أي مستقبل للعلاقات التركية - العربية في ظل رئاسة أردوغان؟

السنة الرابعة عشر ـ العدد 157 ـ (ربيع أول 1436 هـ) كانون الثاني ـ 2015 م)

بقلم: خورشيد دلي(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

مع تأزم العلاقات التركية – المصرية، وتداعيات المصالحة الخليجية على العلاقات القطرية بكل من مصر وتركيا، وانسداد الدبلوماسية التركية تجاه الأزمة السورية، والتحولات السياسية التركية المرتقبة في ظل رئاسة رجب طيب أردوغان، تبدو العلاقات التركية - العربية أمام مرحلة جديدة، بعد التحسن الكبير الذي شهدته هذه العلاقة قبل مرحلة (ثورات الربيع العربي) والتي تحولت إلى صقيع دموي فصوله القتل والإرهاب والتطرف.

بداية، لا بد من التوقف عند العوامل التي ساهمت في تحسن العلاقات التركية – العربية خلال مرحلة ما قبل (ثورات الربيع العربي) قبل أن نتحدث عن آفاق هذه العلاقة في ظل وجود أردوغان في منصب رئاسة الجمهورية وتسلمه ملف السياسة الخارجية التركية، ولعل من أهم هذه العوامل:

1 – العوامل التاريخية والثقافية التي تأسست بين الجانبين منذ وصول الإسلام إلى بلاد الترك، مروراً بانخراط الأتراك في بنية الدولة الإسلامية في عهد العباسيين قبل أن يؤسس العثمانيون دولتهم ويفرضوا سيطرتهم على معظم البلاد العربية، وبغض النظر عن الجدل بشأن فيما إذا كان الحكم العثماني للعالم العربي يشكل احتلالاً أم لا، وبغض النظر عن الاتهامات المتبادلة بين العرب والأتراك عن أسباب انهيار الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، فان هذه المرحلة الطويلة من العلاقة الممتدة أدت إلى نشوء عوامل ثقافية وتاريخية باتت تشكل حاملاً أيديولوجياً لدى الجانب التركي في كيفية النظر إلى العلاقات مع العالم العربي.

2- العامل الجغرافي الذي يمتد على مسافة قرابة 1200 كيلو متر مع سورية والعراق، وهو ما يجعل  للأمن المشترك قيمة، خصوصاً في ظل تصاعد موجة المجموعات الإرهابية ولاسيما داعش والنصرة، فضلاً عن وجود مصالح حيوية تتمثل في وجود أنهار كبرى تشترك فيها الدول الثلاث مثل دجلة والفرات وسط خلافات بين هذه الدول بشأن مياه النهرين خاصة في ظل استخدام أنقرة مياه النهرين ورقة ضغط على دمشق وبغداد في العديد من المحطات التاريخية، إلا أن ذلك لم يمنع تركيا من النظر إلى البلدين كسوق لاقتصادها وتصريف منتجاتها، وفي الوقت نفسه جسرا لها إلى الدول العربية الأخرى ولاسيما في الخليج ومصر

3- سياسة ما سمي بصفر المشكلات التي اعتمدها حزب العدالة والتنمية في بداية عهده، مع الإشارة إلى أن الرئيس الراحل تورغوت أوزال حاول إتباع هذه السياسة في مطلع تسعينيات القرن الماضي قبل أن يقف العسكر بالمرصاد له، انطلاقاً من الأسس التي وضعها مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، وهي أسس اعتمدت القطيعة مع العالم العربي على أساس أن الخيار الاستراتيجي والنهائي لتركيا هو الاتحاد الأوروبي والغرب، فيما حاول حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى الحكم في عام 2002 وضع نهاية لهذه السياسة وإتباع سياسة جديدة تحقق لتركيا دور الدولة القائدة المؤثرة في العالم العربي، ولعل من أهم ملامح السياسة التي اتبعها حزب العدالة والتنمية لتحقيق أهدافه السابقة:

