إيران والتحولات في الشرق الأوسط

السنة الثالثة عشر ـ العدد 150 ـ ( شعبان 1435 هـ)حزيران ـ 2014 م)

بقلم: الشيخ محمد قبيسي

 

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الإشراف على الموقع:

علي برو


للمراسلة

 

التحولات السياسية الكبرى لا تنشأ ولا تتكون من صدفة، ولكن قد تحصل في خضمها مفارقات غير متوقعة لقوى التأثير ولمحركات الأحداث، وهي من دون شك غير خاضعة لجبرية التاريخ وإن بدت على هذا النحو أحياناً.

وليست الأحداث الجارية في الشرق الأوسط والتي نحن في صدد الحديث عنها استثناء، كما لم يكن سقوط الاتحاد السوفيتي وتغير خارطة أوروبا استثناء، إلا أن ألهوية والثقافة والمعرفة وكل مفردات الحضارة الإسلامية في منطقتنا هي اليوم الأشد تأثيراً في خلفية الأحداث بخلاف الكثير من التحولات السياسية الأخرى، فهي تعكس في جذور وحتى في أدوات ما يجري من حروب - أصيلة كانت أم بديلة -  حقيقة وقوة الصراع الحضاري.

وليس قصدي هنا أن أخالف أو أوافق ما قاله صاموئيل هانتغتون من أن الصراع القادم لن يكون بين إمبراطوريات اقتصادية أو دول بل سيكون بين حضارات، لم يكن هذا ما أردته، بل إن ما أردته كان متعلقاً بالحضارة الإسلامية التي هي اليوم محور الصراع، لان بزوغ فجر الإسلام السياسي من رحم الثورة الإسلامية في إيران ولد تهديدا حضاريا للغرب الذي يعيش على غفلة من المسلمين عن هويتهم ومواردهم التي لو استفاقوا عليها لامتلكوا الحضارة الفضلى والقوة الأعظم، وهذا ما أشار إليه برنار لويس وهو يتحدث عن الثورة الإسلامية في إيران وجذور الغضب الإسلامي: "حيث اعتبر الإمام الخميني أمريكا - كما يذكر لويس - هي الشيطان الأكبر وذلك يعود إلى اعتبار الغرب هو مصدر جميع الأخطار التي قوضت طريقة الحياة الإسلامية، فهي دعوة إلى تحرير العالم الإسلامي من الهيمنة الأمريكية واستعادة نموذج الإسلام في عصر النبي.

على نفس السلم الذي بدأت صعوده إيران عام 1979 نحو ما تطمح إليه دون ترنح، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية المستقوية بالتاريخ وعلى عكس ما كانت تتوقع هبوطه، فنجد وبشكل شديد الغرابة، قوتين غير متكافئتين البتة لا من حيث القوة ولا من حيث القدرات والإمكانات، تتصاولان بشكل مستميت، والمفارقة أن الأقوى يدمن ويتذوق مرارة الانتقام الخاسر، فيما أن الأقل قوة غالباً ما كان يصبر وفي النهاية ينتصر ويظهر بأن لديه الثقة الكافية ليعد بالنصر القادم.

فعلى الرغم من حصول القوة الأمريكية الأعظم على فرصة تاريخية مطلقة للتوسع، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي مباشرة، وهي فرصة شديدة الندرة، كانت يمكن أن تجعل منها سيدة العالم دون منازع، إلا أننا لاحظنا أنها وحيث توجهت لتمكين قوتها وتوسيع نفوذها لم تأتِ بشيء، بل إنها كلما حاولت صد أو كسر طموحات إيران كانت تعود بالخيبة وتقلص النفوذ، ثم لا تجد لذلك تفسيراً شافياً.

وفي المقابل فإن إيران الدولة الفتية وذات التجربة الحديثة جداً، والمحاصرة بأنواع الحصار، قد استطاعت وكفرس جامحة أن تحقق الكثير من السبق والانتصارات، على مستوى بناء إيران الدولة القادرة وعلى مستوى مد النفوذ وقوة التأثير.

وعلى نفس الإيقاع تماماً رأينا تراجع قوة إسرائيل في زمن كانت فيه هي في قمة الفجور، حيث كانت قد احتلت عام 1967 م مدينة غزة والضفة الغربية في فلسطين وعدداً من قرى جنوب لبنان، ومرتفعات الجولات في سوريا و صحراء سيناء في مصر.

ورأينا في الجانب الآخر تصاعد قوة حزب الله ومقاومته في زمن تغلغلت فيه روح الهزيمة وكسر فيه سيف المقاومة الفلسطينية، واحتلت إسرائيل لبنان عام 1982 م، وروج لانتهاء عصر الثورات، وسمي العصر بعصر النكسة، حيث عمم اليأس.

