تركيا بين العثمانية الجديدة والنظام الرئاسي وإنتاج التطرف

السنة الرابعة عشر ـ العدد 158 ـ (ربيع الثاني 1436 هـ) شباط ـ 2015 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

كان عام 2014 عام صعود رجب طيب أردوغان إلى قمة السلطة والدولة، وهو صعود عزز المخاوف من التحول إلى حكم الشخص الواحد، خصوصاً وأن هذا الصعود رافقه حرب مفتوحة ضد الخصم السابق فتح غولن ونهج إقصائي ضد المعارضة، وإجراءات عززت من قبضة حزب العدالة والتنمية على مؤسسات الدولة، إذ لم يؤثر مسلسل فضائح الفساد التي تفجرت في أوساط قيادة الحزب على فوزه بالانتخابات المحلية التي جرت في آذار/ مارس ومن ثم الانتخابات الرئاسية في آب/أغسطس والتي توجت أردوغان رئيساً للجمهورية متطلعاً إلى سلطات مطلقة.

تركيا دخلت العام 2015 على وقع صراعات سياسية داخلية، وتوترات مع الخارج، وتحديات كثيرة على رأسها مخاوف من انهيار اقتصادي، يأتي ذلك فيما الأنظار اتجهت مبكرا إلى الانتخابات البرلمانية المقررة في حزيران/ يونيو المقبل، ولعل السبب في ذلك هو ان هذه الانتخابات ستكون مصيرية للقوى السياسية التركية في المرحلة المقبلة، إذ ان البلاد لن تشهد من بعد ذلك بأربع سنوات أي انتخابات برلمانية أو رئاسية أو بلدية، وعليه، بدأت الأحزاب التركية من الآن معركة الانتخابات البرلمانية ومحاولة نسج تحالفات وسط حرب مستعرة بين الحكومة والمعارضة، فيما أردوغان لا يأبه بكل هذه التحديات، ماضيا في سياسته التي تتجه نحو تتويجه سلطانا مطلقا في ظل العثمانية الجديدة .   

أردوغان والعثمانية الجديدة

لا ينبغي النظر إلى قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تعليم اللغة العثمانية المكتوبة بالحروف العربية في المدارس التركية إلى أنه مجرد تعليم للغة الأجداد بقدر ما هو تعبير عن رؤية أردوغان لكيفية رؤية تركيا وهويتها الحضارية وخياراتها السياسية في المرحلة المقبلة، على شكل انتقال إلى الجمهورية الثانية بحلول عام 2023 أي في الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك. لكن العملية ليست سهلة، إذ أنها تتعلق بتغيير الوعي بالهوية الحضارية والثقافة ونمط التفكير والتعليم على شكل مواجهة مع إرث أتاتورك الذي ألغى عمليا ألف سنة من الكتابة باللغة العثمانية أو على الأقل حبسها في التاريخ الذي يتوق أردوغان إلى إحيائه، لطالما افتخر بحكم أجداده من السلاجقة والسلاطين العثمانيين. وعليه يمكن القول إن قرار أردوغان بتعليم اللغة العثمانية في المدارس ليس سوى استكمالٍ لقراره إعادة فتح المدارس الدينية التي تقول التقارير إن عدد طلابها بلغ قرابة مليون طالب بعد أن كان هذا العدد لا يتجاوز 50 ألف طالب عشية تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم في عام 2002 عقب فوزه الكبير في الانتخابات، ولعل الهدف الأساسي من هذا القرار هو الانتقال من الهوية التركية بمفهومها القومي الضيق الذي كرسه أتاتورك إلى العثمانية الجديدة التي تشكل فضاءً أرحب لهوية الدولة التركية التي يسعى أردوغان إليها، من خلال إعادة وصل ما انقطع من التاريخ بما يحمله هذا التاريخ من مكون اجتماعي وهوية ورموز، وعليه يمكن تفسير تركيزه على ضرورة إبراز مساهمة العلماء المسلمين في العلوم والثقافة والفكر بوصفهم يشكلون ذاكرة الأمة وهويتها، وليس من باب المصادفة أن يقارن أردوغان بين ابن سينا ونامق كمال مع غيرهم من العلماء والمفكرين في الغرب، ويثير الجدل بشأن من اكتشف أمريكا، هل هو كريستوفر كولومبس أم أن المسلمين اكتشفوها قبله بثلاثمائة عام؟

