اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الرابعة عشر ـ العدد 157 ـ (ربيع أول 1436 هـ) كانون الثاني ـ 2015 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

الشعر.. الشاعر.. وعقيدة الحياة

سيكون على الشاعر أن يشكر كل الأشياء التي تحرضه على الكتابة، حتى الألم في كثير من الأحيان.. على الشاعر أن يدخل ذلك المعبد المنزوي في نهاية الذاكرة، ويشعل الشموع، ويتضرع لخالقه كي يشعل البراكين في طريقه، ويمد الزلازل، حتى يتسنى له الكتابة أكثر.

هذا الكائن الجحيمي المسمى شاعراً، سينسى أعضاءه كاملة في كل الزوايا، ويحمل أجراساً ثقيلة تدق في خرائط نسيانه، يكتب ويمحو ويقيم مأتمه الجنائزي، هكذا أتصوره، خارجاً من العالم السفلي لجحيم دانتي، ومتوجهاً إليه.

الشاعر لا يعرف صورة الملاك أبداً.. الملاك هو الصورة التي ضيّعها في رحلة تمرُّده. إنه الشاعر الجلجامشي الجديد، الذي ما انفك يعلن عن رحلته الخطرة باحثاً عن زهرة الشعر.

هكذا سيطوي المسافات والبحار في رحلة الأقاصي باحثاً عنها. ليشكر في النهاية الحية الرقطاء، لأنها من سيحفظ الأسطورة. هل كانت الحية رفيقته في الرحلة حتى دون أن يدري؟.. يبدو أن الأمر كذلك حتماً!!.

الحية كانت القصيدة التي تغيِّر جلدها في كل تأويل، في رحلة التحول ورحلة الخلود، ولذلك سيموت جلجامش، لكن الأسطورة ستحيا أبداً. هكذا فعل كل شاعر جلجامشي جديد طلق العالم والتجأ إلى الأقاصي الوجودية باحثاً عن زهرة الخلود، عن زهرة الشعر. احذروا إذن! إن الطريق إلى الأقاصي الشعرية غير آمنة أبداً، من كان ينتظر أن يجد عالماً وردياً أمامه، فليغير وجهته مع أول قطار قادم أو أي قافلة.

الأقاصي الشعرية لا تعد بغير ذلك الأفق الانتحاري، والفضاءات الشاسعة لا تعد بغير الامتدادات القاهرة. وبالتالي فهي تستدعي روحاً قلقة من حجمها، لذلك سيكون على هذا الكائن التراجيدي أن يكدس حقائبه بكل عناصر الألم حتى ينقذف في أتونها.

على الشاعر الحقيقي أن يكون صاحب نبوءته الشخصية، أن يعلن تمرَّده، أن يخلق أيقونته الشعرية الخاصة، ماركة مسجلة، هكذا هي طرائق الشعر، وابتداع الطريق بيد الشاعر وحده، وهو بوصلة سفينته. قد يعرف مريدين لطريقته، لكنه لا يكون مريداً بل مؤسساً لاتجاهه وأفقه، وبهذا يجب أن نؤمن معه أن لا عقيدة في الشعر غير عقيدة الحياة، الحياة في كل تجلياتها الجمالية والوجودية.

والشاعر المسكون بهاجس تجديد أدواته في شرطَيْها الجمالي والوجودي على حد سواء، يكاد يعيش حالات من الصراع الداخلي، ما بين تنافر وتجاذب على مستويات مختلفة تطال عالمَيْه: الخارجي والباطني. إنها حالات اللا يقين التي تحكم قبضتها عليه. وبقدر ما تولد ارتجاجاً وخلخلة للمعايير لديه حتى في واقعه اليومي، بقدر ما تعطي مجالاً أوسع لتمكين الممكن. تتدخل فيه موهبته وإحساسه البالغ الدقة بوجهة الجانبين الجمالي والوجودي، حيث يكون تدخُّلُه البسيط فقط في تشكيل هذا العالم، من منطلق وضع الرتوشات اللازمة في إطار الفضاء الذي يعمل على تركيب عناصره، بصيغة أخرى في خلقه للعوالم الجديدة مشروطة بهيكلها العالم الذي تقوم  عليه وهو الجمالية في مهمتها الوجودية.

