ثقافة الطفل الفلسطيني بين الواقع والآمال

السنة الرابعة عشر ـ العدد 157 ـ (ربيع أول 1436 هـ) كانون الثاني ـ 2015 م)

بقلم: ازدهار معتوق(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

إن الاهتمام بثقافة الطفل أمر واجب على الوالدين والمدرسين، فلا يعد من الجائز أن نترك الطفل وثقافته للصدفة والقدر تحت شعار كما تربينا يتربون، وكما نشأنا ينشأون، حيث أنه لا سبيل إلى بناء جيل المستقبل السعيد إلا بتهيئة الأطفال وإعدادهم الإعداد السليم والعمل على معالجة مشكلاتهم وانحرافاتهم، لأنه يصعب اقتلاع واجتثاث جذور المشكلة بعد أن تتجذر في نفس الراشد، بالإضافة إلى ما يتركه إهمال شأن الطفولة من آثار سلبية وسيئة على المجتمع، وعلى الشخص نفسه، فيجهل عمله وثقل إنتاجيته، ويتحول إلى عضو طفيلي في المجتمع لا حول له ولا قوة، وفي ذلك خسارة اقتصادية أو سياسية أو ثقافية للوطن.

وأطفال فلسطين هنا لهم خصوصيتهم عن أطفال العالم، لما يدور حولهم من ظروف سياسية صعبة، لأن الطفل الفلسطيني، دائماً يجتذب ثقافته من محيطه الاجتماعي، بكل مكوناته، فإذا كان المجتمع الفلسطيني يعيش فترة من الضياع والتوهان بسبب تلك السياسات العنصرية المتطرفة الهادفة إلى أن تخرج للمجتمع أناس جاهلون يحملون ثقافات مشوهة، لا تصلح لزمانهم وزمان غيرهم، والتي جسدها الاستعمار منذ قدومه إلى أرض فلسطين واحتلالها، ولأن الوعي الثقافي لدى أطفال فلسطين يشكل أزمة حقيقية لدى المستعمر الجبان، فتراه يومياً يرسم صور الدمار والقتل لما يخص الأطفال ويحرك حياتهم الثقافية، سواء كانت العائلة التي يزرع بين طياتها الخوف والجزع، أو المدرسة من خلال فرض أساليب تتماشى مع متطلباته ورغباته بتعليمها للطفل الفلسطيني، أو من وسائل الإعلام التي يشرف عليها الاستعمار ويحركها حسبما يشاء.

واقع الطفل الفلسطيني

يتميز المجتمع الفلسطيني عن غيره من المجتمعات الأخرى في كونه مجتمعا يافعاً، حيث يمثل الأطفال فيه حوالي نصف المجتمع، وهذا ما أظهرته بيانات المسح الديمغرافي الذي أجرته دائرة الإحصاء المركزية الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية عام 1995، حيث بينت النتائج أن نسبة الأفراد الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة بلغت 46.5%، وهناك تفاوت ملحوظ في هذه النسبة بين محافظات الوطن حيث بلغت نسبتهم في محافظات الضفة الغربية 44.6%، بينما بلغت في قطاع غزة 53.3%، ويعود هذا الفرق بالدرجة الأولى إلى ارتفاع معدلات المواليد في محافظات قطاع غزة عنها في محافظات الضفة الغربية، وقد يكون لاختلاف البيئة الاجتماعية والجغرافية بين محافظات الوطن أثر في ارتفاع نسبة معدلات المواليد في القطاع. وفي دراسة حديثة أعدها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني قدرت نسبة الأفراد الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة في منتصف عام 2000 بـ 53% من بينهم 49.1% إناث و50.9% ذكور أوضحت الدراسة أن هذه النسبة سوف تتناقص لتصل إلى 50.4% عام 2010، وتشير التقديرات الفلسطينية للخصوبة واتجاهاتها إلى أن المجتمع الفلسطيني المقيم في محافظات الوطن سيبقي يافعاً خلال العقود الثلاث القادمة ومما لا شك فيه أن الديمغرافيا الفلسطينية بمكوناتها تحتم على المخطط وصانع القرار التنموي توجيه الاهتمام والعناية الخاصة للطفولة الفلسطينية لما تمثله من ثقل في المجتمع أما على مستوى محافظات قطاع غزة فقد بلغت النسبة 56.8%، منهم 50.8% ذكور، و49.2% إناث، وسوف تتناقص هذه النسبة لتصل إلى 53.8% عام 2000، بينما قدرت النسبة في الضفة الغربية بـ 51.3%، منهم 51% ذكور، و49% إناث، وسوف تتناقص لتصل إلى 48.3% عام 2000 وتشير التقديرات أيضا إلى أن هذه النسبة سوف تتناقص لتصل عام 2025 إلى 43.1%.

