إسرائيل وهجمات باريس.. وما بعدها
بين الاستثمار الفاشي العنصري والرقص في حلبة الإرهاب!

السنة الرابعة عشر ـ العدد 158 ـ (ربيع الثاني 1436 هـ) شباط ـ 2015 م)

بقلم: مأمون الحسيني(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

أعاد الهجوم الإرهابي الذي ضرب صحيفة "شارلي ايبدو" الفرنسية التي درجت على السخرية من الدين الإسلامي ومن الرسول الأعظم، ودشَن حقبة جديدة من تمدد الإرهاب إلى دول القارة الأوروبية، أعاد فتح النقاش المتعلق بإشكالية اندماج مسلمي أوروبا في نسيج المجتمع الغربي، وحرفه باتجاه مستنقع "الصراع الحضاري" المتوكئ على قواعد الدين والعرق..

والذي يوفر الأرضية لأخذ الجريمة إلى مكان آخر بعيداً عن مصدر الإرهاب الحقيقي، وهو ما بدا جليا في الفضاء الإعلامي المهيمن الذي اعتبر أن هجوم "شارلي ايبدو" استهدف عدداً من القيم الأساسية للجمهورية الفرنسية، كان الأهم فيها مفهوم السلطة، وحرية التعبير، والجماعة اليهودية الفرنسية التي تحولت إلى بضاعة رابحة في يد حكومة الاحتلال الإسرائيلي ورئيسها الذي طالب، بكل صفاقة ووقاحة، الفرنسيين اليهود بالهجرة إلى إسرائيل التي سماها "ارض ووطن اليهود الفرنسيين ويهود العالم""!! وبالتالي، وتحت وطأة هذا التشويه المقصود للمشهد، لم يكن أمام السلطات الفرنسية، ومن خلفها معظم الحكومات الأوروبية، التي لا تريد ولا تستطيع تعلَم واستيعاب درس الإرهاب جيداً، سوى اتخاذ المزيد من الإجراءات الأمنية، والانحناء أمام فيض العنصرية المتوقع ضد العرب والمسلمين تحت عباءة "الإسلاموفوبيا".

عناوين في متن المشهد

وقبل التوجه نحو مقاربة البؤرة الأبرز في مشهد تداعيات جريمة "شارلي ايبدو" وما تلاها، أي محاولات الاستغلال السياسي والعنصري البشع لدماء الضحايا من قبل حكومة إسرائيل ومعظم طبقتها السياسية، لا بد من تظهير عدة عناوين مهمة وأساسية:

العنوان الأول: أن ظاهرة الإرهاب التي تزداد تفاقماً على المستويين الإقليمي والدولي، ولدت، بالأساس، من رحم أزمة النظام الرأسمالي الغربي، وتراجع هيمنته العالمية أمام دول قومية رأسمالية صاعدة، كالصين وروسيا ودول البريكس وحلفائها وإيران وفنزويلا وغيرها. إذ أن هذا النظام الرأسمالي الذي لا يمكن أن يعيش من دون عدو خارجي، وتحت وطأة عدم قدرته على خوض حرب جديدة من شأنها حل هذه الأزمة ذات الطبيعة البنيوية بسبب كلفتها الباهظة وتوازن القوى العالمي، قام، من جهة، بفبركة عدو وهمي اسمه "الإسلام" بهدف حرف الصراع المتمثل في مناهضة الشعوب للسيطرة السياسية والاستغلال الاقتصادي العالمي، عن مساره الصحيح، وإدخال هذه الشعوب والمجتمعات في متاهات حروب غير حقيقية ذات طابع ثقافي وحضاري وديني، وهو الهدف الذي سعى إليه ونظّر له كثيراً مفكرو الرأسمالية أمثال صموئيل هانتنغتون وفرنسيس فوكوياما، ومن جهة ثانية، جهد في تصنيع منظمات فاشية معولمة ذات بعد ديني متطرف، على غرار الصهيونية، من نمط "القاعدة" و"داعش" وتوابعهما، مهمتها تمكين النظام الرأسمالي الغربي من ضرب وتقويض إمكانات الاستقلال في العالم العربي والإسلامي من الداخل! ومواجهة روسيا والصين اللتين فيهما مواطنون مسلمون، يمكن تجنيدهم، في الشبكات الإرهابية، ضد بلدانهم "الكافرة"، ناهيك عن أن هذه المنظمات الإرهابية التي تتلفع بالدين تسقط عن البلدان الرأسمالية صورة المستغل المضطهد وخصوصا في عيون مواطنيها، وتحولها، بدلاً من ذلك، إلى الحامي المدافع والضامن لأمنهم الداخلي.

