اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الثالثة عشر ـ العدد 152 ـ (شهر شوال 1435 هـ)آب ـ 2014 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

من بقايا التمزق

بَسَاطُ المساءِ الرماديُّ، يمتدُّ أوسعَ من الباديةِ.. يمتدُّ عذباً معطَّراً بريحِ الصِّبا، وطيورٌ حيرى تحلِّقُ في مداهُ الجويِّ وكأنها تودُّ أن ترتحلَ في حِدَاءِ الإبِلِ... يزدادُ وجيبُ القلبِ، والوقتُ يُرتضَى.. أقترِبُ تحتَ غمامةِ التاريخ مؤتزراً بجرأةِ الحبِّ ونبضِ المهاجرينَ والعشَّاقِ.. أُحَدِّقُ في ملاكي الذي حلُمْتُ بهِ عمراً، ملاكي القائمِ شجرةً من نخيل.. أُطيلُ النَّظَرَ: عينانِ كخيمتَي أميرَيْنِ، ولكنهما معتكرتانِ كأن رحيلاً يتجمَّعُ فيهما... تحتميان برحمةِ وجهٍ كصحراءَ من رمالٍ نقيةٍ.. يرتَعِشُ سَيْفَا الحاجبين ويبتدِرُ وجهٌ من شجرِ الواحاتِ مندَّىً بابتسامةٍ سخيةٍ.. تتنهَّدُ الروحُ قائلةً يا ساهري النوافذِ العشَّاقَ، ورودكم على ضفافِ دمِ الأبهر.. ما الماءُ حِمَى، ولا اللسانُ حبيسٌ.. الأرضُ تزدادُ رحباً والقلبُ مفتوحٌ قَبْلَ النوافذِ.. كالقِدْرِ يغتلي ويُعْلِنُ نَضْجَ الزادِ لكم.. ولكنَّ النجوم الساهرةَ في السماءِ والأفلاكَ المتراميةَ على مدى الأشواقِ يقولون إن الصدّفَ حيوانٌ من جِنْسِ السمكِ يخلُقُ اللهُ فيه اللؤلؤَ من مطرِ الربيعِ، ويُخْرِجُ من ملتقى البحرين، العذبَ والمالِحَ، وفيه يقول الشاعر:

أرى الإحسان عند الحُرِّ ديناً         وعند النذلِ منقصةً وذمَّــا

كقطرٍ صار في الأحداق درّاً         وفي فم الأفاعي صار سمّا

يرَوْنَنِي القطرةَ التي ينبغي أن تَقَرَّ في مناخِها ومياهِها لتكون دُرَّاً، لا سُمّاً يؤرِّقُ ضميرَ العاشقين عند النوافذِ.. أقولُ فلنَخْتَرْ لغَتَنا والسيفُ مُغْمَدٌ.. ولنٌُخْرِجْ أسماءَنا وأرواحَنا من القيودِ والأضابيرِ والملفاتِ حيثُ خزنوها.. آخُذُ قبضةً من الرَّمْلِ وأبسط بها راحتيَّ ثم أقول: "كيف تعرفونَ ذراري العاشقِ من المؤرَّقِ بالحزنِ في هذه الحَفْنَةِ من حبَّاتِ الرمل؟ مثل هذهِ نحنُ.. أفتحُ ذراعيَّ وأُشيرُ إلى مدى الصحراء المترامي: ومن هذِهِ نحنُ.. يتساوى فيها عزيف الجِنِّ والغربانِ والأيائلِ والغضا والقتلُ وحوافرُ الخيولِ والعذابُ.. والحبُّ لا يأتلفُ! فتنبهوا وأفيقوا وقولوا لقومِكُم إنّ خيلَ اللهِ غَلَبَتْ خيلَ الّلات..وهذِهِ الأرضُ جِلْدُنا.. كلُّ طعنةٍ فيها تسري رعشةً وتيّاراً في الجلد كله... فلا يَبْدأَنْ أحدٌ بالقطيعة.. ولا تسحبوا ذرَّاتِكُم من يدي.. قولوا لقومِكُم إنْ قطعوا هذا الجِلْدَ تثّقبَ، وصارت كلُّ قطعة منه نهباً للطاعون والحمّى والهذيان، وتفشّت فيه الأوبئة، إن حرمتموه من ترياقِ الحب، ستختنقون إن فعلتم وتموتون بالسكتاتِ القلبيةِ وتَتْرُكونَ أبناءَكم في المتاهاتِ والتمزًّقِ.

