الحركات الإسلامية وشروط التقارب الثقافي

السنة الثالثة عشر ـ العدد 152 ـ (شهر شوال 1435 هـ)آب ـ 2014 م)

بقلم: السيد جعفر محمد حسين فضل الله

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

تشكّلت ثقافة المجتمع الإسلامي، على تنوّعاته المذهبيّة، في مرحلة سابقة على نشوء الحركات الإسلامية، والتي تعتبر حديثة العهد، حيث أكبرها عمراً يرجع إلى بدايات القرن العشرين في الحدّ الأقصى، كحركة الإخوان المسلمين يتلوه حزب التحرير في المجال الإسلامي السنّي، ويتبعهما حزب الدعوة الإسلاميّة وحزب الله في المجال الإسلامي الشيعي..

.. وهذه الثقافة تتّكئ على تاريخ عمره أكثر من أربعة عشر قرناً، وهو تاريخٌ مليء بصراعات داخليّة وخارجية ربّما تكون طبيعيّة إذا قيست بمسار تشكّل المجتمعات، ولاسيّما في دولةٍ اتّسعت جغرافيّتها بوتيرة سريعة نسبيّاً.

وليس من شكٍّ هنا، أنّ تعقيدات الفكر الإسلامي التي رافقت مسيرة المسلمين منذ وفاة النبيِّ(ص)، فيما يخصّ مواضيع مرتبطة بالعقيدة والفرق وطبيعة القيمة التي يمنحها كلُّ فريقٍ لفكره وعقيدته وفقهه ومصادره المعرفيّة وما إلى ذلك، قياسًا بالآخر الذي يأخذ عادةً قيمة سلبيّة في مقابل ذلك؛ كلُّ تلك التعقيدات قد رافقت تشكّل الذهنيّة الثقافيّة للجماعات المذهبيّة، على اختلافها.

ما يعنينا في هذا المقال هو تسليط الضوء على إشكاليّة أساسيّة، وهي: إلى أيّ مدى ساهمت الحركات الإسلامية الجهاديّة في بلورة تقاربٍ ثقافيّ فيما بينها، بحيث أدّى توحيد الهدف الجهاديّ في مقاومة الاحتلال الصهيوني والاستكباري، إلى تغيّر في الأفكار والمعتقدات، ولاسيّما تلك المرتبطة بالآخر المذهبي وصورته؟

من الواضح أنّ الحركات الإسلاميّة الجهاديّة عملت على كسر الحواجز بين المجالين السنّي والشيعي، حتّى اعتُبر العمل الجهادي عنصر توحيد للأمّة ككيان إسلاميّ جامع، وتمّ التركيز عليه كعامل فريد لإلغاء الفوارق وتحقيق التقارب وجسر الهوّات بين ذينك المجالين، بما يؤدّي إلى بلورة ذهنيّة إسلاميّة عامّة، تشترك في قواعد تفكيرها، ومعايير تقييمها، وخطوط أدائها العملي، بما يصبُّ في عمليّة نهوض حقيقي وخلق جبهة إسلاميّة مشتركة في مواجهة العدوّ الصهيوني الرابض على قلب الأمّة في فلسطين، والذي أدخل المنطقة العربية والإسلاميّة كلّها في خطّ توتير فتنويّ وتخلّف حضاريّ على أكثر من صعيد.

ولكنّ أحداثاً كبرى عصفت بالمنطقة كشفت عن أنّ العامل الجهادي إنّما هو عاملٌ من عوامل الوحدة بلا شكّ، ولكنّه ليس العامل الوحيد؛ لأنّه عاملٌ ذو بُعد خارجيّ، بمعنى أنّه يتوجّه ضدّ عدوّ خارجي يخفّف من حدّة التمايزات والاختلافات والتباينات والتناقضات الداخليّة تحقيقاً للمصلحة العليا، تبعاً لما يحقّقه على المستوى النفسي من اتّساع في الأفق وثقة بالنفس وشعور بالقدرة على الإنجاز؛ ولكنّه لا يؤثّر في شكلٍ جذريّ على ثقافة الشعوب والجماعات والمذاهب والفرق إذا لم توجّه جهودها نحو نقدٍ ذاتيّ، وإعادة تقييم للمآل الفكري والثقافي، مستفيدة من الأفق الذي يفتحه العامل الجهادي أمام تفاعل أكثر راحةً وهدوءً.

