الإرهاب يقود ليبيا إلى الصوملة

السنة الثالثة عشر ـ العدد 151 ـ (شهر رمضان 1435 هـ) تموز ـ 2014 م)

بقلم: توفيق المديني

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

لقد ابتهج الكثير من العرب بالتدخل العسكري الأطلسي للإطاحة بنظام العقيد القذافي ونصرة الثورة الليبية، لكن المشكل يكمن في أن تدخل الحلف الأطلسي في ليبيا في سنة 2011، لم يسهم في بناء دولة وطنية ديمقراطية تعددية فيها،بل أسهم في استبدال الديكتاتورية التي كانت قائمة فيها، بالفوضى الهدامة، وليس ببناء "ديمقراطية جديدة" تستلهم القيم الإنسانية، لاسيما في مجال بناء دولة الحق والقانون، والتداول السلمي للسلطة.

فوقع تحطيم الدولة في ليبيا، وبذلك تفكك المجتمع الليبي،فعاد الناس إلى البحث عن حماية في التنظيمات ما قبل الوطنية مثل الأطر الطائفية والقبلية،أو اللجوء إلى التنظيمات الإسلامية المسلحة المرتبطة بتنظيم "القاعدة"،أو الميليشيات المسلحة ذات الطابع المافياوي القائمة على العنف والجريمة،والتي أصبحت تتاجر بكل شيىء،بما فيها عمليات تهريب اللاجئين السريين عبر قوارب البحر إلى إيطاليا،وتجارة الأسلحة المنهوبة من مخازن القذافي.

بعد ثلاث سنوات من "الحرية الأطلسية"في ليبيا، ها هو اليوم الإرهاب يستوطن بصورة دائمة في ليبيا، بل إنه لم يعد محصوراً داخل الحدود الليبية، إذ خرج عن السيطرة وبدأت سيوله تتسع وتصبح أكثر قوة في ضرب دول الجوار.. فليبيا باتت المقر الرسمي للإرهاب والمصدر له في آن معاً. ولهذا نخلص إلى القول: إن ليبيا اليوم، وخصوصاً المناطق الشرقية، والمناطق الجنوبية منها، أصبحت مجالاً حيوياً لتنظيم "القاعدة" الذي يستغلّ هذه الجغرافيا ذات التضاريس الجبلية في الشرق، والصحراوية الشاسعة في الجنوب،  للقيام بالتدريب وإرسال الإرهابيين باتجاه دول الجوار الأمر الذي يفرض ضرورة العمل على أن يستعيد المجتمع الليبي سيطرته على حدوده وأن يسترد سيادته على أقاليمه الثلاثة ضماناً لوحدة أراضيه ووحدة مجاله الترابي والجغرافي.

الإرهاب يستوطن في ليبيا

ليبيا تتشظى ببطء لتتناثر قبائل "مستقلة" متصارعة إلى مالا نهاية.. فالإرهاب يستوطن في ليبيا التي بلغت مرحلة معينة من التفكك، ومن ضعف السلطة السياسية، ومن غياب المؤسسات التمثيلية إلى درجة لم يعد مسكوتاً عنها لأنها تشكل معضلة بالنسبة لليبيين أنفسهم وحتى إلى جيرانهم الأقرب والأبعد.

فها هو عادل عبد الكافي، العسكري الليبي والخبير الإستراتيجي، في حديث "للبوابة نيوز"، يقول أن أيمن الظوهري زعيم تنظيم "القاعدة" دخل الأراضي الليبية في 2012 وكذلك الجزائري المختار بالمختار، زعيم كتيبة الموقعين بالدم في شمال مالي- وأبو عياض التونسي، زعيم تنظيم "أنصار الشريعة". ويرى السياسي الليبي أحمد شرتيل: أن هناك تغيراً في إستراتيجية القاعدة خاصة بعد وصول أيمن الظواهري، و مختار بلمختار، إلى ليبيا مع الانتشار الكبير للتنظيمات الجهادية داخل ليبيا وإحكام سيطرتها على الكثير من المدن الليبية مثل درنة، وسرت، وصبراته، وجنوب سبها، التي أصبحت تحت سلطة التنظيمات الجهادية بنسبة 100%.

إن وجود أكثر من 12 كتيبة في أرجاء ليبيا تابعة "للقاعدة" استطاعت أن تخضع مدناً كاملة لسيطرتها وهي في اتجاه العاصمة طرابلس الآن بعد وصول المجاهدين الليبيين من سورية، في ظل وجود قيادات عالمية إرهابية بين صفوفها، وبالتعاون مع جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، جعلها تفكر في إستراتيجية جديدة تمكنها من التعاون مع أمريكا، بدلاً من ضرب مصالحها وهي إستراتيجية (المجاهدين التائبين).

