الحركة الأسيرة الفلسطينية
تجربةً رائدةً ومسيرةً حافلةً في الثبات والمقاومة

السنة الرابعة عشر ـ العدد 158 ـ (ربيع الثاني 1436 هـ) شباط ـ 2015 م)

بقلم: ازدهار معتوق(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لم يشهد تاريخ المعتقلات والسجون بطولها وعرضها، حركة كالحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة، التي استطاعت أن تصنع نبراس البطولة والتضحية، وتسطر تاريخاً رائعاً ومشرقاً، مميزاً، كتبت حروفه بالدم والمعاناة، بالصمود والإرادة الفولاذية، تاريخاً يتواصل عطاء، ويزداد إشراقاً مع فجر كل يوم جديد.. تاريخاً حافلاً بالمفاخر الوطنية، ويحوي الكثير من المعاني اللامعة والمدلولات التي تنبض بإرادة الخلاص..

تاريخاً كتبت حروفه بالدماء، بالعرق والمعاناة، بالأمعاء الخاوية (الإضرابات عن الطعام)، بالصبر والإرادة، تاريخاً يضيء عقوداً من الزمن، ليبقى محط اعتزاز لمن كتبوه وصاغوه.. لمن ساهموا في صنعه وساندوه، لمن وزعوا نشراته، ولمن أنجبوا أبطاله.. إنه تاريخنا، تاريخ الثورة وإرادة الخلاص، تاريخ أكثر من ستمائة ألف ثائر، سطروا تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، جنوده كل الشعب الفلسطيني؛ لهذا سيبقى محفوراً بالذاكرة، تتناقله الأجيال بكل فخر، ليصوغ إكليل الرفعة والقداسة على جبين كل من اعتقل وعانى عذابات  قيد السجان، سيبقى رعوداً من تجارب وذكريات مريرة ومفاخر تدوي بذاكرة ذوى الأسرى وأحبائهم وأصدقائهم..

لذلك فإنه من حقنا أن نفخر بهذا التاريخ، ومن واجبنا أن نسعى لتوثيقه ليبقى منارة للأجيال القادمة، بكل جزيئاته وصوره المختلفة.. فمن الواجب علينا أن نوثق التاريخ الرائع والمشرق من شهداء وبطولات وتضحيات، ومن الجانب الآخر، يجب علينا أن نوثق الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطيني الأسير، وما تعرض ويتعرض له من ممارسات غير إنسانية، ومعاملة وحشية قاسية، فاقت في عدم إنسانيتها ووحشيتها ما يتخيله ويتصوره العقل البشري.