- الانفتاح التركي الكبير تجاه العالم العربي، مدفوعاً بعوامل التاريخ والجغرافية والثقافة والسياسة، وقد أبدى العالم العربي اندفاعاً كبيراً تجاه الانفتاح التركي، تطلعاً إلى تركيا مختلفة ومناصرة للقضايا العربية، حيث اختلفت نظرة الدول العربية إزاء الانفتاح التركي، تراوحت بين دول الخليج التي رأت في المسعى التركي عاملاً إقليمياً يمكن أن يؤثر على الدور الإيراني في المنطقة ويحد منه، وبين دول أخرى مثل سورية والعراق ولبنان رأت في السعي التركي عاملاً يعمِّق من الدعم الإقليمي للقضايا العربية ولاسيما القضية الفلسطينية، قبل أن يكتشف الجميع أن الهدف التركي الأول والأخير كان تحقيق المشروع الإقليمي التركي والذي تعرض إلى نكسة قاتلة في مصر مع وصول عبد الفتاح السيسي إلى السلطة ووضع نهاية لحكم الإخوان المسلمين ومن ثم حظر التنظيم.

- ازدياد وتيرة زيارات كبار المسؤولين الأتراك وعلى أعلى المستويات إلى الدول العربية، والعكس أيضاً، إذ قام كل من أردوغان وعبد الله غل وأحمد داود أوغلو بالعديد من الزيارات إلى معظم الدول العربية، تم خلالها التوقيع على عشرات الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية وتأسيس مجالس عليا مشتركة مع معظم هذه الدول، وكذلك ازدياد تدفق الاستثمارات وتنقل حركة الأفراد والسياحة وإلغاء تأشيرات الدخول مع دول المشرق العربي (سورية – العراق – الأردن - لبنان)، وفتح الأسواق العربية أمام المنتجات التركية، وهو ما أدى إلى زيادة معدلات التبادل التجاري بدرجة كبيرة مع الدول العربية، إذ كانت نسبة التجارة الخارجية التركية مع الدول العربية تشكل 10% في العام 2000 فيما وصل إلى 28% في العام 2012 قبل أن تتراجع إلى قرابة 23% في نهاية العام 2013، ولعل هذه النسب تعكس حقيقية الصعود والهبوط في مستوى العلاقات التركية – العربية، انطلاقاً من العلاقات السياسية.

- الخطاب السياسي التركي وجملة المواقف السياسة ولاسيما تلك صدرت عن أردوغان تجاه القضية الفلسطينية والتي اتخذت طابعاً إعلامياً دعائياً، دفعت بالعديد من القوى وحركات الإسلام السياسي ولاسيما الإخوان المسلمين في العالم العربي إلى المطالبة (راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة التونسية- نموذجاً) بتطبيق نموذج حزب العدالة والتنمية التركي في الحكم، قبل أن تكتشف هذه الحركات حجم الاختلاف بين الواقعين العربي والتركي، واختلاف تجربة الإسلام السياسي بين هذه البلدان، فضلا عن تعثر هذه التجربة وإخفاقها. وهو ما أدى إلى اختفاء مطالبة هذه القوى بتطبيق النموذج التركي خاصة في ظل تفاقم المشكلات الداخلية في تركيا والخوف من الصدام الداخلي على وقع الحرب التي يشنها أردوغان ضد حليف الأمس فتح الله غولين زعيم حركة الخدمة، فضلا عن صراعه المرير مع المعارضة العلمانية وكذلك حزب العمال الكردستاني، والأهم الأزمات التي تعاني منها السياسة الخارجية التركية بسبب الأبعاد الإيديولوجية التي اتخذتها هذه السياسة تجاه العالم العربي.                                                                

منعطفات في العلاقة

عندما بدأت ما تسمى بثورات الربيع العربي قبل أن تتحول إلى صقيع دموي - كما قلنا - وجد العالم العربي نفسه أمام تركيا تنتهج سياسة مغايرة لنظرية صفر المشكلات ومبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وتنتهج  بدلاً منها سياسة تقوم على:

1- دعم جماعات الإسلام السياسي وتحديداً حركات الإخوان المسلمين والسعي إلى إيصالها للسلطة، وربط السلطات الجديدة في هذه الدول بالسياسة الإقليمية التركية على اعتبار أن تركيا قائدة للعالم الإسلامي، وقد أدى هذا الأمر إلى الصدام مع الأنظمة التي عملت أنقرة في السابق على تحسين العلاقات معها بكل الوسائل كما كان الأمر في ليبيا ومصر وسورية.

