اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الثالثة عشر ـ العدد 154 ـ (ذو الحجة 1435 هـ) تشرين أول ـ 2014 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

كلٌّ يغني على ليلاه

أعندكم خبر عن أهلِ أندلسٍ فقد جرى بحديثِ القوم ركبانُ..

وُلِدَ (ابن زيدون) في قرطبة عام 394هـ/1003م في بيت من بيوت أعيانها وفقهائها.. كان (ابنُ زيدون) يشايعُ (ابن جَهور)، ويؤيده في سياسته، فاستوزره واعتمد عليه في إدارة شؤون المملكة، فتولى الوزارة منذ 422هـ وسنه لاتتجاوز الثمانية والعشرين ربيعاً. اتصلت حياة ابن زيدون بحياة ولاَّدة منذ مطلع شبابه.. كان أبوها الخليفة المستكفي بالله. ‏

ويقول المؤرخون إن أمها (سكرى المورورية) الجارية التي استبدت بالمستكفي.. وكانت ولاَّدة مثقفة محبة للعلم جعلت بيتها قبلة الشعراءِ والأدباءِ ومن بينهم (ابن زيدون). ومن هنا توطدت أواصر الصداقة بينهما، ثم انقلبت إلى حب جارف، وقصتهما مشهورة في الأدب العربي، وقد روى كتاب (الذخيرة) لابن بسام تفاصيل اللقاء الأول بينهما على لسان (ابن زيدون) نفسه. لكن من يقرأ قصة هذا اللقاء يشعر أن معظمه من تأليف الرواة، فهو أشبه بسيرة قيس وليلى أو عروة وعفراء، أو بقية قصص الحب الرومانسي في الروايات العربية، ومما جاء فيه أنه وولاَّدة كانا جالسين في إحدى الأماسي، وكانت تغني لهما جارية اسمها (عتبة) فطلب ابن زيدون منها أن تعيد له صوتاً غنته من دون أمر ولاَّدة، فظنته يغازل جاريتها (عتبة) وكتبت إليه رسالة تقول فيها: ‏

لو كنت تنصفُ في المودةِ بيننا           لم تهـــو جاريتي ولم تتخيّرِ ‏

ولقد علمتَ بأنني بدرُ الســما ‏         لكنْ ولِعْتَ لشِقْوتي بالمشـتري ‏

ومن الصعب تصديق هذه القصة التي يبدو فيها الخيال الروائي واضحاً، لكن المؤرخين يرجعون سبب الخلاف بينهما إلى خلفية سياسية وهو انضمام ابن زيدون لحركة (الجهاورة)، وما ترك من أثر سيئ في نفس ولاَّدة وهي بنت خليفة أموي وهنا سمحت (ولاَّدة) لمحب جديد بالدخول في حياتها، وكان هذه المرة عدواً خطيراً هو (الوزير أبو عامر بن عبدوس). ‏

كان المجتمع الأندلسي في عهد (ملوك الطوائف) يموج بشتى ألوان الدسائس ويضطربُ بمختلف أنواعِ فنونِ المكائدِ بسببِ الانقلاباتِ السياسيةِ المتعاقبةِ واضطرابِ أنظمةِ الحكم، وكان خيرَ صورةٍ لمصيرِ أيِّ مجتمعٍ تتحولُ فيه الدولةُ إلى (جزر طائفية)، وكانت سيرةُ حياةِ (ابن زيدون) صورةً صادقةً لحياةِ أيِّ فرد كان يعيش، أو يمكن أن يعيش في عهود (ملوك الطوائف) وجزرها حيث كانت الجاسوسيةُ والشبهاتُ تنتشرُ في كل مكان وتتناولُ الجميعَ دون استثناء، تتناولهم حتى في حياتهم الشخصيةِ، وأحوالهِم العائليةِ والفرديةِ وقد ذكر المؤرخون الكثير عن هذه الفترة.