يعتبر النمو السكاني في الأراضي الفلسطينية من أعلى معدلات النمو في العالم، حيث بلغ معدل النمو المقدر لعام 1992، 4.44% وارتفع في عام 1994 إلى 7.22، بعد عودة السلطة الوطنية وقد ساهم ارتفاع معدل المواليد في ارتفاع معدلات النمو السكاني، حيث وصل في عام 1992 إلى 46.9%، وهذا المعدل في انخفاض تدريجي حيث وصل في عام 1996 إلى 44.40%، وتشير أحدث التقديرات السكانية إلى أن عدد السكان المقيمين إقامة معتادة في الأراضي الفلسطينية في منتصف عام 1997 حوالي 2.8 مليون نسمة، وتشير الإسقاطات السكانية أن عدد سكان الأراضي الفلسطينية سيصل في منتصف عام 2025 إلى 7.4 مليون نسمة، والجدير بالذكر أن عدد سكان الأراضي الفلسطينية سيحتاج إلى ثمانية عشر عاما حتى يتضاعف حيث من المتوقع أن يصل عدد سكان الأراضي الفلسطينية عام 2014 إلى 5.6 مليون نسمة وتعزى الزيادة المتوقعة في إعداد السكان خلال السنوات الأخيرة من هذا القرن والعقد الأول من القرن القادم بدرجة أساسية إلى إعداد المهاجرين المفترض عودتهم إلى ديارهم كأحد ثمار عملية السلام في المنطقة، حيث تم افتراض عودة نصف مليون شخص خلال الفترة الممتدة من 1997-2010، بينما تم افتراض أن صافي الهجرة خلال الفترة من 2011-2025 سيكون صفراً، بينما يعزى الانخفاض المتوقع في معدل النمو السكاني ما بين عامي 2011-2025 بدرجة أساسية لانخفاض معدلات الخصوبة، إذ من المتوقع أن ينخفض معدل الخصوبة الكلية من 4.7 عام 2.10 إلى 3.1 مولوداً عام 2025.

إن ارتفاع نسبة الأطفال ومعدلات الخصوبة في الأراضي الفلسطينية يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع نسبة إعالة الأطفال، وذلك لأن نسبة الإعالة ترتبط بالتركيب العمري للسكان وتظهر البيانات المقدرة لعام 1996 أن نسبة إعالة الأطفال دون 15 سنة في الأراضي الفلسطينية قد ( بلغت 98.7%، أي أن كل 99 شخصا دون 15 سنة لكل مائة شخص في سن العمل 15-64). وتشير الإسقاطات السكانية إلى أن عدد السكان المقيمين في الأراضي الفلسطينية في منتصف عام 2000 بلغ 3.2 مليون فرد منهم 63.9% في الضفة الغربية و36.1% في قطاع غزة.

