الإسلام السياسي على هدي القرآن الكريم
قراءة معاصرة (2/2)

السنة الرابعة عشر ـ العدد 157 ـ (ربيع أول 1436 هـ) كانون الثاني ـ 2015 م)

بقلم: المحامي الشيخ مصطفى ملص

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

هذه قراءة معاصرة حول الإسلام السياسي، هذا المصطلح الذي شغل حيزاً واسعاً جداً في الخطاب الدائر حول دور الإسلاميين الساعين للإمساك بالسلطة في معظم أقطار العالم الإسلامي لاسيما العالم العربي، حيث شهد الأخير قيام حركات اعتراض وانتفاضات أدت إلى تغيير أنظمة حكم واستبدالها بواقع جديد تتراوح بين الفوضى والتدمير والانشقاقات المجتمعية.......

وإلى نشوء حالات صراع واقتتال بين جماعات ذات توجه اسلاموي، مما ظهر معه أن ما يسمى بالإسلام السياسي لم يبلغ الحد المطلوب من الوعي بالواقع والمخاطر التي تتهدد الأمة ومجتمعاتها. كما أن مبدئياته لم تترسخ بالقدر الذي يمكنها من بسط سطوتها على الأداء السياسي للفئات التي تنادي بعودة الإسلام إلى منصة الحكم.

وستكون هذه القراءة على حلقتين تتناول مكانة الإسلام السياسي في النص الديني في الكتاب والسيرة، وهل جاء في النص ما يدل على وجوب السعي لإقامة الدولة كجزء من التكليف الديني ومدى صدقية الشعارات المرفوعة في هذا المجال.

السياسة في القرآن الكريم

القرآن الكريم كتاب الله الذي أنزله على رسوله ليكون للعالمين نذيراً، وقد اتفق علماء الدين على أن هذا الكتاب يحتوي على آيات شاملة للمواضيع التالية:

1- الأحكام ومنها العبادية والعملية، والعلاقات بين الناس

2- القصص وفيها العبر والمواعظ.

3- أخبار الأمم السابقة والأنبياء وأخبار مستقبلية.

4- العقائد.

5- الآداب والأخلاق.

وقد جعلها البعض تحت ثلاثة عناوين هي: التوحيد والتذكير والتشريع أو الأحكام.

وهذه الآيات على اختلاف تناولها للموضوعات إنما الغاية منها تحقيق سعادة الإنسان في الدارين، الدنيا والآخرة، عبر إيجاد الأمة التي تتجسّد هذه الآيات في سلوكها القولي والعملي، أو بتعبير معاصر عبر إيجاد المجتمع المتمثل لتعاليم القرآن الكريم أمراً ونهياً.

ومن الأحكام القرآنية ما يتناول تصرفات الفرد أو الجماعة المتعلقة بالشأن العام، أي بما نسميه اليوم السياسة، فهناك الآيات التي تأمر المسلمين بالشورى في شؤونهم العامة: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾(الشورى:38).

وكقوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾(آل عمران:159).

وهناك الآيات التي تأمر بالعدل وتنهي عن الظلم كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(المائدة:8).. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾(النساء:58).. وقوله تعالى:  ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل:90)

ومن الآيات التي ورد فيها ذكر الحكم قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾(النساء:105).. ومنها قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (*)أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾(المائدة:49-50). ولا نريد أن نسرد كل الآيات التي وردت فيها عبارات يمكن أن تؤول تأويلاً سياسياً، وإنما نريد أن نتناول مفهوم آيات الكتاب الحكيم فيما يتعلق بأحكام التكليف.

إن الكتاب الحكيم إذا يخاطب المكلفين بأحكامه أو مبادئه وقيمه فإن هذا الخطاب ليس تفصيلياً أو جزئياً، بمعنى أنه ينطبق على تصرف واحد معين فهو بمجمله خطاب عام إلا في بعض الأمور التي تناولها بتحديد معين كعدد الشهود مثلاً، أو صوم رمضان، أو تقسيم الميراث، وهكذا نجد أن خطاب القرآن الكريم للمكلفين بإقامة العدل هو خطاب مطلق، وبالحكم بما أنزل الله خطاب مطلق أيضاً وليس محصوراً في المجال السياسي، أي في مجال الحكم واستخدام السلطة.

