رحلة العمر ومسيرة الإنسان

السنة الثالثة عشر ـ العدد 154 ـ (ذو الحجة 1435 هـ) تشرين أول ـ 2014 م)

بقلم:الشيخ محمد عمرو

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾(آل عمران/97)

ويشدون الرحال، يتوافدون زرافاتٍ ووحداناً من كل حدبٍ وصوب، يُيممون شطر المسجد الحرام بقلوبٍ والهةٍ وأفئدةٍ مليئةٍ بالحبِّ والشوقِ والإيمان. ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾(الحج/27).

دعوة أبينا إبراهيم(ع) تمخُر عباب السماء وتنادي كل من أسلم وجهه لله، وتهز كيان كل مسلم، فيرتجف القلب، وتحِنُّ النفس، وتنجذب الروح كلما حان موعد اللقاء.

إنها أيامٌ معدودات تختصر العمر.. والسؤال من أين؟ وإلى أين؟ وما هو الدور؟.. فتكون المناسك جواباً عملياً روحياً ووجدانياً لهذه الأسئلة، وتكون رحلة الحج كتاباً عملياً عن حركة الإنسان في الكون منذ النشأة الأولى وحتى المحشر واللقاء العظيم. وما بينهما من حركة مدٍ وجزر، وهبوطٍ وصعود، وسير على الصراط وانحراف واضطراب ونفسٍ مطمئنة وقلبٍ سليم... الحج هو رحلة العمر ومسيرة الإنسان.

يبدأُ بالإحرام تاركاً كل الزخارف والألوان والبهرجات والزينة ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ متجهاً بقلبه إلى الله الرحيم الجواد الكريم العزيز.

يتجه الناس على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وانتماءاتهم ومذاهبهم وأحزابهم وسياساتهم إلى مركز واحد (بيت الله الحرام) ما يجعل المسلمين كافة في وقفة واحدة، وخط سير واحد، وهدف واحد. ثم يطوفون حول الكعبة الشريفة حيث رحمة الله وعين الله وقدس الله... فتكون الوحدة الإلهية قطب الرحى لكل المسلمين دون استثناء، وتكون العبادة الواحدة ونقطة الارتكاز الواحدة والتي يطوف حولها كل الناس، فتصهرهم بسياق العبودية لله الواحد القهار، وحده لا شريك له ولا ملك غيره ولا زعيم ولا رئيس ولا قوة عظمى ولا كبرى ولا صغرى ولا استكبار ولا ظلم ولا استبداد. بل إله واحد رحيم كريم غفور عليم سميع مجيد.

ثم يسعى الإنسان والسعي هو حركته في الدنيا، فهو في حالة سعي وكدحٍ ويجب أن يكون هذا الكدحُ من ذهاب وإياب وتفتيش اختصاراً لحياة كاملة في الطلب والارتقاء والبحث والسعي للتكامل. ﴿يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾(الانشقاق:6).

ثم يخرج إلى عرفة هناك حيث يبث الإنسان لوعة أحزانه وآهاته وينفث قلقه واضطرابه فيجد المغفرة والرحمة ويعرف لذة الوصال، ويجد ماء التوبة فيغتسل ويعود كما ولدته أمه كصفحة بيضاء مليئة بالنور والحب والإشراق، هناك يرمي كل أثقاله عن ظهره ويعود ليخرج من المزدلفة كخروجه من رحم أمه إلى حياةٍ جديدة مليئة بالتقوى والرشاد والحب والوجد والذوبان بالله تعالى. فيهيئ نفسه ليجابه مكاره الحياة وكمائن النفس والشيطان فيتسلح بالتكبير والتهليل والتسبيح، وليعود نهاراً يرجم شيطان نفسه فيخزيه ويذله ويسيطر عليه وليبقى في رعاية الله وعونه وحمايته، ويتجنب كل طواغيت الإنس والجن وكل المستكبرين البشر والمستبدين، وليطرد تكبر نفسه وخيلائها وليتخفف من أحقاد وضغائن قلبه بحيث لا يبقى في قلبه سوى حب الله وصفات الله وأسماء الله ﴿لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾، فيعمل جاهداً لتنعكس صفات الله الحسنى على صفحات قلبه وروحه ونفسه فيعودَ عبداً من عبيد الله حقاً، ولا يكون ذلك إلا بترك كل الآلهة والمسميات والخطوط والطرق والأوهام والخيالات. عندها لا يجد في مرآة نفسه سوى الله سبحانه وتعالى. فيصبح محباً وجواداً وغيوراً وعالماً وعابداً وزاهداً وفادياً ومؤثراً ومعطاءً وعاملاً ومخلصاً، وعندها يكون عبداً لله حقاً، لا يظلم أحداً ولا يأكل مال أحد ولا يعتدي على أحد" الناس منه في راحة..." ولا يقبل أن يستعبده أحد أو يذله أحد أو أن يستخدمه أحد لا ملكاً ولا أميراً ولا دولة وفئة من دون الله سبحانه، عندها يصبح عبداً وولياً وشاهداً وشهيداً.

هذا ما يريده الله من البشر ولهذا خلقهم ليرتقوا في هذه الحياة بالتجربة والبلاء والصعاب، ليصلوا إلى ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾. فهي تشتاق إليهم لأنهم أصحابها، وهم الواصلون والمرتقون والمجاهدون والصابرون وهم عباد الله المخلصون. هنيئاً لمن حج واعتمر وسعى وتطهر وعرِف وسار وسلك فوصل وظفر.

والحمد لله رب العالمين

اعلى الصفحة