البدايات

تعود بدايات الحركة الأسيرة منذ أن دخل أول أسير فلسطيني إلى سجون العدو الاستعماري الذي دهم فلسطين وقدّمها عبر سياساته الاستعمارية إلى الصهاينة لينتهي الأمر بزرع كيان غاصب غير شرعي لهم في قلب فلسطين التاريخية، ففي عهد دولة الاستعمار التي انتدبت نفسها على فلسطين فتحت الكولونيالية الانجليزية السجون والمعتقلات للمناضلين الفلسطينيين وأقامت المحاكم وأصدرت الأحكام ضد المناضلين الفلسطينيين بما فيها أحكام الإعدام الجائرة ضدهم، وبقائمة مفتوحة من التهم شملت حتى الرأي والمنشور والكتابة الرافضة لما يحدث في الوطن فلسطين. وسجّل التاريخ على دولة الاستعمار الانجليزي في الوقت الذي قدّمت فيه مناضلي أبناء شعبنا أصحاب الأرض للإعدام والمشانق كما فعلت في حادثة سجن عكا التي سجلها الشعر الفلسطيني المقاوم على لسان إبراهيم طوقان وقصيدته الثلاثية الحمراء وارتقى فيها الشهداء محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، فإنها تغاضت تماماً عن عصابات الصهاينة ونشاطاتها التخريبية بما فيها استهداف ذات الدولة الاستعمارية ومصالحها فوق أرض فلسطين، وكانت دولة الاستعمار البريطاني والتي ورثت عدداً كبيراً من سجون الدولة العثمانية قد أضافت أيضاً سجون أخرى وعملت على توسيعها، بل أنها قد أقرّت عدداً من القوانين الخاصة وهي التي لا زالت محاكم العدو تعمل ببعضها حتى الساعة بما يعرف بالاعتقال الإداري الذي شكّل لاحقا نسبة وحجما لا بأس به من كتلة الحركة الأسيرة الفلسطينية طيلة أربعة عقود وحتى الساعة. لقد ورث الكيان في هذا الجانب من بريطانيا المستعمرة كل حكاية الأسر في عهدها البغيض الغادر، فكما ورث السجون والمعتقلات ورث أيضاً القوانين والأوامر التعسفية الظالمة بل حتى أنه ورث الأسرى الفلسطينيين أنفسهم كما في حكاية الشيخ حسن اللاوي أقدم أسير فلسطيني في تاريخ القضية الفلسطينية والذي اعتقل في زمن بريطانيا وانتدابها ليخرج بعد قصة مثيرة قادت إلى كشف مصيره مجموعة من المصادفات في ثمانينيات القرن الماضي وهو الذي أمضى حوالي نصف قرن في سجون المستعمر فالمغتصب. وإذا كانت المرحلة الأولى في حكاية الأسر الفلسطيني لم يتم تسجيلها بصورة كافية ولم تخضع للتثبيت على الرغم من أهميتها الشديدة في تاريخ نضال وكفاح شعبنا وامتلاكه من خلال ذلك لو حدث أدلة ومواد قانونية ضد المستعمر الكولونيالي فالمغتصب الصهيوني وحليفه الامبريالي، فإن المرحلة الثانية ومنذ حدوث الاحتلال الحزيراني عقب نكبة حزيران في العام 1967 اختلفت عن ذلك الواقع، لقد وجدنا أن المادة التي تسجل للحركة الأسيرة الفلسطينية بعد عام 1948 لجزء فلسطين السليب في النقب والجليل الفلسطيني والمثلث وباقي عموم الأرض السليبة هي أيضاً مادة نادرة ومحدودة، هذا فضلاً عن عدم قيام عملية وطنية فلسطينية لتتبعها هناك، فبقيت على هامش المحاكم الصهيونية سواء العسكرية منها أو المدنية التي قامت عقب انتهاء الأحكام العسكرية لاحقا في فلسطين السليبة. أما عقب العام 1967 فبفضل التسجيل والمتابعة على جانبي الخط الوهمي الصهيوني وما يدعوه بالخط الأخضر فقد اختلف الأمر وبدا وإن كانت بداية العملية لا زالت متواضعة، إلا أنها على الأقل تلافت الخطأ التاريخي الجسيم الذي سجّله غياب ذلك عن الفترة الأولى في حياة الحركة الاعتقالية الفلسطينية وتعاظمت لاحقاً بما اكتسبته من خبرات، وسجّلت الأسير الفلسطيني الأول محمود بكر حجازي أول أسير لحركة فتح في السجون الصهيونية حتى قبل العام 1967، ولا شك أن التأريخ والتجسيد هو أمر في غاية الأهمية ويكفي التدليل على إن إصرار العدو الصهيوني على استخدام التاريخ الذي يدّعيه في معتقلات النازي وتوظيفه في أغراض البروباغاندا الاحتيالية يكفي للتدليل على أهمية توثيق وتسجيل مسيرة الحركة الاعتقالية الفلسطينية للمستقبل الوطني الفلسطيني عاملاً ليس فقط في تثبيت ركائز الرواية الفلسطينية التاريخية بل وبما يتيحه ذلك من أدوات لتحصيل الحق الفلسطيني الذي لن يطول الوقت قبل الحصول عليه كاملا غير منقوص.

لقد تجرع المعتقلون الأوائل بعد احتلال باقي فلسطين عام 1967 مرارة سياسة استهدفتهم من أبواب كثيرة وطنية ونفسية واجتماعية وفكرية، فقد اتبعت حكومة إسرائيل في هذه المرحلة كل الأساليب الممكنة لأجل تحقيق هدفها في تطويع المناضل الأسير لإخضاعه تمهيداً لشطبه وطنياً وإنسانياً، فسياسة الاستنزاف العصبي المرهق وسياسة التجويع النفسي والمادي والحرمان المطلق من كل الضرورات الأولية لحياة بشرية معقولة، وسياسة الإسقاط الوطني والاستهداف الأمني، وسياسة التجهيل الثقافي وغيرها دل كل هذا على أن السجن في المفهوم الإسرائيلي هو أداة لقمع ومواصلة قمع مقاومة الشعب الفلسطيني المحروم من حقوقه الإنسانية والسياسية.