وعليه، واستناداً إلى كمٍّ متراكم من التقارير والمعلومات والمطيات، لا بد من الإصرار على أن الإرهابيين هم من نتاج الولايات المتحدة ودول أوروبا الاستعمارية، وليسوا صناعة العرب والمسلمين. وبغض النظر عما إذا كان إرهابيو باريس، كانوا قد قاتلوا في سوريا أم لا، فإن التجييش الغربي الهستيري للقوى الطائفية والتكفيرية، ودعمها سياسياً ولوجستياً وإعلامياً وعسكرياً، خلق المناخ الملائم لتوسع الظاهرة الإرهابية، وقدرتها المتنامية على التجنيد، وهو ما تلمّسه المحلل السياسي الأمريكي ويليام فاف في "تربيون ميديا سيرفس"، عندما أكد التذكير بأن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب هو الذي أطلق شرارة سلسلة الحروب الأخيرة في الشرق الأوسط عندما حرّض صدّام حسين على محاربة عدو أمريكا اللدود إيران، ليتبع هذه الحرب الخليجية الأولى، حرب الخليج الثانية التي أصبح فيها صدّام ذاته هو العدو الجديد بسبب غزوه لدولة الكويت. ثم جاء دور بوش الابن الذي غزا أفغانستان والعراق وحولهما بين عشيّة وضحاها إلى أراض يباب يسودها الدمار والخراب. وجاء دور أوباما الذي وعد بوضع حد قاطع لهاتين الحربين العبثيتين إلا أنه وجد نفسه، وفق زعم وتقدير فاف الذي نختلف معه تماما، متورطا في حرب جديدة ضد المتطرفين في سوريا والعراق ممثلين في تنظيم "داعش" الإرهابي.

العنوان الثاني: يتعلق بصحيفة "شارلي ايبدو" ومن على شاكلتها مما يسمى وسائل الإعلام وأدوات حرية التعبير التي خرجت المليونية في باريس للدفاع عنها. فقد تأسست شارلي في السبعينيات متأثرة من ثورة الطلاب في أيار/ مايو 1968 في فرنسا، ولكنها انحازت في السنوات الأخيرة، إلى اللوبي الصهيوني الفرنسي، وكانت ذروة الانحياز عام 2008 حين تم طرد رسام الكاريكاتير موريس سيني المناهض للاستعمار من المجلة لرفضه الاعتذار عن سخريته من ابن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، جان ساركوزي، عندما تزوج من فرنسية يهودية وادعى أنه أصبح يهوديا، وقد قال سيني، في إحدى مقابلاته، أنه تم تهديده من قبل اللجنة لحماية اليهود في فرنسا. ومع أن مزاعم رئيس تحرير المجلة وطاقمها تركز على عدم استهداف المسلمين وحدهم، إلا أن هذا الادّعاء غير صحيح. بدليل أن المجلة تخصّصت ولاسيما بعد أحداث 11 أيلول في إهانة المسلمين كمسلمين، في دينهم وليس في حركاتهم المتطرّفة. حيث نشرت رسوماً لشخص الرسول الأعظم في أوضاع تعرف هي أنها ستهين عموم المسلمين وليس المتطرّفين فيهم. ولا مجال للمقارنة إطلاقاً لمقارنة ذلك برسمها بعض الرموز الدنيوية لأتباع الديانات الأخرى. إذ أن إهانة المسلمين، حسب الرسام لوز الذي نجا من حادث التفجير الأخير، باتت روتينا في رسوم المجلّة.