الدور الثقافي للأسرة

تعتبر الأسرة الفلسطينية اللبنة الأساسية في تكوين الثقافة لدى الأطفال، ولعل محورها يكمن في الطفل الذي يتغذى من هذه الثقافة ويلتهمها مع حليب أمه منذ البداية الأولى لحياته، حيث تعتمد ثقافته هنا على مدى ثقافة هذه الأسرة وخاصة ثقافة الأم فيها، وبما أن الجزء الأكبر من أسرنا ما زال يتعامل مع الأطفال بالطريقة التقليدية القديمة التي تعتمد على التسلط الوظيفي في الأسرة، حيث يكون الأب على الأبناء والابن الأكبر على الأصغر منه سناً، تأتي هذه الثقافة مقلدة إلى حد ما هذه الأسرة وعناصرها، ليكون لديه في المستقبل شخصية تعتمد الخضوع وتنفيذ الأوامر والصادرة ممن هم أعلى منه درجة أو مرتبة في هذه الأسرة، والطفل هنا يبقى أسير هذه الثقافة، لا يمكن له أن يتحرر منها كونها أول ثقافة يتعلمها ويتشبث بها، فيأتي هنا مقلداً عمن هم أكبر منه سناً في جميع تصرفاتهم، فإذا كان الطفل بنتاً نجدها تقلد أمها في أعمال المنزل أو في الاهتمام بابنها الرضيع، فتحصل على لعبة معتبرة إياها قاعدة تسير عليها الأمم، ودور تلعبه الأم في المنزل، أما إذا كان الطفل ولداً نجده يقلد أبيه أو أخيه الأكبر منه سناً، من حيث العمل الذي يقوم به من عمل أو مشي أو غير ذلك، وإذا حاول هذا الطفل فعل ذلك نجد صيحات الزجر والضرب والنهي، غير مبالين ومقدرين، بأن هذا الطفل يبني الثقافة الأولى في حياته ويجب إعطائها حقها كي تتكون لديه ثقافة بناءة قائمة على الذات وعدم الاتكالية.

إن تاريخ التربية الأسرية الفلسطينية يضرب لنا العديد من الأمثلة الواقعية التي تبين كيفية التعامل بين الآباء والأمهات مع الأبناء الأطفال سواء كان ذلك في السلوكيات اليومية العادية، أو في الممارسات الخارجية، فمن الأمثلة هنا أن الأم عندما تريد أن تمنع ابنها من الكلام أو الإزعاج حسب وجهة نظرها، تجدها تخوفه بأشياء لم يعد يعرفها ولم يشاهدها، ويتصورها الطفل على أنها أشياء خارقة لها قوة عجيبة، قد تؤدي به إلى الموت أحياناً، فمن هذه الأمثلة كأن تقول له أسكت وتوقف عن الكلام وإلا يأتيك مثلاً الغول أو الضبع، فهو لم يشاهد هذه الأشياء ولا يستطع أن يتحدث بعدها لأنه يعلم أن هناك أشياء يمكن أن تحجمه، وتضع له حداً، وكلك الأم التي تريد من هذا الطفل النوم، إذ تخيفه بقولها له أن فلان وقد يكون فلان إنسان معتوه، أو جبار يعرفه الطفل، وقد يصل بها الحد إلى الطلب من أحد الجيران أو الأقارب الصياح فيه كي تولد عند الطفل عقدة منه، ليكون سلاحاً بيدها عندما تريد أن تجبر ابنها على النوم، ولكن الأصعب هنا أنها تجعل اليهودي الهش مثلاً بالقوة والغرابة منذ البداية الأولى لإبنها إذ نجدها أحياناً تخيف أطفالها بقولها لهم، أن اليهودي قد جاء ليقتلك، أو ليأخذك، تلك الأمور تجعل من الطفل إنساناً يخاف ممن هم حوله، ولا يجرؤ على التعبير عن ما يدور بداخله لأنه يخاف كل من يحيط به، وبذلك يصبح ميداناً للصراع والتصارع وتتكالب عليه جميع القوى الخارجية الخارقة التي صورتها له أمه، وهذا المثال ينطبق عادةً على تلك الأمهات غير الواعيات والبعيدات عن أساليب التربية الحديثة التي تعمل على تعزيز القوة النفسية لدى الأطفال وخاصة أولئك الذين لم يدخلوا المدرسة بعد.