دون شك، اعتماد تدريس اللغة العثمانية يعني بطريقة أو بأخرى إعادة كتابة التاريخ وتعديل المناهج الدراسية والتخفيف من المواد التي تأخذ بالطابع الغربي للمعرفة والهوية من خلال التعليم، ولعل هذا ما يفسر إصرار أردوغان على التعليم باللغة العثمانية وعزمه المضي في دفع القرار إلى حيز التنفيذ، عندما قال لمعارضي القرار خلال مشاركته في أعمال مجلس الشورى الديني الخامس الذي عقد في أنقرة مؤخراً(انه سيتم التعليم باللغة العثمانية سواء شاء المعارضون أم أبوا). فتركيا التي تشغل مخيلة أردوغان في المرحلة المقبلة هي تركيا المتصالحة مع تاريخها العثماني مجتمعاً وثقافة ولغة وذاكرة ورموزاً، هي تركيا القوية التي تحمل الملامح السلطانية لقصره الجديد والذي يفتخر به أردوغان باعتباره مؤشرا لقوة الدولة ورمزا لها.

في الواقع، منذ تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا لم يتوقف الجدل بشأن العثمانية الجديدة داخل تركيا وخارجها، وذلك تعبيراً عن السياسة التي يتبعها الحزب في مقارباته للإيديولوجية والهوية والحضارية، فما هي حوامل العثمانية الجديدة؟ ثمة من يرى أن العثمانية الجديدة تعتمد على جملة من الحوامل والركائز لعل أهمها: 

1- الركيزة الجغرافية: إن من يتابع بوصلة السياسة التركية في عهد حزب العدالة والتنمية لا بد أن يرى أن هذه السياسة ركزت على الدائرة الجغرافية التي شكلت حدوداً للدولة العثمانية في السابق ولاسيما المنطقة العربية بعدما تم إهمالها طوال عهود الحكومات السابقة لصالح خيار (الأوروبة) باستثناء بعض المحاولات الخجولة التي جرت في عهد الرئيس الراحل تورغوت أوزال.

2- الهوية الحضارية الإسلامية: مع أن حزب العدالة والتنمية حرص في الداخل التركي على الابتعاد عن إظهار نفسه كحزب إسلامي والأخذ بالهوية الإسلامية كإيديولوجية، والقول إنه ملتزم بالأسس العلمانية للدولة وإظهار نفسه كحزب محافظ إلا أنه في ممارسته للحكم والسياسة لم يكن بعيدا عن السعي إلى أسلمة الدولة والمجتمع بشكل هادئ وتدريجي، ولعل سبب هذا الحرص الشديد هو تفادي الصدام مع المؤسسة العسكرية والقوى (العلمانية) التي كانت تهيمن على الحياة العامة في البلاد، فضلاً عن إتباع الآليات القانونية التي تجنبه التعرض للمحاكمة والحظر، كما حصل مع غيره من أحزاب الإسلام السياسي في المراحل السابقة.

3– البعد القومي: مع أن حزب العدالة والتنمية حرص أن يكون شفافاً في المسألة القومية من خلال إظهار البعد القومي بمفهومه العرقي كمكون ليس وحيداً للهوية التركية، فانه حرص في الوقت نفسه على إبراز أهمية هذا العامل في السياستين الداخلية والخارجية، ففي الداخل عمل عليه ثقافياً، وفي الخارج أبرز الاهتمام السياسي بالأقليات القومية التركية، سواء من خلال الاهتمام بالدول الآسيوية الناطقة باللغة التركية، أو دعم الأقليات التركية في الخارج ولاسيما الأقلية الايغورية في إقليم تشينجيانغ (تركستان الشرقية) في الصين، أو حتى إعطاء المزيد من الاهتمام بنشر اللغة التركية عبر زيادة مراكز التعليم فيها وإقامة العديد من المراكز الثقافية واللغوية.

