إعمار غزة: الخيارات الفلسطينية والأهداف الصهيونية

السنة الثالثة عشر ـ العدد 155 ـ (محرم 1436 هـ) تشرين ثاني ـ 2014 م)

بقلم: عدنان أبو ناصر

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

كما هو معروف فإن عملية إعادة إعمار قطاع غزة تحتاج إلى العديد من الآليات المطلوبة من كل الجهات والتي بدونها لا يمكن بدء الإعمار في مجالات (الإسكان، البنية التحتية، المباني الحكومية، المؤسسات العامة، الصناعة، الزراعة، والبيئة).

وفي هذا المجال يقول استشاري الإعمار والبناء المهندس علي أبو شهلا، إن من بين هذه الآليات منح الصلاحيات اللازمة لحكومة الوفاق، ضمان وصول الدعم الدولي المقرر لإعادة الإعمار الذي اعتمده مؤتمر القاهرة، حتى لا يحدث ما جرى بعد مؤتمر إعمار غزة في شرم الشيخ عام 2009، إعادة فتح المعابر بشكل كامل لضمان إدخال أكبر كمية من مواد البناء والمعدات اللازمة لإعادة الإعمار، إزالة كافة القيود التي تفرضها إسرائيل في هذا المجال وخاصة فيما يتعلق بآلية المراقبة الدولية.

الضغط على المقاومة

لذلك فمن السذاجة الاعتقاد أن أكثر من شاركوا في مؤتمر إعمار غزة في القاهرة، وقدموا الأموال قد فعلوا ذلك من أجل الحفاظ على القطاع كقاعدة للمقاومة، حتى لو قيل إن الأموال المذكورة ستذهب إلى حكومة التوافق، وستصرف بإشراف السلطة، فيما ستقوم المقاومة بصرف ما يأتيها مباشرة شعبياً ورسمياً في ترميم جهازها العسكري، أو ما أصيب منه خلال المواجهة البطولية مع العدوان الأخير.

حين كان نتنياهو يقصف البيوت والأبراج السكنية، لم يكن يفعل ذلك عبثا، بل من أجل جعل مسألة إعادة الإعمار عنصر ضغط على المقاومة بعد ذلك، فضلاً عن هدفها الآني (خلال الحرب) ممثلاً في دفعها نحو قبول التهدئة، وها إن ما أراده, للأسف الشديد, يتحقق من حيث اضطرارها إلى قبول غالبية الشروط التي وُضعت على إعادة الإعمار باستثناء نزع سلاح المقاومة. صحيح أن المقاومة قبلت بحكومة التوافق قبل العدوان الأخير، لكن الأكيد أيضا أن جزءاً من ذلك كان بسبب الأوضاع الاقتصادية، والكلفة الصعبة التي باتت تتحملها في مواجهة حصار مصري خانق، وآخر إسرائيلي بطبيعة الحال.

كان من الطبيعي أن يكون الانتصار الذي تحقق في قطاع غزة محطة نحو تعميم خيار المقاومة على الوضع الفلسطيني، ولكن ما الذي حصل؟. نعلم أن الظروف العربية والدولية غير مواتية، لكن ذلك لا يغير في حقيقة أننا إزاء مسار بائس سيُدخل القضية في مزيد من التيه، وهي ليست معضلة من قاتلوا وصمدوا وانتصروا، بل معضلة المسار السياسي الذي دخل متاهة أوسلو, من دون أن ننسى الإنجازات التي تحققت بإنشاء قاعدة للمقاومة، ومن ثم الانتصار في ثلاث مواجهات عسكرية، لكن المسار الخاطئ سيفرض استحقاقاته مهما شهد من محطات جميلة لا يمكن إنكارها، ذلك أن الجمع بين السلطة والمقاومة وهمْ، ونجاحه في قطاع غزة إنما كان بسبب عدم وجود جيش الاحتلال في القطاع، أما الحقيقة التي لا مفر منها فهي أن هناك تناقض جوهري بين السلطة والمقاومة, فالسلطة لها استحقاقاتها والمقاومة لها متطلباتها, لكن, وبشكل موضوعي, لا يمكن للمقاومة مواجهة محيط موغل في العداء من كل الاتجاهات، وحصار خانق من كل الجهات يمتد لأكثر من سبع سنوات, وتحمل الكلفة وحدها.

