الثورة الإسلامية الإيرانية
"36" عاماً من الإنجازات والانتصارات

السنة الرابعة عشر ـ العدد 158 ـ (ربيع الثاني 1436 هـ) شباط ـ 2015 م)

بقلم: معين عبد الحكيم*

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

مما لا شك فيه إن أول ما يتبادر إلى الذهن حين يحتفل نظام سياسي ما بذكرى انتصاره، هو السؤال عن النمو والنماء في عمره الزمني، ويضاف إليه عمره العقلي أو المعرفي.. ثم يُنسب هذا إلى ذاك ويقاس عليه في حساب الجمع والقسمة، ويحكم على محصلته في نتيجة العملية الحسابية، ويحول الكيف إلى كم في عملية القياس لتصدر النتائج المترتبة عليه. نعم، يحصل كل ذلك في الذهن البشري، لأن أحوال الدول والممالك أعمار.

هكذا عرّفها صاحب المقدمة الشهيرة عبد الرحمن بن خلدون ووافقه عليها المؤرخون، وأضحت الذاكرة الإنسانية مليئة بلائحة تشبه جردة الحساب مع هذه الدولة أو تلك. وعادة ما تقدم حسنات النظم والممالك في متن الذكريات، فيما تنبت الأخطاء على هامشها كأعشابٍ طفيلية على جنبات الحدائق..

ما الذي تقوله الذاكرة الحية ويقوله حساب الزمن في عمر الجمهورية الإسلامية في إيران وهي تحتفل بذكرى انتصارها، وقد بلغت من عمرها الزمني والعقلي ستة وثلاثين عاماً؟ والذاكرة في هذا المحل تشبه ما ذهب إليه برغسون من الدفق الحيوي للروح، ويصبح معها عمل المؤرخ السياسي أو الذاكرة التاريخية، دور تحويل هذا الكيف من الدفق الحيوي للروح إلى كمٍ متراكمٍ من الأعمال والسياسات في حقول الحياة العامة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والعلمية، تكون محل فحصٍ واختبار لكل صاحب علم في موضوعه وميدان علمه، يشغل فيها مناهجه وأدواته وتقنياته، يستخلص النتائج ويقدّم محصلتها العامة.

من أين يبدأ الناظر في هذه الخارطة الواسعة من السياسات والأعمال؟ وكيف يحدِّدها في منهاج قياسي ويحوّل كيفها المتغيّر إلى كم متراكم، ثم يصدر أحكامه نتائج قولية محكومة بحساسية اللغة؟ وهل نجد سبيلاً إلى أحكام موضوعية لا يدخل فيها العامل الذاتي محوراً ومعدلاً وموجهاً؟ وأين يكون لباحث في تاريخ معاصر من شهود على تاريخ أصلي لا يزال محل تطور وتحوّل، وبعض أحداثه ووقائعه لا تزال في سياق مسارها التاريخي لم تبلغ نتائجها، أو هي على طريق الوصول إليها بعد وقت قريب؟.

نظام ثابت الأركان

تقول ذاكرة الحاضر إن الجمهورية الإسلامية في إيران نظام سياسي وثقافي ثابت الأركان، وتداول السلطات فيه يحصل وفق دستور مؤيد من الشعب، ومستفاد من الشرع، ومستفيد من النظريات الدستورية المعاصرة، الأمر الذي يجعل منه تطبيقاً خلاقاً لنظرية الحكم في الإسلام، أعطاها الاجتهاد الفقهي في محله سمة المعاصرة والتعايش مع أنماط أخرى من الحكم في حوار وتعاون متبادلين. وإن المؤسسات الدستورية تعمل وفق هذا النظام باستقلال وتعاون يسمحان بانطلاق جهاز إدارة شؤون البلاد ودفعها في طريق النمو المطّرد والتقدم الواثق.. السلطات فيها منفصلة ومتصلة، وذات استقلال وسيادة وفعالية في نطاق عملها الخاص. ولا يعني ذلك عدم وجود عقبات ولا نشوء أزمات، بل لعل العقبات والأزمات جزء من فعل المؤسسات وإشكالية العمل وطبيعة الإدارة، ويمكن وصف هذا الشكل من الإدارة في الحكم بالحرية والديمقراطية والعدالة، والنظر إلى السياسة في نطاقها كعمل شرعي (سياسة شرعية)، وفي نطاقها كعلم قائم بذاته (سياسة وضعية).. الأولى تقوم بدور الأساس للبناء، والأخرى تقوم بدور الآلة للبناء، أو علم البناء وفنّه. وإذا تعددت المصادر بتعدد الخصائص، صار الاجتهاد موضع الإبداع الخلاق في العمل السياسي، وصارت موضوعات من نوع العلاقة بين الموالاة والمعارضة جزءاً تكوينياً في العملية السياسية. ولذلك تتصاعد أصوات الضجة في المشهد السياسي الإيراني، كما هي الحال في موضوع انتخابات البرلمان، لتكشف في دائرة الحوار الذي يشبه التفكير بصوت عالٍ، مستوى ما بلغه المشهد من ممارسة حرية الرأي وقواعد اللعبة الديمقراطية.