وعبّر القادة الإسرائيليون عن هذه السياسة، فغولدا مائير، التي يقض مضجعها ميلاد طفل فلسطيني، تساءلت أكثر من مرة أين هو الشعب الفلسطيني...

لقد تحولت السجون التي ورث معظمها الإسرائيليون عن الانتداب البريطاني بعد حرب حزيران عام 1967 إلى مراكز لشن العنف ضد الشعب الفلسطيني وقواه المناضلة، بهدف إبادته عبر وسيلة أخرى غير حبل المشنقة... هي وسيلة الاعتقال وسياسة الموت البطيء التدريجي للأسرى..

وهذا ما وعد به موشي ديان بتحويل المعتقلين في السجون إلى حطام وكائنات، لا تمت للبشرية بأية صلة، كائنات مفرغة من كل مظهر إنساني، تشكل عبئاً على نفسها وشعبها..

برز السجن في الكيان الإسرائيلي كمؤسسة توفرت لها كافة الشروط المناسبة، وتجهزت بكامل المقومات الضرورية لأجل تحقيق هذا الهدف اللاإنساني بحق المناضلين الفلسطينيين.

تركز صراع الأسرى داخل السجون الإسرائيلية ومنذ البدايات، حول دفاعهم عن ذاتهم الوطنية التي استهدفتها سياسات الإبادة الإسرائيلية. ومنذ عام 1967 زج الاحتلال بالآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني في السجون، وعملت حكومة إسرائيل على ترميم السجون القديمة، التي ورثتها عن أسلافها المحتلين؛ لزيادة قدرتها الاستيعابية، وأقامت العديد من مراكز ومعسكرات الاعتقال الجديدة كأنصار 3 في النقب، وعوفر في بيتونيا، وسالم وحوارة في نابلس، وقادوميم في طولكرم وغيرها، حتى أنها حولت سجن الفارعة خلال الانتفاضة الأولى عام 1987 من اصطبل للخيل في العهد البريطاني، إلى مركز للتحقيق... وحولت سجن الدامون، الذي كان يستخدم كمستودع للدخان في العهد البريطاني، إلى سجن.

وشهدت السجون حرباً بكل معنى الكلمة بين الإنسان الأسير المدافع عن إنسانيته وذاته الوطنية، وبين سياسة الجلادين الرامية إلى تفريغ هذه الذات وقتلها؛ فنجد أنه في كل سجن بل في كل غرفة سجن وزنزانة، تجربة جماعية وفردية متنوعة ومتعددة، تشكل بمجملها تجربة الإنسان الفلسطيني الأسير... إنها الرحلة الطويلة التي لم تصل إلى نهايتها، رحلة المقاومة والتصدي والسير في طريق الحرية.

تجربة رائدة ومسيرة حافلة

كما هو معروف فقد شكلّت الحركة الوطنية الأسيرة تجربةً رائدةً ومسيرةً حافلةً في العطاء على مدار سنيِّ الصراع مع العدو الصهيوني، هذه التجربة التي ضاهت في مستوى أدائها وبرامجها، عدة مدارس فكرية متعددة، رغم قسوة الحياة الاعتقالية، ووحشية السجان، إلا أن صدق الانتماء وتطور التجربة، حوّل المعتقلات إلى قلاع ثورية تَخرّج منها آلاف الكوادر الحزبية المنظمة التي استطاعت أن ترسم ساحتنا الفلسطينية، تلك الطاقات الخلاّقة التي عكست تجربتها النوعية في المضمون والأداء، وفي مجالات كثيرة في ساحة العمل الأوسع، ووسط الجماهير في الميدان.

تميزت الحركة الأسيرة في السنوات الأولى لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، بالتركيز على البعد التوعوي والتربوي؛ الأمر الذي أسهم في صقل الطاقات وتهذيبها، بشكل أتاح الفرصة لبناء الكادر القادر على القيادة وتحمل المسؤوليات، في ظل ظروف اعتقالية قاسية، كان طابعها العام المواجهة الدائمة والمستمرة مع إدارة السجون، وهذا بطبيعة الحال كان له استحقاقات سددها أسرانا الأبطال بالمعاناة والتحدي لأبشع قوة احتلالية إحلالية، حتى أرسوا دعائم وأسس الحركة الفلسطينية الأسيرة، في ظل غياب الإعلام القادر على رفع صوت الحركة الأسيرة في وجه الغطرسة الصهيونية.