لقد حققت قوى المقاومة انتصاراً رائعاً في المواجهة الأخيرة، وكان بالإمكان جعله محطة لإنهاء حالة التيه الراهنة للقضية، وذلك عبر تحالف فلسطيني واسع من الداخل والخارج مع المقاومة وضد المفاوضات، لكن حاجات أهل القطاع فرضت نفسها، وهو ما يعيد التأكيد على وهمْ الجمع بين السلطة والمقاومة.

لا نحمِّل المقاومة ولا غيرها فلسطينيا, أكثر مما يحتملون وسط هذا المحيط البائس، لكننا مضطرون إلى القول إن ما يجري لا ينطوي على مصلحة للقضية أبداً، فمتاهة المفاوضات لن تفضي إلى خير، ما يعني أن التعويل الأخير سيبقى على الشعب الفلسطيني الذي يمكن أن يفجِّر انتفاضته الجديدة في مواجهة المحتل، بخاصة أن الاستيطان والتهويد يتصاعدان  يومياً.

السلاح الأمريكي دمر غزة

قررت الولايات المتحدة الأمريكية دفع نحو 75 مليون دولار من التكاليف المقترحة لإعادة الإعمار في قطاع غزة، أي نحو 1.4% من المبلغ المطلوب. فقد أعلن وزير خارجيتها، جون كيري، أنّ بلاده ستدفع 220 مليون دولار، منها 145 لميزانية السلطة.

وعملياً، يمكن القول إنّ الولايات المتحدة تكاد لا تكون ساهمت بشيء؛ ليس فقط لهزالة المبلغ، ولكن لأنّ السلطة الفلسطينية بكل الأحوال تنفق جزءاً كبيراً من ميزانيتها في غزة؛ فإذا كانت هناك مساعدة قيمتها 220 مليوناً، فإنّه ومن دون أن يقرر الأمريكيون كيف تنفق، سوف يذهب جزء كبير منها لغزة، باعتبارها جزءا أساسيا من "بقايا الوطن الفلسطيني"، وهذا المبلغ جزء من مبالغ مقرة قبل الحرب، هو 400 مليون دولار.

في العام 2012 تلقت إسرائيل مساعدة عسكرية من الولايات المتحدة بقيمة 3.1 مليار دولار. وإسرائيل "الصغيرة" تلقت مساعدات أمريكية عسكرية أكثر من أي دولة في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بمبلغ تراكمي تجاوز 121 مليار دولار، بحسب تقرير حديث صدر عن الكونغرس الأمريكي. هذا عدا المساعدات الاقتصادية والتبرعات الخاصة، من أفراد ومؤسسات. ولإسرائيل ميزة أنّها تتلقى المساعدات عادة في أول 30 يوما من السنة المالية، بعكس آخرين (طبعاً الفلسطينيون منهم) يتلقون المبالغ على دُفعات، وبالتالي تكون الدفعات خاضعة للمراجعة والتراجع دائماً، بحسب تغير الظرف السياسي. بل إنّ إدارة الرئيس جورج بوش الابن تعهّدت العام 2007، بحزمة مساعدات لإسرائيل مدتها 10 أعوام، أي هناك تطمينات سلفاً بالمساعدات.

وفق هذا كله، تشكل واشنطن الداعم الأساسي للآلة العسكرية التي دمرت القطاع. وعلى الرغم من تصريح وزير الخارجية كيري مجدداً، في مؤتمر إعادة الإعمار بالقاهرة، بأنّ على الفلسطينيين والإسرائيليين القيام بتحرك سياسي مختلف، وقوله: "حان وقت إنهاء هذه الدورة (العنف) للأبد"؛ فإنّه اعتبر أنّ لإسرائيل "الحق في أن تقلق كثيراً من الصواريخ، والأنفاق، والأمن"، مُضيفاً: "وللفلسطينيين الحق في القلق بشأن حياتهم اليومية، وتوقهم المستقبلي للحصول على دولة". توفر الولايات المتحدة مساعدات مباشرة ومسبقة للآلة العسكرية الإسرائيلية. وإسرائيل ترفض أي حل سياسي في المفاوضات الثنائية. وواشنطن توفر غطاءً لإسرائيل في المجتمع الدولي؛ فتمنع إدانتها وعقابها في الأمم المتحدة وغيرها. وبهذا، فإن أمريكا تمول سلاح الدمار، وتمنع العقاب والإدانة والردع دوليّاً، وتسمح للإسرائيليين بالتهرب من تطبيق القانون الدولي، والقرارات الدولية، بما فيها التي وافقت واشنطن نفسها عليها. وكثير من مساعداتها، إن لم يكن كلها، لا تعدو كونها تمويلاً لجزء يسير من متطلبات التعايش مع الاحتلال (أي تمويله)؛ سواءً بفتح طرق بديلة لما صادره وأغلقه ودمرّه الاحتلال (كحالة شارع وادي النار)، فضلاً عن تمويل الأجهزة الأمنية الفلسطينية ضمن الالتزام بشروط تخدم أمن الإسرائيليين والمستوطنين.

