اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الثالثة عشر ـ العدد 155 ـ (محرم 1436 هـ) تشرين ثاني ـ 2014 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

ترجمة الروح

تعرَّفتُ إلى حكاية هذا الرجلِ عن طريقِ حفيده.. رجلٌ لم يَقُمْ بشيءٍ خاصٍ أو معروفٍ سوى أنه ترجم نفسَهُ من اللغةِ العربية إلى إحدى لغات الشمال البارد. فعلَ ذلك طويلاً، يومياً، وعلى مدى سنوات.

أرغمته ظروفٌ قاهرةٌ على السفر من وطنه، وربما الهجرة، فانتقل إلى الخارج، وعاش، وتزوج، وأنجب، ولم يستطع خلال تلك السنوات الطويلة أن يعود إلى موطنه ولو في زيارة عابرة. ولم تكن هناك في ذلك الوقت جاليةٌ عربية أو أخرى من موطنه الأصلي. فعاش وحيداً، وبدلاً من أن يقول: "أحبك" كان يقول جملة أخرى بنفس المعنى لقرينته، وبدلاً من أن يقول: "مرحباً".. قال كلمة أخرى بنفس المعنى لجاره الأجنبي الذي يلتقي به في المصعد كل صباح.

لقد ترجم الرجل معنى الكلمات، إلا أن شوقاً قاتلاً كان يتوحش بداخله للإنصاتِ إلى لغةِ بلدهِ الأصلي، إلى عينها وغَينها وسينها وصادها، ورنينها وطبول إيقاعاتها. كان يريد أن يستمع إلى لغته ولم يكن هناك من يتحدث إليه، أو من ينطقها لأجله. وكان عليه أن يصنع معجزةً: أن يقتَطِعَ من نفسه ليطعِمَها وأن يكونَ القُبلة والفمَ، والصوتَ والأذنَ! فصارَ يخرجُ كلَّ ليلةٍ إلى الغاباتِ المجاورةِ الشاسعةِ الباردةِ، يمشى فيها بقدمين في حذاءٍ برقبة طويلة، ويخوضُ في الجليد والريح وهو يزعقُ بكلماتٍ عربيةٍ ترنُّ في هواء الليل، فيعود إليه الصدى حاملاً بعضاً منها، يُنصِتُ إليه بعطشٍ ونَهَمٍ ثم يبعثُ بتحياته بأعلى صوتِهِ إلى أخوته، فيرجع الصدى إليه بأسمائهم وصورهم، فتنتعشُ في نفسه ذكرياتُ جولاتِهِ القديمةِ في شوارعِ مدينتِهِ، فيصيح كما كان يفعلُ وهو يسير مع أصدقائه في الشوارعِ. وحين يوغلُ الليلُ والبردُ يُقْفِلُ راجعاً إلى بيته منهكاً، مرتعشاً.. وما إن يهلَّ الصباحُ حتى يجففَ ندى الليلِ من ملابسه، ويرجعُ من جديدٍ إلى ترجمةِ نفسِهِ في بيتهِ وعملهِ وأثناءَ ركوبهِ الترام وشرائه الصحف.

ليلةً بعد ليلةٍ وعاماً بعد عامٍ كان الرجلُ يترجمُ كرياتِ روحِهِ البيضاءِ والحمراءِ إلى كرياتٍ أخرى من نسيجٍ آخرَ مشبعٍ بأشياءَ أخرى. وعندما شارفَ الخمسينَ من عمرِهِ كانت الترجمةُ قد محت ملامحَ وجهه: الحاجبين، والعينين، والأنف، فأصبحَ الرجلُ مجردَ ساقينِ تخوضانِ في الصقيعِ كلَّ ليلةٍ، ساقٌ تسبِقُ أخرى، وصوتٌ يتقدمهما ويشدُّ أَزْرَهُما في الريح، لكي تواصلا الزحفَ إلى هناك حيث الماضي الذي يرتجف في انتظاره. ولم يبق من الرجل القديم سوى قدمين تفتشانِ في الغاباتِ عن روح مفقودة. الروحِ التي يصرُخُ يناديها، ثم يُرْهِفُ السمعَ في انتظار أن تعودَ إليه، فلا يجدُ سوى الفراغِ الضخمِ والعتمةِ وظلالِ الأشجارِ العملاقةِ والندى والصمت. يرجع إلى بيته، ويغسل يديه بالماء الساخن ليطرد البرد منهما. يجلس قرب مدفأةٍ، يُحِسُّ بغَصَّةٍ من الكلماتِ التي تتوحَّشُ بداخلِهِ باحثةً عن منفذٍ تتنفسُ منه، الكلماتِ التي تختزنُ في بنائها ونطقها الخريطةَ الوراثيةَ للعقلِ والوجدانِ، خزائنَ الأرواحِ الصغيرةِ التي تتنهد وتمرض وتندم! وتبكي. يجلس مرسِلاً بصرَهُ من خلفِ الزجاج إلى الغابات المجاورة إلى أن ينعس.