استطاعت إيران أن تواجه كوارث الطبيعة وكوارث السياسة الدولية المضطربة، بقدرة لافتة على حفظ الذات والمحافظة على الآخر. وأعطاها هذا التصرف العقلاني والمعتدل القدرة على إيجاد التوازن واحتمال الصدمات، الأمر الذي يكشف عن صحة وعافية في بنيانها السياسي وقوة عناصر الممانعة، وتعدد مصادر هذه القوة في طاقات الأمة، وحسن إدارة الأزمات في الأزمنة المريحة والصعبة على السواء.

يكشف الحاضر الإيراني عن مشهد ثقافي متعافٍ صاخب بالحوار، منفتح إلى أبعد الحدود، مقاوم إلى مجال الحفاظ على العقيدة ومنطلقاتها الأساسية، متحفّز لقبول التحديات الثقافية، متفاعل معها، وقادر على تقديم حلول ومسارات في عالم الثقافة المتنوع والخصب، بما يتناسب وحضارة الإسلام ورسالته الثقافية الكبرى.. وكذلك مع ما يتناسب وثقافة إيران كأمة عريقة أنتجت ثقافتها الإسلامية ذات الخصوصيات المعروفة في التاريخ الإسلامي والحضارة الإنسانية.

أكثر من ثلاثة عقود من عمر الجمهورية الإسلامية، جسر بين قرنين، وجسر بين الماضي والمستقبل، ولحظة حاضر ثري، يشبه لحظات الانتظار الكبرى في تاريخ الإنسان للوصول إلى الخلاص، إلى العدل مقابل الجور، والطمأنينة مقابل القلق. وإذا ما وجدت في الحاضر منغصات فهي من قبيل المحفزات لنظام يثبت أنه في عمره الزمني يتمتع بالقوة والفتوة والعافية، وفي زمنه المعرفي يقف على جسر الأمل من أجل مستقبل أكثر سعادة للإنسانية.

إذاً إيران أصبحت في تطلعاتها وتوجهاتها أقرب إلى القضايا العربية والإسلامية على عكس ما كانت عليه سابقاً في عهد الشاه الذي يعتقد أن إيران لا علاقة لها بالعالم العربي والإسلامي، كان هاجس الشاه أن يستقطع هذا الجزء ـ إيران ـ من العالم الإسلامي ويلحقه بالغرب.

الثورة الإسلامية جاءت لتعكس هذا التوجه، بعد هذا التحول الكبير ـ أي بعد أن انتقلت إيران إلى هذا الموقع الجديد ـ أصبح هذا البلد بكل ما يمثل من إمكانيات وتطلعات ومن قوة إقليمية يقف إلى جانب الشعوب الإسلامية والعربية، وأصبح النظام قائماً على أساس ديني، وأخذ على عاتقه أن يرسي قواعد العدالة الاجتماعية داخلياً، وأن يتواصل مع الشعوب المظلومة والمستضعفة ـ بوحي من فلسفة العدالة التي أشرنا إليها ـ كأساس من أساسيات السياسة الخارجية.

