اللوحة الأولى: هموم وحلول

السنة الثالثة عشر ـ العدد 150 ـ ( شعبان 1435 هـ) حزيران ـ 2014 م)

بقلم: غسان عبد الله

تصدر عن تجمع العلماء المسلمين في لبنان


الصفحة الأساسية


الصفحة الأولى


أعـداد سـابـقة


الفهرس


المدير العام:

الشيخ محمد عمرو


رئيس التحرير:

غسان عبد الله


المدير المسؤول:

علي يوسف الموسوي


الاشراف على الموقع:
علي برو


للمراسلة

الإنسان والألم..

أيها الشاكي من الألم! أسألُك أن تعيدَ في نفسك ما مضى من عمرِكَ وأن تتذكَرَ الأيامَ الهانئةَ اللذيذةَ السابقةَ من ذلك العمرِ والأوقات العصـيبة والأليمة التي فـيـه. فلا جَرَمَ أنك ستنطق لساناً أو قلباً: إما بـ"أوه" أو "آه". أي إما ستتنفس الصعداء وتقول: "الحمد لله والشكر له" أو ستتنهد عميقاً قائلاً: "واحسرتاه! وا أسفاه!".

فانظر كيف أن الآلامَ والنوائبَ التي عانيتَ منها سابقاً عندما خَطَرتْ بذهنكَ غَمَرَتْكَ بلذَّةٍ معنويةٍ، حتى هاجَ قلبُك بـ"الحمد لله والشكر له"؛ ذلك لأن زوالَ الألم يولّد لذةً وشعوراً بالفرح. ولأن تلك الآلام والمصائبَ قد غَرسَتْ بزوالها لذةً كامنةً في الروح سالت بتخطرها على البال وخروجها من مكمنها حلاوةً وسروراً وتقطرت حمداً وشكراً.

أما حالات اللذة والصفاء التي قضيتها والتي تنفث عليها الآن دخان الألم بقولك: "واأسفاه، واحسرتاه" فإنها بزوالها غَرسَتْ في روحِكَ ألماً مضمراً دائمياً، وها هو ذا الألم تتجدّدُ غُصّاتُه الآن بأقلِّ تفكرٍ في غياب تلك اللذات، فتنهمرُ دموعُ الأسف والحسرة. فما دامتِ اللذةُ غيرُ المشروعةِ ليومٍ واحدٍ تُذيقُ الإنسانَ - أحيانا - ألماً معنوياً طوال سنة كاملة، وأن الألم الناتج من يوم مرضٍ مؤقتٍ يوفر لذةً معنويةً لثواب أيام عدة فضلاً عن اللذة المعنوية النابعة من الخلاص منه، فتذكر جيداً نتيجةَ المرض المؤقت الذي تعانيه وفكِّر في الثواب المرجو المنتَشِرِ في ثناياه، وتشبث بالشكر وترفّع عن الشكوى وقل: "يا هذا.. كل حالٍ يزول..".

أيها المضطرب من المرض بتذكُّر أذواق الدنيا ولذائذها! لو كانت هذه الدنيا دائمة فعلاً، ولو انزاح الموت عن طريقنا فعلاً، ولو انقطعت أعاصير الفراق والزوال عن الهبوب بعد الآن، ولو تفرغ المستقبل العاصف بالنوائب عن مواسم الشتاء المعنوية، لانخرطتُ في صفك ولرثيتك باكياً لحالك. ولكن ما دامت الدنيا ستخرجنا منها قائلة: "هيا اخرجوا..!." صامّة آذانها عن صراخنا واستنجادنا. فعلينا نحن قبل أن تطردنا هي نابذة لنا، أن نهجر عشقها والإخلاد إليها من الآن، بإيقاظات الأمراض والسعي لأجل التخلي عن الدنيا قلباً ووجداناً قبل آن تتخلى هي عنّا. نعم، إن المرض بتذكيره إيانا هذا المعنى اللطيف والعميق، يهمس في سرائر قلوبنا قائلاً: "بنيتك ليست من الصلب والحديد بل من مواد متباينة مركبة فيك، ملائمة كل التلاؤم للتحلل والتفسخ والتفرق حالاً، دع عنك الغرور وأدرك عجزك وتعرّف على مالكك، وافهم ما وظيفتك وتعلّم ما الحكمة والغاية من مجيئك إلى الدنيا؟".