صناعة الإرهاب وثمن الدعم والتأهيل

واستتباعاً، كيف تكون السخرية، أو حتى محاولة التدقيق في طبيعة وأرقام المحرقة (الهولوكوست)، ممنوعة بالكامل في الغرب، وبالأخص في فرنسا التي سنّت قوانين خاصة تحرّم التشكيك بالمحرقة وبأحكام محكمة نورمبرغ كقانون "فابيو غيسو" الذي سجن على أساسه المفكر الفرنسي الراحل روجيه غارودي الذي شكّك بأرقام ضحايا المحرقة، فيما السخرية من الرسول العربي الكريم مقبولة ومندرجة في سياق حرية التعبير!. وحتى تكتمل ملامح الصورة، لا بد من الإشارة إلى أن الأسبوعية الفرنسية (شارلي) التي كان يطاردها شبح الإفلاس بعد تراجع توزيعها بشكل كبير كادت معه أن تفلس وتغلق تماماً، على نحو اضطر معه أصحاب الصحيفة لتدشين حملة جمع تبرعات لصالح الصحيفة، نالت في أسبوع واحد نحو نصف مليون دولار من شركة "غوغل" ومؤسّسة "غارديان"، ورفعت منسوب طباعة نسخها من 60 ألف نسخة، قبل الهجوم، إلى ملايين النسخ بعد الهجوم، وبعد نشر صور جديدة تسيء للرسول الكريم!.

أما العنوان الثالث: فله علاقة بالسياسة الأوروبية الذيلية للأمريكي، وبالأخص الفرنسية، القائمة على استخدام الجماعات التكفيرية الإرهابية لتحقيق أوهام استعادة الاستعمار القديم في دول المنطقة العربية، وبالأخص في سوريا. إذ لا يخفى أن المخابرات الفرنسية عملت كل ما في وسعها، ومنذ عام 2011، على فبركة وتصنيع وتأهيل وتقديم معارضين سوريين مرتبطين بها، وأنفقت أموالاً، وهرّبت أسلحة، وقدمت الدعم السياسي والإعلامي للمسلحين في سوريا، ورفضت، بشكل علني، اتخاذ أي إجراء لمنع "الإرهابيين الفرنسيين" من السفر إلى تركيا ومن ثم سوريا بحجة أن الحكومة الفرنسية "لا تستطيع أن تمنع مواطنيها من المشاركة في القتال في سبيل الحرية"! وبالتالي فإن ما جرى في فرنسا لم يكن مستبعداً أو مفاجئاً، بل كان متوقعاً في أكثر من مكان وزمان في أوروبا وخارجها، ذلك أن التحالف العضوي مع التكفيريين الطائفيين الإرهابيين من نمط تنظيم "داعش" الذي جزم رئيس وزراء فرنسا السابق دومينيك دوفيلبان بأنه "وليد مشوّه لسياسة الغرب المتغطرسة التي ضاعفت بؤر الإرهاب في العالم"، كان لا بد أن يفضي، في نهاية المطاف، إلى عودة هذه الوحوش البشرية لنهش أصحابها ومصنّعيها، وتقديم خدمة كبيرة للحليف الإسرائيلي الذي قدَم لها الكثير، وتمكينه من أن يكون الرابح الأكبر من الحدث الفرنسي بعد "تهويده" واستغلاله إلى أقصى الحدود الممكنة.

ومع ذلك، من غير المتوقع أن تحقق إسرائيل إنجازاً كبيراً في محاولتها انتهاز فرصة الهجوم الإرهابي على "شارلي ايبدو"، والاستفادة من هذا الحدث وما تلاه من استهداف للشرطة الفرنسية وقتل رهائن في العاصمة باريس، لتصوير العرب والمسلمين، وفي مقدمهم الفلسطينيين، كإرهابيين وقتلة وسفاكي دماء، وثني الحكومة الفرنسية عن تأييد مطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتحديد جدول زمني لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي في الأمم المتحدة، و"إقناع" الغرب بتكثيف مساعداته لإسرائيل في التصدي للحركات الإسلامية، ولاسيما "حزب الله" وحركة "حماس" باعتبارهما حركتين "إرهابيتين" لا تختلفان في شيء عن "القاعدة" و"داعش" و"النصرة" وبقية المجموعات الإرهابية! وتشجيع هجرة اليهود الفرنسيين لإسرائيل. ذلك أن الحكومة الفرنسية، ومن خلفها رأي عام واسع، ما زالت تحرص على عدم الوقوع في فخ ربط هذه الجرائم الوحشية بالدين الإسلامي والمسلمين الذين يصر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على اعتبارهم "إرهابيين" لا يسعون للمس بالدولة العبرية فقط، بل يهدفون للدفع نحو القضاء على الدول الغربية والثقافة السائدة فيها، واستبدالها بثقافة قائمة على القهر والاستبداد من شأنها "إعادة البشرية بأسرها إلى فترة مظلمة، ألف عام إلى الوراء"!

نتنياهو.. وخطاب "داعش"!

رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي شارك في المسيرة العالمية ضد الإرهاب التي شهدتها باريس، بمشاركة كبار قادة أوروبا، بعد أن "دافش" كبار القوم في العالم، وضايق من حوله، ومن أمامه، ليحشر نفسه في الصف الأول، ويبتسم، ويلوّح للجماهير العريضة، دون كل الرؤساء، والذي رفع من منسوب حراكه وتصريحاته المتعلقة بمجزرة "شارلي" إلى مستوى غير مسبوق، قاد جوقة سياسية ودبلوماسية وإعلامية استنفرت كل طاقتها للاستثمار في الحدث الذي اعتبره البعض بمثابة 11 أيلول جديد. غير أن الملفت هو أن هذا الرهط الإسرائيلي من ممتهني الكذب والرياء والنفاق والتجارة في الدماء، لم يكلف نفسه عناء اجتراح خطاب جديد يتناسب وبعض الحقائق التي بات الالتفاف عليها مستحيلاً، حيث ما زال يصرّ على مخاطبة الشعوب الأوروبية بذات المصطلحات والعبارات العنصرية "الاستشراقية" التي طالما استخدمها الاستعمار القديم لتبرير احتلاله أراضي الآخرين ونهب ثرواتهم، كزعم نتنياهو، على سبيل المثال، بأن الهدف الأساسي لـ"الإرهاب الإسلامي" هو "إبادة مجتمعاتنا ودولنا، واقتلاع حضارتنا الإنسانية التي تستند إلى الحرية، وبدلاً منها فرض حكم استبدادي متعصب"، وأن "نفس القوى التي تهاجم أوروبا تهاجم أيضاً إسرائيل التي تقف مع أوروبا. وعلى أوروبا أن تقف مع إسرائيل"، واعتبار وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، بعد دعوته يهود فرنسا إلى الهجرة لإسرائيل، أن "قادة العالم باتوا اليوم يدركون بأن التهديد الإسلامي المتطرف هو تهديد صادر عن أناس لا يتقبلون قيم العالم الحر، لهذا يعملون في الشرق الأوسط ضد إسرائيل لأنهم يعتبرونها ممثلة العالم الحر".. على حد زعمه.

في السياق ذاته، وعلى الرغم من توجيه دول أوروبية عديدة انتقادات تجاه تنامي العنصرية الإسرائيلية وسياسة الأبارتهايد ضد الفلسطينيين، اعتبر رئيس الكيان الإسرائيلي رؤوفين ريفلين، أن كيانه يقف "سوية مع فرنسا في إصرارها على الدفاع عن حرية التعبير وحرية الصحافة" علماً أن الصحافة في إسرائيل تبث أجواء عنصرية وأكبر مدافع عن الاحتلال، فيما انتقد وزير الاقتصاد نفتالي بينيت(البيت اليهودي)، مشاركة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في مسيرة باريس بزعم أنه "يموّل الإرهاب"، وادّعى مراسل "معاريف" في باريس، غدعون كوتس، أنه تدور "حرب بين البربرية والحضارة"، وأن "القتلة أثبتوا أن من اعتقد أن الحديث يدور حول استيراد الصراع بين شعبين أجنبيين من الشرق الأوسط، فإنه مخطئ". لا بل ووصل الأمر بالمعلق السياسي في "يديعوت أحرنوت" إيتان هابر، إلى حد اعتبار أن المعادلة، بعد الحدث الفرنسي، هي "إما نحن، الأوروبيون والإسرائيليون وكل من ينشد الحرية والديمقراطية، أو هم، المسلمون"!.

بطبيعة الحال، يمكن ببساطة اكتشاف أوجه الشبه البارزة ما بين هذا التسويق المبتذل للرؤية والإستراتيجية الإسرائيلية أوروبياً، والذي يستبطن احتقار وتسفيه عقل ووعي وإدراك المواطن الفرنسي المتضرر بشدة من سياسات بلاده الداعمة للإرهاب في المنطقة العربية خلال السنوات الأربع الماضية، وبين خطاب "داعش" الموجه لأنصارها ومؤيديها. ومع ذلك، ثمة خشية قائمة من إمكانية توظيف إسرائيل، عبر أدواتها السياسية والاقتصادية والإعلامية ومراكز النفوذ في تجمعات يهود القارة العجوز ذات التأثير على السياسات وعلى توجيه الرأي العام، لأحداث باريس وما تلاها من تنامي "الإسلاموفوبيا" في كافة الدول الأوروبية لإعادة النظر في المتغيرات الوازنة التي انتظمت حول اعتبار الدولة العبرية دولة الإرهاب الأولى في العالم، والنظر إلى الشعب الفلسطيني كضحية أولى لهذا الإرهاب، وحرف الأنظار، بدعوى الحرب على الإرهاب، عن هذا الإرهاب الإسرائيلي، باتجاه مصطلح "الإرهاب الإسلامي" و"الإرهاب العربي"! ولعل الأكثر إثارة للانتباه، في هذا الصدد، لم يكن فقط ما أعلنه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، بعيد لقائه الرئيس فرنسوا هولاند، من أن "الرجال المتحضرين عليهم أن يتّحدوا للرد على البربرية"، وإنما أيضاً تصريح الملحق الثقافي في السفارة الفرنسية في تل أبيب بأن "حرية اليهود مهددة كما هي حريتنا، وهذا ما أثبته الهجوم الإرهابي في باريس"!!   