العام الماضي، أعلن كيري في البحر الميت، وبحماسة شديدة، عن خطة اقتصادية للاستثمار في الضفة الغربية، سيحشد تمويلها من دول أخرى. وعلى الرغم من أنّ الخطة "مضحكة" لتواضع قيمتها، ومؤسفة لأنه لو لم يكن هناك احتلال لسهل على السياحة الفلسطينية وحدها الحصول على مبلغ أكبر (ومن لا يصدق فليعُد لأرقام السياحة في القدس وحدها قبل العام 1967)، فإنّ الخطة وكما كان متوقعاً تماما، كانت مجرد فقاعة، لم ينجم عنها شيء؛ ككل التحركات السياسية والاقتصادية الأمريكية المتعلقة بفلسطين والفلسطينيين.

أبعد من إعمار غزة

بدعوة من حكومة النرويج، اجتمعت دول ومؤسسات رئيسية جاءت من كل حدبٍ وصوب للمشاركة في المؤتمر الدولي لإعادة إعمار غزة والذي عقد في القاهرة يوم الأحد 12/10/2014، وتنوع الحضور من الأمم المتحدة بشخص أمينها العام، والاتحاد الأوروبي إلى منظمة التعاون الإسلامي، وأمريكا، وجامعة الدول العربية، والدول الإسكندنافية، ومعها منظمات الأمم المتحدة المتخصصة من وكالة "الأونروا" و"اليونيسف" و"الأونيسكو" و"الأوتشا"، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمة الصحة العالمية والاتحاد الدولي لجمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر غيرها من المنظمات الأممية والمؤسسات غير الحكومية، بهدف جمع مبالغ مالية لإعادة إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، والمفارقة الفاقعة تمثلت بوقاحة طلب العدو الإسرائيلي المشاركة في المؤتمر الأمر الذي رفضته مصر.

نجحت الدول المجتمعة, نظرياً, في التعهد بدفع مبلغ خمسة مليارات ونصف المليار دولار لإعادة الإعمار (أكثر من المتوقع، فالسلطة الفلسطينية قدرت احتياجاتها بأربعة مليارات)، وتصدرت قطر قائمة الدول المتبرعة بقيمة مليار دولار، دون أن يتم تحديد آليات وارتباطها بالمدة الزمنية لإعادة الإعمار، باستثناء أن الأمم المتحدة والسلطة الفلسطينية ستشرفان وبالطبع دولة الاحتلال على إدخال المواد وتحديد نوعيتها وكميتها.

نعتقد ومن الضرورة بمكان أن يعقد مؤتمر مشابه للبحث في كيفية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للقطاع السبب الرئيس لما تعانيه غزة من حصار وتضييق وعمليات تدمير ممنهجة أبرزها العدوان الأخير إبان عملية الجرف الصامد وسقوط أكثر من 12 ألف مدني فلسطيني بين شهيد وجريح وتدمير للبنى التحتية ودور العبادة ومؤسسات "الأونروا" وغيرها من المؤسسات الدولية، فزوال الاحتلال عن القطاع هو اللبنة الرئيسية في إعادة الإعمار.