إنك ترى الولايات المتحدة الأمريكية وعلى مدى الأحداث التي مرت على الشرق الأوسط ومنذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وهي تستحضر ارث الجبروت وسطوة الآلة العسكرية والآلة الإعلامية، حاملة شعارات حضارية كاذبة دون ثقة بقدرتها الحضارية على الإقناع. وفشلت أمريكا في إحكام الحصار على إيران من تحقيق أي نتائج حاسمة، سواء في حملها على تغيير مواقفها أو في منع تنامي قدراتها وصناعاتها النووية، وصناعاتها العسكرية الإستراتيجية، أو الحد من توسع نفوذها، وقد فشلت أيضاً في البقاء في العراق وهي تهم للخروج من أفغانستان. بينما يتصرف الإيرانيون بثقة بحضارتهم الإسلامية، التي هي نفس حضارة المنطقة الإسلامية كلها، حاملين شعارات صادقة لتحرير هذه الشعوب، وقد مرغوا انف أمريكا بالوحل، وأظهروا أن لديهم نفساً أطول في مقاربة الحلول حتى لأصعب المشكلات.

نجحت إيران في دعم مقاومة رائعة في لبنان وفلسطين، كما نجحت في مد خط تواصل جيو/استراتيجي للمقاومة يبدأ من إيران ويمر في العراق وسوريا ويصل إلى لبنان وفلسطين، وما من شك أن هذا حصل في ظل إصرار أمريكي على تحويل العراق إلى قاعدة عسكرية أمريكية متقدمة تمنع إيران من تحقيق هذا التواصل الجغرافي،ولهذا الهدف وغيره قامت أمريكا بحربها الاستباقية على العراق عام 2003 م فدمرت العراق وأدارت النزاعات المذهبية الدموية المسلحة فيه والتي راح ضحيتها الملايين، واستطاعت إيران بصبر ودأب تحويل ذلك إلى فرصة وقد نجحت في كسبها عبر دعمها للمقاومة المسلحة لمدة تسع سنوات إلى أن خرجت القوات الأمريكية الغازية من العراق.

وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية تدير الولايات المتحدة في سوريا حرباً دموية بالوكالة هدفها تحطيم سوريا ومحاصرة المقاومة، بعدما كان من العسير غزوها عسكرياً، وفي النهاية فشلت أمريكا ومعها كل الدول المشاركة في هذه الحرب المجرمة من تحقيق ما تريد وبقيت سوريا الباب الخلفي للمقاومة والنقطة الأشد صلابة في العالم العربي، كما فشلت إسرائيل أيضاً في العام 2006 في القضاء على حزب الله والمقاومة الفلسطينية، بالإضافة إلى فشل أمريكا على الدوام من فرض حلول ظالمة لمأساة الفلسطينيين التي تصنعها هي كل يوم  بأيد إسرائيلية، وفي النتيجة فإن القضية فلسطين وقلبها القدس التي هي محور الصراع السياسي بقيت هي القضية الأم، ويتزايد باضطراد تمايل مؤشر البوصلة الشعبية نحوها، كما تتزايد قوة المقاومة والقوى الداعمة لها بل تتعاظم، وهذا هو المهم والاهم.

واليوم وعلى الرغم من الجراح فقد بات الجيش السوري كما حزب الله والمقاومة في فلسطين أشد عزماً وأكثر قوة وخبرة، وأمريكا وإسرائيل أكثر قلقاً وتوجساً. إذ لولا ثبات إيران على مبادئها الراسخة، ولولا دعمها المستمر لقوى الممانعة والمقاومة عموماً، و لسوريا خصوصاً، لعادت أمريكا أقوى، ولجثمت على صدورنا لمائة عام قادمة، ولعادت المنطقة كلها إلى العهد الإسرائيلي والتوسع في احتلال أراض جديدة، ولكنها فشلت وخابت وأظهرت بأنها لم تعد بتلك القدرة ولم تعد تثق بنفسها وبقدرتها على فعل ما تريد، وحيث أن سياسة إدارة الظهر من قبل الإدارة الأمريكية بشكل دائم، أدى بإيران إلى امتلاك متزايد لعناصر القوة، وهو ما كان يدفع بأمريكا نحو التراجع.