الدور الإسرائيلي.. والتساؤلات المشروعة

ولأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته، ومعظم أطياف الطبقة السياسية ووسائل الإعلام العبرية، أصرّوا على مواصلة الرقص في حلبة الإرهاب الذي بدأ يجول شبحه في أوروبا، انطلاقاً من البوابة الفرنسية، وعلى الظهور بمظهر من يقف في ذات الحلبة الغربية في مواجهة "المتطرفين المسلمين"، كان لا بد من طرح العديد من التساؤلات المشروعة حول حقيقة الموقف والدور الإسرائيليين في الحدث الفرنسي وما بعده، واللذين يتجاوزان، بالتأكيد، محاولات الكسب الرخيص من عمليات الإرهاب وتحقيق انجازات انتخابية شخصية، ويعيدان إلى الذاكرة، وبصرف النظر عن بلاهة النقاش المتعلق بنظرية المؤامرة، ما قام به قادة المشروع الصهيوني الأوائل الذين صنَعوا وموَلوا عمليات الإرهاب ضد اليهود في أوروبا، وبالأخص في ألمانيا النازية, وكذلك ضد الجاليات اليهودية في المغرب ومصر والعراق قبل وبعد عام 1948، وهي خلايا ثبت أنها يهودية على صلة بمنظمات صهيونية مسلحة, وذلك بهدف تسريع وتيرة الغزو الصهيوني – اليهودي لفلسطين، وإقامة دولة الاحتلال الاستيطانية على أنقاض وجود وحقوق أصحاب الأرض الأصليين.

ما يسوّغ هذه التساؤلات التي تزكّيها الرغبة الإسرائيلية في الانتقام من موقف باريس من مشروع قرار إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وقيام دولة فلسطينية مستقلة، وإظهار السياسة الفرنسية، عبر دعوة يهود فرنسا إلى الهجرة نحو إسرائيل، وكأنها منافقة تحولت إلى ممالأة العرب والمسلمين على حساب إسرائيل واليهود، فضلاً عن ارتفاع وتيرة إرهاب وجرائم عصابات "داعش" و"النصرة" و"القاعدة", واستهداف كنس ومتاجر يهودية في أوروبا. ما يسوّغ ذلك هو تلك الفوضى غير المسبوقة التي تجتاح المشهد الدولي والإقليمي ولوحة الصراعات الدموية التي ترسم ملامح النظام العالمي الجديد، وحالة عدم اليقين حيال مستقبل الدولة العبرية التي توقعت وثيقة سرية وزعتها الخارجية الإسرائيلية على بعثاتها الدبلوماسية في الخارج، زيادة عزلتها في العالم، وخاصة في أوروبا، مع التوجه لزيادة المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية والأمنية على الدولة العبرية.

محور التوجس الأساسي من الدور الإسرائيلي الذي بدأ يلوح في الأفق مع الوصول  المبكر لطواقم من جهازي "الموساد" و"الشاباك" إلى باريس للمشاركة في التحقيقات، ولاسيما في استهداف مركز تجاري يهودي، ولتعزيز حراسة المؤسسات الإسرائيلية، والمساعدة في تقديم المشورة لنظرائهم الفرنسيين، يتعلق أساسا بتجدد دعوة نتنياهو يهود فرنسا للهجرة إلى إسرائيل، حيث تم تحميل هذه الدعوة التي أرفقت بالإعلان عن خطط التوسيع المستوطنات القائمة لتوطين المهاجرين اليهود المفترضين من فرنسا دون أي اعتبار للمواقف الرسمية الفرنسية التي عبرت عن استيائها من وقاحة وغطرسة رئيس الوزراء الإسرائيلي، على أجنحة حملة شعواء لخلق من الذعر والخوف في أوساط شعوب وحكومات أوروبا من عرب ومسلمي القارة العجوز الذين تجري عملية "شيطنتهم" وتحميلهم، ككتلة بشرية كاملة، مسؤولية أعمال الوحوش الإرهابية التي ساهمت إسرائيل وفرنسا في تصنيعها ودعمها واستخدامها كأداة في السياسة الخارجية.