 من هنا كان لقاء السفيرة الأمريكية ديبورا جونز مع عبد الحكيم بالحاج، وعبد الوهاب القايد، كما لقائها مع قيادات إرهابية بالشرق الليبي؛ وذلك بهدف بسط نفوذهم على الأراضي الليبية، من هنا كان خالد الشريف القيادي بـ"الجماعة الليبية المقاتلة" وكيلاً لوزارة الدفاع ثم وزيراً للدفاع بعد ذلك، وعبد الحكيم بالحاج وزيراً للداخلية والهدف من المساعدة الأمريكية غير المعلنة للتنظيمات الجهادية في ليبيا يحتمل الكثير..

 أولاً: ربما تهدف أمريكا من ذلك حماية مصالحها الإستراتيجية في المنطقة بمهادنة "القاعدة" على الأقل في الوقت الحالي.

 ثانياً: احتمال آخر تمكين "القاعدة" في ليبيا يعد إحياء لمشروع "الشرق الأوسط الجديد" بعد ضربه بانتفاضة 30 حزيران/ يونيو 2013 في مصر، من هنا كان بقاء الظواهري آمناً مُطْمَئِنًا في ليبيا، وغض الطرف عن إمارة درنة، وتسويق نموذج الإسلام الراديكالي مرّة أخرى عبر أدوات جديدة بعد فشل الإخوان في مصر من خلال ما يسمى بـ"جيش مصر الحر"، وبالتالي القيام بعمليات إرهابية من وقت إلى آخر في مصر ومحاولة إفشال الدولة مع تغذية الخلافات في الجزائر بعد نجاح بوتفليقه بطريقة أثارت شكوك الجزائريين وسخريتهم ما ينبئ باضطرابات سياسية وأمنية وربيع عربي جديد، أو أن أمريكا تبحث عن ذرائع لعمل فرع للقيادة الأمريكية (الأفريقية) أفريكوم في ليبيا.

هناك إجماع لدى الباحثين العرب على أن الجماعات الجهادية في ليبيا جميعها منبثق عن جماعتي التوحيد والجهاد والجماعة الليبية المقاتلة، حيث أصبحت مجموعة شباب درنة تمثل القيادة المركزية للتنظيمات الجهادية في ليبيا، لأنها تحتوي على مراكز للتدريب ومخابئ للسلاح، فضلاً عن أن طبيعة المكان تشبه جبال كابول في أفغانستان، ويقودها مختار بلمختار وسيفيان بن قمو وعبد الحكيم الحصادي.

وهناك عدة معسكرات تتبع هذه التنظيمات كالآتي: "طرابلس" بالقرب من مطار معيتيقة الدولي، وقصر بن غشير، إضافة إلى كتيبة راف الله السحاتي، وتتبع الجماعة الليبية المقاتلة ولها عناصر داخل مليشيات درع ليبيا التابعة للحكومة المركزية، إضافة إلى معسكر 27 بمنطقة جنزور، "مصراته" معسكر الخروبة وفيه يدرب عناصر مصرية التابعة للجيش الحر، "بني وليد" كتيبة 28 مايو على مقربة من وادي سوف الجين، "سرت" سيطرة كاملة لأنصار الشريعة بعد القضاء على صلاح أبو حليقة وانسحاب كتائبه باتجاه الشرق، "بنغازي "معسكر السلفيين وكتيبة العبيدات العائدة من سورية، ومليشيات الزنتان في "الجنوب الغربي لليبيا".

معسكر الوطية قاعدة عقبة بن نافع سابقاً، "صبراته" ويقوده عمر المختار، إضافة إلى معسكر 27 بمنطقة جنزور بالقرب من طرابلس تحت قيادة إبراهيم تنتوش وهو إرهابي قادم من جنوب أفريقيا، وكتيبة 145 بالجفرة وكتيبة الفاروق بسبها.

وفي حديثه لـ"البوابة نيوز" قال الدكتور عبد العزيز أغنية السياسي الليبي - مقيم في لندن- إن المجتمع الليبي بسيط وعلاقته الاجتماعية مترابطة ولكن جغرافيا ليبيا مترامية الأطراف، ولو أحد من العائلات تطرف فسيلحق به أخيه وابن عمه، والمجتمع الليبي بطبيعته لا يميل للتعامل مع السلطة. ولهذا فالتطرف ينمو ويتوغل بأسرع مما يظن الكثير وخاصة أن البديل المطروح للجماعات الإرهابية هو البديل الليبرالي الفج، وهو ما لا ينسجم مع العقل الجمعي لليبيين، لذلك فالجماعات المتطرفة تلقى قبولا أكثر داخل المجتمع الليبي؛ لأن خيارته محدودة ما بين نخبة ليبرالية تربت في الغرب وهي قليلة جداً وليس لها أي وجود داخل الشارع الليبي وبين الجماعات الإرهابية التي اكتسبت ولاء الليبيين باسم الدين أو الولاء للقبيلة. فمثلاً قبيلة العبيدات كونت مليشيا جهادية للقتال في سوريا ذات مرجعية دينية متطرفة وقد عادت الآن بالإضافة من قاتلوا في كتائب عبد الله عزام وجبهة النصرة ولواء الأمة الذي أسسه: المهدي الحارثي، وعبد الحكيم المشري، ولواء صقور الشام، وأعداد كبيرة من الذين كانوا في سورية عادوا مجددا إلى ليبيا.