اليوم إيران وبعد انقضاء ما ينوف عن ربع قرن هي أصلب عوداً داخلياً وخارجياً، ونستطيع القول إن الثورة بلغت سن النضج، واليوم إيران والثورة الإسلامية في مرحلة البلوغ، ولذلك فإن تعاملها مع الخارج والداخل ينطلق من أسس مبدئية أرستها أفكار الثورة، وتتعامل مع الوسط الإقليمي بطمأنينة أكثر من الماضي.

ونسأل: بعد "36" عاماً على انتصار الثورة الإسلامية في إيران، كيف هو واقع الجمهورية الإسلامية في إيران على ضوء التحولات التي شهدتها هذه الثورة؟

في الواقع، الأعوام الـ"36" السابقة أخذت الجمهورية الإسلامية إلى الموقع المختلف عن الموقع السابق لعهد الثورة. فإيران، كبلد كبير يتمتع بموقع جغرافي وسياسي واستراتيجي مهم، ويمتلك ثروات كبيرة، أكبرها الشعب الإيراني بحد ذاته، كانت بعيدة عن الفعالية والحيوية والتأثير بسبب التبعية للغرب في العهد البائد، هذه التبعية التي جعلت منها ذيلاً لأمريكا وللدول الغربية، وقد استطاعت الثورة أن تنهي هذه التبعية بقضائها على النظام الشاهنشاهي، حيث نقلت إيران إلى موقع آخر على الخارطة الدولية، وهو موقع متميز باعتراف الجميع، والسبب الأساسي أنها ـ أي الثورة ـ أخرجت إيران من هذه الدائرة الاستكبارية ونقلتها إلى الدائرة الإسلامية والعربية، وكانت أول إشارة بالغة الدلالة هذا التحول الحاصل في إيران هي إنزال العلم الإسرائيلي ورفع العلم الفلسطيني مكانه..

الرؤى الحضارية للدستور الإيراني

هل هناك علاقة بين الأيديولوجية والنظرة الكونية؟. وما هي أبعاد هذه العلاقة؟  ما موقف المنطق البشري منها؟ وما موقف الإسلام ودستور الجمهورية الإسلامية في إيران منها؟ من الذي بيده السلطة التشريعية في النظام الإسلامي؟ ما هي أهداف الدولة الإسلامية وما هي أسسها وخصائصها؟ ما موقع الولي الفقيه في السلطة. وما هي صفاته وحدود سلطاته؟ ما هو دور مجلس الشورى في بناء الدولة وأعمالها؟ ما هي حقوق الشعب في الجمهورية؟

أسئلة كثيرة وكثيرة يجيب عنها دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الذي يتحدث كتاب الرؤى الحضارية عن جوانب متعددة منه, وذلك من خلال مجموعة من الأبحاث التي قدمت لمؤتمر الرؤى الحضارية لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية, الذي عقدته سفارة الجمهورية الإسلامية بدمشق, خلال الفترة من 19-20/3/2000م.

لقد شكل هذا الدستور أحد المكاسب الرائعة للثورة الإسلامية في إيران. حيث امتازت هذه الثورة بأنها سعت سعيها الجاد للوصول إلى وضع دستوري مستقر, فلم تمض سوى ثلاثة أشهر على نجاحها حتى وضعت اللبنات الأولى للدستور الإسلامي, واتبعت ذلك بالاستفتاء العام على صيغة الدستور المقترحة, مما يمكن القول معه بأن هذه الثورة الإسلامية لم تر في تاريخها دستوراً مؤقتاً كما هو الحال في كثير من التحولات الأخرى.

إن أول سمة لدستور الجمهورية, هو أنه مستمد من الدين الإسلامي مباشرة فقهاً وتشريعاً وأحكاماً وكذلك من السنة النبوية الطاهرة, وهو في آن مزين بأروع خصائص الأنظمة الديمقراطية في عالمنا الحديث.