إن السياسة أيضاً هي من المعاني غير المحصورة، وتتناول مجالات واسعة في حياة الناس مما يعني أن الذي يتعاطى في هذا المجال يحتاج فيه إلى الأخذ بكل أحكام الإسلام والى التأدب بآدابه والتخلق بالخلق الذي أمر به محمد (ص).

وتجب الإشارة هنا إلى مصطلح أو تعبير يستخدمه كثير من الكتاب  أو المفكرين والخطباء المسلمين وهو أن القرآن هو دستور المسلم، وهذا تعبير مجازي، وقد يفهم منه البعض أن القرآن الكريم يُغني المسلم عن الحاجة إلى دستور مكتوب أو موضوع للدولة، وهذا ليس صحيحاً، فالقرآن ليس دستوراً ولم يصفه النبي بهذا الوصف، ولم يأتِ في القرآن شيء يشير إلى ذلك، فالقرآن كتاب شامل للأحكام والآداب والأخلاق والقصص والعقائد، وهو كتاب هدي، يشتمل على عناوين عريضة يمكن أن تستقى منها بعض المبادئ والأحكام الدستورية، أما الدستور بالمعنى الاصطلاحي المعروف في عالم القانون فهو: "مجموعة الأحكام التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها وسلطاتها وطريقة توزيع هذه السلطات وبيان اختصاصاتها، وبيان حقوق المواطنين وواجباتهم". والقرآن الكريم لا يتناول هذه المواضيع بالتأكيد، لذلك من المسيء للقرآن الكريم وصفه بأنه دستور الدولة الإسلامية، إنه كما قلنا وكما وصفه منزله تبارك وتعالى كتاب هداية، ووظيفته مختلفة كلياً عن ما يسمى بالدستور. إنه بصراحة أحد الشعارات الديماغوجية التي يستعملها بعض الإسلاميين عن غير علم أو دراية، ولو قالوا القرآن كتابنا لكان أقرب إلى الحقيقة والصواب.

هل في القرآن الكريم دعوة إلى دولة؟

يتبين من خطاب القرآن الكريم دعوته إلى إيجاد أمة وأن هذه الأمة ينبغي أن تكون واحدة، وقد خاطب المؤمنين بقوله: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾(الأنبياء:92). فالمؤمنون برسالة محمد(ص) هم أمة الإسلام على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم وأقطارهم والرابط بين المؤمنين هو رابط الأخوة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾(الحجرات: من الآية10).. أي أخوةُ الإيمان.

وقد تأسست هذه الأمة على يد رسول الله صلى الله وآله وسلم، حيث كان النبي(ص) هو مرجعية الأمة وقائدها وموجهها، وبعد وفاته جاء من بعده خلفاؤه رضي الله عنهم، وتولوا قيادة الأمة ورئاستها، وبنو دولة الأمة أو دولتهم، وطوروها بحسب ما يقتضيه حالهم ومصالحهم، ثم تولى الحكم بنو أمية فحكموا بلاد المسلمين ما يقارب ثمانين عاماً، ثم انتقل الحكم من بعدهم إلى أبناء العباس بن عبد المطلب حيث حكموا مئات السنين، وفي عهد بني العباس شهدت الدولة تغيرات وتطورات هائلة حيث وصل الأمر بالخلفاء إلى أن أصبح الخليفة مجرد خليفة صُوَري لا يملك من الأمر شيئاً.