 فبعد ثورة 17 فبراير وسقوط نظام القذافي أضحت سورية قبلة المجاهدين الليبيين لقناعة المجتمع الليبي بأن هؤلاء هم الإسلام وأن جهادهم في سورية أشبه بجهاد المسلمين ضد قريش، وفي الأيام القلية الماضية توالت عودة هؤلاء إلى ليبيا من جديد كما تونس والجزائر وهو ما يعني أن هناك تحولات جديدة في فكر التنظيمات الجهادية في المغرب العربي، فما الذي يحملهم على العودة إلى بلادهم؟

وفي هذا التوقيت تزامناً مع الإعلان عن الرغبة في السيطرة على العاصمة، تسعى "المجموعات التكفيرية الإرهابية" إلى جعل ليبيا دولة جهادية في المنطقة واتخاذها مركز لتصدير الإرهاب إلى دول الجوار الجغرافي، لاسيما مصر وتونس والجزائر وسورية. فقد أصبحت القيادات الروحية"للقاعدة" موجودة في ليبيا، وتعمل على تحرير الإرهابيين المرتبطين بالقاعدة في السجون الأجنبية عبر مقايضتهم بأعضاء البعثات الدبلوماسية المختطفين في ليبيا، كما حدث مع البعثة المصرية، والسفير الأردني،والدبلوماسيين التونسيين. وتسعى "المجموعات التكفيرية الإرهابية" إلى جعل ليبيا إمارة قاعدية تضم كل عناصر الإسلام الراديكالي من كل مكان للانطلاق نحو تحرير الأمة من طواغيت الكفر كما يدعون، خصوصاً بعد فشل مشروع محمد مرسي بإقامة دولة إسلامية في شرق مصر تضم قطاع غزة وسيناء، فذات المشروع يتكرر في ليبيا ولكن في ظروف أكثر ملاءمة وأكثر أماناً وفي ظل هيمنة الجماعات الجهادية على مفاصل الدولة الليبية بما فيها الدولاب السياسي.

في ظل سيطرة الإرهابيين، والميليشيات السلفية المسلحة، تتحول ليبيا تدريجياً إلى دولة فاشلة، فالسلاح أصبح اللغة السائدة، بعد أن صمّ الجميع آذانهم عن لغة الحوار الوطني، لاسيما أن الأجندات الخاصة  التي تعمل من أجلها "المجموعات الإسلامية الإخوانية والتكفيرية الإرهابية" تخدم الأجندات الأجنبية، وتتناقض كلياً مع المصلحة الوطنية الليبية.. وبالطبع، هناك تعارض بين الأجندة الوطنية والأخرى الأجنبية. الأولى تهدف للاستقرار والثانية لمصالحها، ويأتي النفط في مقدمة هذه المصالح، وستحصل عليه بالاستقرار أو بالحرب. فهناك استحالة للحكم في "دولة" هي بالكامل أصبحت تحت سيطرة إرهاب الميليشيات... هذه الميليشيات لن تتورع عن إسقاط أية حكومة إذا لم تمرر أجنداتها "بطريقة ديمقراطية" تحت سقف هذه الحكومة.

في مقابلة مع جريدة "القدس العربي" اللندنية، أجاب محمود جبريل عن سؤال يتعلق بما إذا كان يعدّ ليبيا دولةً فاشلة: لا توجد دولة في الأساس حتى نقول إنها فاشلة أو ناجحة.. وللتذكير فإن جبريل كان أول رئيس لما يسمى المؤتمر الليبي بعد اغتيال القذافي (20 تشرين الأول 2011) وكان موضع رهان الغرب الاستعماري قبل أن يهمشه قانون العزل السياسي ويتجه بعدها إلى فضح ما خفي وما عظم من كواليس "الحرية الأطلسية في ليبيا".

الغرب لا يتدخل من أجل محاربة الإرهاب

هل يشكل إنقاذ ليبيا عن طريق التدخل العسكري الجديد من قبل الغرب للقضاء على الإرهاب في ليبيا، وهو صانعه وصاحب المصلحة الأكبر فيه، كما تطالب بذلك دول الجوار العربية وغير العربية؟

النيجر طالبت أكثر من مرّة الولايات المتحدة وفرنسا بالتدخل للقضاء على الإرهاب في ليبيا ولاسيما في الجنوب، فهو يهدد بشكل مباشر النيجر وغيرها من الدول المجاورة لليبيا جنوبا. الولايات المتحدة لم تكلف نفسها عناء الرّد، بينما علقت فرنسا على لسان وزير خارجيتها لوران فابيوس قائلة: إن التدخل غير وارد وإن المجتمع الدولي سيكتفي باجتماعات "أصدقاء ليبيا"... فرنسا قالت يوم 7 نيسان/أبريل 2014 إن جنوب ليبيا تحول إلى وكر يستقر فيه عتاة الإرهابيين، مشيرة إلى أنها مستعدة لتدريب أفراد شرطة ليبيين.. ولكن لا يوجد متطوعون!!. الولايات المتحدة قالت بدورها: إن كل ما تستطيع تقديمه هو تدريب قوات أمن عامة وإن ذلك سيستغرق ثمانية أعوام!!!