لم نعتد على الدول المانحة خاصة الغربية منها، أن تقدم تبرعات طوعية دون مقابل، ولا هي كانت جمعيات خيرية تقدم وجبات ساخنة مجاناً، بل لها أهداف وغايات سياسية خاصة بها، والتجارب كثيرة؛ فمثلاً مؤتمر إعادة إعمار مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في لبنان الذي دُمِّر عن بكرة أبيه في العام 2007 وتسبب بتهجير ما يقارب 38 ألف لاجئ فلسطيني؛ والذي عقد المؤتمر في فيينا بتاريخ 23/6/2008 وخُصص لجمع التبرعات لإعادة الإعمار، وتعهدت الدول المشاركة بدفع مبلغ 122 مليون دولار من أصل 455 مليون دولار طلبتها "الأونروا"، وبعد مرور أكثر من سبعة سنوات على تدمير المخيم لم يتم إعمار سوى أقل من 50% من مساحة المخيم، والسبب دائماً عدم التزام الدول المانحة والتأخر أو عدم الدفع، وفي المقارنة استحقاق إعادة إعمار مخيم نهر البارد أسهل بكثير من إعادة إعمار غزة سواءً من حيث حجم الدمار الهائل، أو وجود الاحتلال والتعقيدات التي ستواجهها عملية إدخال المواد من سبعة معابر؛ ستة يسيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي (بيت حانون، كرم أبو سالم، المنطار، العودة، الشجاعية، القرَّارة) ومعبر رفح الأخير تحت إشراف وإدارة السلطات المصرية.

للمؤتمر أبعاد ليست فقط مادية وإنما كذلك سياسية وأمنية وبامتياز، فالدول المانحة وتحديداً الغربية ودول أخرى تتطلع إلى "الهدوء" وحفظ الأمن والاستقرار داخل الكيان أولاً، ثم في غزة ثانياً كاستحقاق لاستمرار التبرعات وإعادة الإعمار والالتزام بما تم الاتفاق عليه من شروط للتهدئة برعاية مصرية، وهذا شرط على المقاومة في غزة أن تلتزم به إذا ما التزم فيه الاحتلال، لكن المفاوضات غير المباشرة بين الوفد الفلسطيني والكيان الإسرائيلي برعاية مصرية لم تنته بعد، ويستعد الطرفان لجولة قريبة. يبدو بأن التعهد السخي لإعادة الإعمار جاء للضغط على المفاوض الفلسطيني في الجولة الجديدة من المفاوضات لانتزاع المزيد من التنازلات، والتي ستشمل نقاط الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين إبان العدوان الأخير والميناء والمطار، ومن جهة أخرى الضغط على الفلسطينيين لفرض مصالحة ضرورية أياً كانت حتى لا تضيع خطوات إعادة الإعمار في زواريب الخلافات الداخلية والتراشق الإعلامي.

لن يكون صحيحاً في المستقبل التأخر في التزام ما تعهدت به الدول لإعادة الإعمار سيكون سببه العجز المالي أو أزمة اقتصادية تواجهها تلك الدول، فقد تبرعت الدول المانحة للسلطة في تسعينيات القرن الماضي بمبلغ 2 مليار دولار والسبب في ذلك كان اقتصادياً وسياسياً يتماشى مع أهداف توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير والاحتلال الإسرائيلي عام 1993، وبعد أن أطلقت "الأونروا" في تشرين الأول/أكتوبر 1993 برنامج "تطبيق السلام"، سارعت الدول المانحة وعددها 22 دولة بتمويل المشروع، وبلغت موازنة البرنامج في الأراضي الفلسطينية المحتلة بمقدار 83.5 مليون دولار، وكان أبرز أهداف هذه الخطوة إشعار اللاجئين الفلسطينيين بأن السلام وحالة الرخاء سيأتي مع اتفاق أوسلو وبالتالي يصبح سعي اللاجئين إلى الاستقرار وتحسين الخدمات الإنسانية على حساب حقهم في العودة وقبولهم بالتوطين كحل نهائي لقضيتهم، لكن هذا ما لم ينجح بفضل وعي الحراك الجمعي الشعبي الفلسطيني، والآن تعود الإغراءات المالية إلى الواجهة من جديد كأداة لتطويع إرادة الفلسطينيين أمام استحقاقات سياسية في حال نجحت - لا سمح الله - فإن تردداتها لن تقتصر فقط على جغرافيا قطاع غزة بل ستتعداها للوجود الفلسطيني في الداخل والخارج، وباعتقادنا لن يكون مصير هذه المحاولات إلا مصير سابقاتها، فالاحتلال هو جوهر المشكلة وهذا ما يجب أن تنكفئ الدول على البحث فيه وإزالته إلى غير رجعة.