لقد خَلَقَتْ مكانةُ ابن زيدون عند (ابن جهور) ومركزُهُ الذي كان يطغى على مركزِ كلِّ وزير كثيراً من الحسد، فحيكت المؤامرةُ ضدَّهُ، ونَشُطَ أعداؤه ولا سيما (ابن عبدوس)، وعملوا على زعزعة الثقة به من خلال البصاصين ورشاوى الفاسدين في مجتمعٍ يُعتَبَرُ تربةً خصبةً لمثل هذا، بسبب الفساد الإداري، فنجحوا في إقناع (ابن عبدوس) بأن ابن زيدون يسعى لإعادة مُلْكِ الأمويين متخذين من أشعاره وحبه (لولاَّدة) الأموية دليلاً على ميوله وهواه السياسي ولا سيما قوله: ‏

عليك السلامُ سـلامَ الوداع ‏     وداعَ هوىً مات قبل الأجل ‏

وما باختيارِ تســليتُ عنك ‏     ولكنني مكرهٌ لا بطـــل ‏

فانتهى الأمر به في السجن حيث قضى خمسمائةَ يومٍ تقريباً حتى فرّ عام 433هـ بمساعدة (أبو الوليد بن جهور) كما يزعُمُ بعضُ المؤرخين، وذهب إلى (إشبيلية حيث استقبله المعتضد هناك وقرَّبه إليه (ضمن معادلة الصراع بين ملوك الطوائف)، لكن ما لبث أن استقر متخفياً في ضاحية (الزهراء).. وهناك كتب قصيدته المشهورة (لولادة): ‏

إني ذكرتك بالزهراء مشــــتاقاً ‏     والأفقُ طَلْقٌ ووجهُ الأرض قد راقا ‏

وللنســـــيم اعتلالٌ في أصائِلِهِ      كأنه رقّ لي، فاعتلَّ إشــــفاقا ‏

ثم يذهب ابن زيدون إلى (بَلنسية)، فيستقبله أميرُها، لكن لم يلبث فيها طويلاً فيتجه إلى (بطليوس) في الغربِ بعد مدةٍ قضاها في (طرطوس)، فلَقِي من أميرها كلَّ احتفاءٍ. وأخيراً استقر به المقام في (إشبيلية)، فولاَّه المعتضدُ الوزارةَ ولُقَِّبَ بذي الوزارتين وبقي في منصبه حتى في عهد ابن (المعْتَمِد) فأخذ ابن زيدون يغريه بالاستيلاء على (قرطبة) لأنه كان يود أن يرجع إليها ­وهي مهد طفولته­ عزيزَ الجانبِ لينتقم من أعدائه القدامى.. وشاءت الأقدارُ أن يهاجمَ ملكُ (طُلَيْطِلة) المأمون ابن ذي النون (قرطبة) عام 462هـ لاحتلالها، فاستنجد أبو الوليد بن جهور (بالمعتمد) فأرسل ابنه على رأسِ جيشٍ اشبيلي، لكنَّ هذا الجيش سرعان ما أطاح بالوليد نفسِهِ ونودي بالمعتَمِدِ ملكاً على (قرطبة)، فرجع ابن زيدون إلى (قرطبة) مسقط رأسه، ولكن ما لبثت أن تمردت (إشبيلية) فبعث (المعتَمِدُ) جيشاً جراراً، وأرسل ابن زيدون معه مفاوضاً على الرغم من اعتلاله وسوء صحته فتوفي هناك في 15 رجب سنة 463هـ. ‏

ذهب ابن زيدون للقاء وجه ربه ولم تذهب صراعاتُ (ملوكِ الطوائفِ) في الأندلس، بل أكثر من ذلك أخذت كلُّ مملكةٍ من هذه الممالكِ العربيةِ تستنجدُ بالعدوِّ المتربصِ المجاورِ لهم تعقدُ معهُ الاتفاقاتِ المنفردةَ ليناصِرَها، فمكنوا له أن يقضمهم بلداً تلو الآخر حتى ابتلعَ الجميعَ في النهاية، وزال حكمُ العربِ من الأندلس بعد أن تحولوا من مملكةٍ متحدةٍ قويةٍ إلى دويلاتٍ طائفيةٍ متناحرةٍ كان أصدق تسمية تاريخية لملوكها (ملوك الطوائف).‏

وها نحن اليوم نسترجع الماضي بكلِّ خيباتِهِ، ونجترُّ المواقفَ تلو الأخرى.. وننسخُ ما قد أتحفتنا به ثقافةُ الوعي، لنضعَ مكانها ثقافةَ الرعي، لنرعى وسط حقولِ المستكبرين غير مبالين بالعلفِ المعلَّبِ بكلِّ الموادِ الحافظةِ للنوع المفنيةِ للروح..

إننا اليوم نعيشُ صراعات ملوك الطوائفٍ كلٌّ يغني على ليلاهُ والعدو بالأبواب يعدِّ لنا سيمفونيةَ الهزيمةِ النكراء.. فهلا أفقنا من سبات العقلِ وقرأنا جيداً ما قد نسيناه من دروس التاريخ؟!.

اعلى الصفحة