إذاً، لن يتدخل الغرب ولا حلف "الناتو" لحماية المدنيين من الإرهاب ولا لحماية دول الجوار. الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة تريد السيطرة على النفط، وهو الآن في الحالة الليبية تحت سيطرة الشركات الأمريكية. ففي عهد القذافي كانت عائدات النفط تدرُّ على ميزانية الدولة أموالاً تتجاوز قيمتها الـ60 مليار دولار سنوياً (99% من دخل الحكومة) بالتوازي مع 200 مليار دولار عوائد خارجية.. اليوم ليبيا على حافة الإفلاس لأن آبار وموانئ النفط تحت احتلال الميليشيات الخاضعة بدورها لسلطة شركات النفط الأمريكية والفرنسية. ربع عدد الشركات الأجنبية التي تستغل النفط الليبي هي شركات أمريكية (كونوكوفليبس- ماراثون- هيس- أوكسيدنتال) وهي تسيطر بشكل مباشر على نصف حقول النفط الليبية. إنتاج النفط اليومي- التابع للدولة- تراجع من 1.4 مليون برميل إلى أقل من 160 ألف برميل.

يقول رئيس مجلس أمناء "منتدى الربيع العربي"، حسن طاطاناكي: في تعليقه على موضوع التدخل الغربي في ليبيا، بهدف محاربة الإرهاب، أن التدخل الأجنبي سيكون كارثياً، ليس فقط على ليبيا ولكن أيضاً على دول الجوار، فهذا التدخل سيصاحبه رفض شعبي وسيسعى أمراء الحرب وأنصار الإرهاب وأقارب "القاعدة" إلى استثمار هذا الموقف لمصلحتهم، سيرفعون رايات الجهاد وسيجدون حتماً استجابة من الرأي العام ومن ثم مزيداً من القوة لهم. هؤلاء جاهزون لتوجيه تهم الفشل بل العمالة والخيانة لكل منافسيهم بلا استثناء. سيحدث هذا السيناريو بأشكال مختلفة في ليبيا وتونس ومصر وسيكون بمثابة قبلة الحياة للمتطرفين قد تعيدهم إلى صدارة المشهد بقوة السلاح.

وفي هذا السياق، جاء في تقرير أوردته صحيفة "ذي تايمز" البريطانية أن قوات خاصة فرنسية وأمريكية وجزائرية تتجه إلى جنوب ليبيا لمهاجمة شبكات إرهابية مرتبطة بتنظيم القاعدة. وأضاف تقرير الصحيفة نقلاً عن مدير الأبحاث في جمعية هنري جاكسون، مقرها لندن، أوليفيير غيتا، قوله إن هجمات القوات الخاصة تركز على تنظيم "القاعدة في المغرب الإسلامي"، فيما كانت الأزمة تتعاظم. ويبرز على قائمة أهم الملاحقين مختار بلمختار، وهو متشدد جزائري فقد إحدى عينيه، إذ يعتقد أنه المسؤول عن الهجوم على الحقل الغازي، عين أمناس في الجزائر، في بداية العام 2013. وقال غيتا إن "الدول الغربية تتفحص الوضع في ليبيا عن كثب بنسبة أكثر، وإنها على استعداد لتدخل أوسع من ذي قبل. إن قضية الإرهاب متشعبة، وهم يتطلعون إلى تنظيف جنوب البلاد ما أمكن في الوقت الحاضر من المغرب الإسلامي، والعثور على مختار بلمختار، وإنهم لن يترددوا في اتخاذ ما يلزم إذا كان ذلك سيعيد البلاد إلى الاستقرار من جديد وإلى عدم تقديم العون إلى المتشددين الإسلاميين". 