الإعمار بعيون إسرائيلية

تباينت ردود فعل الصحف الإسرائيلية إزاء مؤتمر إعادة إعمار غزة, الذي عقد بالقاهرة مؤخراً, حيث ركز بعضها على عدم مشاركة تل أبيب, فيما دعت أخرى إلى عدم إيصال المساعدات لحركة حماس. وتطرقت صحيفة "هآرتس" في خبرها الرئيسي في 13\10\2014 إلى أن عدم مشاركة إسرائيل في المؤتمر, جاء بناء على طلب مصري, خشية عدم حضور دول عربية, على رأسها السعودية. ونسبت الصحيفة إلى مسئول إسرائيلي - لم تشر إلى اسمه - قوله: "إنه قبل بضعة أسابيع, بدأ مكتب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي نقل رسائل إلى مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقنوات مباشرة وغير مباشرة، تفيد بأن مصر لا تعتزم دعوة إسرائيل إلى المؤتمر، وتطلب من إسرائيل تفهم الأمر".

وفي تقرير منفصل، أشارت "هآرتس" أيضاً إلى لقاء جمع على هامش المؤتمر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري والرئيس الفلسطيني محمود عباس في محاولة لإقناع الأخير بتأخير أو تغيير محاولته تمرير قرار في مجلس الأمن الدولي يقضي بانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية في غضون سنتين. ونسبت الصحيفة إلى مسئول أمريكي قوله إن الولايات المتحدة تؤكد التزامها بمحاولة السعي إلى حل الدولتين من خلال المفاوضات, وخلصت "هآرتس" إلى اعتبار عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة, وزيارة محمود عباس المرتقبة إلى القطاع، فرصة لإعادة استئناف المفاوضات على إنهاء النزاع. أما صحيفة "إسرائيل اليوم"، فاعتبرت أن أموال إعمار غزة ستكون كمن يرمي ماله، إذا لم تحقق الإنجاز السياسي, الذي يحاول كيري أن يعيد تحريكه. وأضافت الصحيفة في تقرير لها في 13 أكتوبر الماضي أن كيري حث عباس على استئناف المفاوضات مع إسرائيل، وتابعت أنه على إسرائيل عدم الاكتفاء بتشجيع ذلك, بل أن تسهم في تحقيقه، بتوجه معتدل يشجع عباس على العودة إلى طاولة المحادثات, بدل الشجارات في الأمم المتحدة ومؤسسات القضاء الدولية. واستطردت "إسرائيل اليوم" أن نجاح مؤتمر إعادة إعمار غزة مشروط بمنع حماس من الاستمتاع بسخاء العالم والحصول على أموال المانحين, وذلك عبر ما سمته التعاون المصري - الإسرائيلي في هذا الصدد. 

كذلك ذكرت صحيفة "هآرتس" أن مؤتمر إعادة إعمار غزة هو سلاح ذو حدين بالنسبة للرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والفلسطيني محمود عباس. وأضافت الصحيفة في تقرير لها في 13 أكتوبر أن تنفيذ قرارات هذا المؤتمر سوف يعيد لمصر دورها الريادي عربياً وإسلامياً, كما من شأنه أن يزيد شعبية كل من السيسي وعباس. وتابعت "أما في حالة فشله وعدم تنفيذ قراراته, فإن ذلك سيكون بمثابة الضربة القاضية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كما ستُدمر كذلك مكانة الرئيس محمود عباس كزعيم للشعب الفلسطيني" على حد قول "هآرتس" طبعاً. واستطردت الصحيفة "مصر تسعى لأن تكون في طليعة الدول العربية والإسلامية، وعدم السماح لقطر أو تركيا بأخذ هذا الدور منها، وفي حال عدم تنفيذ قرارات مؤتمر إعادة إعمار غزة, فإن الحرب قد تتجدد بين حماس وإسرائيل, وهذا ما سيعكس حينها فشلا خارجيا لنظام السيسي, ويفاقم من الأزمات الداخلية, التي يواجهها".

