيحيين واليهود، ولو اقتضى ذلك التذكير بمبادئ حرية التعبير والعلمنة على الدوام".

 وخلافاً للصور المتداولة إعلامياً لإسلاميين متطرفين ينددون بموت الرسامين الكاريكاتيريين، فإن الإسلام الأوروبي معتدل جداً، إذ تضاعفت نداءات المنظمات الإسلامية الأوروبية في ألمانيا واسبانيا وفرنسا وبريطانيا، الداعية إلى الهدوء، وطالبت بإحالة القضية إلى المحاكم، وهذا إن يعبر عن شيء فهو يعبر عن رغبتها في احترام دولة القانون في البلدان التي تعيش فيها، ورفضها في الوقت عينه رأي الأصوليين المتطرفين الذين يريدون فرض قوانين الإسلام على مجتمعات علمانية. وهنا تقع المسؤولية على الأوروبيين لكي يدركوا أي طرف عليهم تشجيعه، بإعطائه فرصة الاندماج الكامل في المجتمعات الأوروبية. ومهما يكن من أمر، وعلى الرغم من العنف والمبالغات الصارخة، فإن ّقضية الرسوم ستساهم في توضيح المسار الذي ينبغي أن تأخذه الأمور في الغرب.

أخيراً، يجب التأكيد أن حرية التعبير وحرية الإعلام شيء، والإساءة والتحريض على الآخر ومعتقداته الدينية وقيمه الروحية شيء آخر، فالمفارقة أنه في ظل ثورة الاتصالات، والثورة المعلوماتية الراهنة، ترافق معهما ما سماه مدير صحيفة "لوموند ديبلوماتيك" الشهرية انياسور امونيه "استبدادية الاتصال" أي تحكم السلطة الإعلامية في صنع الخبر وتبادله، وقد حذر عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيار بورديو في كتاباته الأخيرة، من خطورة تحكم هذه السلطة في صناعة المعلومة، وتشكيل الوعي، وإدارة الخيال الاجتماعي، عادّاً أن البشرية قد تكون مرغمة على إعادة صنع ثورات القرن الثامن عشر ضد هذه الهيمنة الخطيرة.

 

اعلى الصفحة