وكانت الأنباء ذكرت في العام 2013أن بلمختار قتل أثناء معركة بالنيران مع القوات في تشاد، إلا أن مصادر أمنية أكدت أخيراً أنه اتجه إلى مالي، واتخذ جنوب ليبيا ملجأ له. وقد تدهورت الأوضاع في البلاد الثرية بالنفط منذ الثورة الليبية قبل أربع سنوات، وساعد على ذلك إعلان منطقة يحظر فيها الطيران الذي فرضته بريطانيا وفرنسا وأمريكا، وتحولت إلى الفوضى العنيفة.  وقال ناطق بلسان القيادة الأمريكية الإفريقية في ألمانيا، والتي تقع ليبيا ضمن صلاحياتها، إنه ليست هناك قوات أمريكية في الجنوب الليبي. كما نفت ناطقة بلسان البيت الأبيض تلك الأنباء، وقالت "نحن لا نقوم بعمليات قصف في الجنوب الليبي". على أن هناك حوالي 180 من المارينز على أهبة الاستعداد لتوفير الأمن في السفارة الأمريكية في طرابلس. وقد أرسلت تلك القوة إلى سينويلا في صقلية، وهي المركز الرئيسي لحشد العمليات الأمريكية في ليبيا، إلا أنها لم تتلق تعليمات للتوجه إلى طرابلس بعد. ومع بداية انتفاضة اللواء حفتر، دعت واشنطن مواطنيها الأمريكيين إلى مغادرة ليبيا على الفور، وكانت تستعد لاحتمال القيام بعملية إجلاء منها.

 وقال عادل عبد الكافي عسكري ليبي وخبير إستراتيجي، في تصريح ل "البوابة نيوز" أن أي تدخل غربي في ليبيا من شأنه تقطيع أوصال الدولة، وأوضح عبد الكافي، أنه إذا حدث تدخل غربي في ليبيا فسوف تصبح عراقاً آخر أو صومالاً جديداً، فالتدخل الأمريكي في هذه الدول زاد أزماتها ومزق وحدتها الوطنية كما أن التدخل الفرنسي في مالي مزق الدولة أيضا. وأضاف،إذا حدث تدخل أمريكي في ليبيا فهذا يعني انتهاك سيادتها بشكل أوسع ولمدة أطول لأن طرابلس لا تزال تحت البند السابع للأمم المتحدة والذي يعطي الحق لمجلس الأمن بالتدخل في ليبيا في أي وقت وأي تدخل دولي من شأنه التجديد، وبقاء ليبيا أطول فترة ممكنه تحت هذا البند. وتابع أن الولايات المتحدة تستعد لإصدار قانون جديد يسمح بقصف مواقع محددة في ليبيا بطائرات بدون طيار واستهداف الجماعات التي تصفها بالإرهابية للثأر من مقتل السفير الأمريكي في ليبيا في 2012، وإقدام واشنطن على استخدام طائرات بدون طيار بليبيا سيكون له مخاطر عديدة،مؤكداً أن أمريكا تستعد لهذا الأمر منذ فترة بعيدة من خلال العمليات الاستطلاعية التي تقوم بها الطائرات بدون طيار بشكل يومي في كل أنحاء ليبيا وهي العمليات التي تسبق الهجوم على المواقع المستهدفة.فمن المتعارف عليه أن أي عملية عسكرية للطائرات بدون طيار يسبقها عملية مسح جوي لتحديد المواقع وجمع المعلومات وعمل الخرائط وقد التقت ديبورا جونز السفيرة الأمريكية بطرابلس بعدد كبير من قادة المليشيات المسلحة والتشكيلات العسكرية في إطار مهمة معلوماتية. كل هذا يدلل على نية أمريكا توجيه ضربات بالطائرات بدون طيار للمجموعات الإرهابية لاسيما تلك التي ترفض العمل السياسي.

بلورة إستراتيجية إقليمية لمحاربة الإرهاب في ليبيا

غير أن موضوع محاربة الإرهاب في ليبيا، يحتاج إلى بلورة إستراتيجية وطنية وإقليمية عربية، تكون ليبيا طرفاً رئيساً فيها، لأنه لا يجوز لدول الجوار العربية القريبة والبعيدة ترك ليبيا لمصيرها.. من ينقذ ليبيا من آفة الإرهاب، إذا كان أبناء الجلدة -أبناء الأمة الواحدة- يتهربون من واجبهم تجاه دولة شقيقة؟!.. إذاً ما الفرق بينهم وبين صناع الأزمات وحراسها في ليبيا أم إن هناك من يمنعهم من أداء هذا الواجب شأنهم شأن الحكومة والبرلمان الليبيين؟.

وتقتضي أية إستراتيجية وطنية لمحاربة الإرهاب، و بناء الدولة الوطنية، أي دولة كل المواطنين الليبيين،أن يُغَلِّبَ الليبيون منطق الحوار الوطني فيما بينهم.فلا سبيل   لنجاح الحوار الوطني بين الليبيين ما لم تكن للقبائل بمختلف مواقعها ومواقفها ـ مع أو ضدّ المرحلة السابقة ـ موافقة على ذلك. ففقد سعت القبائل في مختلف المناطق الليبية  إلى حماية نفسها وحياضها وأفرادها عبر جمع كميات كبيرة من الأسلحة بما في ذلك المدرعات والدبابات والمدافع قصد تأمين توازن الرعب مع الجهات والقبائل الأخرى. ولهذا فالقبائل  اليوم هي عنصر مهم في السنوات الثلاثة الأخيرة، وهي التي تتحكّم جزئيا في المليشيات وهي القادرة على إقناعها بالاندماج والتخلي عن هذه الكميات الهائلة من السلاح وإيجاد الحوار الوطني.