4– الحامل السياسي: لم تكن نظرية صفر المشكلات التي طرحها رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو إلا تعبيراً سياسياً عن الانفتاح على الجوار الجغرافي بما يحمل هذا الجوار من تاريخ وثقافة وهوية حضارية مشتركة، ولعل حديثه أكثر من مرة عن إقامة كومنولث عثماني على غرار الكومنولث البريطاني كان تعبيرا عن تحرك السياسة في الجغرافية التي يعتقد أوغلو ومعه حزب العدالة والتنمية أنها تشكل الحدود التاريخية لفضاء العثمانية الجديدة.

لقد أثار مصطلح العثمانية الجديدة المزيد من الجدل في داخل تركيا وخارجها، فكلما اتخذ أردوغان قرارا يصب في هذا المصطلح اشتعل الداخل التركي مواجهة بين الحكومة والمعارضة، وفي الخارج ولاسيما في العالم العربي اتخذ النقاش بشأن العثمانية الجديدة عاصفة من الأسئلة والمواقف، بين من وجد فيها عودة إلى سياسة الدولة العثمانية بكل ما تحمل هذه السياسة من مفاهيم استعمارية تقوم على السيطرة وبين من وجد فيها مخرجا لأزمة الهوية في تركيا بعد أن أخفقت الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك) في تأطير الهوية الاجتماعية والحضارية لتركيا وبات حزب العدالة والتنمية في موقع تحقيق المصالحة التاريخية مع هذه الهوية. ولعل ما أشعل هذه المواجهة في الداخل والنقاش في الخارج هو التصريحات النارية لأردوغان وحديثه مرارا بأنه حفيد السلاطين ويستمد من أمجادهم تطلعاته.        

في الواقع، الجدل بشأن العثمانية الجديدة يتجاوز الانقسام والموقف منها ويصل إلى الأسئلة الفكرية المتعلقة بالحكم ونماذجه، عن العلاقة بين الدين والسياسة، بين العلمانية والإسلام، بين الجيش والسلطة المدنية، بين الحكومة والمعارضة، وأسئلة أخرى عن الآليات السلمية والقانونية لإحداث التغيير المنشود، عن الإصلاح وطرق تحقيقه، عن كيفية تحويل الخطوات التكتيكية وتراكمها إلى إستراتيجية دولة بسياساتها وهويتها، فهذه الأسئلة وغيرها تشكل أسئلة السياسة والمعاصرة في تركيا والبعض منها مطروح بقوة في العالم العربي. من الواضح، أن قرار التعليم باللغة العثمانية هو خطوة من خطوات تحقيق العثمانية الجديدة، ويمكن القول إن الأمر بات يثير الجدل على ثلاث مستويات:

الأول- مستوى الداخل: إذ أن قرار التعليم باللغة العثمانية أشعل مواجهة جديدة بين المعارضة والحكومة كما قلنا، فالمعارضة تصفه بالانقلاب على هوية الدولة ومحاولة فرض إيديولوجية محددة على الدولة والمجتمع والتعليم، فضلاً عن انتقادات تقنية تتعلق بعدم علمية أو تناسب هذه اللغة مع العصر وخصوصياته العلمية، فيما ترى الحكومة أنه تصحيح لخطأ تاريخي أدى إلى إلغاء ألف سنة من هوية تركيا وثقافتها وتاريخها، وانه لاشيء يمنع من إعادة الوصل مع ما انقطع.