أبرز هذه الأحداث كان الاحتلال الأمريكي للعراق، والذي طفت بسببه فكرة على السطح أنّ المسلمين الشيعة أصحاب طبع متأصِّلٍ في المؤامرة على المسلمين: فعلوها قبلًا تجاه "الخلافة" العبّاسيّة التي أسقطها التتار بمعونة الوزير "الرافضي" ابن العلقمي، وها هم يعيدونها مجدّداً مع الولايات المتّحدة الأمريكية ضدّ نظام صدّام حسين، الذي بدا أنّه بطلٌ من أبطالِ الإسلام! ولم يكن توحيد الحركة الجهاديّة مانعاً من عدم استعادة التاريخ بوجهه المأزوم، بمعزل عن حقيقته وواقعه.

الأزمة السوريّة كانت تبرز هذا التناقض في صورة أجلى وأوضح، فالشيعة الذين انتصروا على الكيان الصهيوني وحملوا لواء تحرير فلسطين كفصيل من الأمّة، ليسوا إلا الرافضة الذين اختزنت الثقافة الإسلامية السائدة موقفاً سلبيّاً منهم، وهم خارجون عن "السنّة والجماعة" وأقرب إلى البدعة والشرك في أدبيّات تروّج لها تحديدًا الحركة الوهّابيّة على مساحة العالم الإسلامي.

وقد يختلط الأمر على كثيرين من عامّة الناس بين شيعة ونُصيريّة، وتعود إيران الشيعيّة الدولةَ الصفويّة التي كانت تقفُ في مواجهة "الخلافة" العثمانيّة، على الرغم من تعاونها الاستراتيجي مع تركيا في أكثر من مجالٍ، وقد انخرطت في ذلك مؤسّسات دينية عريقة، لتعمل على ترويج كتبٍ صفراء عفا عليها الزمن، تعتبر للشيعة ديناً غير دين المسلمين!.

إضافة إلى ذلك، كانت فكرة "الخلافة الإسلاميّة" حلماً دغدغ مشاعر حركات إسلاميّة عريقة، ومن البديهي أن يخرج الشيعة من مشروعها؛ لأنّ "الخلافة" التاريخية كانت خلافة إسلاميّة سنّية، لا علاقة للمسلمين الشيعة بها؛ لأنّ تاريخ هؤلاء هو الرفض، والخروج عن جماعة المسلمين. وهذا ما جعل المواقف والأحداث تتحرّك معزولة عن كلّ السياق الجهادي الذي راكمته المقاومة الإسلاميّة الناشئة في المجال الشيعي، وتحديداً في جنوب لبنان منذ عام 1982.

في المقلب الآخر، كان موقف الثقافة الشيعيّة من عدد من صحابة رسول الله(ص) يعود إلى الواجهة، ليتمّ من خلاله تأكيد الصورة النمطيّة التاريخيّة عن الشيعة، حتّى وجدناه يتحوّل إلى موقف مبدئيّ يحكم تقارب دول بأسرها، كما شهدنا ذلك في ما حصل على باب الأزهر بين بعض علمائه وبين الرئيس الإيراني السابق.

طفا على سطح التخاطب أيضاً مصطلح النواصب، وكان الجهل بالآخر دافعاً لرمي بعض الثقافة الشعبيّة كلّ مخالفٍ بأنّه ناصبيّ، وأطلقت عناوين تاريخية على الصراع الدائر، فأصبحت جبهةٌ ما هي جبهة "بني أميّة" الذين حاربوا "أهل البيت"، ناهيك إلى مصطلح الرفض الذي أصبح موضع فخرٍ دونما تدقيق في مفهومه ومحتواه خلال تشكّله التاريخي. كلّ ذلك يدلّ على أنّ لدينا مسارين:

الأوّل: مسار سطحيّ يتناول مقولات عامّة، كالوحدة والأخوّة والمقاومة والجهاد والنهضة والحضارة الإسلاميّة وسائر المشتركات، كلّ ذلك بدا أنّه آنيّ، لم يساهم في تحوّل جذري في الثقافة الإسلامية العامّة، ولم يعد إنتاج ذهنيّة مختلفة عن الذهنيّة التاريخية التي يبدو أنّها سارت في نمطيّة ثابتة على اختلاف العصور والأعوام.

الثاني: مسار متّصل بكلّ التاريخ الإسلامي وتجاذباته وصراعاته؛ هذا التاريخ الذي راكم كثيراً من المقولات والصور النمطيّة عن الآخر المذهبي.