لذلك يحق للأجيال الفلسطينية القادمة أن تفخر بهذه التجربة الرائدة، والتي أثمرت كوادر شكلت قيادات خرجت إلى ميدان المواجهة بعد عملية تبادل الأسرى، فانصهرت مع أبناء هذا الشعب في ميدان المواجهة المستمرة والمباشرة مع الاحتلال. ولما بزغ فجر الانتفاضة الأولى (1987-1994)، تقدمها أبناء الحركة الأسيرة من مختلف التنظيمات، وظهرت الحنكة في الأداء، فأظهرت القيادة انضباطية عالية تجاوزت كل إشكاليات الحركة الوطنية، بعيداً عن الحساسيات اللامسؤولة، وفي كافة المواقع .

إن الحديث عن الحركة الأسيرة، يدفع دائماً باتجاه ربط مسيرة هذه الحركة، سواء في زمن المواجهة المفتوحة مع الاحتلال، أو في زمن تراجع بعض القوى عن المواجهة؛ لأن الحركة الأسيرة ،حتى في ظل ما يسمى بالسلام، اشتد عودها وتعمقت تجاربها؛ لأن حالة القمع الاحتلالي لشرائح عدة في مجتمعنا بقيت مستمرة، وإن أخذت أشكالاً متعددة، وهذا ما كنا نلمسه فعلاً، حيث استمر زج المناضلين في المعتقلات، واستمرت عمليات القمع تمارس ضد أبناء شعبنا عامةً، وأبناء الحركة الأسيرة خاصةً؛ الأمر الذي حتم على المنظمات والمؤسسات الحقوقية خاصةً- أن ترعى شؤون الأسرى، وأن تبقى في حالة اتصال وتواصل معهم بغض النظر عن الظرف السياسي المعاش، وعن إفرازاته المتعددة.

إلا أننا؛ ولموضوعية النظرة والقراءة لواقع الحركة الأسيرة، لا يمكننا ولا بأي شكل من الأشكال، أن نفصل ما بين الحركة الأسيرة قبل اتفاقيات أوسلو، وما بعدها بالمعنى القطعي؛ لأن الجسم الفلسطيني وبكل أطيافه السياسية كان وما زال يكتوي بنار الاحتلال والاعتقال. وفي السياق ذاته لا نستطيع أن نغفل مجموعة من الإرباكات التي طرأت على واقع الحركة الأسيرة بعد اتفاق أوسلو، والتي يقف في مقدمتها غياب المنهجية التربوية، والإعداد الحقيقي للمناضل عند معظم القوى الفلسطينية داخل قلاع الأسر، حتى غدت الحركة الأسيرة في طريقها إلى الإفراغ من المحتوى السياسي.

وغدا الاعتقال وظروفه عبئاً على المعتقل نفسه وعلى التنظيمات، وهذا ما لمسناه ليس على صعيد ما حمله المعتقلون من أفكار ورؤى لواقع الاعتقال، وإنما تجاوز ذلك لما يحمله هذا المعتقل، من تصورات عن طبيعة الصراع الدائر مع العدو، والحلول الممكنة في ظل اختلال موازين القوى، التي بات فيها الطرف الفلسطيني محاصراً ومجرداً في كل شيء إلاّ من إرادته وعزيمته التي تشكل سلاحه في هذا الزمن المختل لصالح العدو، وأصبح هَم الغالبية العظمى من المعتقلين، هو التحرر وانتظار قوائم ودفعات جديدة.

وعلى الرغم من اختلاف رؤى وبرامج الأسرى، إلا أن العلاقات الداخلية لم تتأثر، وبقي الكل يشكل جسداً واحداً في وجه إدارة مصلحة السجون وسياساتها القمعية.. وبالمقابل (وحتى تكتمل الصورة)، رافق ذلك، حملات الإفراج السياسية ضمن استحقاقات عملية السلام، وتحرر في هذا السياق العديد من المعتقلين، ذوي الأحكام العالية وأسرى الدوريات.. الخ.