الثاني- على المستوى العربي: أثارت العثمانية الجديدة جدلاً كبيراً على شكل تناقض في الموقف منها وكيفية النظر إليها، بين قوى سياسية وجدت فيها محاولة لعودة الأتراك إلى السيطرة على المنطقة بعد مغادرة العثمانيين لها قبل نحو قرن بعد انهيار دولتهم خلال الحرب العالمية الأولى، وبين قوى معظمها إسلامية ترى في العثمانية الجديدة تصحيحاً لواقع العلاقات التاريخية ودعماً للموقف من القضية الأساسية فلسطين والمنطقة بشكل عام.

الثالث- على المستوى الغربي: ثمة قناعة عامة في الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي بأن تركيا في يومنا هذا لم تعد تركيا التابعة أو الحليفة في إطار الحلف الأطلسي كما كانت في السابق، وإنما دولة تسعى إلى أن تكون دولة إقليمية مركزية مؤثرة تعمل للانفكاك عن المنظومة الغربية الأمنية والسياسية لصالح المزيد من الاستقلالية والدور، وهو أمر يثير المزيد من المخاوف في الغرب خصوصاً وأنه بالنسبة للعديد من الأوساط والمحافل الغربية يحمل الخيار التركي الجديد معه ملامح أيديولوجية إسلامية تمثل إرثا من العداء التاريخي.

تركيا والانتقال إلى النظام الرئاسي

لم يكن الرئيس رجب طيب أردوغان أول من طرح قضية الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي في تركيا، فقد سبقه إلى ذلك كل من الرئيسين تورغوت أوزال وسليمان ديميريل، لكن يمكن القول إن أردوغان هو الوحيد الذي بذل خطوات فعلية في هذا المجال، عندما أمر قبل سنتين بتشكيل لجنة برلمانية مهمتها إعداد دستور جديد يلحظ الانتقال إلى النظام الرئاسي، ومع أن اللجنة فشلت وتم حلها (اللجنة) إلا أن الجدل بشأن تبني النظام الرئاسي عاد بقوة إلى الساحة التركية مع فوز أردوغان بالانتخابات الرئاسية وعزمه ترؤّس جلسات الحكومة والسعي إلى وضع دستور جديد عقب الانتخابات البرلمانية المقررة في حزيران/يونيو المقبل، ليبقى السؤال المطروح، ما هي مبررات الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي؟ اليوم ثمة مقولة رائجة في الشارع التركي تقول إن تركيا قوية بحاجة إلى نظام رئاسي قوي، وثمة من يرى أن طبيعة شخصية أردوغان لا يمكن أن تقبل بالجلوس في قصر الرئاسة كمجرد شخصية رمزية تقوم بمهام شرفية، فالرجل الذي أسس وتزعم حزباً نقل تركيا من مرحلة إلى أخرى ومن حال إلى أخرى له طموحات كبيرة لا حدود لها، وهو يرى أن مشروعه لن يكتمل إلا بصلاحيات قوية تمكنه من تحقيق أهدافه المرسومة لحين عام 2023 أي الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية.

الدعوة للانتقال إلى النظام الرئاسي يبررها أصحابها بمجموعة من الأسباب الضرورية كما يرون، ولعل أهمها:

1 – إن النظام السياسي الحالي والموصوف بالبرلماني يعاني خللا في العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، أي الحكومة والبرلمان، حيث يشكو الثاني من سيطرة الأول، وعليه فإن الانتقال إلى النظام الرئاسي سيحل هذا الخلل من جهة، ومن جهة ثانية سيجعل من النظام السياسي أكثر استقراراً، ولعل أهمية هذا الأمر يتضح في ظل الحكومات الائتلافية التي تعاني عادة من عدم الانسجام أو التوافق، وهو ما يؤثر على الاستقرار السياسي والخطط الحكومية لاسيما الاقتصادية منها.

2- إن الدور القوي للنظام الرئاسي بات ينبع من طريقة الاقتراع في الانتخابات الرئاسية في البلاد، حيث للمرة الأولى جرى الاقتراع بشكل مباشر من الشعب خلافاً للمرات السابقة التي كانت تتم من داخل البرلمان، وعليه يرى أنصار النظام الرئاسي أن الرئيس بات يمثل الشعب لطالما فاز بأصواته ولو بنسبة 50% حسب الدستور.