هذا الدور الذي تلعبه الأم هنا، يقع في دائرة إيذاء الطفل نفسياً، إذ يخرج للمرحلة القادمة من عمره مهزوز الشخصية مرتبك، لا يستطيع أن يتحدث، إذ تولد لديه الرهبة من الآخرين، والخشية من أن كلامه لا يعجبهم، وهي بذلك تظن أنها تؤدبه أو تعلمه القيم العليا، كذلك نجد أن الأم هنا وقد يشاركها الأب أحياناً ليعبر عن سلوك عادي يقوم به الطفل، مثل كسر بعض محتويات المنزل، أو يخرج من المنزل دون إذن أو اللعب داخل المنزل نجدهما يمطرانه بوابل من المضايقات والصراخ والشتائم والزجر واللامبالاة والإهمال والحط من منزلته بين أخوته، والاحتقار المستمر، أو أي ضرر يلحق الأذى باعتداد الطفل بنفسه، وبصورته الشخصية، الأمر الذي يطور مفهوماً سلبياً لشخصيته نتيجة لهذا التعزيز السلبي المتواصل، فالطفل الذي لا يسمع بشكل متواصل يعد على أنه غير جيد وسيء، وتكون استجابته في النهاية استجابة شخص غير جيد، ولا يلبث أن يأخذ بتصديق هذه المقولة، وعدم المشاركة، ويعتبر أن الجميع ينظر إليه كذلك.

 كذلك بالنسبة للأب الذي يرسم الطفل له صورة على أنه حامي الديار، ويستطيع أن يحمي ابنه من أي عدوان خارجي، فهو أيضاً يتوجه نحو الطفل بسيل من الأوامر التي يجب أن يطيعه الطفل فيها دون مراجعة، كيف يكون ذلك وهناك صور جسدتها الانتفاضة الفلسطينية المباركة (انتفاضة الأقصى) حيث أن والد محمد الدرة لم يستطع أن يحمي ابنه من رصاصات الغدر الصهيونية التي أدت إلى استشهاده، وغيره من الآباء الذين لم يستطيعوا إنقاذ أبنائهم من تعذيب الجيش الإسرائيلي، أو اعتقالهم، لذلك عززت العديد من حوادث قتل الأطفال الذين بلغت نسبة استشهادهم في انتفاضة الأقصى ما يزيد عن 30% من شهداء فلسطين، فكرة عجز الآباء عن أداء دورهم في حماية أطفالهم، ولعل هذه النظرة تجعل الطفل لا يثق حتى بمن حوله وأقربائه، وهناك ربما يسلك سلوكاً غير إيجابي تجاه المجتمع.

الدور الثقافي للمدرسة

إن المرحلة التي تتبع الأسرة في رسم الثقافة لدى الأطفال هي المدرسة، والتي يبدأ فيها الطفل بالخروج من مرحلة الإرشاد الأبوي في الأسرة إلى مرحلة الاحتكاك بنوعية من الناس تختلف عمن كان قد تعود الاجتماع معها وسماعها، وهنا قد يواجه هذا الطفل صعوبات للتأقلم مع جو المدرسة، لأنه قد يتعامل مع زملاء تختلف طرق تفكيرهم عن التي اكتسبها من أسرته، أو مع المعلمين الذين يمتازون هنا بالتسلطية في الرأي، كي يأخذ الطفل هنا المقارنة بين تلك المفاهيم التي تعلمها من قبل وبين هذه التي بدأ في ارتشاف قطراتها الأولى منذ اليوم الأول في دوامه المدرسي لتبني لديه ثقافة جديدة قد تشبه سابقتها أو تخالفها حسب طريقة الصف الذي يعيش فيه والطلاب وطبيعة المعلم الذي سيعلمه.