2- الترويج المباشر للنموذج التركي كنموذج يمكن الاقتداء به، بوصفه حقق المعادلة الصعبة المتمثلة بالتوفيق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد مع أن للعالم العربي خصوصية مختلفة، فعلى الأقل لم يعش هذا العالم الصراع بين الإسلام السياسي و(العلمانية) كما كان الحال في تركيا. وعلى الرغم من ذلك فإن أردوغان وأوغلو حرصا في كل مناسبة على التسويق للنموذج التركي وهو ما أثار حفيظة العديد من الدول العربية والحذر منه بوصفه يحمل مشروعاً أيديولوجيا إقليمياً.

3- هذه السياسة اقتضت من تركيا الانقلاب على سياستها القائمة على صفر المشكلات، وبررت تركيا انقلابها هذا بدعم الثورات والاحتجاجات المطالبة بالحرية والديمقراطية، على أساس أن كل ذلك سيحقق علاقة أفضل لتركيا مع العالم العربي اقتصادا وسياسة ومجتمعاً، فضلاً عن تحقيق الاستقرار الإقليمي، لكن التورط التركي في الأزمة السورية على الأرض وجعل الأراضي التركية ممراً ومقراً للمجموعات المسلحة التي تأتي إلى سورية والعراق لتقاتل باسم الجهاد في حين تقوم بارتكاب المجازر ضد الجميع، كل ذلك أفقد الدعوة التركية مصداقيتها وبرزت دورها كدولة داعمة للإرهاب وبشهادة حلفائها.

4- في الممارسة السياسية اتبعت تركيا سياسة مختلفة اتجاه الدول العربية، تراوحت بين التدخل المباشر كما هو الحال في ليبيا بعد تدخل حلف الناتو في الحرب ضد نظام معمر القذافي، وبين الحذر تجاه دول الخليج كما هو الحال في البحرين، وبين التورط  المباشر في سورية وبدرجة أقل في العراق. ولعل السبب الأساسي لهذا الاختلاف هو طبيعة اختلاف المصالح من دولة إلى أخرى، فضلاً عن حجم العلاقات الاقتصادية مع هذه الدول ربطا بالأهداف السياسة إزاء كل دولة أو حدث

في المقابل، العالم العربي الذي رحب بالاندفاع التركي تجاهه، وجد نفسه أمام تركيا تتحول من ممارسة سياسة صفر المشكلات إلى انتهاج سياسة تقوم على البعد أيديولوجي والتدخل في شؤونه الداخلية، وقد ظهر هذا الأمر جلياً في مصر من خلال رفض الحكومة التركية ثورة الثلاثين من يونيو/حزيران والتمسك بدعم الأخوان المسلمين تحت عنوان دعم الشرعية في مواجهة الانقلاب العسكري.

في الواقع، إذا كان العالم العربي بقى في مرحلة ما قبل حكم حزب العدالة والتنمية ينتهج السلبية وبشكل أدق عدم المبادرة تجاه تركيا الطامحة إلى العضوية الأوروبية، فانه في مرحلة حكم العدالة اندفع بقوة نحو تركيا وفتح الأبواب لها على مصراعيه لنسج شراكة إقليمية تقوم على عوامل الجوار الجغرافي والثقافة والاقتصاد والأمن الإقليمي قبل أن ينتقل في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي إلى النظر بعين الشك والريبة والقلق إلى الدور التركي، وهو شك انبثق أساسا من البعد الإيديولوجي الداعم لحركات الإسلام السياسي المتمثلة بجماعات الإخوان المسلمين. وقد بات هذا الأمر يشكل تحدياً كبيراً للعلاقات التركية – العربية خاصة في ظل استمرار أردوغان في هجومه على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فيما تقف دول الخليج ولاسيما السعودية والإمارات بقوة إلى جانب السيسي، فضلاً عن الفتور في العلاقات التركية الخليجية مع تصنيف معظم الدول الخليجية حركات الإخوان المسلمين في لائحة الإرهاب وتحول تركيا إلى مقر للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين الذي بات يعقد اجتماعاته المتتالية في تركيا ومن هناك يضع خطط التحرك اتجاه الساحات العربية ولاسيما مصر.

في الواقع، من الواضح أن السياسة التركية باتت تعاني من معضلات كبيرة تجاه العالم العربي ذلك لأسباب كثيرة، لعل أهمها:

1- إن مسار الأزمة السورية لا يسير وفق رغبات السياسة التركية خاصة في ظل اختلاف الأجندة الأمريكية – التركية في قضية الحرب ضد داعش، والرفض الروسي – الإيراني المطلق للخيار العسكري ضد سورية، وهو ما أجبر الغرب على اعتماد الحل السياسي للأزمة بعد أن أوحى مرارا باللجوء إلى الخيار العسكري، وقد راهنت تركيا على هذا الخيار لإسقاط النظام السوري والمجيء بقوى قريبة منها إلى سدة الحكم بعد أن تحولت إلى مقرا للمعارضة السياسية والعسكرية السورية.