وهذا أمر إيجابي جداً يحسب للسلطة الوطنية الفلسطينية؛ لإيلائها قضية الأسرى اهتماماً عظيماً ومناداتها بضرورة الإفراج عنهم جميعاً، على الرغم مما يمكن تسجيله هنا من ملاحظات سلبية على حملات الإفراج من قبل سلطات الاحتلال، مثل: تصنيف المعتقلين إلى فئات بحسب مواقفهم ومواقف منظماتهم من اتفاق أوسلو، وكذلك التمييز بين الأسرى الذين اشتركوا في عمليات قتل فيها إسرائيليون، واتهامهم بأن "أياديهم ملطخة بدماء اليهود"..! وكأن هؤلاء الأسرى كانوا في رحلة كشافة ولم يكونوا يخوضون معركة التحرر الوطني! كما وتناست الحكومة الإسرائيلية أن أيدي كل قياداتها السياسية والعسكرية وكل الرؤساء وأعضاء لجان المفاوضات الإسرائيليين، بل وكل إسرائيلي ملطخة بدماء الشعب الفلسطيني.

وأصبحت قضية الأسرى والمعتقلين ورقة ضغط قوية في يد "إسرائيل" تستخدمها  للابتزاز، ومساومة الطرف الفلسطيني وإجباره على تقديم التنازلات، وربطت الإفراج عن الأسرى بالتقدم في مسيرة المفاوضات.

ومع اندلاع انتفاضة الأقصى 28/ سبتمبر 2000م، (كان في السجون 1150 أسيراً)، اشتدت الهجمة الإسرائيلية القمعية والدموية على الشعب الفلسطيني، واشتدت حملات المقاومة المشروعة أيضاً لطرد الاحتلال، فعادت إسرائيل إلى سياستها القديمة الجديدة، وشنت حملة اعتقالات واسعة جداً، طالت كل المدن والقرى الفلسطينية، بما فيها المناطق التي تخضع للسيطرة الفلسطينية الكاملة، وتنوعت أشكال الاعتقال وزج بالآلاف الفلسطينيين في السجون والمعتقلات حتى وصل عدد حالات الاعتقال إلى أكثر من 35 ألفاً خلال انتفاضة الأقصى، وأقدمت على إعادة افتتاح العديد من المعتقلات، كالنقب وعوفر... واكتظت السجون بالمعتقلين.

ويمارسها الجلادون الإسرائيليون ضد أسرانا ومعتقلينا، شتى صنوف العذاب والقهر التي شملت من معاقبتهم جماعيـاً، ورشهم بالغاز، والتكسير، والتعرية، وإخضاعهم لكل صنوف الإهانة والتحقير، وتقييد أيديهم، وسجنهم لأيام عديدة في زنازين ضيقة مغمورة أرضياتها بالمياه النتـنة، أو حتى في المراحيض، وتدهور الأوضاع الصحية وانتشار الأمراض والحشرات، ورداءة الطعام، وقلته، وحرمانهم من تلقي العلاج، خاصة مصابي وجرحى الانتفاضة، والحرمان من النوم، وحرمانهم من زيارة ذويهم منذ بداية انتفاضة الأقصى، والازدحام الشديد واستمرار العزل في زنازين انفرادية، في عملية قتل للأسير الفلسطيني قتلاً بطيئـاً منظماً  ومدروساً بعناية فائقة، وإحالة الأطفال الأسرى إلى محاكمات صورية جائرة، واستصدار عقوبات بالسجن لسنوات طويلة ضدهم، ووضعهم مع السجناء الجنائيين الإسرائيليين.

فخلال انتفاضة الأقصى، توجه الفعل الانتقامي الإسرائيلي العاجز، نحو قمع واضطهاد الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية؛ في محاولة يائسة لكسر شوكتهم وإذلالهم، مترافقة مع حملة شرسة لسحب إنجازاتها التاريخية، والتي تحققت عبر عقود من الزمن، من خلال دماء العشرات من الشهداء وتضحيات عشرات الآلاف من الأسرى ومعاناة مئات الآلاف، وأخذت صرخات الاستغاثة تخترق جدران السجون وأسلاكها الشائكة، وتجاوزت حدود السجون، لكنها فشلت في الوصول إلى آذان العالم؛ الأمر الذي دفع بالأسرى، ومنذ بداية انتفاضة الأقصى، إلى ترتيب أوضاعهم الداخلية من جديد، وفق ما تقتضيه المرحلة من إعداد ومواجهة، واستقبال لآلاف المعتقلين الجدد، وغدا الاهتمام  بالأسس البنيوية والتعبوية الأخلاقية والتربوية والثورية، أكثر؛ للانطلاق بها لصنع الإنسان الفلسطيني المناضل الثوري الحقيقي، وهذه الحال أعادت الاعتبار من جديد وبقوة لقضية الأسرى، وأصبحت قضيةً أساسيةً على أجندة الحكومات الفلسطينية المتعاقبة، ودفع بالعديد من المؤسسات الحقوقية والإنسانية، لكي تلعب دوراً إيجابياً وداعماً للأسرى وقضاياهم العادلة، فازدادت حملات الدعم والمساندة، واتسعت رقعة فعاليات التضامن الجماهيري.