3- إن تركيا التي حققت خلال العقد الماضي نجاحات كبيرة في المجال الاقتصادي وشهدت تغيرات سياسية داخلية عميقة، باتت بحاجة إلى دستور جديد يعبر عن هذا التغيرات، وهو ما يعني أن يقوم الرئيس بإدارة الملفات الأساسية ولاسيما ملف السياسة الخارجية.

4- إن الحديث عن ضرورة الانتقال إلى النظام الرئاسي لا يمكن تصوره بعيداً عن شخصية أردوغان الذي يرى أن النظام الرئاسي سيخلص السلطات التنفيذية والتشريعية من البيروقراطية الموجودة والإجراءات الروتينية، وأنه سيعطي قوة دفع كبيرة للسياستين الداخلية والخارجية في تطلعها نحو أهدافها المرسومة عام 2023 من خلال انجاز سلسلة ضخمة من المشاريع الاقتصادية والقيام بإصلاحات سياسية حقيقية وحل القضايا المزمنة ولاسيما القضية الكردية، على أمل أن يضع كل ما سبق تركيا ضمن قائمة أفضل عشر اقتصاديات في العالم.

مقابل المبررات التي يقدمها المطالبون بالانتقال إلى النظام الرئاسي، ثمة مخاوف وأسباب لدى المعارضة الرافضة لهذا الانتقال، ولعل من أهم هذه المخاوف والأسباب:

1- الخوف من يكون الانتقال إلى النظام الرئاسي مدخلا لحكم شمولي دكتاتوري، إذ ترى المعارضة أن الرئيس أردوغان سيستغل هذا الانتقال ليصبح حاكماً مطلقاً بما يشكل ذلك خطراً على الديمقراطية والتعددية في البلاد، فحسب النائب عن حزب الشعب الجمهوري المعارض أنور أويمن (فإن لدى أردوغان مشكلة كبيرة مع التعددية والعلمانية، ويسعى جاهدا لإرساء الدكتاتورية خطوة تلو خطوة ) فيما يرى حزب الحركة القومية بزعامة دولت باغجلي أن النظام البرلماني هو الأنسب لتركيا، وفي العمق يمكن القول إن المعارضة الضعيفة والمنقسمة والمشتتة تخشى من أن يؤدي النظام الرئاسي ليس إلى الدكتاتورية فحسب بل إلى القضاء على بقايا نفوذها السياسي والبرلماني.

2- بعيداً عن المخاوف من الدكتاتورية، ثمة رؤية تقول إن تركيا غير جاهزة تقنياً للانتقال إلى النظام الرئاسي، وهؤلاء يرون أن الاستشهاد بالنظام الرئاسي في الولايات المتحدة كمثال للإقتداء به فيه ظلم كبير، فهناك مسار تاريخي لم يتحقق بعد، وهناك قضايا جوهرية عالقة في طبيعة الحكم في تركيا، فعلى سبيل كيف سيكون الحكم المحلي في المحافظات؟ هل سيتم اعتماد هذا الحكم بمفاهيمه الحقيقية كما هو الحال في أوروبا وأمريكا؟ وهل سيتم انتخاب حكام الأقاليم والمحافظات على الطريقة الأوروبية والأمريكية من قبل الشعب مباشرة أم انه سيتم تعينهم من قبل الحكومة كما هو متبع حالياً؟ وماذا بالنسبة لصلاحيات رئيس الوزراء؟ هل سيتم تقاسمها مع رئيس الجمهورية في حال الانتقال إلى النظام الرئاسي أم أنه سيتحول إلى مجرد موظف ينتظر تعليمات الرئيس وينفذها دون نقاش أو رأي؟. دون شك الانتقال إلى النظام الرئاسي يفتح الجدل في كل الاتجاهات بشأن القضايا العالقة والتي ربما تثير المزيد من الانقسام في المرحلة المقبلة.