في البدء يفاجئ المطالع للدستور بخصوصيته, حيث أن هذا الدستور يقدم نفسه محاولة نادرة لتقنين الأحكام الخاصة بتنظيم الدولة الإسلامية وتحديد هويتها ووضع كل ذلك موضع التنفيذ. وبكلمة أخرى فإن الدستور الإسلامي قد نقل الأفكار الإسلامية المتعلقة بالحكم وفقه الدولة من القوالب النظرية إلى القوالب المقننة المعدة للتطبيق, وذلك من أجل تحويل المبادئ والقواعد الإسلامية من بطون الكتب إلى الممارسة اليومية العملية, ومن هنا يبدو المعلم الأول في ثورية الدستور, حيث انه ترجم إرادة الثورة في التغيير فأجهز على الأشكال والهياكل وحدد المضامين الجديدة, وهو تغيير شامل أصاب الأوضاع الدستورية المنهارة في أوصالها كافة فضلاً عن الصميم.

ولعل أولى الملاحظات المهمة التي تدرج في المناسبة هي المتعلقة بشكل الدستور الإسلامي عموما وأسلوب تناوله للموضوعات المختلفة. ويأتي في مقدمة هذه الملاحظات ((الفنية)) اشتمال النص الدستوري على استشهادات من نصوص مصادر الشريعة الإسلامية الرئيسية. وهذا بالتحديد ما يعطي دستور الجمهورية الإسلامية في إيران طابعه الخاص. أما من الناحية اللغوية فإن الدستور استخدم مصطلحات وتعبيرات إسلامية دخلت في صياغته بشكل طبيعي سلس وبشكل مكتنز بالمعاني. وعلى الرغم من أن بعض هذه المصطلحات والتعبيرات مستعمل بشكل أو آخر في النصوص القانونية والدستورية الوضعية, إلا أنها تتخذ هنا من خلال الإطار العام والسياق الذي وردت فيه, معاني خاصة بفكر الحركة الأصيلة الصاعدة, بينما كان القسم الأخر من هذه المصطلحات والتعبيرات جديدا تماما على الصياغات الدستورية. ومن الجدير ذكره أن أحكام الدستور, موضوع قراءتنا، تتوزع على فصوله الأربعة عشر التي يمكن التطرق لها بإيجاز:

1- الأصول العامة لنظام الجمهورية الإسلامية في إيران, وخصص لها الفصل الأول الذي يحتوي على أربع عشرة مادة. وقد تناول هذا الفصل القاعدة الإيمانية للنظام وسبل تحقيق أهداف المجتمع المسلم, كما تطرق إلى دور الموازين الإسلامية في ضبط وتوجيه مقررات وحركة الدولة مشيرا إلى موقع ولاية الفقيه ومبدأ الشورى في ذلك، كما تحدث عن دور الفرد والأسرة والدولة والأمة بطوائفها وأقلياتها.

2- اللغة والخط والتاريخ والعلم, وقد تناول أحكامها الفصل الثاني في المواد من (15الى 18) فبين أن اللغة الرسمية هي  الفارسية وأن اللغة العربية, باعتبارها لغة القرآن والمعارف الإسلامية, ولأن آداب اللغة الفارسية متداخلة معها بشكل كامل, لذلك يجب تدريسها بعد المرحلة الابتدائية بحيث تصبح لغة رسمية في المرحلة المتوسطة والثانوية، في جميع الصفوف وكافة الحقول الدراسية. 

  ولو دققنا النظر في موضوعات هذا الفصل, لاسيما الاهتمام باللغة العربية, لوجدنا لذلك ارتباطا وثيقا بعنوان النظام وبالأساس العقائدي للدستور وفي ذلك دلالة واضحة الأهمية, وذلك ما جعل هذه الأحكام تسبق غيرها.

3- حقوق الشعب، تناولها الفصل الثالث في المواد من (19 إلى 42), فتطرق إلى مبدأ المساواة في الحقوق وعن ضمانات هذه الحقوق بالنسبة لأفراد المجتمع, ذكوراً وإناثاً, وبصرف النظر عن انتماءاتهم القومية،كما أشار إلى أنواع الحقوق من سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وقضائية وغيرها.