أرقام وإحصائيات

حسب إحصائيات مؤسسات حقوق الإنسان، قدر عدد حالات الاعتقال ما بين عامي 1967- 1987 بـ(535000) أسير فلسطيني، بمعدل 27 ألف حالة أسر سنوياً، في حين يقدر عدد الفلسطينيين الذين تم أسرهم منذ بداية الانتفاضة الأولى في 8/12/1987 وحتى نهاية عام 1994 بحوالي 275 ألف مواطن فلسطيني، فيكاد لا يكون هناك بيت فلسطيني إلا واعتقل أحد أبنائه. ويمكن القول: إن السنوات الأولى من التجربة الاعتقالية قد حفرت علامات دامغة في أذهان وعلى أجساد المعتقلين؛ لأنها كانت مسرحاً مفتوحاً يمارس على خشبته كل أنواع التعذيب الجسدي والنفسي؛ فقد كان استخدام العنف والاعتداء على الأسرى والأسيرات منذ بداية الاعتقال بمثابة قانون روتيني يتعرض له الأسرى وبأشكال مختلفة، ونورد هنا عدداً من الإحصاءات تظهر عدد الأسرى وفئاتهم على: الشكل الآتي: 1 - القدس 49 2 - الضفة الغربية 139 3 - قطاع غزة 136 4 - فلسطينيي الداخل (الـ 48) 21 5 - الأسرى العرب سوريا 4 لبنان 1 المجموع الكلي 350