2- إن وجود رجب طيب أردوغان في سدة الرئاسة سيزيد من دوره الشخصي في رسم السياسة الخارجية التركية، وإذا ما تم الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي كما هو مقرر بعد الانتخابات البرلمانية المقررة في حزيران/يونيو المقبل، فإن دور أردوغان سيبقى مطلقاً في رسم السياسة الخارجية التركية، وهو دور من شأنه زيادة مستوى التوتر في العلاقات مع العالم العربي ولاسيما أن أردوغان يصر على القول مرارا انه لن يعترف بحكم الرئيس عبد الفتاح السيسي بعد أن تحول الأمر إلى نوع من العداء الشخصي حيث لا يتوقف أردوغان عن وصفه بالطاغية وكذلك الأمر بالنسبة لموقفه من الرئيس السوري بشار الأسد، فضلاً عن استخدام أردوغان في خطابه ومواقفه السياسية البعد الإيديولوجي بقوة وبطريقة تسعر من الحرب الطائفية بل ومن الانقسام حتى داخل المجتمع التركي نفسه، حيث لا يتوقف عن وصف زعيم حزب الشعب المعارض كمال كليجدار أوغلو بالعلوي.

3- إن الموقف التركي العدائي من حكم الرئيس السيسي بدأ ينعكس سلباً على علاقات تركيا مع دول الخليج ولاسيما السعودية والإمارات، خصوصاً بعد أن تحولت تركيا إلى ملجأ للمعارضة المصرية وتأسيس المجلس الثوري المصري في اسطنبول في الثامن من أغسطس عام 2014، وهكذا فإن الملف المصري مرشح إلى أن يحول الفتور في العلاقات الخليجية – التركية إلى أزمة سياسية خاصة إذا واصل أردوغان التصعيد ضد السيسي وتحسنت العلاقات القطرية المصرية بعد المصالحة الخليجية في قمة الدوحة لدول مجلس التعاون الخليجي.

4-  إن العلاقات الاقتصادية التركية مع العالم العربي معرضة لتراجع كبير بسبب هذه الخلافات، وهي سجلت تراجعاً كبيراً على مستوى مؤشرات التجارة، إذ  تقدر الخسائر التركية الاقتصادية  من توتر علاقات تركيا بالعالم العربي بنحو ثلاثين مليار دولار، وعلى الرغم من محاولة تركيا استعادة هذه الخسائر من خلال زيادة وتيرة علاقاتها الاقتصادية مع أفريقيا، إلا أن الخسائر التركية مرشحة للمزيد في الفترة المقبلة بسبب قرار مصر وقف الخط الملاحي  للتجارة التركية عبر الموانئ المصرية بعد أن جمدت التعاون بين بورصتي القاهرة واسطنبول، وحدت من سفر المصريين إلى تركيا، ومن شأن هذه القرارات إلحاق خسائر مضاعفة بالاقتصاد التركي ولاسيما في أفريقيا التي تشكل مصر جسراً للمنتجات التركية إليها، كما هو حال سورية التي كانت جسراً لهذه المنتجات إلى دول الخليج، فيما تبدو الحكومة التركية عاجزة عن تعويض الخسائر الكبيرة التي تلحق بها، وهو ما يعرض الاقتصاد التركي لخطر الانهيار خاصة في ظل مؤشرات الانكماش والتضخم وتراجع الاستثمار الخارجي والداخلي وفقدان الليرة التركية لقيمتها أمام الدولار العملة التي تعتمدها تركيا في ديونها.