ولأن القرآن الكريم لم يتناول موضوع الدولة ولا شكلها ولا هيكليتها وكذلك لم يتناول رسول الله(ص) هذا الموضوع فقد اجتهد بعض الكتاب أيام الدولة العباسية في تبرير وتشريع كل الطرق والوسائل والأساليب والكيفيات التي استخدمها المسلمون في تناول السلطة أو الوصول إليها، كما ذكر الماوردي في كتابة الأحكام السلطانية.

والحقيقة التي نخرج بها أن الإسلام (عقيدة وشريعة) لم ينزل لفترة ظرفية محددة وإنما هو دين أنزلت آياته ليحتكم الناس إليها في كل زمان ومكان، لذلك كانت هذه الشريعة فيها من المرونة ما يسع كل التغييرات والتطورات التي تطرأ على الاجتماع البشري إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وبما أن الاجتماع البشري يسفر عن احتياجات لا مجال لحصرها، وبما أن الدولة هي إحدى هذه الاحتياجات التي تتغير وتتطور على الدوام فقد ترك القرآن الكريم والسنة النبوية أمر الدولة لتقدير المجتمع الذي ينظر في مصالحه فيقرر من الأشكال والآليات ما يحقق هذه المصالح فلم يفرض شكلاً ولا آلية ولا إطاراً محدداً سوى إطار الأمة الواحدة التي هي فوق الدولة ومؤسساتها، إذ أن مرجعية الدولة هي الأمة والذين يعتقدون أن التجربة الأولى أو النمط الذي سار عليه الصدر الأول من المسلمين هو النمط الذي يجب على المسلمين أن يسيروا به ويلتزموا به ليس لديهم دليل على وجوبه ولا حتى على استحبابه لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله، وحتى حديث رسول الله (ص) الذي يقول فيه: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضو عليها بالنواجذ".

إن هذا الحديث لا يعني ولا يفيد الاقتداء بعين أفعالهم لأن ذلك متعذر ومستحيل وإنما يعني الأخذ بمنهجهم، ومنهجهم هو التغيير والتطوير وفعل الأنسب وبمعنى آخر  منهجهم هو الاجتهاد، وليس التقليد، فلقد وجدنا الاجتهاد مثلاً في بيعة الخلفاء الأربعة حيث اختلفت بيعة عمر عن بيعة أبي بكر وكذلك بيعة عثمان عن بيعة عمر ثم بيعة علي عن بيعة عثمان. أما بنو أمية فسلكوا سبيلاً آخر بعيداً عن هدي القرآن في مسألة الشورى.

هل إقامة الدولة واجب ديني؟

سؤال ينبغي طرحه في ظل طغيان فكر الإسلام السياسي على طروحات معظم الحركات والأحزاب الإسلامية، حيث ينطلق هؤلاء من منطلق أن إقامة الدولة هو واجب ديني من أجل تطبيق أحكام الإسلام، إذ أن هناك أحكاماً لا يمكن إقامتها إلا في ظل دولة إسلامية، وهذا أمرٌ فيه التباس، فليس كل أمر ورد في الشريعة أو في الكتاب من الواجب علينا إيجاد الوقائع التي ينطبق عليها النص، ولكن إذا وجدت الوقائع التي ينطبق عليها النص فإننا نعمل على تطبيقه.

ولقد قلنا سابقاً أن الدولة حاجة اجتماعية وأن على المجتمع أن يسعى لإقامة الدولة التي تحقق مصالحه سواءٌ كان المجتمع مسلماً أو غير مسلم، أما أن نقول أن إقامة دولة الإسلام واجب على المسلمين ففي ذلك دخول إلى الموضوع من غير مدخله الطبيعي، لأنها واجبة عليهم كمجتمع من باب تحقيق مصالحهم وليس لاحتياج الدين إليها.

إن بعض الدعاة يجعلون دعوتهم قائمة على فكرة إقامة الدولة باعتبارها هدفاً للدعوة الإسلامية، فيدخلون المسلمين في دائرة الصراع السياسي من الباب الديني.