والذي جعل المسارين يتحرّكان من دون أن يؤثّر أحدهما على الآخر في شكلٍ فاعلٍ، هو انغلاق المجالين من الناحية العلميّة والمعرفيّة عن بعضهما البعض، ولذلك انفصل مسار الحركة الإسلاميّة في بُعدها الجهادي معها في بُعدها العقدي والمعرفي والمفاهيمي على وجه التحديد؛ وأصبحنا نسمع - على سبيل النكتة – أنّ المشكلة فقط في جهاد المسلمين الشيعة أنّهم شيعة، وأنّ المشكلة في جهاد المسلمين السنّة أنّهم سنّة، في إيحاءٍ للمحتوى السلبي في الثقافة الشعبيّة هنا وهناك.

وممّا ساهم في إيقاف أيّ مفاعيل لتأثير الوحدة الجهاديّة، هو الثقافة الشعبيّة المبنيّة على نهائيّات المعرفة، التي تؤدّي حكماً إلى اعتبار الأنا – المذهبيّة هي الحقّ كلّه، والآخر – المذهبي هو الباطل كلّه، ونتحدّث هنا عن البُعد المعرفي كما هو واضح.

أضف إلى ذلك، أنّ ذهنيّة التعصّب لذات الجماعة بعيداً عن القيم، ساهم في خلق حواجز نفسيّة متجذّرة في حركة المشاعر، وكان ذلك مانعاً إضافيّاً من التلاقح المعرفي، واختبار القواعد الفكرية المشتركة، وتحديد مواقع الخلاف بشكل علميّ ودقيق.

إنّ ما تتميّز به الحركات الإسلاميّة أنّها راكمت خبرة معاصرة تجاه السياسة وطبيعتها، إضافة إلى الروح العلمية التي تتعامل مع الوقائع الميدانيّة ولا تأخذ بالشائعات والمتداول غير العلمي، مع كونها – تلك الحركات – أطراً جامعة لشرائع واسعة من الجمهور، بما لا تملكه الدول والأنظمة؛ وهذا ما يحمّلها خبرة حضاريّة أمام المنعطف الخطير الذي تمرّ به أمّتنا، وتفرض عليها إعادة النظر في طبيعة الحركة الثقافيّة والفكريّة النقديّة التي مارستها طوال العقود الماضية؛ لأنّ من يراكم خبرة سياسية في الحاضر يمتلك دقّة أكثر في قراءة أحداث الماضي، التي لا تزال قراءتها المذهبيّة مبسّطة أو مخوّنة، في الوقت الذي يمكن أن نتحدّث فيها عن عوامل متعدّدة غير محصورة بالنوايا السيّئة، وهذا ما يسمح بطيّ صفحة الماضي دون إلقاء ثقله على الحاضر، والانصراف إلى اعتباره مصدر عبرة ودراسة تطبيقيّة للقيم التي هي ما يهمّنا في واقعنا المعاصر، وهو ما نُسأل عنه بين يدي الله سبحانه وتعالى.

لم نرد هنا اجتزاء هذه النقطة المعقّدة بما ذكرناه، بقدر ما أردناها إشارة سريعة إلى بعض ملامح الحركة النقديّة التي تنبع من الحاضر ولا تتنكّر في الوقت نفسه لكثير من معتقداتها الأساسيّة.

في كلّ الأحوال، قد نحتاج إلى أن نشدّد على عدّة نقاط نحسبها أساسيّة في إيجاد مسارٍ آخر لا يعيد إنتاج الأزمات الماضية بالقوّة ذاتها:

أوّلاً: الحركات الإسلاميّة مسؤولة عن إعادة فتح المجال المعرفي والثقافي الإسلامي على مصراعيه، وكما تحتاج الحركة الإسلاميّة إلى اجتهاد في قضايا الجهاد على ضوء المستجدّات، تحتاج أيضاً إلى الاجتهاد في قضايا فكرية وعقدية على ضوء الخبرة المتراكمة، وهذا أحد عوامل تحصين ساحتها أمام أيّ نقاط ضعف ذاتية يمكن للعدوّ النفاذ من خلالها.