ثم ما دامت أن أذواق الدنيا ولذاتها لا تدوم، وبخاصة إذا كانت غير مشروعة، بل تبعث في النفس الألم وتكسبه ذنباً وجريرة، فلا تبك على فقدك ذلك الذوق بحجة المرض، بل تفكّر في معنى العبادة المعنوية التي يتضمنها مرضك والثواب الأخروي الذي يخفيه لك، واسع لتنال ذلك الذوق الخالص الزكي.

أيها المريض الفاقد لنعمة الصحة! إن مرضك لا يذهب بلذة النعمة الإلهية في الصحة بل على العكس، إنه يذيقك إيّاها ويطيّبها ويزيدها لذة، ذلك أن شيئاً ما إذا دام واستمر على حاله يفقد طعمه وتأثيره. حتى اتفق أهل الحق على القول: "إنما الأشياء تُعرف بأضدادها.." فمثلاً: لولا الظلمة لما عُرف النور ولظل دون لذة، ولولا البرودة لما عُرفت الحرارة ولبقيت دون استساغة، ولولا الجوع لما أعطى الأكل لذته وطعمه، ولولا حرارة المعدة لما وَهَبنا احتساء الماء ذوقاً، ولولا العلّة لكانت العافية بلا ذوق، ولولا المرض لباتت الصحة عديمة اللذة. إن الفاطر الحكيم لمّا أراد إشعار الإنسان وجعله يحس بمختلف إحساناته وإذاقته أنواع نِعَمه سوقاً منه إلى الشكر الدائم، جهّزه بأجهزة في غاية الكثرة لتُقبل على تذوق تلك الآلاف المؤلفة من أنواع النعم المختلفة، لذا فلابد من أنه سيُنزل الأمراض والأسقام والعلل أيضا مثلما يلطف ويرزق بالصحة والعافية. وأسألك: "لو لم يكن هذا المرض الذي أصاب رأسك أو يدك أو معدتك.. هل كان بمقدورك أن تتحسس اللذة الكامنة في الصحة التي كانت باسطة ظلالها على رأسك أو يدك أو معدتك؟ وهل كنت تتمكن أن تتذوق وتشكر النعمة الإلهية التي جسّدتها تلك النعمة؟ بل كان الغالب عليك النسيان بدلاً من الشكر، أو لكنت تصرف تلك الصحة بطغيان الغفلة إلى سفاهة دون شعور!".

أيها المريض الذاكر لآخرته! إن مرضك كمفعول الصابون، يطهّر أدرانك، ويمسح عنك ذنوبك، وينقيك من خطاياك. فقد ثبت أن الأمراض كفّارات للذنوب والمعاصي، والذنوب هي أمراض دائمة في الحياة الأبدية. وهي في هذه الحياة الدنيا أمراض معنوية في القلب والوجدان والروح. فإذا كنت صابراً لا تشكو نجوت بنفسك إذاً بهذا المرض العابر من أمراض دائمة كثيرة جداً. وإذا كنت لاهياً عن ذنوبك، ناسياً آخرتك غافلاً عن ربك، فإني أؤكد معاناتك من داءٍ خطير، هو أخطر وأفتك وأكبر بمليون مرة من هذه الأمراض المؤقتة، ففّر منه واصرخ..!. لأن قلبك وروحك ونفسك كلها مرتبطة بموجودات الدنيا قاطبة، وان تلك الأواصر تنقطع دوماً بسيوف الفراق والزوال فاتحة فيك جروحاً عميقة، وبخاصة أنك تتخيل الموت إعداما أبديا لعدم معرفتك بالآخرة. فكأن لك كياناً مريضاً ذا جروح وشروخ بحجم الدنيا، مما يحتم عليك قبل كل شيء أن تبحث عن العلاج التام والشفاء الحقيقي لكيانك المعنوي الكبير الذي تفسّخه العلل غير المحدودة والكلوم غير المعدودة، فما أظنك تجدها إلاّ في علاج الإيمان وبلسمه الشافي. واعلم أن أقصر طريق لبلوغ ذلك العلاج هو الإطلال من نافذتَيْ "العجز والفقر" اللتين تتفتحان بتمزيق المرض المادي لحجاب الغفلة واللتين جُبلَ الإنسان عليهما، وبالتالي تبلغ معرفة قدرة القادر ذي الجلال ورحمته الواسعة.

اعلى الصفحة