إن هدف الدعوة الأسمى هو إيجاد المجتمع المسلم، المجتمع الذي يؤمن بعقائد الإسلام وبقيمه وبمبادئه، المجتمع الذي يحتكم برضى نفس منه لأوامر الدين ونواهيه عملاً بقوله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾(النساء:65). فإذا ارتضى المجتمع الإسلام ديناً وآمن به فإن من الطبيعي أيضاً أن يضمن كل ذلك في دستوره الذي سيكون متوافقاً مع إيمانه، وفي قوانينه التي تبين كيفية تطبيق الأحكام المستمدة من الشريعة الغراء، التي تحرّم حرامها، وتحل حلالها، وتترك للناس ما تركته لهم الشريعة فيما يعرف بالمباح ليقرروا فيه.

وقد يعتقد البعض أننا نقول ما معناه أنه لا بأس بأن تحكم المجتمع المسلم دولة غير ذات توجه إسلامي في أحكامها وتشريعاتها، وهذا ليس صحيحاً البتة، إن أي سلطة تقوم على أسس متناقضة مع قيم المجتمع ومبادئه هي سلطة ساقطة حتماً، ولا بد أن يقع الصدام بينها وبين شعبها، وستنتهي إلى حروب أهلية وصراعات عنفية. لذلك نحن نقول: كما أنه لا ينبغي أن تحكم المسلمين دولة تتناقض مع قيمهم ومبادئهم الدينية والأخلاقية، كذلك لا ينبغي لدولة شعبها غير مؤمن بالإسلام ولا راضٍ به أن تحكم بشرع الإسلام.

وإذا كان اليوم من مصلحة المجتمع أن تكون له دولة تتجسد في مؤسسات متعددة بتعدد واختلاف المصالح والمنافع المرتجاة، فإن هذه الحاجة قد تتغير في مستقبل الأيام وكما قد تنتفي الحاجة إلى كل الأشكال الحالية، وتنبثق الحاجة إلى أشكال أخرى غير معروفة اليوم لذلك لا نرى أية ضرورة لربط مؤسسة الدولة بالدين، فالدين بما هو كتاب وسنة باقيان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

شعارات إسلامية سياسية

تطرح بعض الجماعات الإسلامية شعارات تهدف من خلالها إلى  كسب تأييد الجماهير، فتفعل هذه الشعارات فعلها في الشارع وتؤثر في الجماهير، ولكن هذه الشعارات تبقى في إطار العناوين العريضة التي لا توجد تحتها أية تفاصيل، أو تبقى شعارات غير قابلة للتطبيق في أرض الواقع، ليس لسوء مضمونها أو فساده، وإنما لعجز القائلين بها عن تجسيدها في الواقع. ومن هذه الشعارات، شعار "الإسلام هو الحل" " ولا حكم إلا الله" " القرآن دستورنا".

إن هذه الشعارات يحتاج بعضها إلى جهد أجيال من الجد والعمل والبحث والدراسة مثل شعار الإسلام هو الحل... حل ماذا؟ إذا كان المقصود حل مسألة أصل الإنسان ووجوده وغايته فهذا أمر لا علاقة له بالسياسة، أو إذا كان الحل في إجابته على أسئلة كونية كبرى، فهذا أيضاً خارج عن الجدل السياسي أما إذا كان المقصود هو حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع المسلم، وهو ما يدخل في إطار الأجوبة على معاناة الناس التي يكون حلها بأيديهم أو بأعمالهم وأخلاقهم، فهذا فعلاً شأن سياسي، لكن أين هو الحل الذي يقدمه الإسلام لجميع ما يعانيه المجتمع المسلم كدين.

إن الإسلام يقدم عناوين عريضة أخلاقية أو سلوكية تتعلق بالتعاون والتضامن والصدق والعدل وما إلى ذلك من عناوين، لكن الدخول في التفاصيل أمر يحتاج إلى جهد بشري يشتمل على أعمال العقل وبذل الجهد وإعداد الدراسات ووضع المشاريع والمبادرة إلى تنفيذها. وهذا ما لم يتعب أصحاب الشعار أنفسهم بالبحث فيه لأن همهم هو الوصول من وراء هذا الشعار إلى السلطة غير عابئين بما ستؤول إليه أمورهم من الفشل السياسي الذريع الذي ستتحطم عند صخوره تجربتهم.