ومن يريد للحوار السياسي أن ينجح وأن يجمع الليبيين إلى طاولة المفاوضات، عليه أن يأخذ في الحسبان المعطى القبلي وأن يدمجه في أي برمجة مستقبلية شريطة تجاوز الاختلاف والصراعات السياسية والجهوية. ولهذا على الليبيين أن يغلّبوا منطق الحوار في ما بينهم وأن تساعدهم دول الجوار أي تونس والجزائر ومصر في إنجاح هذا الحوار. فقد كان المجتمع الليبي دائماً، وعلى امتداد قرون طويلة لا يحلّ مشاكله الداخلية إلا إذا ما تدخل المعطى الخارجي أي دول الجوار، حسب قول الباحث الأكاديمي المتخصص في الشؤون الليبية منصف وناس.

أي إستراتيجية ناجحة لمحاربة الإرهاب في ليبيا، عليها أن تأخذ بعين الاعتبار الدور المفصلي الذي يجب أن يقوم به الجيش الجزائري في هذه الإستراتيجية على الصعيد الإقليمي، حيث صنّف المعهد الأمريكي "الدفاع الاستراتيجي والاستعلام" الكائن مقره بولاية "ميرلاند" في آخر تقرير له الجيش الوطني الشعبي الجزائري على رأس جيوش شمال إفريقيا، منتزعا الصدارة لأول مرة في التاريخ من الجيش المصري.

وأبرز التقرير الذي اهتم بمستقبل الصناعة الجزائرية في مجال الدفاع، أهمية التجهيزات العسكرية التي يتوفر عليها الجيش الوطني الشعبي، الذي انخرط في مسار العصرنة لمواجهة التهديدات الإرهابية المتزايدة بالمنطقة. ويأتي الجيش المصري حسب التقرير في المرتبة الثانية، فيما يحل الجيش المغربي في المرتبة الثالثة، متبوعاً بالجيشين التونسي والليبي في المرتبتين الرابعة والخامسة على التوالي، ويختم الجيش الموريتاني القائمة، إذ يأتي في المرتبة السادسة.

كما يشير التقرير إلى الميزانيات التي تخصصها دول شمال إفريقيا للدفاع، وفي هذا الخصوص، تحتل الجزائر مرتبة الصدارة على أساس أنها تؤدي "دورا مهما في استقرار المنطقة"، وتسخر موارد بشرية ومادية معتبرة لتأمين حدودها الواسعة. ويذهب التقرير إلى أن نفقات الجزائر في المجال العسكري سترتفع في غضون السنوات الأربع القادمة لتبلغ نسبة نمو تقدر بـ6 بالمائة سنة 2017. ويرجع المعهد هذا الارتفاع في النفقات العسكرية إلى حالة عدم الاستقرار التي تشهدها دول المنطقة بسبب "الربيع العربي"، وما نجم عنها من بروز لمجموعات إرهابية جديدة مزودة بأسلحة ثقيلة تهدد أمن الدول. وتبقى الجزائر ـ حسب التقرير ـ الدولة الوحيدة بالمنطقة التي تملك الإمكانيات لمواجهة هذا التهديد الإرهابي.

وتتزايد مخاوف دول تونس والجزائر ومصر من تعرضها لهجمات إرهابية جراء تهريب الأسلحة، وتسلل الإرهابيين إليها من جارتها ليبيا، التي تشهد اشتباكات ضارية بين متشددين إسلاميين، والجيش الليبي بقيادة اللواء حفتر. وتحاول هذه الدول إغلاق حدودها في وجه أنواع مختلفة من الأسلحة تعج بها ليبيا، حتى لا تتكرر تجربة وصول أسلحة متقدمة كانت تستخدم في معسكر جنوب ليبيا إلى يد جماعات مسلحة في مصر.

وتتسارع وتيرة التقارب بين واشنطن والقاهرة عبر عدة مؤشرات منها تسمية سفير أمريكي جديد لمصر بعد فراغ في رأس البعثة الدبلوماسية الأمريكية منذ آب/ أغسطس 2013، ويعد تطابق وجهات النظر بين البلدين إزاء خطورة الأوضاع في ليبيا بعد أن أصبحت السلطة المركزية في طرابلس على وشك الانهيار أحد أهم العوامل التي أعطت هذا التقارب زخماً متزايداً.