لم يقتصر الأمر على الاعتداء الجسدي، فأساليب الإذلال التي نفذها السجانون كانت أشد وقعاً من الاعتداء؛ بهدف كسر روح السجين، وتحطيم نفسيته وتحويله مجرد عبد لا قيمة له، وعلى سبيل المثال كان الأسرى يجبرون على مخاطبة السجان بكلمة (سيدي)، ويمنعون من إطلاق شعر الرأس والشارب، ويجبرون على حلاقة ذقونهم مرتين أسبوعياً بشفرة حلاقة واحدة، توزع على خمسة أسرى. إضافة إلى الإذلال المتبع في طريقة استحمام الأسرى بإجبارهم على الخروج عراة من غرفهم إلى حمام خارجي، وإلزامهم إحناء الرأس أثناء قيام شرطة السجن بإجراء العدّ اليومي، وشملت سياسة الإذلال إخراج الأسرى في ساحة الفورة (النزهة) والأيدي متشابكة، منتصف الظهيرة، والجلوس قرفصاء في الساحة. لا ينسى الأسرى الأوائل أبداً ما أطلقوا عليه (أسطورة البرش المقدس)، والتي تتمثل بإجبار الأسير على ترتيب الأربع بطانيات التي يملكها بشكل معين منذ الصباح حتى المساء ويمنع الاقتراب منها وإلا سيناله العقاب.لقد أجبر الأسرى على العمل في مرافق الإنتاج “الإسرائيلي”، التي تعود عائداتها لصالح المؤسسات العسكرية والاقتصادية في “إسرائيل” مقابل أجرٍ زهيد. كما حوصر الأسرى ثقافياً: بمنعهم من الحصول على القلم والدفتر والكتاب، وإجبارهم على سماع الإذاعة “الإسرائيلية” في أوقات محددة، ولم يسمح لهم بقراءة الصحف سوى صحيفة الأنباء التي تصدرها أجهزة المخابرات “الإسرائيلية”، وكان الأسير الذي يتم ضبط قلم أو ورقة معه يعاقب في زنزانة انفرادية، وكان أشدّ الأساليب خطورة هي سياسة الإفراغ الثقافي والفكري، من خلال ترويج كتب ثقافية فارغة المضمون داخل السجون. وواجه الأسرى سياسة الإهمال الطبي، وكانت حبة الأكامول هي العلاج السحري لكل الأمراض، وقد استشهد العديد من الأسرى بسبب عدم وجود عناية طبية، وحمل الكثير من الأسرى المحررين أمراضاً مزمنة معهم، واستشهدوا بسببها بعد الإفراج. ولعب الجهاز الطبي لمصلحة السجون دوراً قمعياً واستخبارياً مستغلاً حاجة الأسرى للعلاج لمساومتهم على شرفهم الوطني، إضافة إلى مساهمته في قتل عدد من الأسرى، كما حصل مع الشهيدين علي الجعفري، وراسم حلاوة؛ إثر اضراب سجن نفحة عام 1980، وقد كشفت الصحافة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، عن ألف تجربة طبية قامت بها حكومة العدو وبشكل سري على المعتقلين الفلسطينيين في السجون. وواجه الأسرى سياسة العزل بأشكال عديدة، والتي تقوم على عزل النشطاء من الأسرى، وما تطلق عليه إدارة السجون (ذوي الرؤوس الحامية). وكانت سياسة تعذيب المعتقلين سياسة ممنهجة وثابتة، بأساليب محرمة دولياً، حيث تعرض المعتقلون لمعاملة قاسية وعنيفة على يد المحققين “الإسرائيليين”، وامتلأت تقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية بشهادات مشفوعة بالقسم، عن حالات تعذيب وحشية تعرض لها الأسرى والأسيرات على أيدي المخابرات “الإسرائيلية.”.. وأصبح التعذيب قانوناً مشرعاً لدى حكومة العدو، وفق تقرير لجنة “لنداو” عام 1978، والتي أجازت استخدام الضغط الجسدي والنفسي مع المعتقلين.. ولم تراع حكومة“إسرائيل” القوانين الدولية، واتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة، التي تحرم التعذيب وتعتبره جريمة حرب. لقد استشهد المئات من الأسرى الفلسطينيين في أقبية التحقيق؛ بسبب استخدام وسائل التعذيب العنيفة، وكل ذلك كان يجري تحت غطاء القانون، بذريعة (محاربة الارهاب).إن الظروف القاهرة والحياة اللاإنسانية، التي عاشها المعتقلون داخل السجون في ظل شروط حياة بائسة وضغوطات وإجراءات مشددة، دفعتهم إلى الاصطفاف لبناء وجودهم الجماعي والتنظيمي، والدفاع عن حقوقهم، ورفض سياسة اذلالهم واستعبادهم. فبدأ الأسرى ببناء المؤسسة الاعتقالية، ولعب عدد من أصحاب التجربة التنظيمية دوراً في وضع اللبنات الأولى، لبناء الجسم الاعتقالي، حيث تم القضاء على كل مظاهر التحلل والانفلات في صفوف الأسرى، ووضع البرامج التنظيمية والفكرية والتعبوية؛ لمواجهة التحديات القائمة في السجون، فبنيت الأطر السياسية داخل السجون على قاعدة الالتزام والوحدة ومحاربة كل أشكال القهر والإذلال، وتطلب ذلك جهداً كبيراً وعملاً دؤوباً، حتى استطاع المعتقلون ومن خلال خطوات نضالية واضرابات امتناعية وعصيان أوامر وإجراءات إدارة السجون من الحصول على جزء مهم من حقوقهم الإنسانية والمعيشية.

وهكذا وبهذه الشمولية والوحدة الجماعية ضرب الأسرى المثل الأعلى في وحدة المعركة والقرار والإرادة، حيث يلاحظ أن الوضع داخل السجون لم يستقر يوماً، فهو في حالة مواجهة دائمة ومتواصلة، لا تعترف مديرية السجون الإسرائيلية بمنجزات الحركة الأسيرة التي انتزعتها بنضالات الأسرى وجوعهم وآلامهم، كأساس ثابت تستند إليه في تعاملها مع الأسرى، بل تتحين الفرص للانقضاض عليها، وإعادة الأوضاع إلى سنوات سابقة، فالحالة داخل السجون هي حالة اشتباك وترقب وحذر، وبذلك؛ فإن الحركة الأسيرة لم تلق سلاح المواجهة والتعبئة والاستنفار النفسي في أي لحظة لأن أمامها عدو لا يريد لها سوى أن تدفن في الظلمة، وان تنصاع لقوانينه الظالمة.

باحثة في علم الاجتماع السياسي(*) 

اعلى الصفحة