أما الشعار الآخر وهو "القرآن دستورنا" فهو أيضاً كلام ديماغوجي لا معنى له، نعم القرآن الكريم هو مرجعية الإنسان المسلم وخارطة طريقه إلى الله عز وجل، والى رضوانه وجنته في الآخرة والى سعادته في الحياة الدنيا.

فقد روى ابن عباس قال: "أن رسول الله خطب الناس في حجة الوداع فقال: "يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه" رواه الحاكم النيسابوري في مستدركه من طرق أهل السنة. وقد ورد من طرق أخرى عند السنة والشيعة بما يقرب منه برواية: "وعترتي أهل بيتي". فالقرآن الكريم كتاب هداية وليس دستوراً لأن الدستور كما سبق وبينا هو مجموعة الأحكام التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها...الخ. وهو أمرٌ آخر يجب أن تستمد مواده من مصالح الأمة وتجاربها المدروسة ومبادئها وقيمها. وكذلك يأتي شعار "لا حكم إلا الله" ويفسرونه على أنه الحكم بمعناه الاصطلاحي السياسي المعاصر، أي السلطة وقوانينها حيث تبين الأحكام والتشريعات والأنظمة واللوائح والعرائض وما إلى ذلك وهذا طبعاً ليس هو المراد بهذه الآية: "إنْ الحكم إلا لله" إذ أن المراد بها هو الحكم المطلق أي أمر التصرف بهذا الكون وما فيه فليس لأحد قضاء مع قضاء الله الذي إذا قضى أمراً فلا راد لقضائه. وإذا قضى شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. وإذا أمر الله بأمر في كتابه أو على لسان نبيه فإن هذا الأمر ملزم للناس وبالأخص للمؤمنين بالله.

ويقولون المشرع هو الله في توجههم لرفض أي تشريع بشري وللرد على هذا الفهم، نقول والله اعلم بالصواب: إن ما قضى الله فيه لا مجال لأحد أن يقول بغير قول الله، ولكن هناك أمور لم يقض فيها الله بشيء وترك الفصل فيها للناس لينظروا فيها من منطلق جلب المصلحة أو درء المفسدة فللإنسان أن يشرع في كل الأمور التي لم يرد فيها نص وهي ما يطلق عليها البعض منطقة الفراغ في التشريع ، ولكن مع التزام الضوابط والحدود التي لا تجعل ما يشرعه الإنسان متناقضاً أو مناقضاً لما شرعه الله عز وجل.

وعلينا أن نفرق في هذا المجال بين النص وفهم النص، فما جاء في القرآن الكريم أو في سنة النبي محمد(ص) وهو نص مقدس، أما فهم النص أو ما يسمى بالفقه أو آراء الرجال فليس بالمقدس بمعنى أنه خاضع للمناقشة وقابل للرد، طبعاً بالحجة والدليل والبرهان.

ومهما كان الشخص الذي صدر عنه الرأي الفقهي بعد رسول الله (ص) ومهما كان علمه ومكانته فإن ذلك لا يعطي رأيه حصانة ضد المناقشة والرد والأخذ برأي آخر سواءٌ أكان هذا الرأي صادراً عن الأقدمين أو المحدثين وفقاً للضوابط المعروفة.

إن الإسلام السياسي يستغل هذه الشعارات كما قلنا من أجل كسب الجماهير، وهذا خطأ في السياسة والدين، لأن في استخدام الشعار نوع من التعمية أو الإبهام، وحبذا لو وضعت هذه الشعارات وسواها كثير موضع المناقشة والتفصيل من أجل أن لا نصل إلى لحظة يصدم فيها الناس بعقم الشعارات كما حصل في أكثر من بلد إثر وصول الإسلاميين إلى السلطة.