والمدرسة تشكل هنا إطاراً ثقافياً جديداً للطفل، ولكن هذا الإطار لم يكن لينفصل عن ذلك الإطار السابق من حيث أن هذين الإطارين يكملان بعضهما البعض في رسم الثقافة المستقبلية لدى الطفل وتنشئته الثقافية، ولعل هذه المرحلة تسبب إرباكاً لدى الطفل لأنه ينتقل من مرحلة الحرية واللعب إلى مرحلة الانضباط واحترام المواعيد والالتزام بالطابور والجلوس على المقعد في الصف، هذه كلها تعليمات لم يكن الطفل قد تعود عليها وهنا يأتي دور المعلم في تهذيب النفسية لدى الطفل في التعامل مع هذه التعليمات واحترامها، والواجب أن لا يسبق العقاب الإرشاد، حيث كثير من الأحيان يأتي الطفل لأول مرة إلى المدرسة وهو غير واعٍ لهذه التعليمات فتراه بحرية يريد أن يخرج من الصف أو الطابور الصباحي، فترى المعلم يتوجه إليه إما بالضرب أو بسلسلة التوبيخات ظناً منه أن الطفل بذلك سيلتزم بهذا الطابور متناسياً أن هذا الطفل عقله وثقافته هي صفحة بيضاء يرسم عليها المعلم ما يريد لتصبح ثقافة أبدية لدى هذا الطفل، فيخرج الطفل هنا إلى مراحل عدة، منها أنه ربما يكره المعلم ولا يأخذ من كلامه شيء لأنه قد لا يتوافق مع تنشئته الأسرية، أو أنه يكره هذا المعلم الذي جسد صورة والده أو والدته أو أخيه الأكبر في البيت، فيهرب من المدرسة لأنه ينتقل من أسرة متسلطة إلى مدرسة أكثر تسلطاً، أو أنه يقبل العيش في هذه المدرسة، لكنه يحمل معه روح العدوانية، ويتعامل مع زملائه بنفس الطريقة التي عومل بها، فتراه يشتم ويسب ويلطم الآخرين، ويصرخ في وجه معلمه أو زملائه، وتصبح هذه ثقافة الغد بالنسبة له، أو أن هذا الطفل يخرج للمجتمع مهزوز الشخصية لا يمكن له أن يقوم بعمل ما حتى لو كان مسموحاً أو أن يتكلم ويبدي رأيه لأنه هنا يتوقع العقاب في كل حين وكل لحظة إذا تحدث أو تصرف تصرفاً قد يعتقده البعض خطأ، مما يؤدي إلى انخفاض التحصيل العلمي والبطء فيه.

كذلك يمكن الانتقال هنا إلى مرحلة أخرى من مراحل الدراسة وهي المناهج وطريقة التدريس داخل الصف، حيث هناك أحياناً كثيراً يقوم المعلمون بحل الأسئلة للطلبة دون إشراكهم في حلها، وهذا يولد عندهم نقطة ضعف في مجال الإبداع لأن هذا المعلم الذي أعطى الحل جاهزاً قد ساهم في خمول الفكر لدى الطالب، ولم يشجعه على التحليل والبحث واستنباط الأجوبة، وهنا الطفل يتعود على نوع من الثقافة التي يأخذها من الآخرين ولا يساعد في بلورتها، ولا يساهم في صنعها، وهذا يضعف شخصيته ويجعله عاجزاً عن حل حتى أسهل الأسئلة، لأن إشراك الطالب في حل الأسئلة يجعله مبدعاً، وهذا يجعله يطلب دائماً الأسئلة المعقدة حتى يجتهد في حلها، ويساهم في تنمية قدراته العقلية والثقافية، ويعزز لديه الثقة بالذات والاعتماد على النفس في حل المشاكل التي يتعرض لها مستقبلاً، لذلك يمكن وصف المبدعين بأنهم الأكثر والأقدر على تحقيق المركز الاجتماعي وقبول الذات، والأداء المستقل، وأكثرهم مبادأة ودافعية إلى النشاط العقلي، وإن الشخصية هنا تعتمد على العلاقة الفكرية لدى الشخص.