4- المسائل الاقتصادية والمالية، تناولها الفصل الرابع في المواد من (34 إلى 55), فبين القواعد الأساسية لاقتصاد البلاد, وأشار إلى دور القطاعات الثلاث: الحكومي والتعاوني والخاص, وتطرق إلى مسائل أخرى. ويبدو أن هذا الفصل وثيق الصلة بحقوق الشعب التي جرى تثبيتها في الفصل السابق.

5- حاكمية الشعب والسلطات الناشئة عنها, حيث تولت بيانها الفصول التالية, أي من الفصل الخامس حتى نهاية الفصل الرابع عشر, فأكدت على الحاكمية المطلقة لله سبحانه وتعالى, ثم تدرجت المواد في بيان حق الحاكمية الممنوح للإنسان على مصيره الاجتماعي وما ينجم عن ذلك من مراكز قانونية وسلطات, ودور الأطراف المختلفة التي تمارس حق الحاكمية.

ونحن في بحثنا عن حقوق الإنسان في هذا الدستور الفريد من نوعه سوف لا نجد كبير عناء في فهم القيمة العالية التي يخصها الدستور لحقوق الإنسان, وذلك حينما نقرأ القسم الأول من المادة الثانية التي تعدد أسس نظام الجمهورية الإسلامية فتجعلها ستة, تبين في الخمسة الأولى وبتعبيراتها الخاصة أن أسس النظام هي في الحقيقة أصول الدين نفسها, من توحيد وعدل ونبوة وإمامة ومعاد, بينما تبين أن الأساس السادس للنظام هو ((الإيمان بكرامة الإنسان, وقيمته الرفيعة, وحريته الملازمة لمسؤوليته أمام الله)).

التنمية الاقتصادية

ربما تكون التنمية الاقتصادية هي المكمن الأساسي لأي نظام سياسي ـ اجتماعي يريد أن يرقى بمجتمعه ليكون منافساً أو نموذجاً يُحتذى به على المستوى الدولي، أو يلقى قبولاً عند شعبه يضمن له البقاء والاستمرار. وعليه فإن نظام الجمهورية الإسلامية في إيران غير مستثنى من دائرة السؤال عما أُنجز في هذا المجال، وهل استطاع النظام الإسلامي في إيران حل المشكلات الاقتصادية والسير في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية قدماً إلى الأمام، أم أن الواقع غير ذلك؟!

لم تكن التجربة الاقتصادية في إيران منفصلة عن تجربة النظام سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فقد سعى النظام الإسلامي إلى تقديم نظام اقتصادي مبني على أحكام الإسلام، وبعيد في مبانيه الفكرية عن المذهب الرأسمالي والاشتراكي آنذاك، حيث اعتمد في هذا المجال على الملكية المختلطة التي تجمع بين ملكية الدولة وملكية الأفراد للموارد بشكل أصيل من دون تغليب طرف على آخر. كما كان هناك تحريم للفائدة كعائد على رأس مال، وإحلال العقود الإسلامية: (المضاربة، المساقاة، المزارعة) بديلاً لها، حيث تتم المشاركة بين العمل ورأس المال بنسبٍ يُتفق عليها.

بناءً عليه وُجد نظام مالي ومصرفي مغاير لما كان عليه قبل الثورة، حيث كان الفكر الليبرالي والمذهب الرأسمالي حاكماً على الحياة الاقتصادية.

استطاع النظام الإسلامي في إيران إحداث تغيير جوهري في التوجه العام والسياسات الاقتصادية العامة على أساس الفكر الإسلامي، وسعى إلى تقديم نموذج اقتصادي مغاير لما كان سائداً آنذاك.. وإلى اليوم.

كان أول عمل لا بد من القيام به لتحقيق تلك الأهداف هو تغيير القوانين الاقتصادية بما يتلاءم مع المذهب الجديد والنموذج المقترح. وكان هناك ما يسمى بخطة التعديل والتثبيت الاقتصادي التي ترتكز على المبادئ التالية:

- تحرير الاقتصاد من الارتهان إلى الغرب، أو بتعبير اقتصادي تقليل الاعتماد على الواردات من الخارج (وخاصة أمريكا وأوروبا)، والسعي نحو زيادة الصادرات.