المصالحة الخليجية تعمق الجرح التركي

جاءت المصالحة الخليجية وتحديداً بين كل من السعودية والإمارات والكويت من جهة وقطر من جهة ثانية على وقع التطورات الإقليمية العاصفة التي تشهدها المنطقة، وعليه من الطبيعي أن تترك هذه المصالحة تداعيات إقليمية، لاسيما على جبهة العلاقة مع كل من تركيا وإيران، الدولتين الإقليميتين الأكثر تأثيراً في العالم العربي وأحداثه. وإذا كان الأمر بالنسبة لإيران هو إتباع سياسة خليجية واحدة إزاء جملة المشكلات المثارة معها، فإن الأمر بالنسبة لتركيا يأخذ طابعاً مختلفاً، نظراً لخصوصية العلاقة بين أنقرة والدوحة على خلفية دعم الجانبين للإخوان المسلمين من جهة، ومن جهة ثانية لعلاقة النتائج المنتظرة من المصالحة الخليجية بمسار العلاقة مع مصر، من خلال السعي إلى فتح صفحة جديدة بين القاهرة والدوحة التي أبدت العديد من الإشارات الإيجابية خلال الفترة الأخيرة بشأن الحد من علاقاتها مع الأخوان المسلمين حيث قررت ترحيل العديد من قادتهم، وكانت وجهة معظم هؤلاء تركيا التي تحولت عملياً إلى مقر للإخوان المسلمين وتنظيمهم الدولي.

في الواقع، ثمة اعتقاد عام، بأن المصالحة الخليجية ستؤثر على مسار العلاقة القطرية – التركية على اعتبار أن أحد أهم دعائم هذه العلاقة كان دعم الجانبين للإخوان المسلمين، فيما اليوم مع المصالحة الخليجية فإن هذه المعادلة أو العلاقة قابلة للتغيير، وأقصد هنا العلاقة التركية - القطرية خصوصاً إذا وجدت المصالحة بين الدوحة والقاهرة طريقها إلى النور في ظل المساعي السعودية والكويتية التي تبذل بهذا الخصوص. وهو ما يعني أن تركيا قد تخسر أخر حليف أيديولوجي لها في العالم العربي، وربما لن يبقى لها سوى حركة حماس التي تئن تحت ضغط المشاكل والحصار والتمويل والخلافات مع حركة فتح. حيث ثمة إشارات إيجابية صدرت من قطر بخصوص العلاقة مع مصر في المرحلة المقبلة فيما أعلنت الأخيرة مسبقا ترحيبها بالمصالحة الخليجية، وهو ما يفتح الباب أمام ظهور ما يشبه تحالف أو تكتل خليجي – مصري، ولعل ما يدفع بالدول الخليجية إلى استكمال هذه المصالحة وفتح صفحة جديدة في علاقاتها، هو جملة الظروف التي تشهدها المنطقة، فخطر داعش بات يهدد جميع دول المنطقة بما في ذلك دول الخليج، كما أن الاتفاق الإيراني – الغربي المرتقب بشأن النووي الإيراني سيشكل تغييراً جوهرياً في بنية المنطقة على شكل تكريس للدور الإيراني في المنطقة، فيما تحاول تركيا فتح صفحة جديدة مع كل من العراق وروسيا من بوابة الاقتصاد والبناء عليها سياسياً للحد من خسائرها، وفي ظل هذه التطورات الدراماتيكية لم يعد البيت الخليجي يتحمل خلافات من نوعية دعم الأخوان المسلمين، بمعنى أخر انه بات حتى من مصلحة قطر تجاوز خلافاتها مع دول الخليج ومصر  بسبب الموقف من الأخوان المسلمين، خاصة وان ثمة من يرى أن أسباب دعم قطر للإخوان المسلمين تختلف عن أسباب الدعم التركي لهم، إذ يرى هؤلاء أن أردوغان يخشى في العمق من انتقال ما حصل في مصر إلى تركيا، بمعنى أنه يخشى من حركة اجتماعية مدعومة من المؤسسة العسكرية تتحرك في الشارع ضده على وقع قضايا الفساد والاعتقالات، وعليه ينتهج أساليب إقصائية شديدة ضد كل حركة أو احتجاج ضده كما حصل خلال تظاهرات تقسيم في اسطنبول والتعامل مع فضيحة الفساد التي طالت أردوغان ونجليه، وكذلك حرب الإقصاء المستمرة ضد خصمه فتح الله غولن باسم محاربة التنظيم الموازي، وحقيقة فإن أردوغان يعيش على هاجس احتمال حصول انقلاب عسكري ضده على الرغم من نجاحه الكبير في الحد من نفوذ المؤسسة العسكرية التي تعد أعرق وأهم مؤسسة في تاريخ الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1923.

