معضلة الفساد الاقتصادي..
وكيفية القضاء عليها!!..

السنة الثالثة عشر ـ العدد 152 ـ (شهر شوال 1435 هـ)آب ـ 2014 م)

بقلم: نبيل علي صالح(*)

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لا شك بأن لظاهرة الفساد المتفشية على نطاق واسع في دولنا ومجتمعاتنا العربية أسباباً موضوعية ضاربة الجذور في داخل بنيتها الثقافية والتاريخية والسياسية. حيث لعبت "الثقافة المخفية" – كمؤسسة عميقة غير شكلية - دوراً بارزاً وربما دوراً حيوياً للغاية، على صعيد تكريس معادلات ثقافية مجتمعية وأنظمة تفكير وسلوكيات عمل مهدت الطريق أمام نمو وتعملق مارد الفساد في تلك المجتمعات.

وقد كانت لمؤسسات الحكم العربية المتلاحقة الدور الوظيفي المكمل لدور الثقافة المخفية في زيادة رقعة الفساد واتساع أعداد المفسدين من خلال تبنيها لمختلف المناخات والأجواء الفكرية والاجتماعية القديمة التي تدعو (وتمارس) ثقافة الفساد كآلية شبه (قانونية!) تريد من خلالها الحفاظ على التوازنات التقليدية المسيطرة في المجتمع، بما يسمح لها (لمؤسسة الحكم العربية) الإبقاء الدائم على وجودها على رأس سلطة الحكم بما لا يزعزع بنيانها، ولا يؤثر سلباً على امتيازاتها.

وبالنتيجة فقد أدت السياسات الفوقية القسرية التي طبقتها تلك المؤسسة (ممثلة بالنخب السياسية الحاكمة أحزاباً وتيارات وجماعات وشبكات) – وعلى مدى زمني طويل نسبياً - إلى تحويل الفساد إلى منظومة عمل شبه قانونية، خصوصاً مع تصاعد سياسات الانفتاح الاقتصادي غير المتوازن وغير المدروس، وفتح الأسواق المحلية أمام الرساميل الأجنبية.

لقد التزمت تلك النخب بسياسات التحرير الاقتصادي والانفتاح أمام الاستثمارات الخارجية، تحت شعار ظاهري هو تنمية مجتمعاتها وتطوير بلدانها من دون أن تطور وتحسن في أداء مؤسساتها الذاتية، أي أن الانفتاح لم يكن جدياً وعلمياً في ظل هيمنة كاملة لمؤسسات إدارية وسياسية مترهلة وفاسدة وغير مهيكلة اقتصادياً، كشرط رئيسي لابد منه للاستجابة الداخلية والتناسب الذاتي مع ضرورات التحفيز الاقتصادي وعوامل الجذب الاستثماري.

وعلى الرغم من محاولة تلك النخب الاقتصادية والسياسية الحاكمة استصدار القوانين اللازمة لمواكبة التغيرات الاقتصادية العالمية بهدف تطوير مجتمعاتها ورفع معدلات التنمية فيها، مع زيادة في مساحة النشاط الاقتصادي، ورفع القدرة التنافسية للمنتجات، وضمان تسويقها ووصولها السريع للمستهلك، فإن غائلة الفساد بقيت مهيمنة على مجمل تلك الاستراتيجيات، ما أدى إلى رفع معدلاته بصورة متزايدة، بقطع النظر عن الطبيعة السياسية لتلك البلدان، وإن كانت الدول الديمقراطية منها أقل معاناة من الفساد بدرجات وأشواط كبيرة بسبب طبيعة نظمها السياسية المنفتحة، وتحرر الاقتصاد فيها من ربقة الدولة، واعتمادها الإعلام الحر والديمقراطية كآلية للحكم السياسي وتداول السلطة.

ونحن عندما نتحدث عن الفساد هنا بهذه الطريقة فإننا لا نقصد به فقط سرقة المال العام، ونهب مؤسسات الدولة (كحالة يراد منها استثمار الموظف في الدولة والمؤسسة العامة أو الخاصة للصالح العام، استثماره واستغلاله لموقعه ومنصبه الوظيفي بهدف خدمة مآرب ومنافع خاصة) بل هو بمعنى آخر، الفساد الإداري، أي إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العام، من خلال عدم فهم القوانين، واستمرارية حالة الترهل الوظيفي، وعدم إصدار القوانين والتشريعات المواكبة للعصر، والقادرة على الحد من ظاهرة الفساد ذاته.

أما ما يخص التعاريف التي قدمتها المؤسسات الدولية لمصطلح الفساد – وخصوصاً الهيئات التي تحمل صفة اقتصادية وسياسية كالبنك الدولي مثلاً - فيعرّف الفساد من خلال أنه "استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص (الشخصي) غير المشروع (ليس له أي أساس قانوني)".. وهذا التعريف يتداخل مع أطروحة صندوق النقد الدولي (IMF) الذي ينظر إلى الفساد من حيث أنه علاقة الأيدي الطويلة المتعمدة التي تهدف لاستنتاج الفوائد من هذا السلوك لشخص واحد أو لمجموعة ذات علاقة بالآخرين.. وهنا يتحقق اقتراب المعالجتين (معالجة البنك الدولي وصندوق النقد) من بعضهما البعض على مستوى تأطير الفساد بسلوك وسطوة (قدرة وسلطة) تظهر لنا مخرجات معاني هذا الفساد وتطرح وصفاً أولياً لبنية المجتمع الذي تسوده علاقات الفساد..