في الصباح يفكر الرجل وهو يتناول إفطاره أن الكلمات قد تقبل بتغيير موطنها، لكنها لا تغير نفسها. ويعود الرجل من جديد إلى ترجمة نفسه مع زوجته، وفي المصعد، وهو يلقي تحية الصباح على بائع الصحف وفي العمل. في المساء يغادر السرير، ويتلمس الطريق إلى معطفه المعلق في الردهة، يرتديه محاذراً أن يوقظ أحداً، ويخرج إلى الغابات المجاورة. يقطع الشارع إلى هناك، يفكر أن الكلمات هي البشر، إذا عاشت يعيشون، إذا ماتت يموتون معها، وأنها ليست مجرَّدَ معانٍ أو صورٍ ذهنيةٍ فحسب. ويعي أن غياب اللغة غيابُ البشرِ وحضورَها يعني حضورَهم. الكلماتُ هي الشيءُ الوحيدُ المنافسُ لمعنى العقل أو النفس، لهذا إذا كرر رجلٌ ما نفس الكلمات نقولُ إنه يكرِّرُ نفسه. يسير الرجل وحده وقد دس كفيه داخل جيبي معطفه وحذاؤه يقرع أسفلت الشارع المبلول.

للكلمات قدرةٌ على إثارةِ الانفعالاتِ القويةِ وتفجيرِ شحنةٍ كهربائية ربما يتمكن العلم ذات يوم من قياس طاقتها، ولهذا فإننا نتجنب بعض الكلمات، ونلتف على بعضها بمختلف الوسائل، ونحاذر الاقتراب من بعضها الآخر، وأحياناً نستدعي كل ما في أنفسنا من شجاعة لكي ننطق كلمة. ولذلك كان القدماء من مختلف الحضارات يؤمنون بقدرة الكهنة على طرد الأرواح الشريرة بنطق كلمات محددة بنبرة وإيقاع معلومَيْنِ، ويثقون أن للكلماتِ القدرةَ على سحق الخصوم والأعداء. وفى تلك المعتقدات أن تدوين اسم كائن ما أو شيءٍ ما كان يعني خلقَ ذلك الكائن خلقاً من العدم، كما أن إحراق ذات الاسم يؤدي إلى إحراق الكائن. كان القدماء يعتقدون أن اسمَ المرء ينطوي على جوهر الفرد ذاته. وكان المتوفى يضمن بقاءَهُ على قيدِ الحياة بقوةِ الكلمة أي إذا ما " ظل الأحياء ينطقون اسمه".

يصلُ الرجلُ إلى مشارفِ الغابات، ويتطلعُ إلى الأشجار التي ألقى الليلُ عليها سوادَهُ وسكونَهُ. ينطق الكلمات، فتبتعد قليلاً، وتحومُ لحظةً في الجو، يُرهِفُ السمعَ منصتاً إليها حين تعود. وعندما يُحِسُّ أنه قد تعب من ذلك، ينظر حوله فلا يجد سوى الصمتِ وساقين اثنتين تخوضانِ وحدهما في الريح، تفتشان عن روحٍ ضائعةٍ في بخارِ أنفاسٍ هائمةٍ، روحٍ نادمةٍ لأنها فارقته، ولأنها لا تستطيع أن تدعه هكذا وحده، ولأنه لا يتركها، ولا يحيا بها.

اعلى الصفحة