خيارات الخروج من المأزق

لقد تابع العالم بأسره مجريات ووقائع الحرب الظالمة على غزة لحظة بلحظة واستنكرها بشدة وتلاقت جهوده نحو إعادة إعمار غزة, إن إعادة الإعمار هي عملية إنسانية بحتة ملحة وغير قابلة للتأجيل ولا للدعاية والنظرية، بل بحاجة للبدء حالا، فغزة لا تزال مدمرة وسكانها لا يزالون رهائن لعمليات إعادة الإعمار، فصارعه العالم الخارجي في عقد المؤتمرات من اجل الانطلاق في إعادة الإعمار فعقد عدد من المؤتمرات والقمم بهدف تنظيم الجهود وتمويل عملية إعادة إعمار غزة والنهوض باقتصادها بعد الحرب المدمرة في ديسمبر 2008م، ومنها مؤتمر شرم الشيخ الذي عقد في (2- مارس 2009م) حيث جمع نظرياً 5.2 مليار دولار وطالب المؤتمرون بضرورة فتح الكيان الصهيوني المعابر المؤدية إلى قطاع غزة وأن يتم التنفيذ عبر آليات البنك الدولي وآليات بنك التنمية الإسلامي والآلية الموحدة (بيغاس) كل هذا بالتعاون مع المؤسسات المحلية الشريكة في عملية التنفيذ، غير أن هذا الكرم كان نظريا وبقي إلى الآن بعيدا عن التنفيذ مرهونا بشروط سياسية ومرهوناً بالقبول الإسرائيلي الذي لا يزال يحاصر غزة ويمنع دخول مواد البناء ومتطلبات إعادة الإعمار إلى أن عقد مؤتمر اسطنبول الذي نظمته "الهيئة العربية الدولية لإعمار غزة" والذي أكد على تبني جميع المشاريع الواردة في دليل مشاريع الإعمار وبقيمة 350 مليون يورو، أي ما يعادل نصف مليار دولار أمريكي.

وقد قامت الهيئة بإعادة إعمار عدد من العيادات الصحية والمستشفيات والمدارس والمساجد وغيرها في قطاع غزة غير أن نشاطاتها لم ترتق إلى فداحة الدمار ومثلت نسبة يسيرة من احتياجات إعادة الإعمار، وبعد ذلك جاءت قمة الكويت التي أقرت إعادة إعمار قطاع غزة ولابد تحقيق المصالحة الفلسطينية.

لقد أفرزت الاستجابة الإقليمية والدولية لما حدث في غزة  تعهدات مالية من الدول المانحة تقدر بمبلغ مالي 5 مليارات و200 مليون دولار وقد جاء أكثر الدعم من دول عربية (السعودية مليار دولار, قطر 250 مليون دولار) تليها الولايات المتحدة الأمريكية (900 مليون دولار, يخصص منها 300 مليون دولار لإعادة إعمار غزة. أما الباقي, فيخصص لدعم السلطة الوطنية الفلسطينية في إصلاحاتها الاقتصادية وعجز موازنتها), ويلي الولايات المتحدة المفوضية الأوروبية (552 مليون دولار تخصص لإعادة إعمار غزة ودعم السلطة الفلسطينية في تنفيذ خطتها الشاملة للإصلاح والتنمية). كما تعهدت أيضا دول أخري بتقديم مساهمات, مثل: إيطاليا 100 مليون دولار والجزائر 100 مليون دولار والإمارات 174 مليون دولار, واليابان 20 مليون دولار, وبريطانيا 43 مليون دولار, وفنلندا 40 مليون دولار, والصين 15 مليون دولار, والنمسا 3.5 مليون دولار, وهولندا 2.5 مليون دولار, وقبرص 1.6 مليون دولار, ولبنان مليون دولار.

 فبعد تخصيص والتزام الدول المانحة بالتعهدات المالية من أجل إعادة الإعمار بدأت خطوات التعامل مع أَضرار الحرب بقيام السلطات المحلية بتقديم الإغاثة العاجلة والطارئة للمتضررين تخفيفاً عنهم كمساعدات نقدية أو عينية، وذلك بشكل فوري وأثناء الحرب ذاتها، ووضع خطط الطوارئ لمواجهة مختلف الاحتمالات.