ما الكتابة إذن؟.. إنها محاولة لتأجيج أسئلة جديدة، إنها محاولة لخلق ارتجاجات في هيكل المعتقدات السائدة. إن الكتابة بهذا الشكل هي الإيمان المطلق باللايقين في كل صورة وتجلياته الواضحة والمضمرة. الشعر لا يَعِدُ بتقديم إجابات، ولكن يفتح أبواب الوهم على مصاريعها.

هل قلت وهم؟!!.. نعم بغير الوهم لا توجد حياة، وحين نضيِّع الوهم فنحن نضيع الطريق، ونكون بذلك على مشارف الانهيارات المطبقة. مثلما تنبأ لذلك روني شار: أمام كل انهيار للبراهين يجيب الشاعر برشقة مستقبل. إن الشاعر بهذا الشكل هو حافظ وجوه الكائن اللانهائية كما في شذرة أخرى لهذا الشاعر الوجودي العملاق. وهو يغادر الأقاصي الشعرية، انطلق إلى أقاصي الحياة حاملاً معه لعنة الجحيم الشعري. حين ننغمس في رحلة الشعر فنحن ننغمس في رحلة التيه الجحيمي.

لماذا نكتب إذن؟ سيجيب هذا الكائن الجحيمي: لنخلق الصورة الضد في كل شيء.. أن نقلب المرآة فتنقلب صورة العالم رأساً على عقب.. ولهذا فحين يعلن الشاعر تمرده ويطلق القبلية الشعرية ويرفض أن ينضوي تحت لواء قيادتها أو يتجّند في جيشها، عندها سيكون مضطراً لأن يرحل باتجاه الأقاصي الوجودية التي تعده بها هواجسه.

الشاعر الحقيقي يرفض أن يكون جندياً عادياً، وليس هناك أي قوة ستجعله يتطوع كرهاً في الجندية الشعرية، ويعيش تحت أي قيادة كيفما كانت، هذا لأنه مؤمن بأنه حين سيعيش في إطار قبلي فهو عندها سيكون منذوراً لتبنِّي كل أفكارها، لكن حين يقرر أن يعيش بعيداً في إطار فردي مستقل، فهو عندها لا يكون ملزماً سوى بالإيمان بأفكاره الخاصة لا غير، لأنه مؤمن تماماً بأن قدره في الاتجاه إلى الأقاصي الوجودية، ليؤسس لذاته وطريقته.

الشاعر تصنعه تجربته الوجودية الخاصة لا غير، إنها الصعلكة الشعرية في أبعد حدودها، حتى ليُنْعَتَ صاحبُها بالجنون، في الشعر علينا أن نخوض رحلتنا الخاصة، ونفتح العالم على كل الاحتمالات، وألا نخضع للنموذج الجاهز: النموذج المتعارف عليه والمستهلك إلى درجة الابتذال، على الأقل حين ندخل عتبات عالم القصيدة فلنحلم بتكسير القوالب المتوارثة، ونعلن الثورة على كل شيء حتى على ذواتنا إذا استدعى الأمر ذلك، أن نعيش حالات اللايقين واليقين في آنٍ. نمحو صورنا ونعيد تركيبها من جديد، ثم نعيد كسرها وهكذا، لكن القاعدة لا تتحقق إلا بالدخول في عوالم الجنون، وحين نقول الجنون فنحن نقول الحرية في أبعد طروحاتها، اختراق هذه العوالم هو اختراق الامتدادات الشاسعة للإبداع، وطرح صورة مختلفة عما هو مألوف،وحين نعلن الثورة على النماذج الجاهزة فنحن نعلن الثورة على الأركان القديمة في كل قوالبها وصورها.

إنها شهوة الخلق أن تبني العالم وفق رؤية خاصة, وطبعاً رؤية ضمن رؤى أخرى. إنه الإيمان بالتعددية، ذلك أنه لا توجد نظرة أحادية في الإبداع بهذا المفهوم.

اعلى الصفحة