- الاكتفاء الذاتي في مجال السلع الأساسية مثل القمح والأرز وغيرها من السلع التي تعتبر استراتيجية وحيوية لبقاء أي بلد.

- التطور التكنولوجي والعلمي بما يؤدي إلى التطوير الصناعي ودخول الاقتصاد في حلبة المنافسة مع الاقتصاديات الأخرى في مجال الصناعة والتكنولوجيا.

- التقليل من الاعتماد على النفط كجزء كبير من الدخل القومي.

- الاستثمار في العنصر البشري باعتباره أهم عامل من عوامل التنمية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال إنشاء المدارس والجامعات وربط ذلك بسوق العمل، بما يخدم التطور الصناعي والتكنولوجي.

لم يكن يعني تحرير الاقتصاد من الارتهان للغرب هو أن لا يكون هناك تبادل تجاري بين إيران من جهة وأمريكا وأوروبا من جهة أخرى، بل كان المقصود هو تنمية الاقتصاد المحلي حتى يستطيع المنافسة في مجالات متعددة.. هذا من جهة، والسعي لاستقطاب الاستثمارات لتنمية الكفاءات واليد العاملة الداخلية وكسب الخبرة في مجالات الإدارة والمشاريع بما يخدم عملية التنمية من جهة أخرى، ومن دون أن يكون هناك اختلال في ميزان المدفوعات لمصلحة الأجنبي.

ولكن الحرب المفروضة التي دامت ثماني سنوات أرهقت عملية التنمية وأخرتها، باعتبار التشريعات الاقتصادية التي ترافق مراحل كهذه تكون استثناءً. فعلى سبيل المثال تضخم الكتلة النقدية وما أدى إليه من ارتفاع في الأسعار ـ بعد الحرب ـ تعميق الاعتماد على النفط باعتباره المصدر الأساسي لدخول الدولار، وبالتالي إمكانية شراء الأسلحة وما يلزم للحرب.. تخريب كثير من البنى التحتية: (محطات الكهرباء، مصافي البترول وغيره)، الحصار الاقتصادي الذي استنزف الكثير من الموارد الداخلية، وما إلى ذلك من المشاكل التي استمرت إلى ما بعد الحرب.. بعد تلك الفترة كان لا بد من اعتماد سياسات لها وجهتان: الأولى هي التخفيف من آثار الحرب وإعادة النهوض إلى مرحلة الحد الأدنى، والوجهة الثانية هي وضع الأسس العملية والسياسات الإجرائية للنظام الاقتصادي الإسلامي، ولتحقيق الأهداف السابقة الذكر.

لقد استطاع النظام الإسلامي من خلال الخطط الخمسية أن يسير بشكل سريع لتحقيق الأهداف المذكورة. ففي مجال تحرير الاقتصاد صحيح أن الاقتصاد الإيراني لم يستطع أن يزيد الصادرات بشكل كبير جداً، ولكن دعم الصناعة والزراعة أدى إلى تنمية هذين القطاعين، ما أدى إلى استيعاب السوق المحلية واعتمادها على ذاتها، أي أصبح لها قدرات تنافسية في الداخل. وعلى سبيل المثال صناعة الأدوية، الألبسة، المعدات الطبية، القطاعات الكهربائية، كذلك في مجال صناعة السيارات وما يستتبعها من صناعات مكملة، صناعة السلع المعمرة مثل البرادات والغسالات، الأدوات والمعدات التي تدخل في إنتاج سلع أخرى وغير ذلك.

هنا تجدر الإشارة إلى أن السياسات المتبعة أدت إلى تطوير القطاع الخاص المحلي أيضاً حتى يكون منافساً للاستثمار الأجنبي. ففي الخطة الخمسية الرابعة وضع قانون للاستثمار الأجنبي في إيران خلاصته هي جذب الاستثمار الأجنبي للمساهمة في رفع البطالة، مع تأكيد أولويات جذب القطاع الخاص الداخلي وتفضيله (من خلال القوانين والتشريعات وإعطاء الحوافز) على المستثمر الأجنبي (تجربة مطار الإمام الخميني الدولي).