ولهذا يصبح (الفساد) علاقة وسلوك اجتماعي، يسعى رموزه إلى انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي، فيما يمثل عند المجتمع المصلحة العامة. ويقسم الفساد إلى نوعين، واسع وضيق، فالفساد الواسع ينمو من خلال الحصول على تسهيلات خدمية تتوزع على شكل معلومات، تراخيص... أما الفساد الضيق فهو قبض الرشوة مقابل خدمة اعتيادية بسيطة..

وفي مواجهة النتائج الكارثية التي قد تترتب على ارتهان أي مجتمع لمارد الفساد، تقوم كل دولة باستصدار قوانين خاصة بمكافحة هذا المرض الخطير، أو محاولة السيطرة عليه.. أو على الأقل التخفيف من غلوائه وسلبياته ما أمكن ذلك.

ويمكننا أن نضع هنا خطة أولى سريعة على هذا الطريق الطويل والشاق، لكبح جماح الفساد الضارب في مجتمعاتنا ومؤسساتنا العربية. وهذه الخطة جزء من منظومة تطبيقات علاجية متكاملة متلازمة ومتشارطة في المقدمة والنتيجة، نذكر منها:

1. إجراء تغييرات سياسية حقيقية تتركز حول إصلاح مؤسسة الحكم العربية القائمة على الحكم الفردي لا المؤسسي الحديث.

2. بناء ثقافة حقوق ومواطنة صالحة علمية ومتوازنة.

3. الاقتناع الكامل بأهمية الديمقراطية كآلية للعمل السياسي الحر، والتنافس السلمي الخلاق، وتداول السلطة.

4. تطبيق القانون من خلال تربية الناس أولاً على ثقافة احترام القانون، وثانياً، معاقبة كبار المخالفين واللصوص والمفسدين المحترفين.

5. تبسيط وسائط العمل، وأتمتتها ومكننتها، وتحديد مهل إنجاز المعاملات.

6. إنشاء نظام رقابي فعّال مستقل مهمته الوحيدة هي في الإشراف المباشر على العمل.

7. تفعيل دور منظمات المجتمع المدني في المساهمة بالحد من الفساد وبأشكاله المختلفة.

8. لا بديل عن إعطاء الناس حقوقها، وجعلها تشعر بوطنها ليس بالشعارات بل بالعمل والإنتاج وعلى رأس هذه الأمور تأتي قضية زيادة دخول العمال والموظفين، وهو من الضمانات الأساسية لمكافحة الفساد القائم، شرط وضعه ضمن جملة إجراءات إدارية ورقابية قانونية فعالة.

9. العمل بمبدأ الشفافية والوضوح الكامل في جميع المرافق والمؤسسات.

10. إشاعة المدركات الأخلاقية والدينية والثقافية والحضارية بين عموم المواطنين.

11. تفعيل الجهاز الإعلامي لما له من أثر كبير في الكشف عن عمليات الفساد الصغيرة والكبيرة.

12. تعزيز الاتفاقيات الدولية التي من شأنها أن تكافح الفساد العالمي. 

13. إقامة المؤتمرات وإعداد البحوث والدراسات بشكل مكثف لتسليط الضوء وبشكل واسع على الفساد وآثاره المختلفة. 

وباعتقادي أن تطبيق ما ذكرناه أعلاه من خطوات مهمة للتخفيف من سلبيات وأضرار الفساد التي قد تلحق بالفرد والمجتمع والدولة ككل، لن يكون له أي فائدة ترجى ما لم تعالج أسباب ومقدمات الفساد لا نتائجه فقط.

والمسألة هنا ليست المناداة على المنابر بالقضاء على الفساد (السياسي أو الاقتصادي أو غيرهما..) دون وضع الأسس العقلانية الممهدة لمعالجته، بل هي في التأكيد على استحالة بدء العلاج من دون وجود مناخ سياسي واجتماعي صحي مناسب. أما أن نرفع الشعارات الجوفاء حول ضرورة مكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين، من دون أن نبادر عملياً لاتخاذ الإجراءات التنفيذية المطلوبة فإن هذا العلاج الحدي المرفوع لا يعدو أن يكون أكثر من تكريس لمعادلات الفساد القائمة.

لذلك ينبغي الالتزام بتبني منظومة قيم وأخلاق إنسانية وقانونية في مجتمعاتنا، وهي أساساً موجودة ولكنها تحتاج إلى تفعيل على مستويات: فردية ومجتمعية ومؤسساتية (سياسية-اقتصادية)..

- فعلى الصعيد الفردي لا بد من إعادة التركيز على تنمية الوازع القيمي والسلوك الأخلاقي.

- وعلى المستوى المجتمعي العام نجد أن هناك ضرورة ملحة في إصلاح ثقافتنا الضعيفة والمضعضعة القابلة للتأويل والتفسير بحسب الرغبات والأهواء. والقيام بعملية نقد لمجمل تراثنا الثقافي والديني كشرط أساسي للتجديد والانخراط في الحياة والعصر.

- وأما على صعيد المؤسسات والدولة فإننا نجد هنا أنه إن لم تجرِ معالجة متكاملة لإشكالية الحكم والسلطة، فإننا سنبقى نلف وندور في حلقة مفرغة، ولن يحقق أي مشروع لمكافحة الفساد جدواه وأهدافه المرجوة منه.  

باحث وكاتب سوري(*)

اعلى الصفحة