 عقب ذلك القيام بحصر شامل للخسائر والأضرار من جانب جهات محلية ودولية لتقدير الضرر الذي لحق بالاقتصاد الغزي. وذلك بجهود الحكومة الفلسطينية ممثلة بوزارة الأشغال العامة والإسكان، ووزارة التخطيط، إضافة إلى جهود وكالة الغوث الدولية "الأونروا" ، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP، ومؤسسة CHF وغيرها من الجهات الدولية والمحلي.

ويدرك الجميع أن هناك العديد من المعيقات التي تعترض سبيل تنفيذ مهمة الإعمار منها معوقات فنية وأخرى سياسية، فالمعوقات الفنية تتمثل: في ضخامة المهمة وعدم ضمان كفاية التمويل واستمراريته  ومعوقات تثبيت الملكية المتعلقة بعدم وجود أوراق ثبوتية لدي مالك المنزل أو المنشأة المهدمة لأسباب متعددة ومعوقات تقدير الممتلكات غير التقليدية ومعوقات مستوي الدقة في تقدير الأضرار والتي من المتوقع حدوث مثل هذه المشاكل حول تقدير قيمة الأضرار.

 وأما المعوقات السياسية فهي متمثلة في إغلاق المعابر والانقسام الفلسطيني، حيث  فتح المعابر جميعها وبشكل كامل شرطاً ضرورياً آخر لنجاح عملية إعادة الإعمار التي تحتاج لمواد البناء وكل متطلبات الإعمار كاملة من الخارج و بات من واضح أن المجتمع الدولي من الصعب أن يتعامل جدياً مع قضية إعمار غزة في ظل هذا الانقسام الحاد في الوضع الفلسطيني, وعليه فإن المصالحة الوطنية تمثل شرطاً ضرورياً.

 أن عملية إعادة الإعمار فرصة لتنفيذ خطة وطنية شاملة، تتجاوز البعد الاقتصادي والإسكاني المحدود، لتشمل كافة الأبعاد الاجتماعية والسياسية بل والبيئية، بحيث تضع هذه الخطة رفاهية المجتمع الفلسطيني ومصالحه في جوهر الأهداف والسياسات ويجب أن تتوفر متطلبات لا يمكن بدونها البدء بعملية الإعمار فضلاً عن تنفيذ خطة تنموية شاملة، ولذلك لا بد من تحقيق الوحدة الوطنية بحكومة واحدة وخطة تنموية واحدة، وبرنامج وطني واحد يحقق مصالح الشعب الفلسطيني وأن يقوم المجتمع الدولي بدوره ومن خلال الالتزام بالقوانين الدولية لتأمين رفع الحصار، والضغط على الكيان الصهيوني من أجل ذلك، وضمان فتح جميع المعابر كلياً، وإلغاء كافة القيود على تدفق السلع استيراداً وتصديرا بالإضافة إلى ربط جهود الإغاثة المقدمة من كافة الجهات للفئات المتضررة الفقيرة بخطة التنمية الشاملة وأهدافها وتحديث المخطط الإقليمي لقطاع غزة، بحيث يشمل معالجة المناطق العشوائية والتعديات على الأملاك العامة، ومراعاة البعد الجمالي لعملية إعادة الإعمار، والالتزام بالمعايير الصحية والاقتصادية والبيئية الملائمة.

وهكذا فإن إعادة إعمار قطاع غزة، تعتبر قضية شائكة وصعبة, بعد التدمير الهائل الذي أحدثه العدوان الإسرائيلي على القطاع ومن الملفات الصعبة والشائكة, حيث يتقاطع عندها عناصر متعددة ومتشابكة منها الإنساني والسياسي والاقتصادي, إضافة للتداخلات المحلية والإقليمية والدولية, إذ بعد اثنين وعشرين يوماً من الاعتداء، بدا أن غزة وفي ظل هذا الدمار البالغ مقبلة على أوقات عصيبة، فالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قد جاء  بعد حصار شديد على القطاع منذ  يونيو عام 2007، الأمر الذي أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي إلى أسوأ حالاته. 

اعلى الصفحة