3- هناك رؤية تخشى من أن يؤدي الانتقال إلى النظام الرئاسي إلى تحرك الجيش، وأصحاب هذه الرؤية يعتقدون أنه على الرغم من نجاح حكومة العدالة والتنمية في الحد من دور المؤسسة العسكرية التركية وتدخلها في الحياة السياسية والعامة إلا أن الجيش ما زال يحتفظ بالعديد من عناصر قوته وأنه يتحين الفرصة للتحرك، وأن الانتقال إلى النظام الرئاسي الذي سيتوج أردوغان بصلاحيات مطلقة قد يشكل مدخلاً لهذا التحرك باسم الحفاظ على الديمقراطية والمبادئ العلمانية للجمهورية من رئيس  يسعى إلى استعادة العثمانية ويعمل لأسلمة الدولة والمجتمع.

بغض النظر عن مبررات الداعين إلى النظام الرئاسي والرافضين له، فأن هناك ثمة وقائع في الحياة السياسية التركية باتت تتحكم بمسار العمل السياسي ورسم التوجهات المستقبلية للبلاد، ويبدو أن قواعد اللعبة الديمقراطية التي تنطلق من صناديق الاقتراع هي التي تحدد مسار المشهد السياسي. وعليه، يمكن فهم تركيز أردوغان على صناديق الاقتراع في كل الانتخابات التي جرت خلال العقد الماضي إلى درجة انه بنفسه يقود الحملات الانتخابية بما في ذلك المحلية. وتأسيساً عليه، فإن الانتخابات البرلمانية المقررة في حزيران/يونيو المقبل ستكون مصيرية وحاسمة للقوى السياسية والحزبية، ولعل معركة أردوغان وحزب العدالة والتنمية في هذه الانتخابات هو الفوز بثلثي الأصوات كي يتمكن من إقرار دستور جديد في البرلمان دون الحاجة إلى استفتاء عليه، وعلى مستوى الأقل الحفاظ على النسبة الحالية كي يتمكن من عرض الدستور على الاستفتاء إذا لم يحصل على ثلثي الأصوات، وبغير هذه النتيجة تصبح معركة إقرار دستور جديد صعبة ما لم يستجب الأخير (الدستور الجديد) لمطالب المعارضة والحركة الكردية التي تطالب الاعتراف الدستوري بالقومية الكردية في البلاد إلى جانب جملة من المطالب الأخرى لعل أهمها الانتقال إلى الحكم المحلي في إدارة الأقاليم.

بانتظار اتضاح مسار الأمور أكثر، فإن أردوغان بدأ عملياً بتهيئة الوضع للانتقال إلى النظام الرئاسي ليس من خلال إثارة النقاش والجدل بهذا الخصوص فحسب وإنما باتخاذ خطوات متلاحقة، تتجسد في إعلان ترؤسه لجلسات الحكومة في الفترة المقبلة، وعزمه تشكيل ما يشبه لجنة أو مجلس حكماء يتألف من مستشارين يقوم بنوع من الأشراف على عمل الحكومة في المجالات الاقتصادية والسياسية، وهو ما يعني تفعيل السلطات الخاملة لرئيس الجمهورية حيث من صلاحياته وفق الدستور سلطة تعيين رئيس الوزراء وترؤس اجتماعات الحكومة ورئاسة مجلس الأمن القومي ومجلس الإشراف على الدولة الذي يتولى تدقيق الهيئات العامة، وبالتالي فإن مجمل الإجراءات التي سيتخذها أردوغان ستكون كافية لجعل الحكم في البلاد أقرب إلى الرئاسي من البرلماني حتى لو يتم إقرار مثل هذا الانتقال في الدستور الجديد.

ولعل مثل الأمر يشكل خطة (ب) السرية في يد أردوغان لدفع المعارضة إلى الموافقة للانتقال إلى النظام الرئاسي بشكل قانوني وتخفيفا لحدة الانقسام والصدام الداخلي. ولعل ما يدفع أردوغان إلى اعتماد المسار الأخير هو طموحه ليس إلى نظام شبه رئاسي وإنما إلى نظام رئاسي بصلاحيات قوية إن لم تكن مطلقة بما في ذلك حل البرلمان.