إنه ما من شك بأن خسران الولايات المتحدة الأمريكية لإيران الشاه كان خسارة إستراتيجية كبرى وعظيمة. فبقدر ما كانت إيران قاعدة أمريكية إستراتيجية فريدة في القدرة على حماية نفط الخليج وتدفقه إلى الغرب بالكميات والأسعار المناسبة لها، وعلى منع السوفييت من التقدم نحو المياه الدافئة، فقد تحولت بفضل الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني الراحل إلى تهديد استراتيجي حيث أصبحت ناصرة وداعمة لحركات التحرر في كل مناطق نفوذ الاستكبار، وهي القوة الأقوى في منطقة نفط الخليج من دون منازع، وهذا ما فرض على أمريكا في النهاية وبعد الفشل المتتالي التواضع والجلوس مع إيران من أجل الحد من تفاقم الخسائر، ولم تكن المشكلة بأقل خطراً على إسرائيل، فإيران لا تعترف بإسرائيل كدولة بل تدعو إلى اقتلاعها من الوجود وتعمل على دعم المقاومين الفلسطينيين لاسترجاع أرضهم المغتصبة، وماذا يعني هذا؟ إنه ببساطة وإذا ما تحقق تحرير فلسطين فعلاً فسيعني إخراج أمريكا وإسرائيل من المنطقة كلياً، وهذا ما كان قد أشار إليه بإشارة خفية زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي السابق في إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، فقد قال قبل عدة سنوات وفي إزاء ما كانت تفكر فيه الإدارة الأمريكية وإسرائيل من الحرب على إيران في بدايات الحرب على حزب الله وسوريا: "إنه إذا ما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالحرب على إيران فسيضعف نفوذها في الشرق الأوسط لثلاثين سنة قادمة، وقد تخرج منه أبداً".

لقد تبين لجميع أحرار العالم أين تقف إيران من قضايا الفقراء والحفاة والمستضعفين وأين تقف أمريكا وحلفاء أمريكا، وقد تأكد لجميع المخلصين وعلى مدى ثلاثة عقود ونصف بأن إيران هي الدولة المقاومة الحقيقية الواقفة بكل ثبات في وجه أمريكا وإسرائيل، تدافع عن شعوب المنطقة والعالم الإسلامي، الذي يرزح منذ محاكم التفتيش ضد المسلمين في بلاد الأندلس تحت سطوة الغربي الفاسد المستعلي الذي يمتلك أربعة وجوه مستعارة، الذئب  والحمل والثعلب والملاك .

أصبح من حقنا وبإمكاننا الآن أن نحلم بسقوط سمعة أمريكا إلى الأبد التي قامت على تسفيه إنسانية الإنسان وتحقير المرأة، وقهر الشعوب ومنعها من امتلاك أسباب النهوض السياسي والحضاري، وأن نحلم بإخراج القواعد العسكرية الأمريكية المتعدية من البلاد الإسلامية والعربية، وطبعاً وغير الأمريكية من غير مكان من العالم، ومن حقنا أن نعمل بأيدينا لتحرير نفطنا من أيدي غيرنا، لتصبح بلادنا غنية ومقتدرة، وأن نحلم بمحو إسرائيل الغاصبة والمستعلية عن الخريطة، وبعودة المشردين الفلسطينيين إلى بلادهم المستلبة، وبعودة المسجد الأقصى كمحجة للأحرار من المسلمين والمسيحيين، ورجوع المستوطنين والمحتلين الإسرائيليين إلى البلاد التي هاجرو منها بعد محاكمتهم ومعاقبتهم، وبخروج المحتلين الأسبان من سبته ومليلة في المغرب.

وأصبح بإمكاننا أن نحلم بصعود الإسلام الوسطي والإقبال عليه أكثر فأكثر من كل جهات الأرض، الذي هو سر سلام ورفاه وطمأنينة، وتوحيد جميع شعوب العالم.

وقد أصبح بإمكاننا أن نحلم بأن تعود البلاد الإسلامية مركزا للإشعاع الفكري والعلمي والأدبي والفني والحضاري الراقي كما كانت زمن الأندلس وبغداد وفارس ومصر والقدس ومكة والمدينة المنورة والشام وتونس والجزائر.. و..و... .

من حقنا أن نحلم بحصول تحولات كبرى خلال هذا العقد والعقد القادم، أليس من الجائز أن نحلم، أليس من المأمول تحقيق هذه الأحلام قريباً؟ نعم، انظروا كم تغير واقعنا خلال فترة خمس وثلاثين سنة ماضية وهي الفترة ما بعد انتصار إيران الإسلامية، الم تحصل تحولات كبرى تبشر بتحولات أكبر، ألم نصبح أكثر بصيرة وقوة والعدو أكثر حمقا وحذرا، ألم تلحظوا خيطاً خفياً ينظم صحوة شعوب العالم الإسلامي على الرغم من الفتن المضلة، وصعوداً ملحوظًا للقوى المستضعفة؟، واستلهاماً متجدداً للهوية الإسلامية، ألا تلمحون كتلة صلبة من العباد الصالحين الأشداء تتجمع من أطراف بلاد الإسلام، كتلة ثائر قادرة على صد العتو والصلف الذي تمثله وترعاه أمريكا ومعها إسرائيل، الم يشر القران الكريم إلى السبيل إصلاح العالم وإلى القلة المنتصرة بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (*)إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾(الأنبياء: 105-106). وقوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(البقرة: من الآية249)، إذا فمن الصحيح أن نحلم ونعمل على تحقيق التحولات القادمة، القادمة بإذن الله.

اعلى الصفحة