دور المحيط الخارجي

وإذا خرجنا من داخل المدرسة إلى المحيط الخارجي لها في ظل الانتفاضة الفلسطينية المباركة ورأينا أن هؤلاء الأطفال الذين يتعرضون للتعذيب أو للقتل أو للجرح أثناء ذهابهم إلى المدارس أو العودة منها أو بداخلها على أيدي قوات الاحتلال الصهيوني، حيث أشارت الإحصائيات الفلسطينية أن هناك ما يزيد عن 60 طالباً من طلاب فلسطين قد قضوا نحبهم شهداء ومعظمهم من الأطفال، حيث قتلهم المحتل بدم بارد دون أي إحساس بطفولتهم.

كذلك هناك العديد من الطلبة الأطفال الذين أصيبوا في هذه الانتفاضة برصاص قوات الاحتلال ما زالوا يرقدون داخل غرف العناية المركزة في المستشفيات الفلسطينية، كذلك من خرج منهم بعاهات نتيجة الإصابة، ولا ننسى هنا دور الأبطال الأطفال الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال داخل السجون الإسرائيلية، والسؤال هنا أية ثقافة يحمل هؤلاء الطلبة للمستقبل سواء كان هذا زميل الشهيد أو أخ له أو قريب، أو مصاب أو سجين، أليست ثقافة الخوف الذي ولد لدى الكثيرين منهم حالات نفسية نتيجة لرؤيتهم لمشاهد مثيرة جعلتهم يعيشون في صراع مع النفس وتساؤلات لم يجد أحد لها إجابة، ويغصون في التيه والتشرد والاهتزاز النفسي الناتج عن الخوف، كذلك إن هذا الطفل الذي أصيب لا تولد لديه ثقافة ناقصة تجعله يعتزل زملاءه أو يترك المدرسة لأنه يشعر بعقدة النقص أمامهم والانطواء والانزواء عن أصدقائه، إذ أن ردة الفعل تكون عكس ذلك من خلال خلق ثقافة الضعف والحقد ضد هذا المتجبر الظالم ضد الشعب الفلسطيني (الاحتلال)، فتراه وهو في عمر الزهرة يخرج إلى ساحات الوغى مقاتلاً حاملاً معه براءة الأطفال، ويظل يقاوم حتى يستشهد، أو أن هذه المشاهد تجعل من الطفل الفلسطيني ينحرف وخصوصاً أولئك الأطفال الذين تعتقلهم قوات الاحتلال في سجون المجرمين والمنحرفين مثل متعاطي المخدرات حيث لا يستطيع الأطفال هنا مقاومة أولئك المدمنين على المخدرات، وسينحرفون عن الصف الوطني وعن النفسية الطاهرة، إلى غير ذلك من أمور قد أحدثتها هذه الأعمال الجبانة من جنود الاحتلال، لذلك على المؤسسات الوطنية والرسمية والأهلية، كمؤسسات التربية والتعليم ومنظمات الطفولة، وحقوق الطفل الفلسطيني، وحقوق الإنسان، فتح مراكز ووضع البرامج التنموية والعلمية، وتطوير وصقل مواهب الطفل الفلسطيني، حيث يمكن من خلال هذه البرامج اكتشاف مواهب الأطفال المتميزين والمبدعين، ومن ثم التركيز عليها من أجل تعميق مواهبهم وكفاءاتهم الثقافية والعلمية والرياضية، كذلك على المدرسين الذين يتعاملون مع الأطفال العمل على تعميق الفكر الوطني والقومي لديهم وترسيخ القيم والأفكار المبدئية للنهوض بثقافتهم ورقيها، والإكثار من البرامج الترفيهية ومعسكرات الشباب الخاصة بهم، لما لها من أهمية في تنمية وصقل شخصية الطفل، وخلق روح العمل الجماعي لديهم، وإقامة العلاقات الاجتماعية والتعاونية، كذلك زيارة الطلبة الأطفال الجرحى والمرضى والاطمئنان على سلامتهم وصحتهم وإعطائهم دفعة نحو الأمام وإشعارهم بأنهم أفضل من الجميع كي ترتفع معنوياتهم ويستطيعون الخروج من مأزق الانطواء والانعزال عن الناس، كذلك زيارة أهالي الشهداء منهم ومساعدتهم في إطار عمل جماعي اجتماعي منظم، لكي يشعر هؤلاء الأهل أن ابنهم لم يمت، بل افتدى بنفسه تراب وثرى الوطن.