ما سبق، ربما يشير إلى أس المشكلة في السياسة الخارجية التركية تجاه العالم العربي، وهو يتعلق باعتماد البعد الإيديولوجي الداعم لحركات الإسلام السياسي في العالم العربي في إطار التطلع إلى المزيد من الدور والنفوذ الإقليميين،وهذه سياسة لم تعد صالحة للعلاقات بين الدول ومبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ولعل سياسة أردوغان هذه جعلت من تركيا - الدولة الإقليمية القوية والمهمة والحيوية - أسيرة للفشل في الملفات الإقليمية، وفي صدام مستمر مع الخارج. وعليه يمكن القول إن المصالحة الخليجية قد تنقل العلاقات مع تركيا إلى مرحلة جديدة، وهي مرحلة تضع تركيا أمام تحد كبير، يمكن طرحه في السؤال التالي: هل ستتخلى تركيا عن دعمها للإخوان المسلمين لصالح علاقاتها مع دول الخليج ومصر أم أنها ستصر على هذا الدعم وتجعل من تركيا مركزا للإخوان للمسلمين؟ ربما مسار العلاقة بين تركيا والخليج ومصر يتوقف على كيفية إجابة أنقرة عن هذا السؤال، فيما الثابت أن المصالحة الخليجية ستقرب بين قطر ومصر، وهو أمر سيترك تداعيات على العلاقة بين الدوحة وأنقرة وسيضع الأخيرة أمام المزيد من العزلة السياسية، فضلاً عن زيادة وتيرة الصدام مع العديد من الدول العربية. في الواقع، ثمة من يحمل أردوغان المسؤولية الشخصية عن وصول العلاقات التركية مع الدول العربية إلى هذا المستوى من التوتر والتراجع وفقدان الثقة وهؤلاء يرون أن أردوغان بات يشكل العقبة الأساسية في وجه تطوير هذه العلاقات نظرا لدور الشخصي في تحديد السياسة الخارجية، والآن مع وجوده في سدة الرئاسة فإن هذه العلاقة تبدو أمام خيارين أو احتمالين.

الأول: إن تراجع تركيا سياستها تجاه العالم العربي انطلاقاً من انسداد سياستها تجاه الأزمة السورية والصدام مع الحدث المصري وتحدث تحولا في هذه السياسة، ورغم أهمية مثل هذا الأمر للسياسة التركية ولمستقبل العلاقات التركية العربية وللأمن الإقليمي، فانه لا مؤشرات حتى الآن توحي بحصول مثل هذا التحول أو التغيير، بل وينبغي الإشارة إلى صعوبة حصول مثل هذا الأمر نظراً لأن الذي أوصل العلاقة التركية مع الدول العربية إلى هذه النقطة من التوتر هو أردوغان نفسه، ومن يعرف شخصية أردوغان يجب أن يستبعد خيار التغيير بسبب طريقة تفكيره ومزاجه وتحويله الخلافات السياسية إلى الشخصية.

الثاني: هو خيار المزيد من التوتر والتصعيد مع العالم العربي الذي بات يشهد تحولات على وقع عودة الدور المصري، وبروز التكتل المصري – الخليجي، وإقرار المطالبة بالحل السياسي للأزمة السورية بعد فشل الرهان على جلب خيار التدخل العسكري الغربي - الأطلسي، وفي المحصلة فان مثل هذا الخيار يضع العلاقات التركية – العربية من جديد باتجاه مرحلة جديدة من القطيعة لصالح العودة إلى خيار العضوية الأوروبية بقوة، أو حتى خيار الانفتاح بقوة على روسيا العدو التاريخي، لطالما أن روسيا قررت مد خطوط أنابيب النفط عبر الأراضي التركية بدلاً من بلغاريا، وألغت مشروع الجنوب لتصدير النفط والغاز إلى أوروبا انطلاقا من ايطاليا لتقوم تركيا بمثل هذا الدور وتستفيد من تخفيض روسيا سعر الغاز لها بنسبة 6% ووسط وعود بأن تصل هذه النسبة إلى 15% في الأعوام المقبلة، ولعل حجم المصالح الكبرى بين الجانبين وإمكانية إبدال الخلافات إزاء العديد من القضايا قد تفتح صفحة مفتوحة في العلاقات التركية – الروسية بما يجعل من موسكو مهبطاً آمناً لأنقرة في التراجع عن ركوب شجرة الربيع العربي ودعم حركات الإخوان المسلمين، وبما يترتب كل ذلك على تركيا إتباع سياسة جديدة تجاه الجوار الجغرافي.

كاتب وباحث متخصص بالشؤون التركية(*)

اعلى الصفحة