ما يمكن قوله هنا، هو أن مسار الانتقال إلى النظام الرئاسي بدأ فعلياً مع وجود أردوغان في قصر الرئاسة، وهو مسار يدعو إلى الكثير من التأمل لما ستكون تركيا عليه في المرحلة المقبلة، إذ أن الأمر لا يتعلق بالصلاحيات الدستورية لرئيس تركيا فحسب، بل بالخيارات السياسية لدولة إقليمية مهمة في منطقة تشهد تطورات عاصفة.

من (النموذج) إلى إنتاج التطرف

استبشر الإسلاميون في العالم العربي ومعهم أحزاب قومية بنموذج حزب العدالة والتنمية في الحكم ولاسيما بعد انطلاقة (ثورات الربيع العربي) بوصفه نموذجا يمكن الاقتداء به، إذ جرى خلال الفترة الماضية التسويق لهذا (النموذج) على أساس انه وفق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد، فيما كان الحزب يتجه تدريجيا نحو السلطوية انطلاقا من صناديق الاقتراع التي مكنته من السيطرة على الرئاسات الثلاثة (الحكومة – البرلمان – الجمهورية)، ومن ثم استبداله سلطة المؤسسة العسكرية بسلطة حزب العدالة والتنمية التي تحولت إلى سيف قاطع في وجه كل من ينتقده حتى لو كان من باب مكافحة الفساد أو تفرد رجب طيب أردوغان بالسلطة.

لكن الأخطر من هذا النزوع السلطوي، هو ما أنتجه الأخير من بيئات شعبية حملت جاذبية التطرف الديني. فما الذي يقف وراء جاذبية التطرف هذه علماً أن الحكومة حققت نجاحاً اقتصادياً انتشل قسماً كبيراً من الأتراك من الفقر وحسنت الأحوال الاقتصادية في البلاد؟ دون شك، ثمة عوامل كثيرة تقف وراء ذلك، يمكن وصفها بمفاهيم الإسلام التركي وهي مفاهيم تختلف عن مثيلاتها في العالم لجهة النشوء والأسباب والدوافع، ولعل من أهمها:

1 – منذ تسلم حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002 ارتكن الحزب في سياسته إلى قاعدة شعبوية إسلامية توسعت تدريجياً، وخلال السنوات الماضية نالت هذه القاعدة كل الدعم والرعاية من حزب العدالة والتنمية تحت عناوين دعم المجتمع المدني، وقد ساهم هذا الدعم في فتح المجال واسعاً أمام انتشار عشرات المنظمات الإسلامية تحت عناوين الإغاثة ودعم المظلوم، وهي منظمات مارست عملياً الإقصاء ونشر التعصب الديني باسم التقوى، والبعض منها غالى في التطرف والانفلات عن كل قيد، اعتقادا منها أنها تحقق ما يصبو إليه حزب العدالة والتنمية في السر، فيما سكت الأخير عن كل ما سبق لأسباب انتخابية بالدرجة الأولى، باعتبار أن هذه الكتلة الشعبية تشكل صوتاً مضموناً في كل الاستحقاقات الانتخابية.