وتشير تقارير غربية إلى أن الإدارة الأمريكية وصلت إلى قناعة بأن الفراغ في السلطة داخل الدولة الليبية يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي للولايات المتحدة بدأ بقتل سفيرها في بنغازي وتصاعد مع تقارير الأجهزة الاستخباراتية حول استيلاء الميليشيات المسلحة على مخازن السلاح الأمريكي المكدس بمعسكرات أقامها البنتاجون لتدريب الجيش الليبي ثم أغلقها على إثر تصاعد الاضطرابات في أنحاء البلاد. وقد بلغ الغضب بقيادات الجيش الأمريكي مداه حين أفادت التقارير بأن قوات المارينز المتواجدة بجنوب البلاد باتت هدفاً سهلاً لعناصر القاعدة التي تعيش أكثر عصورها ازدهاراً بسبب الأوضاع الليبية، كما أن عناصر من القوات العراقية التي يدربها الأمريكيون في الأردن تنضم لتنظيم "داعش" الذي انتقلت بعض كوادره إلى ليبيا لتتخذها نقطة انطلاق للقيام بعمليات داخل الأراضي المصرية. وبحسب المصادر، فإن جنرالات البنتاجون أكدوا للرئيس باراك أوباما أنهم بحاجة إلى استعادة العلاقات القوية مع الجيش المصري، حيث أنه الحليف القوى القادر على مواجهة امتدادات القاعدة على "الجبهة الليبية"، شريطة عدم التخلي عنه وتركه يخوض وحيدا المعركة ضد الإرهاب.

لقد عاد شبح سايكس بيكو جديد أو إعادة تقسيم كل بلدان "الربيع العربي" من جديد،المفروض من الخارج للظهور بشكل متواتر مع الغزو الأمريكي للعراق في آذار/ مارس سنة 2003، وليبيا في سنة 2011. وبدا التصدع كبيراً وسريعاً، بسبب فشل السياسات التي اعتمدت خلال عقد كامل من الغزو الأمريكي للعراق، وخلال ثلاث سنوات من التدخل الأطلسي في ليبيا، في بناء دولة وطنية ديمقراطية في القطرين كليهما. فها نحن نشهد اندفاعة قوية لتنظيم "القاعدة" في ليبيا التي تحولت إلى بلد مُصَّدر للإرهاب، و اندفاعة قوية أيضاً لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، باتجاه السيطرة على العاصمة العراقية بغداد، بعد أن غزا مدن الموصل وتكريت، وسامراء، خلال الفترة الأخيرة.

 إنّ ما يجري في ليبيا والعراق، من تنامي سطوة التنظيمات الإرهابية، يؤكد مرّة أخرى على فشل مغامرة الولايات المتحدة وبريطانيا، ومنظمة الحلف الأطلسي، فالوقائع في البلدين العربيين، تثبت أن مدبّري هذه المغامرة العسكرية، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة وبريطانيا، وفرنسا، لم يعودوا يسيطرون عليها كذلك. ويتحمل الغرب مسؤولية زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ومنطقة المغرب العربي، وما نجم عنها من عواقب وخيمة، لجهة تحطيم الدولتين العراقية و الليبية، وإفساح في المجال لاستيطان الإرهاب.. وما من شك في أن من غزا العراق قبل عشر سنوات، وليبيا قبل ثلاث سنوات، ويواصل فرض قراراته وإرادته على شعوب المنطقة العربية، أسهم بشكل كبير في إطلاق عملية زعزعة الاستقرار، وتدمير الدول الوطنية، وهي النتيجة الواضحة اليوم عملياً في سائر الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا.

إن سيطرة الميليشيات المسلحة الإرهابية، وفي طليعتها "أنصار الشريعة" و"القاعدة" في ليبيا، وتنظيم "داعش" على المناطق النفطية الحدودية بين سورية والعراق، تعزز بطريقة رمزية مطلب الحركات الإرهابية  في إقامة دولة للخلافة في المنطقة. ففورة النشاط الإرهابي في ليبيا وتونس، والعراق، وهجمات الإرهابيين، المتواصلة في سورية،تتطلب من الدول الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا، أن تتظافر جهودها لمواجهة الإرهاب بحزم، باعتباره القضية الأكثر إلحاحاً.

 كما أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي تدعي لفظياً أنها تخوض الحرب ضد الإرهاب، مطالبة اليوم بضرورة جلاء موقفها بسرعة، من الحدود التي ستتوقف عندها غارات طائراتها من دون طيار، التي ستقوم بضرب أرتال "داعش" وغيرها في الشمال العراقي، وما إذا كانت ستتوقف عند حدود "سايكس بيكو" العراقية - السورية، أم أنها ستشن حرباً مفتوحة على "الدولة الإسلامية" في كل مكان، مع ما يترتب على ذلك من تغييرات كبيرة من موقفها من الحركات الإرهابية في سورية. كما أنه ليس من الواضح ما إذا كان من المقبول تغيير قواعد اللعبة في المنطقة، وأن تتقدم إلى المعركة قوى، لن يكون بوسع أحد أن يسيطر عليها، وفي حيّز شديد الأهمية نفطياً للولايات المتحدة، يشكل عمقاً استراتيجياً لإيران، وحاجزاً أمام تقدم الجماعات "الجهادية"، لتهديد الكويت أو غيرها.

