الحوار القرآني ومنطق التكفير

السنة الثالثة عشر ـ العدد 155 ـ (محرم 1436 هـ) تشرين ثاني ـ 2014 م)

بقلم: الشيخ وسام أحمد الشيخ صقر

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

يتساءل الكثير من الباحثين في الشؤون الدينية عما إذا كان إجراء الحوار ممكنا مع أهل الإيمان في ضوء منطق التكفير الذي تنطوي عليه بعض الآيات القرآنية بحق بعض أهل الديانات الأخرى كما ويرى هؤلاء إن هذا المنطق يسجل موقفا يبدو للوهلة الأولى عدائياً من أهل الكتاب... 

وهنا تحديداً يكمن السؤال الأساسي في جدوى الحوار والحال أن القران الكريم يحكم مسبقاً بكفر من لا يحتكم إلى رسالة الإسلام وكشاهد نذكر الآية الكريمة: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾(المائدة: من الآية44). كما ويتساءل البعض أيضاً عما إذا كانت الديانات التي توجه إليها القران بالنقد هي نفسها المعاصرة في هذا الزمن.   

وفي مقام الإجابة على تلك التساؤلات وكما هو معلوم فإن القرآن الكريم حينما يستحضر تاريخ الأمم والديانات فهو لا يستحضرها لمجرد عرض الرأي بل بهدف الاستناد إلى طبيعة وحقيقة ما تقتضيه السنن التاريخية بحيث يتمكن الإنسان المؤمن من استخلاص العبر والانطلاق منها نحو صياغة رؤيته الدينية والإنسانية في ضوء ما جاء به الأنبياء والرسل وبما إن القران هو الكلمة الفصل في التاريخ الديني فإنه لابد من تبيان أهم المعتقدات التي سادت في حياة أهل الإيمان وخصوصاً أهل الكتاب ليكون المؤمن على بينة من أمر دينه لعله بذلك يهتدي إلى سبل السلام. فالقرآن يحاور لا بهدف التكفير واللعن بل بهدف إظهار ما كان عليه أهل الديانات في تاريخهم الديني وأيضاً بهدف استثارة العقول للتدبر والتعقل فيما تعنيه العقيدة والشريعة في حياة الإنسان وفيما جاء به الأنبياء من قوانين ووصايا وتعاليم وهو هدف رفيع الشأن سعى إليه الأنبياء جميعاً وخاطبوا به الناس الذين أرسلوا إليهم في التوراة والإنجيل والقرآن وقبل ذلك في صحف إبراهيم. ومن هنا نرى أن التكفير الذي عرض له القران في بعض الآيات لا يمكن اعتباره موقفا عدائيا من أهل الكتاب فالقران نفسه يقول: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً﴾(آل عمران: من الآية64).

إن الكفر الذي تحدثت عنه الآيات كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ﴾(البقرة:99)، وقوله تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ﴾(البقرة: من الآية 105). إنما هو كفر الذين غرتهم الأماني وادعوا أن الجنة هي حكر على من كان يهودياً أو نصرانياً أو قالوا إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً أو قالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا إلى غير ذلك مما جادل به أهل الكتاب  دونما التفات إلى التحقيقات التاريخية لهم.

وبمعزل عما إذا كانت الديانات الأخرى اليوم هي غير الديانات التي خاطبها القرآن الكريم ودعا إلى الحوار معها باعتبار إن القرآن صادق ولا ينطق عن الهوى فيما جاء به من أوصاف في الاعتقاد والعمل وآياته تنطق بالحق فيما زعمته كل ديانة أو فرقة في العقيدة والشريعة والأخلاق. كما أنه لا شك في أن كل محاجة قرآنية سواء مع بني إسرائيل أم مع اليهود أم مع النصارى أم مع غيرهم ممن كانت لهم شبهة كتاب أم مع الصابئة الذين عرضت لهم بعض الآيات فإن كل محاجة كانت تهدف إلى إقامة الحوار والمجادلة بالحسنى وهذا ما نص عليه القران في قوله تعالى: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا﴾.

وبناء على ما تقدم نصل إلى نتيجة مفادها أن التكفير إنما يطال تلك الفرق التي لم تهتدِ إلى الحق خصوصاً, واستمرت في الدعوة إلى الباطل وقالت على الله تعالى غير الحق فيما رأته من دين وعقيدة وهذا فضلاً عما لجأت إليه بعض الفرق والديانات من تحريف وتقتيل إضافة إلى قتل الأنبياء وتعذيبهم وبهذا البيان يتضح وبشكل لابس فيه عدم صوابية القول بأن التكفير يشكل موقفاً عدائياً مسبقاً بين أهل الإيمان بل تنقص الأدلة والبراهين.

هذا وقد ناقش القران الكريم الكثير من المعتقدات مقدماً الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على عدم صحتها فلو كان القول بكفرهم يعتبر موقفاً عدائياً لما استمرت الدعوة إلى الحوار معهم وهو خير دليل على ما يتضمنه القرآن الكريم من روحية حوار ومنطق سديد في الدفاع عن العقيدة الحقة التي ينبغي للناس أن يهتدوا إليها في كل عصر وزمان (قل إن الهدى هدى الله)

وإذا كان للتكفير من معنى حقيقي وجوهري فإنه يمكن ملاحظة هذا المعنى في سياق الرؤية الدينية الكاملة التي تشخص الأقوال والأفعال وتظهر مدى العناد والتعنت الذي مارسه بعض أهل الكتاب في مواجهة دعوة الحق التي جاء بها الإسلام ذلك أن المحاجة القرآنية بما فيها من قيم رفيع ومبادئ سامية دفعت الكثير من أهل الكتاب إلى الإيمان بالرسالة الجديدة والأخذ بها عقيدة وعملا كما قال تعالى: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى﴾(المائدة: من الآية 82) في حين أن الفريق الذي رفض الدعوة وعاند قبول الحق وأعلن العداء للإسلام وللقران يكون قد اختار بإرادته أن يكون كافراً وفاسقاً وظالماً وهذا الأمر أكده القران الكريم وبينه في جملة من الآيات الكريمة  والتي تراوح فيها الوصف بين أن يكون الإنسان جاحداً ومعانداً أو مكابراً أو منافقا أو كافراً أو فاسقاً أو ظالماً... إلى غير ذلك. ومن ثم فإن طبيعة الحوار القرآني ليست قائمة على مبدأ الرفض للآخر وذلك لما هو معلوم عن جوهر رسالة الإسلام لجهة كونها حافظة ومهيمنة على ما جاء به الرسل والأنبياء ما يحتم أن تكون رسالة هادية وكاشفة عن الحق والهدى وليكون الإنسان على بصيرة من نفسه ودينه فإذا ما أخذنا التكفير على انه أسلوب رفض وإلغاء فإننا نكون قد جانبنا الحقيقة ذلك أن ما وصف  به أهل الكتاب أو بنو إسرائيل إنما هو ناظر إلى أعمالهم وما هم عليه من رؤى وأفكار تطال الدين والمجتمع والإنسان وهو اخذ بعين الاعتبار طبيعة تحولات أهل الكتاب  وليس مجرد حكم يطلقه القران عليهم أو انه يراد أن يكونوا على ما هم عليه  بل إنهم هم من  اختاروا الكفر على الإيمان بمحض إرادتهم, ونختم بقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾(البقرة: من الآية108).

اعلى الصفحة