أجلْ ستتمكنُ منكمُ البغضاءُ والعصبيّاتُ القبليةُ، وسيَلْهيكُمُ التفاخُرُ والتكاثُرُ والتنابُذُ بالإنجازاتِ عن صدِّ الغاراتِ.. وستُشْغَلُونَ بجَمْعِ المدائحِ والصورِ التذكاريةِ عن الذودِ عن العرضِ والأرضِ.. وستقتسمونَ هذا الجِلْدَ رِقَعَاً وخِرَقاً تضيقُ على سُتَرِكُم، ستشدُّونَ كلَّ رقعةٍ صغيرةٍ لتتَّسِعَ للقصورِ والمناراتِ والمسابِحِ والسدودِ والإقطاعات والأنفاقِ ومضاميرِ سباقِ الهُجُنِ فتضيقُ عليكم.. ستختصمون على الحدودِ والقنائِصِ والموانئ البحريةِ.. ومن أجلِ الاستئثارِ بأشعةِ الشمسِ وضوءِ القمرِ والسُّحُبِ المحمَّلَةِ بالغيثِ إنْ أَغْضَبْتُم هذا الحب.. وستختلِفونَ حولَ البَدْءِ بالصومِ والإفطارِ ويكونُ لكلِّ فخذٍ منكم أعيادُهُ القوميةُ وتوقيتُهُ الهجريُّ والميلاديُّ والصيفيُّ والشُّتْوِيُّ وعمْلَتُهُ من الدينارِ والدرهمِ والليرةِ والريالِ والجِنيه.. ويكونُ لكلِّ فخذٍ خاتَمُهُ وجوازُ سفَرِهِ ونشيدُهُ الوطنيُّ، وستهدُرونَ الوقْتَ والذاكِرَةَ برسْمِ قياساتِ شعاراتِكِم وأعلامِكُم وألوانِها.. بل ستقيمونَ الحدَّ على مَنْ يُغَيِّرُ زيَّ القَبِيلَةِ ونظامَها المنْضَمَّ.. فأفيقوا وارعووا.. إني أستشرِفُ مستقبَلَكُم المنكَّدَ بالمحظوراتِ، وأرى الأسنَّةَ والحرابَ تنطلِقُ من محطاتِ إذاعاتِكُم مشحوذةً تُخْبِرُ كلَّ من تصادِفُهُ أينَ سيكون مِغْرزُها.

سكتتُ.. ووقَفْتُ دقيقةَ صمتٍ استرد فيها أنفاسي.. ثم تابعتُ: كفوا عن الثأرِ لداحسَ والغبراء، فإنْ هي إلا فتنةٍ وضلالٌ.. وكونوا قريةً آمنةً مطمئنةً وأرضاً تُشْرِقُ بنورِ ربّها.. وتنبَّهوا قبل أن تبحثوا عن ظلالِكُمُ في زحمةِ الأضواءِ فلا تجدوها.. وقبل أن تناموا واقفينَ كمالِكِ الحزينِ على رِجْلٍ واحدةٍ، وتستوردوا الإبِلَ والخيولَ من الرُّومِ والعَجَمِ.. قبل أن تتكاثَرَ مشاكِلُكُم وتُعَسْكِرَ جيشَ أرقٍ تحت مِخَدَّاتِكُم ويكونَ وحامُ القبيلةِ صعباً. امسحوا عن عيونِكُم وَشَمَ الرَّمَدِ، ولا تُورِثوا أبناءَكُم خيبةً في الصدورِ وغربةً وحباً عبر الأسلاكِ الشائكةِ على الحدود.

وحين أدرتُ ظهريَ ومضيتُ متمهلاً انسرَبَتْ على وجنتي ملاكي دمعتان حارتان.. ثم سقطت عند قدميها كلُّ القصائِدِ الجاهليةِ المُغْتَنِيَةِ بالحبِّ والوَجَعِ.. وكلُّ الصورِ والمعلَّقاتِ التي تسلَّقَتْ جدارَ الذاكرة. يزدادُ وجيبُ القلبِ والوقتُ يمضي.. لا بل أنا الذي أمضي، وهو الذي يبقى، ووجهُ ملاكي يراودُني عن إيابي وصمتي.. أريدُ أن أخفِّفَ عنها انوجاعَها بقليلٍ من الحداءِ.. أحاولُ جهدَ صوتي.. لكن لا صوت.. أحاولُ وأُحاولُ.. أشدُّ بقبضةِ يدي على جذعِ الشجرةِ الباسقةِ علَّها تسنُدُ خيبتي الصامتة.. لكني أستيقظُ لأجِدَ وسادتي بقبضةِ يدي والصمتَ يرافقُ عمري ولا يفارِقُني إلا ساعةَ الأحلام.. آهٍ ما أقسى المنفى القسريَّ بين أحضانِ الأحلام.

اعلى الصفحة