واعتبرت أوساط إسرائيلية أن سيطرة "داعش" على شمال العراق، يجب أن تشعل المصابيح الحمراء في الشرق الأوسط. ومعروف أن إسرائيل تحاول، في هذا الوقت، أن تجد لنفسها أرضية مشتركة للتعاون مع دول عربية، وهي ترى في محاربة القوى الإسلامية المتطرفة مثل هذه الأرضية.وكتب بوعاز بيسموت، محرر الشؤون الدولية في صحيفة "إسرائيل اليوم" المقربة من حكومة بنيامين نتنياهو، أن "يومين، لا أكثر، كانا كافيين لجهاديي الدولة الإسلامية في العراق والشام للسيطرة على مدينتين مهمتين في العراق.. وما ينبغي أن يشعل المصابيح الحمراء، ليس فقط السيطرة على الموصل وتكريت، وإنما أيضاً السهولة غير المحتملة في سقوطهما.. فالجيش العراقي، المفترض أنه تسلم القيادة بعد الانسحاب الأمريكي في العام 2011، يلعب في هذه الأثناء دور الواقف، في أفضل الأحوال". وأشار إلى أن "العام 2014 لا يحمل البشارة للعراق.. فقد بدأت السنة بسقوط مدينة الفلوجة وأجزاء من مدينة الرمادي غربي بغداد.. وقد سيطر المتشددون على محافظة نينوى، وعاصمتها الموصل، في الشمال، وهم يستعدون لإكمال سيطرتهم على محافظتي كركوك وصلاح الدين".

واعتبر بيسموت أن "للإسلاميين مطامح كبيرة.. وبموازاة صراعهم الوحشي في سورية، يتطلعون لإسقاط النظام العراقي.. ويصعب جداً اليوم التنبؤ كم هم بعيدون عن الوصول، لكنهم حققوا إنجازات مهمة: فهم يسيطرون على أرض شرقي سورية (محافظة دير الزور)، وبفضل سيطرتهم على محافظة نينوى فتحوا لأنفسهم ممراً يربط بين الأنبار والموصل والحدود السورية. والمعبر الحدودي الذي يسيطرون عليه يسمح للجهاديين في سوريا بالتواصل مع الجهاديين في العراق، وبالعكس. وغدا تنقل السلاح والرجال والمال بين هاتين الدولتين ممكناً". وفي كل حال يشير بيسموت إلى أن "العراق يتفكك" وأن سيناريو الكابوس عند الأمريكيين يتحقق، حيث بعد 48 ساعة من سقوط الموصل سقطت مدينة تكريت، مسقط رأس الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والمهم أن الجيش العراقي بات يستعد للدفاع عن العاصمة بغداد، حيث أعلنت الإدارة الأمريكية استعدادها لتقديم "كل مساعدة ممكنة" للحكومة العراقية، وكذلك فعلت إيران، في حين دعت تركيا لعقد اجتماع طارئ لحلف شمال الأطلسي.

فالادعاء الأمريكي بالتفوق الأخلاقي القائم على تطبيق الديمقراطية والليبرالية يظهر كمخاتلة مشؤومة. ذلك أن الديمقراطية المصدرة بوساطة الحرب تعكس النتائج الأسوأ لخيارات مرحلة 1916 ـ 1920 المتجددة باستمرار، من خلال إعادة طرح إدارة الرئيس السابق جورج بوش مشروع "الشرق الأوسط الكبير"بوصفه الموجة الثالثة لتيار الشرق أوسطية المعاصرة في الصياغة الأمريكية والتي أعقبت الصياغة البريطانية ل"الشرق الأدنى" وكلاهما مفهوم استعماري ينطلق من نزعة المركزية الغربية التي تحكمت فيها تصورات الإمبراطوريتين، وهي تصورات ارتبطت بالجغرافيا السياسية للإقليم العربي ودورها في الإستراتيجية العالمية السائدة آنذاك.

منذ انهيار الشيوعية, وبالتالي انهيار القطب المنافس أي الإتحاد السوفيتي, داعب الأمل الولايات المتحدة الأمريكية لكي تكون الإمبراطورية التي تقود عالم ما بعد الحرب الباردة, وهو عالم بكل تأكيد شديد الاتساع والتنوع وَنزَّاع إلى الظفر بالديمقراطية بعد سقوط أعتى الأنظمة الشمولية. لكن الولايات المتحدة الأمريكية كإمبراطورية شديد الإفراط في قوتها العسكرية  تفتقر افتقاراً كلياً إلى مشروع ثقافي وأيديولوجي تحتل فيه المسألة الديمقراطية مركز الصدارة. ففي ظل غياب هذا المشروع الذي يقوم على نشر مبدأ المساواة والعمومية على مستوى كوني, بوصفه مصدراً لا غنى عنه لأي إمبراطورية تريد قيادة العالم, تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد تراجعت كثيراً عن القيم التي كانت تدافع عنها خلال حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. 

اعلى الصفحة