ربما يكشف القادم من الأيام أدلة ومعطيات وقرائن جديدة حول الدور الإسرائيلي في الإرهاب الذي بدأ بالتمدد في أوروبا. ولكن حتى ذلك الحين يرجح أن يواصل الإعلام العبري حملته القائمة على اعتبار أن "المشكلة الأساسية لليهود في فرنسا، وبشكل جوهري باقي الفرنسيين "القدماء" المسيحيين"، هي المسلمون المصرون على تغيير طابع الثقافة والحياة العلمانية الديمقراطية في فرنسا وفي أوروبا". اليوم، يعدَ المسلمون نحو 8% من السكان في فرنسا، ومعدلهم يزداد من سنة إلى سنة. قسم كبير منهم يرفض أن يستوعب في الثقافة الفرنسية؛ القيم العلمانية غير مقبولة من جانبه. وهو مظلوم اقتصادياً واجتماعياً. في الهوامش تجده يدمن الأصولية والإرهاب. وبما أن "التزايد الطبيعي للفرنسيين الأصليين يساوي صفراً، بينما التزايد الطبيعي للمسلمين عالٍ جدا والهجرة الإسلامية متواصلة التدفق على فرنسا، فلا حاجة للإرهاب من اجل احتلال البلد من الداخل، ومع الأيام احتلال الحكم"!!.

بعيداً عن كل هذا الهراء المثير للسخرية، وعلى الرغم من المشهد المعقّد الذي يصعب التنبؤ بما بعده، يمكن التقدير بأن "الصحوة" الثقافية والسياسية والأخلاقية" في أوساط الشعب الفرنسي، ومعظم شعوب أوروبا، حيال الصراع العربي- الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، والتي عبَرت عن نفسها بمقاطعة منتجات المستوطنات الصهيونية، ومقاطعة الجامعات والتبادل الثقافي، والاهتمام المتزايد بالرواية والرأي الفلسطيني، وتوالي الاعترافات في برلمانات الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية، ناهيك عن تصويت باريس لصالح فلسطين في مجلس الأمن. إن هذه الصحوة هي محاولة جدَية، ذات بعد تاريخي، لإعادة الاعتبار للثقافة والرسالة الحضارية التنويرية التي قدمتها فرنسا للعالم، ولشعارات الحرية والإخاء والمساواة والعدالة، وللثورة الفرنسية التي شكلت نقطة التحول الكبرى بين النظام الإقطاعي القديم والثورة الصناعية البرجوازية ونشوء الدولة القومية الحديثة. وربما، نحن العرب الذين نكتوي بنار الإرهاب المصنّع غربياً، والمدعوم إقليمياً من قبل الدول الحليفة للولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، لسنا بحاجة لتكرار إدانة هذه الجريمة الوحشية التي تلخص العلاقة العضوية بين الإمبرياليين والفاشيين من مختلف الأصناف والأشكال، واعتبار أن المسؤولية السياسية لهذه المذبحة، وما يمكن أن يتبعها من أعمال إرهابية، تقع على عاتق الحكومة الفرنسية وحلفائها، وهي نتيجة حتمية للسياسات الداعمة للإرهاب في مختلف أنحاء العالم العربي، وأن المواجهة الحقيقية والمجدية للإرهاب الذي بدأ يجول في أوروبا، تستدعي إجراء مراجعة شاملة لسياسات حكومات القارة العجوز، وبالأخص الحكومة الفرنسية التي شكلت رأس الرمح الأوروبي في دعم الإرهابيين في المنطقة، والتملص من شباك التبعية للسياسة الأمريكية، والتوجه الفعلي الملموس والجدّي لمحاربة وهزيمة الإرهاب والإرهابيين، بمختلف أنواعهم ومسمياتهم.

كاتب فلسطيني(*) 

اعلى الصفحة