أما بالنسبة إلى تنمية العنصر البشري الذي هو الأصل والهدف لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فقد تميز النظام الإسلامي عن غيره، فاعتبر أن الارتقاء بالمستوى العلمي والكفاءة والخبرة البشرية مطلوب بحد ذاته، بغض النظر عن التنمية الاقتصادية. من هنا كان العمل على نشر وإنشاء المعاهد والمدارس والجامعات بما يحقق كرامة الإنسان. وإلى جانب ذلك أيضاً كان السعي للمواءمة بين تحقيق ذلك الهدف والتنمية الاجتماعية والاقتصادية من خلال البرامج والخطط الخمسية. ولذلك كان عنوان تلك الخطط هو "برامج التنمية الاجتماعية ـ الثقافية ـ الاقتصادية للجمهورية الإسلامية في إيران".

وخلاصة الكلام، وبعيداً عن الأرقام، فإن النظام الإسلامي في إيران كما أنه طرح نظرية جديدة في الحكم تمثلت في حكم الشعب المبني على العقيدة الإسلامية أيضاً، يطرح نموذجاً آخر على مستوى التنمية الاقتصادية مبنياً على التنمية الاقتصادية والاجتماعية النابعة من سلوك الأفراد الإسلامي، (لأن الأصل في وضع نظرية اقتصادية هو دراسة السلوك الاقتصادي للأفراد).. وصحيح أيضاً أن ما هو مطلوب ما زال في طور التحقق، وأن المتابع لحركة وتطور الاقتصاد الإيراني يجد هناك تعثراً في بعض المؤشرات الاقتصادية، لكن المسلّم به هو أن النظام الإسلامي استطاع أن يعدل ويضع الاقتصاد الإيراني على الطريق الصحيح للتنمية. فنحن نجد أن هناك نمواً في الدخل القومي بشكل مطّرد، وهذا أساس التنمية الاقتصادية، ويسعى إلى تحقيق التنمية الدائمة (أو المستمرة) من خلال إيجاد التوزيع العادل للدخل القومي أو الثروة القومية، وعبر الاعتماد بشكل أكبر على القطاع الخاص وإتاحة الفرص أمام الجميع كل بحسب كفاءته، ومن خلال الخطوط العريضة التي تحفظ هذا التوازن وتحقق العدالة الاجتماعية:

1- المساواة في إتاحة الفرص.

2- القضاء على الفقر من خلال إعادة توزيع الدخل لمصلحة الطبقات المحرومة.

3- تقليل البطالة.

وهكذا: فإن الجمهورية الإسلامية في إيران اليوم, قوة سياسية إسلامية ودولية بارزة، استطاعت أن تحل المشكلات الداخلية في سياق من الحوار على كفة الأمان الداخلي وثبات أركان النظام، وأن تقيم سياسة خارجية ناجحة في عالم مضطرب قريب منها وبعيد عنها، وأن تتحول إلى لعب دور التوازن المستفاد من العقلانية السياسية والاعتدال الايجابي، في محيط إقليمي يزداد اضطراباً.. استطاعت إيران أن تخرج منه بمكاسب صريحة، وأن تطوق كل محاولات العزل والاحتواء السياسي والمحاصرة الاقتصادية والحملات الإعلامية والتهديدات الأمنية، لمصلحتها ومصلحة شعوب المنطقة الإسلامية المحيطة بها، وأن تنتقل إلى حمل مشروع إنقاذ عالمي من خلال الدعوة إلى حوار الحضارات والتعاون مع الغرب الأوروبي ونقد المشاريع الأمريكية في الإدارة الحالية للمنطقة الإسلامية، من دون أن تنجرّ إلى حروب مجانية، ولا إلى معاهدات مفروضة وغير عادلة، ومن دون أن تفرّط بالحقوق المشروعة.. كما تدعو إلى العيش العادل والأمن وحق التعاون والحوار بين الشعوب في عالم مضطرب، أحواله تبعث على القلق الدائم عند ساكنيه.

باحث في القضايا الإقليمية(*) 

اعلى الصفحة