بل على العكس من ذلك لم يستطع الإسلاميون في أكثر من بلد تسلموا فيه السلطة أن يحلو مشاكل المجتمع، وإنما أدى أداؤهم إلى ازدياد المشاكل والأزمات كما حصل في الصومال حيث سادت شريعة القتل والجريمة والقرصنة ، وفي السودان حيث ازداد الفقر أضعافاً مضاعفة ووصل الأمر إلى حد تقسيم البلاد بعد حروب أهلية، أما في أفغانستان فعادت البلاد مئات السنين إلى الوراء ووقعت تحت الاحتلال مجدداً.

والاستثناء الوحيد من هذا الواقع المتردي هو الجمهورية الإسلامية في إيران التي حققت التقدم العلمي والتقني والسياسي والاجتماعي واستطاعت أن تقيم دولة ذات مؤسسات سياسية واجتماعية ونحن هنا لا نقول إنها أصبحت دولة بلا مشاكل ولا أزمات ولكنها تقدمت وتطورت وأصبحت في مصاف الدول المحترمة على كافة الأصعدة.

فإذا استثنينا النموذج الإيراني فإن شعار الإسلام هو الحل كان شعاراً أجوفاً. والسبب في ذلك أن الإسلاميين كانوا يسعون إلى السلطة من أجل إقامة دولة الإسلام بزعمهم التي تقيم المجتمع المسلم، مع أن السبيل الصحيح هو السعي لإقامة المجتمع المسلم الذي يقيم دولته وفق مبادئه وقيمه في عدد من المؤسسات بحسب مقتضى الحال.

ونختم بالقول إن رسالة الإسلام هي رسالة إقامة أمة مؤمنة بالله هي أمة التوحيد والتعاون والتضامن والتكامل ونشر رسالة الخير والمحبة، أمة تدعو إلى الله وتوحده بأعمالها أكثر مما تدعو بمقالها، أمة تنبذ الشرك والكفر والطغيان وتحارب الظلم والعدوان.

إن شراهة البعض للسلطة وتوسل الدين وأحكامه ومبادئه سبيلاً للوصول إليها قد أساء أيما إساءة إلى الدين والى دعاته الحقيقيين، والسلطة حتى بأول درجاتها تفضح المتاجرين بالدين فسرعان ما يظهر حبهم لها وصراعهم عليها، والتنازل عن مبادئهم وقيمهم من اجل تحقيق  مكاسب مرجوة من ورائها،أو من أجل كسب رضى القوى العالمية  أو الإقليمية لبقائهم في السلطة كما حصل في مصر حيث تناسى الإخوان المسلمون عداءهم التاريخي للكيان الصهيوني  وقام رئيسهم بإرسال رسالته الشهيرة إلى شمعون بيريز رئيس الكيان الصهيوني المزيلة بعبارة (صديقك الوفي)، كما جاهروا بالعداء والخصومة لحزب الله (المقاومة الإسلامية) ولإيران الجمهورية الإسلامية على الرغم من كل ما قدمه الحزب وقدمته الجمهورية من دعم وتأييد لهم قبل وعند وصولهم إلى السلطة، فكانت النتيجة لما شاهدنا.

ولا بد من التطرق إلى الأثر الذي تركته أفعال وتصرفات تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات السلفية في استماتتهم من أجل الوصول إلى السلطة في كثير من البلاد وما سفكوا من أجل ذلك من دماء لا يحل سفكها مما جعل صورة الإسلام أمام العالم صورة مخيفة لا تخيف  غير المسلمين بل تدخل الرعب إلى قلوب المسلمين لقد قدمت تجارب الإسلاميين أسوء صورة عن الإسلام السياسي مما سيجعل المسلمين في المستقبل يفرون من هذه التسمية كفرار السليم من الطاعون. 

اعلى الصفحة