كذلك يمكن القول أن المناهج التعليمية المدرسية التي تدرس في مدارسنا والتي وضعت بأيدٍ غير فلسطينية، والتي تبتعد في معظمها عن مفردات فلسطين التي شهدت وعلى مدى تاريخها الطويل العديد من الصراعات الثقافية، وكذلك شهدت العديد من الثورات ضد الاستعمار، هذه المناهج التي حملت في طياتها تجسيداً لبطولات الغير ونسيت بطولاتنا، وحملت تضحيات الغير ونسيت تضحياتنا الفلسطينية، كذلك جسدت عادات وتقاليد وتراث الغير ونسيت تراثنا الوطني الفلسطيني الذي ما زال نبراساً ومناراً وهادياً تهتدي به تحركات أبطالنا، وترسم لهم خطوات البطولة والنضال، حبذا لو أن هذه المناهج تستبدل بمناهج فلسطينية أصيلة نابعة من أعماق روح وأدبيات هذا الوطن الرائعة، لكي يستطيع الطفل الفلسطيني أن يبني ثقافة فلسطينية خالصة للوطن والمواطن الفلسطيني، صرفة تحتوي على كل ما هو فلسطيني لإمداد الطلبة الفلسطينيين بهذه الثقافة العريقة.

وخلاصة القول إن هذا الطفل الفلسطيني الذي عاش سني الانتفاضة الفلسطينية المباركة وجرح وعذب واستشهد واعتقل، ولم تشفع له براءته أمام المحتل، في جو من الرعب ليلاً ونهاراً وتمزقت نفسيته وبدأ يسأل والديه ومعلميه دوماً: لماذا لا نعيش كبقية أطفال العالم بهدوء وسعادة وأمان، وبدون اضطهاد وتعذيب وقتل وتشريد، ولماذا جاء المحتل ليسرق منا طفولتنا وأرضنا ويعمل على تعذيبنا، لماذا لا نجلس على مقاعد الدراسة آمنين مثلنا مثل طلاب العالم. وهكذا فإن الطفل الفلسطيني الذي يعاني باستمرار من أسوأ ظرف عاشه ويعيشه أي طفل من أطفال العالم، حيث الاستعمار الذي أخذ يدخل مفاهيمه ومفرداته الثقافية التي يهدف من ورائها إيذاء هذا الطفل من الناحية الثقافية، سواء كان ذلك من خلال الثقافة التقليدية التي تمارسها العديد من أسرنا الفلسطينية أو مؤسساتها الاجتماعية والتربوية، في نشر الثقافة وتنشئتها عند الطفل، وهذا الإيذاء إما أن يكون عاطفياً أو لفظياً أو نفسياً أو تربوياً.

المصادر:

1- هشام شرابي: "البنية البطركية بحث في المجتمع العربي"، عكا: دار الأسوار، 1987، ص 50.

2- ذياب علي عبوش: "سوسيولوجية إسلامية في معالجة المشكلات الإسلامية"، ترجمة: ضيف الله عثمان، القدس: مطبعة الأمل، 1992، ص 224.

3- أحمد محمود القاسم: "انتفاضة الأقصى واحتمالات المستقبل"، د. ن، 2001، ص 199.

4- محمد أيوب شحيمي: "مشاكل الأطفال، كيف نفهمها"، بيروت: دار الفكر اللبناني، 1999، ص 302.

5- عبد الحليم محمود السيد: "الإبداع والشخصية"، القاهرة: دار المعارف، 1971، ص 282.

6- عبد الله عبد الدايم: "المسألة الثقافية بين الأصالة والمعاصرة"، المستقبل العربي، عدد 71، كانون الثاني، 1985، ص 1415.

 باحثة في علم الاجتماع السياسي(*) 

اعلى الصفحة