ثانياً: ثمّة مقولات فقهيّة أنتجها الفكر الفقهي السياسي، والذي كان محكومًا بالإطار العقدي للجماعات المذهبيّة، واليوم تفرض علينا الخبرة بالواقع السياسي، وطبيعة السياسات التي تنتهجها الدول والسلطات تجاه الأفكار المذهبيّة، في تبنّيها تارةً ومواجهتها أخرى تبعًا لحركة مصالحها، أن نعيد النظر في تقويمنا للتجارب السياسية التاريخية التي اعتُبر فيها الأمويّون أو العبّاسيّون أو العثمانيّون أو الصفويّون أو غيرهم ممثّلين للخلافة الإسلاميّة ولو في الذهنيّة الشعبية العامّة، بمعزل عن تقويم النخب.

ثالثاً: المسار الجهادي هو أحد العوامل المساعدة على توسيع الأفق والنظرة إلى المشهد العامّ للمسلمين، وإلى الموقع الحضاري للأمّة الإسلاميّة تجاه الصراع الذي هو أكبر بكثير من العناوين الضيّقة التي أدمنّاها في تاريخنا، واستثمار ذلك يساهم في اختصار المسافة نحو التقارب الذاتي بطبيعة الحال.

رابعاً: لا يمكن لأي تقارب فكري ومعرفي أن ينحصر في الأطر العليا للحركات الإسلاميّة، بل لا بدّ أن يتحوّل إلى ثقافة شعبيّة؛ لأنّ ما أفرزته الأزمات الأخيرة كشفت عن وجود بونٍ شاسع بين فكر النخب وفكر الجماهير الشعبيّة في هذا المجال. بل قد رأينا أنّ النخب قد تجد حرجاً من التعبير عن حقيقة مواقفها من بعض الأحداث أو الجماعات؛ لأنّ ذلك يصطدم بذهنيّة الجماهير المستحكمة. وقد تدخل العمليّة هنا في حلقة مفرغة، بحيث يكون بقاء ذهنيّة الجماهير على ما هي عليه شرطًا لتماسك الجماعة المذهبيّة، وهذا ما يدفع القيادة المذهبيّة نحو تبنّي خطابين؛ أحدهما للداخل يهدف إلى شدّ العصب الذاتي للجماعة، والثاني للخارج الذي له علاقة بقضايا حيويّة مشتركة مع الآخر المذهبي أو غيره؛ وهذا كلّه يعبّر عن أزمة حقيقيّة في بنية الخطاب والفكر المنتج له.

خامساً: لا ينبغي أن يتوهّم أحدٌ أنّ أيّ مشروع للخلافة الإسلاميّة التي تعنى بتوحيد العالم الإسلامي تتمّ عبر استبعاد فصيل من الأمّة، أو مذاهب بأسرها، بل هي خلافة يندكّ فيها السنّة والشيعة عبر مسار من التقارب الذي أشرنا إليه آنفاً، في مشروع حضاريّ واحد، لا يقوم على السياسة وحدها، بل على كلّ مسارات الإنتاج الحضاري، في المعرفة والثقافة والعلوم والاقتصاد والاجتماع وما إلى ذلك.

أخيراً: استناداً إلى النقطة السابقة، فإنّ تحرير فلسطين كمشروعٍ وحدويّ جامع، يمرّ من باب توحيد الحركات الإسلامية الجهاديّة، الناشئة في المجالين السنّي والشيعي، فلا يزعم هؤلاء أو أولئك أنّ بيت المقدس لن يتحرّر إلا على أيديهم؛ لأنّ هذا خلاف منطق التاريخ، والوقائع الأخيرة أثبتت ذلك. وهذا ما يفرض علينا إعادة النظر في كثير من المرويّات التي تتحدّث عن أنّه "لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتّى يأتي أمر الله وهم بالشام" ونحو ذلك من الأحاديث التي يطبّقها كلّ فريق على نفسه، على قاعدة استبعاد الآخر على نحو مطلق عن أن يكون مشمولاً لها.

إنّ ما توخّيناه من هذه المقالة هو محاولة لاكتشاف مواقع الداء في أمّتنا؛ لأنّنا جميعاً أمام منعطف خطير جدّاً، لا يقتصر فيه الأمر علينا في وجوداتنا البشرية، وإنّما يصل الأمر إلى الإسلام كدينٍ، والذي نعتقد أنّ الحرب الثقافية عليه تصنع وقائعُ لها في الميدان، ليتمّ فيه خلق حواجز نفسيّة مؤثّرة جدّاً ضدّ الإسلام، ليس لدى الشعوب غير المسلمة فحسب، وإنّما في قلب مجتمعاتنا التي أصبحت أجيالُنا الناشئة تشعر فيها بالغربة من إسلامها؛ والله من وراء القصد. 

اعلى الصفحة