2- إن الأزمة السورية بتداعياتها جعلت من تركيا قبلة يتقاطر إليها الجهاديون من مختلف أصقاع العالم للعبور إلى العراق وسورية، لكن تحول تركيا إلى أرض مرور لهؤلاء الجهاديين لم يكن دون ثمن أو تداعيات في الداخل التركي، فبعيدا عن التقارير التي تتحدث عن دعم استخباراتي تركي لهذه المجموعات في إطار استخدامها كأداة لإسقاط النظام السوري، ثمة تقارير تركية تتحدث عن التحاق قرابة ستة آلاف تركي بتنظيم داعش وعن انتشار أفكار التنظيم في العديد من المناطق التركية على شكل بيئات حاضنة، واللافت هنا حسب الصحافة التركية، أن قسماً كبيراً من الأتراك الذين التحقوا بداعش لا ينتمون إلى العائلات الفقيرة المحرومة كما تقول العديد من الدراسات التي سلطت الضوء على هذا القضية، وإنما إلى عائلات معروفة بوضعها الاجتماعي والمالي والتعليمي، خلافاً للأدبيات التي تقول إن الحرمان ينتج التطرف والإرهاب، بما يشير إلى بريق التنظيم بالنسبة لهؤلاء، وهو ما استدعى تحذيرات قوية من أوساط المعارضة والقوى اليسارية والمثقفين للحكومة بضرورة تدارك خطر انتقال التنظيمات الإسلامية المتشددة إلى داخل التركي، محملين إياه المسؤولية.

3- لعل ما سبق لم يكن بعيداً عن سياسة أردوغان الشعبوية، فالرجل الذي يقول إن المسلمين اكتشفوا أمريكا قبل كريستوفر كولومبوس، ويستهزئ من معرفة الطلبة الأتراك اسم اينشتاين أكثر من أبن سينا، ويقول للمعارضة التركية إننا سنعلم اللغة العثمانية في المدارس شاء من شاء وأبى من أبى... هذه التصريحات وغيرها صحيح أنها تزيد من كاريزما أردوغان الشخصية والشعور بالقوة لدى قاعدته الشعبية، كما أنها تروق للكتلة الانتخابية التي تصوت لحزب العدالة والتنمية، ولكنها دخلت البلاد في جدل بيزنطي على شكل مواجهة مع قضايا الهوية والإيديولوجية والتي انتهت إلى إبدال الصراع التقليدي في البلاد بين العلمانية والإسلام السياسي إلى الصراع على الهوية.

4- بموازاة هذا النزوع نحو التطرف، شهدت وتشهد تركيا مؤشرات خطرة في اتجاهين.

الأول: التضييق الكبير على حرية الصحافة والمؤسسات الصحافية تجسدت في حملات اعتقال لعشرات الصحفيين وإغلاق مؤسسات صحافية ومحاصرتها بالضرائب والإجراءات الدراية، وهو ما أثر على حرية الصحافة ومفاهيم الديمقراطية والتعددية.

الثاني: ولادة أو عودة تنظيمات متطرفة، ولعل خير مثال على ذلك عودة حزب الله التركي إلى الساحة باسم حزب هدى بار، وهو التنظيم الذي قام بعشرات عمليات الاغتيال للمثقفين والحقوقيين والناشطين خلال فترة الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي، وقد سجلت هذه العمليات تحت اسم فاعل مجهول. وبموازاة صعود أو عودة تنظيمات متشددة إلى الساحة، وجدت قوى كانت تمثل الإسلام الاجتماعي نفسها في قلب السياسة والصراع على السلطة، ولعل المثال الأسطع على هذا الأمر، هو حركة الداعية فتح الله غولن، فهذه الحركة التي حرصت على القول إن نشاطها محصور بتقديم الخدمة دخلت في صراع لا هوادة فيه مع حزب العدالة والتنمية بعد نحو عقد من التحالف بينها وحزب العدالة والتنمية على قاعدة المصالح المشتركة والتطلعات المتبادلة.

مجمل ما حصل، يشير إلى قاعدة سياسة مهمة في سلوك جماعات الإسلام السياسي التي تصل إلى السلطة، فحزب العدالة والتنمية الذي جاء إلى الحكم وفقا لقواعد اللعبة الديمقراطية وإتباع الآليات السلمية، وانتهج في البداية المرونة السياسة والاعتدال، أبدل كل ذلك تدريجياً بالتوجهات المعادية للحريات والتعددية مندفعاً بإغراءات السلطة، فتحول (النموذج) تدريجياً إلى جسر لإنتاج التطرف في بيئة إقليمية مشجعة لإرهاب عابر للحدود والكيانات والدول.

كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*)

اعلى الصفحة